Post: #1
Title: حكومة الصف السادس
Author: Amir Ibrahim
Date: 03-10-2025, 12:14 PM
12:14 PM March, 10 2025 سودانيز اون لاين Amir Ibrahim-تكساس مكتبتى رابط مختصر
في فناء المدرسة الواسع—حيث وقفت شجرة النيم العتيقة شاهدة صامتة، تمد جذورها العميقة وتبسط ظلها الوارف—راقب الأستاذ عوض الكريم تلاميذه وهم يندفعون نحو البوابة مع رنين جرس الفسحة، ذلك الرنين الذي تسلل بلحنه الرنان عبر ضجيج الضحكات وهمس النعال على الأرض العطشى.
خلف السور، وتحت ظلال ما تبقى من الضحى، جلست النسوة على بنابر خشبية مهترئة، كل واحدة خلف طبلية متواضعة تزهو بما جاد به السوق. كان في كل طبق معروض فن صامت: ثمرات الدوم اللامعة، القنقليز المغمور في إكسير سكري، اللقيمات التي احتضنتها قطرات الزيت للتو، التمر المشبع بالعسل، وقطع الغريبة الذهبية التي تحمل في مذاقها سرّ وصفات تناقلتها الأجيال.
لكن نجمة العرض الحقيقي كانت سندوتشات الفول والطعمية، تتوسط المشهد كأنها ملكة الحفل، تحف بها أكوام الدليب المتراصة، وشرائح التبش المنثورة بالفلفل الحار، وكأنها إعلان رسمي عن اقتراب الفوضى العارمة التي على وشك أن تكتسح المكان.
وسط الهواء المغبر وتبادل الصفقات الحماسية—حيث يقايض الأطفال حفنة من النبق بقطعة طعمية ساخنة، أو يحصلون على رغيف محشو بسلطة الباذنجان المبهرّة—تفرق التلاميذ في أنحاء الساحة؛ بعضهم استلقى على الأرض الخشنة، وآخرون غرقوا في ضجيج الحكايات المتشابكة، بينما كانت كل لقمة تدفئ قلوبهم.
في تلك اللحظة، وبينما كان التلاميذ منشغلين بمتعة الطعام والتفاوض، خطرت للأستاذ عوض الكريم فكرة… أو بالأحرى، أسوأ فكرة في مسيرته التعليمية.
حين أسلمت الفسحة نفسها إلى وطأة الزمن، وعاد التلاميذ إلى فصولهم، تقدم الأستاذ إلى مقدمة الفصل، وصفّق بيديه بقوة اخترقت بقايا الضحكات المتناثرة، وأعلن بحماس يكاد يلامس الجنون:
“من اليوم، سنؤسس حكومة للصف السادس!”
ساد صمت مشوب بالذهول، قبل أن ينفجر الصف في ضحكات لم تحسم إن كانت ساخرة أم مذهولة.
حسن ابن عوف، وهو لا يزال يتذوق بقايا القنقليز في فمه، سأل ببراءة طفولية، “يعني… حنحكم البلد؟”
ضحك الأستاذ عوض الكريم، ضحكة تشبه نبرة الحكواتي، وأجاب، “لا يا أبنائي، لكنكم ستحكمون هذا الفصل! سنكوّن حكومة، رئيس، وزراء، وحتى برلمان!”
لم يكن يدري أنه قد زرع بذور انقلاب سياسي قبل أذان الظهر.
لأن الانتخابات الحرة كانت فكرة معقدة للغاية، لجأ التلاميذ إلى طريقة أبسط في الاختيار:
“أطول ولد في الفصل يبقى الرئيس.”
وهكذا، صعد آدم الحلو—الملقب بـ**“قرضة”**—إلى سدة الحكم، ليس بحنكة سياسية، بل لأنه يملك ميزة بوصة إضافية في الطول. وقف، مسح بقايا الطعمية عن ردائه الكُحلي، وأعلن بصرامة طفل يكتشف السلطة لأول مرة،
“أول قرار لي: فسحة الفطور تزيد عشر دقائق!”
انفجر الفصل في هتافات صاخبة أشبه بعاصفة صيفية مباغتة، بينما زفر الأستاذ عوض الكريم بعمق، مدركًا أن هذا لم يكن البداية المشرقة التي كان يتوقعها.
أما وزارة المالية، فقد كانت من نصيب بابكر الكباشي، ذلك الفتى الذي اشتهر منذ الصف الأول بمهاراته المتفوقة في التهرب من دفع دين الفطور المتراكم لحاجة صفية.
في الصف الأخير، حيث يتجمع مشاغبو الصف، وقف بابكر وأعلن بفخر، “حنفرض ضريبة على طلاب الفصول التانية من سنة أولى لغاية سنة خامسة… نحن، الحكومة، طبعًا معفيين!”
تردد صوت حذر من المقاعد البرلمانية، “و أكان ابو؟"
ابتسم بابكر بمكر واثق، “نرفع عليهم سعر الفول! حاجة صفية ست الفول خالتي.”
بحلول اليوم التالي، امتلأت الخزينة الوطنية بالنبق الذهبي، التمر المعسل، والقنقليز الأبيض… ثم، كما يتلاشى الندى في وهج الصباح، اختفت هذه الكنوز فجأة. ومع حلول الظهيرة، اختفى بابكر الكباشي معها!
حسن ابن عوف، وزير الدفاع، لم يحتمل هذا الانفلات أكثر. قفز وسط الفصل، وصرخ، “الحكومة دي ما نافعة! لازم تغيير!”
وفي سرعة البرق، شكّل جيشًا من "صغار الضباط" من طلاب الصف الخامس مسلحين بقذائف ثقيلة—ثمرات الدوم الصلبة التي انهمرت على الرؤوس كالمطارق—بينما أُطلقت حبات النبق الممضوغ كطلقات دقيقة لطّخت القمصان بالألوان الترابية. أما السلاح السري، فكان قشر الموز المهروس، وُضع بعناية أمام الوزراء، ليشهدوا سقوطهم في مشهد هزلي متكامل.
مع بزوغ فجر اليوم التالي، تصاعدت الأزمة إلى حرب مفتوحة.
تحولت ساحة المدرسة إلى ميدان معركة؛ الوزراء يركضون، النواب يتعثرون، والدوم يتساقط من السماء كأنها أمطرت حصى غاضبة.
في خضم هذه الفوضى، عاد الأستاذ عوض الكريم إلى المشهد، صعد فوق طاولة، ولوّح بسبورة صغيرة كتب عليها بخط عريض:
“أي طالب يضرب زميله… سيكتب ألف مرة: العنف لا يبني الأمم.”
سقط الصمت كحجر في بئر، هدأت الطلقات، وسقطت الديمقراطية كما يسقط الطموح في غبار الواقع.
⸻
…
انعقد طابور طارئ؛ وقف الطلاب في صفوف متيبسة، بينما وقف المدير، تحيط به هيئة تدريسية مسلحة بأغصان النيم التي تحولت إلى سياط. أعلن بصوت صارم لا يقبل الجدل،
“حكومة شنو و فوضى شنو؟!”
ثم التفت إلى آدم الحلو، الذي بدأ يتراجع ببطء، وقال بحزم، “أنت مسؤول عن كنس كل الفصول لمدة أسبوعين.”
ثم نظر إلى بقية الحكومة وأضاف ببرود، “وكل واحد فيكم يأتي بولي أمره غدًا. ستكنسون حوش المدرسة لمدة شهر!”
وقبل أن ينهي كلامه، رفع سوط النيم ولوّح به في الهواء، معلنًا، “وطلبة الصف الخامس والصف السادس… عشرة جلدات لكل واحد!”
ساد السكون. ثم جاء صوت حسن ابن عوف، متأوهًا بعد أول لسعة، “يعني بدل الحكومة، بقينا مستعمرة؟”
ضحك الصف السادس ضحكة مكبوتة… لكنها سرعان ما تبخرت مع صدى السياط.
ذلك اليوم، تعلم التلاميذ أن الديمقراطية ممتعة… لكنها تنتهي غالبًا بالسياط. وأن السياسة قد تنتهي بك ممسكًا بمقشة، تكنس الفصول قبل شروق الشمس. وأن المال، مهما تراكم، دائمًا ما يختفي… سواء داخل الخزينة العامة أو في جيب بابكر الكباشي.
أما الأستاذ عوض الكريم؟ فقد تم نقله إلى مدرسة أخرى، وهناك، قرر أن يقتصر تدريسه على الجغرافيا و التاريخ بعيدًا عن فوضى السياسة وإثارة الرأي العام.
وهكذا، انتهت أول تجربة ديمقراطية حقيقية في تاريخ المدارس السودانية… لا بصناديق الاقتراع، بل بصوت السياط.
|
Post: #2
Title: Re: حكومة الصف السادس
Author: السر عبدالله
Date: 03-10-2025, 01:29 PM
Parent: #1
شكرا أمير على هذه النفحة السياسية المميزة والمفيدة والطريفة أيضا ... وفي الحقيقة كمان وريتنا ليه الديمقراطية ما بتستمر في السودان سنوات طويلة والدكتاتوريات العسكرية بتستمر سنوات طويلة ...والمصيبة الكبرى الآن أنه بدل العساكر العندهم على الاقل ضبط وربط الآن في مليشيات و مرتزقة بلا ضبط وربط مملوءة بالحقد الدفين ومصابين بمرض السرقة والنهب تريد ان تحكم السودان وزعيمهم ما وصل الصف السادس.
|
Post: #3
Title: حكومة الصف السادس
Author: Amir Ibrahim
Date: 03-10-2025, 06:08 PM
Parent: #1
شكراً—اخي السر—على تعليقك. الا تذكرك ب "مزرعة الحيوانات" لجورج اوريل ؟ الذي قدم فيها هذا الكاتب العبقري نقداً لاذعاً للانظمة الشمولية و الفساد السياسي و انحراف الثورات عن اهدافها الاصلية؟ سوف ارجع لك بخصوص المغزي من هذه الاقصوصة.
|
|