تذكرة عودة ‏

تذكرة عودة ‏


02-26-2025, 09:47 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=515&msg=1740559674&rn=0


Post: #1
Title: تذكرة عودة ‏
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 02-26-2025, 09:47 AM

08:47 AM February, 26 2025 سودانيز اون لاين
محمد عبد الله الحسين-
مكتبتى
رابط مختصر

(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});تذكرة عودة ‏‏" رؤوف"‏قبل أن يودعنا للسفر، كان يكاد يطير من الفرحة طيلة أيامه الأخيرة. كيف لا يفرح وقد أتته الفرصة بعد ما ‏يقرب من أربعين عاما من الغربة. عندما ودعناه، كنا نودع بعضا من تاريخنا في تلك المدينة يبلغ العشرين ‏عاما. أما هو فكان يودع الجزء الأكبر من حياته التي قضاها في هذه المدينة التي أقام فيها حوالي الأربعين ‏عاما.
كان وجوده معنا ثم لحظات الوداع المفاجئ المشحون الشجن يحمل بعض من جدل فلسفة الوجود والعدم ‏وجدليات أخرى مغرورة.‏
فما هو الدرس الذي أهدانا له إن كان ثمة درس؟.‏

Post: #2
Title: Re: تذكرة عودة ‏
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 02-26-2025, 11:10 AM
Parent: #1

‏**‏
لم يكن لقاؤنا به صدفة كما كنا نظن، فكل شيء وفق ترتيب إلهي: الزمالة، ثم التعارف، ثم الصداقة، والثقة ‏حتى الغضب، والشك، وسوء الظن
المتبادل. فنحن في النهاية بشر. ‏
جئتُ للعمل معهم في تلك المؤسسة وكان له في تلك المدينة الخليجية حوالي الخمسة عشر عاما. كان وقتها ‏في حوالي الأربعين من العمر. ‏
كان اسمه في البطاقة "شيخ رؤوف"، ولكن للإيجاز يُطلق عليه اسم "رؤوف" فقط. كان الجزء الأول من ‏اسمه:(شيخ) مثير للتساؤل هذا المجتمع الخليجي،
فهذا الاسم يحمل في الخليج معانٍ وإحالات مبجلَّة لا ‏تتوفر إلا لقلة، ولا تتوفر له هو بطبيعة الحال. بالتأكيد هو يعجبه هذا اللقب ، ولربما كان يزهو به في
‏قريته. فالانتماء للثقافة الإسلامية إرث مقدس في منطقتهم وفي ولاية كيرلا كلها. كان كثيرا ما يسرح ويتذكر ‏قريته وتفاصيل الحياة فيها.‏

عندما نتهلل ونبارك لبعضنا نزول المطر كما يفعل أهل البلد، كان هو يضحك هازئا فشتان ما بين المطر ‏هنا والمطر عندهم هناك. عندما تواتيه الفرصة
فسحة من الوقت يرينا صور للمطر الصيفي في بلده. كان ‏أحيانا يحكي ويسترسل كيف يهطل المطر مدراراً كأفواه القِرَب، وكيف تستجير الطيور بأعشاشها
في قمم ‏الأشجار السوامق. وأحيانا عندما يكون في مزاج رائق يحكي تفاصيل أخرى عن حياتهم في القرية. فيحكي عن ‏جلسات المساء الندية مع أصدقائه، و
هم يحتسون الشاي مع خبز البُراتا، وقطع الدجاج المبهرة، وكرات ‏البطاطس المحشوة. وأحيانا يحكي عن طفولتهم وكيف كانوا يلهون وهم يجرون خلف الفراشات
الملونة وهي ‏تلثم لؤلؤ الندى من أوراق الزهر وكيف يحصلون على العسل بعد ما يطردون النحل.‏
كنت أقول له مداعبا كيف تلاشى شوقُك الذي تزعم للمطر الصيفي، والسحب الخطاطيف الطوال وأصوات ‏العصافير في قمم الأشجار السامقة والفراشات
الملونة والندى الصباحي؟ وكيف أنساك عيشك هنا في ‏الخليج كل ذلك؟ فيكتفي هو بابتسامة هازئة تعقبها تنهيدة عميقة حزينة، دون أن يتكلم. ‏

‏***‏

Post: #3
Title: Re: تذكرة عودة ‏
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 02-26-2025, 08:02 PM
Parent: #2

‏(ولا تدري نفس بأي أرض تموت).‏
جاء رؤوف للخليج في بواكير عمره مع بريق ووهج الهجرة للخليج التي داعبت أحلام كل الشباب وقتذاك. ‏جاء وهو يُمنِّي نفسه بالعمل بضع سنوات
ليكوِّن نفسه ثم يعود إلى قريته ليعيش وسط أسرته. ولكن تمر ‏الأيام والسنون، لتطول إقامته في الخليج لأكثر من أربعين عاما. فما كان قد تمناه و
خطط له كان حلما بل ‏سرابا يتراجع لؤم وخبث كل ظن انه اقترب منه. نعم الجميع تقريبا وقع في نفس الفخ يا رؤوف، فهناك واقعٌ ‏آخر. فالمرتبات
مصممة بخبث مرصود لتظل تعطي سنوات بل عقود دون أن تتمكن من العودة السريعة. ‏نعم يا رؤوف هناك واقعٌ آخر لا علاقة له بالحلم، واقع يمتص
بلا رحمة، الجهد والعمر، مقابل مبالغ لا ‏تكفي الاحتياجات إلا قليلا، دعك من أنها تحقق الحلم.‏
‏ ذلك واقع شرحه يطول واقع يفقد فيه الجميع أعزاءهم دون أن يلقوا عليهم نظرة الوداع الأخيرة. وهناك من ‏يفقد كل ذلك ويفقد كذلك أن يحتويه تراب
بلده. كان رؤوف يهدده من حين لآخر هاجس وجودي ثقيل وهو ‏أن يدفن بعيدا عن وطنه أو يعود إليه في صندوق. ‏
قصة رؤوف تقف كمثال شاهد لمغتربين كُثر. كانت متطلبات الأسرة تتضاعف عليه يوما بعد يوم والعمر ‏يتناقص عاما بعد عام والحلم يتراجع ومساحة
الأسى تزداد في النفس مع كل صباح. شروط العمل والرواتب ‏مُعَدَّة بحيث تمتص عمرك وطاقاتك وجهدك قطرة فقطرة إلى أن تصل إلى أرذل العمر أو
قبل ذلك قليلا. فلا ‏غرابة إذن أن ظل رؤوف في الأسر مقيما ردحا من الزمنٍ طويل.‏
تعلمنا من حالة رؤوف أن الاغتراب ليس اختيارا كما يبدو بل هو قيدٌ لا تتبين ملامحه إلا حين يدركك ‏السأم من الغربة أو من سوء المعاملة، أو حين ترغب
في اللحاق بمن تبقوا على قيد الحياة لتنعم بباقي ‏العمر بينهم ومعهم. نعم الغربة اختيار إجباري، فهو كالحبل المرخي كما وصف طرفة ابن العبد الموت.:‏
‏(لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لَكَالـطِّـوَلِ المرخـى وثِنْيَاهُ باليـد(- أي الموت كالحبل المرخي ولكنه طرفاه ‏ممسوكا بيدٍ غير ظاهرة).‏
جاء رؤوف إلى الخليج ليعمل في بادئ الأمر عاملا في مقهى، ثم نادلا في فندق، وأخيرا انتهى به الحال ‏ليعمل في هذه المؤسسة الحكومية الكبيرة، نادلا
ليقدم القهوة والشاي. قضى رؤوف السنوات الأولى بغرض ‏تكوين نفسه. ثم تزوج بعد بضعة سنوات. انتهى شهر العسل وعاد سريعاً وهو يحمل مسئولية
أسرة جديدة ‏وأفراد جدد. مرت الأعوام ولم تعد الأمور كما كانت، فقد صار مسئولا عن إعالة أربعة أفراد إضافيين ‏بالإضافة إلى عائلته الكبيرة. جرت مياه كثيرة
تحت الجسر ولم يعد الخليج هو الخليج ولا أسرته هي الأسرة، ‏فقد كبر الأبناء وأدخِلوا المدارس وزادت الأعباء.‏

Post: #4
Title: Re: تذكرة عودة ‏
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 03-02-2025, 08:02 PM
Parent: #3

تلاتة ايام وانا في انتظار عودة الشغف الذي بدات به
كتابة البوست.