يُعد مسلسل "DARK" (2017-2020) من أكثر الأعمال السردية تعقيدًا في تاريخ الدراما التلفزيونية، ليس فقط بسبب حبكته الزمنية المُلتوية، بل أيضًا بسبب استناده إلى إطار فلسفي وعلمي عميق يتحدى المفاهيم التقليدية للزمن، السببية، والهوية. المسلسل، الذي أنتجته شبكة Netflix بالألمانية، لا يكتفي بسرد قصة غامضة عن اختفاء الأطفال في بلدة ويندن، بل يغوص في متاهات الميتافيزيقا، الفيزياء النظرية، والفلسفة الوجودية، ليطرح أسئلة جوهرية عن طبيعة الواقع ومصير الإنسان.
نيتشه والعود الأبدي: السجن الزمني الذي لا مفر منه
إحدى الركائز الأساسية في "DARK" هي نظرية "العود الأبدي" لفريدريك نيتشه، التي تقترح أن الكون يعيد نفسه إلى الأبد بنفس التفاصيل. في المسلسل، هذه الفكرة تتجسد عبر دورات زمنية مدتها 33 عامًا، حيث تعيد الشخصيات عيش حياتها مرارًا وتكرارًا، دون القدرة على تغيير مصيرها.
مأساة الحرية الوهمية
الشخصيات مثل يوناس (آدم المستقبلي) أو مارتا (إيفا) تدرك في النهاية أن كل محاولاتهم لكسر الحلقة تؤدي فقط إلى إعادة تشكيلها. هذا يصبح استعارة قوية لفكرة نيتشه عن "الإرادة إلى القوة" التي تتحطم أمام حتمية القَدَر.
التناقض مع التناسخ
المسلسل يميز بوضوح بين "العود الأبدي" و"تناسخ الأرواح". فبينما التناسخ يفترض انتقال الروح إلى جسد جديد بحياة مختلفة، العود الأبدي يعني تكرار نفس الحياة بتفاصيلها الدقيقة، مما يجعل الفرار مستحيلًا.
الأكوان الموازية: كل قرار يُنشئ واقعًا جديدًا
في الموسم الثالث، يُدخل المسلسل نظرية الأكوان الموازية، مظهرًا عالمين متوازيين (عالم آدم وعالم إيفا)، كل منهما ينشأ بسبب اختلاف قرارات الشخصيات.
الفيزياء الكمية كساحة درامية
فكرة أن كل قرار (مثل اختيار يوناس بين إنقاذ مارتا أو التضحية بها) يُنشئ كونًا موازيًا تُستحضر من خلالها تفسيرات ميكانيكا الكم (مثل تفسير العوالم المتعددة لإيفريت).
الجدل الفلسفي حول "الذات"
وجود نسخ متعددة من الشخصية الواحدة (مثل مارتا الشابة ومارتا العجوز/إيفا) يطرح سؤالًا عن ماهية الهوية: هل نحن كيان واحد، أم أن كل نسخة منا في كون موازٍ هي "أنا" مستقلة؟
Déjà Vu والزمن الدائري: هل الذاكرة خدعة؟
ظاهرة "الديجا فو" (Déjà Vu) في المسلسل ليست مجرد شعور عابر، بل دليل على اختراق الذاكرة عبر الأزمنة.
الزمن غير الخطي
المشاهد التي تظهر فيها الشخصيات وهي تعيش لحظات من الماضي أو المستقبل (مثل مايكل عندما يرسم صورة الكهف قبل انتحاره) تؤكد أن الزمن في "DARK" ليس خطيًا، بل شبكة معقدة من السببية المترابطة.
الحتمية مقابل الحرية
هل "Déjà Vu" دليل على أن كل شيء محتوم (كما يعتقد آدم)، أم أنها مجرد إشارة إلى أن العقل البشري محدود بإدراكه الخطي للزمن؟
الأبعاد اللاهوتية: الصراع بين الخطيئة والخلاص
على الرغم من الطابع العلمي والفلسفي للمسلسل، إلا أنه يحمل إشارات واضحة لمفاهيم دينية مثل "الخطيئة الأصلية" وفكرة "الخلاص المستحيل". شخصيات مثل آدم وإيفا تمثل رموزًا دينية تعكس صراع الخير والشر، والخطايا التي تتكرر إلى الأبد.
التأثير النفسي: اضطراب الهوية والانفصال عن الواقع
المسلسل يعكس أزمة الهوية بشكل واضح، حيث تعاني الشخصيات من اضطرابات نفسية نتيجة تكرار الأزمنة والتداخل بين العوالم. يمكن ربط ذلك بنظريات سيغموند فرويد حول القلق الوجودي وجان بول سارتر حول الحرية والمسؤولية.
نقد البنية السردية: عبقرية أم تعقيد مفتعل؟
رغم إعجاب النقاد بالمسلسل، إلا أن بعض المشاهدين رأوا أن:
التعقيد الزائد قد يُفقد العمل جوهره العاطفي (مثل علاقة يوناس ومارتا التي تُختزل إلى معادلة فيزيائية).
الحبكة المفرطة في التنسيق جعلت بعض الحلقات أشبه بـ"محاضرة في الفيزياء" بدلًا من دراما إنسانية.
النهاية التي تكشف عن "العالم الأصلي" قد تكون حلًا سهلًا مقارنة ببناء المسلسل الطويل للسببية والدوائر الزمنية، مما جعلها تبدو وكأنها وسيلة لطمأنة المشاهدين بأن هناك "مخرجًا" من الحلقة اللانهائية.
هل "DARK" مجرد خيال علمي، أم تحفة وجودية؟
"DARK" ليس مسلسلًا عن السفر عبر الزمن، بل عن العبثية الإنسانية في مواجهة قوانين الكون الصارمة. عبر مزج الفلسفة (نيتشه، شوبنهاور) مع العلم (النسبية، الثقوب الدودية)، يخلق العمل رؤية كابوسية لكنها شاعرية عن الدورة الأبدية للألم والأمل.
"الاختلاف بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم عنيد" — آينشتاين (اقتباس يستخدمه المسلسل).
إذا كنت مستعدًا لتحدي عقلك وقبول أن بعض الأسئلة لن تجد إجاباتها، فـ"DARK" يستحق المشاهدة ثلاث مرات... أو ربما إلى الأبد. https://top4top.io/
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست