العلمانية ودولة المواطنة والأحزاب ذات الخلفية الدينية في اوروبا الغربية أو مقارنة الفضاءات السياسية بين الشرق العربي/الإفريقي والغرب الأوروبي!
أحزاب مسيحية في أوروبا؟ وأين العلمانية؟ ملك بريطانيا يقرأ نصوصاً دينية في مناسبة رسمية؟ أليس هذا يتناقض مع العلمانية؟
هذه الأسئلة، وغيرها من الأسئلة المماثلة، كثيراً ما تصادفني أو أسمعها تعليقاً على بعض كتاباتي أو ندواتي حول دولة المواطنة أو مقارنة مجتمعات الشرق والغرب. ومن الممكن أن يتوقع البعض، بحكم دراستي واهتماماتي (الأنثروبولوجيا)، أن أقدم تحليلاً محايداً يتمتع بدرجة عالية من الحياد العلمي.. أو حسب الظن الحسن!.
وفي هذا السياق، الإجابة السريعة هي: قيام أحزاب دينية في دولة علمانية لا يتعارض مع العلمانية طالما أن تلك الأحزاب تلتزم بدستور دولة المواطنة.
أما بالنسبة لملك بريطانيا وجميع الملوك الذين نراهم في بعض البلدان الأوروبية اليوم، فهم من بقايا الماضي، حيث كان الملك يُعتبر راعي الكنيسة أو العكس. ومع التحول نحو الملكيات الدستورية الجمهورية، تم إبعاد الملك وكنيسته عن السلطة الحقيقية، ليصبحا مجرد ذكرى من الماضي التليد. فالشعوب هي التي تحكم عبر برلماناتها وقياداتها المنتخبة. وبالتالي، عندما تحين المناسبات الرسمية، قد يظهر الملك البريطاني برفقة ماضيه الكنسي، لكن ذلك لا علاقة له بالدولة وسلطة الشعب.
وقد تكرر السؤال القديم في اليوم على إثر فوز الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) بالمركز الأول في الإنتخابات البرلمانية التي أعلنت نتائجها في برلين أمس. والإجابة، كما ذكرنا سابقًا، هي أنه لا يوجد تعارض.
العلمانية لا تعني بالضرورة إقصاء الدين عن المجتمع، بل تعني فصل الدين عن الدولة، وليس عن مجمل الحياة العامة. وبفصل الدين عن الدولة نعني عدم فرض دين أو مذهب ديني معين على المواطنين، حيث تظل الدولة محايدة تجاه جميع المعتقدات.
في ألمانيا، كما في دول أوروبية أخرى، توجد أحزاب ذات خلفية دينية تعمل في إطار ديمقراطي وعلماني.
وإذا نظرنا إلى الجذور التاريخية والفكرية للحزب الديمقراطي المسيحي (CDU)، نجد أنه نشأ بعد الحرب العالمية الثانية كممثل لتيار سياسي مستوحى من القيم المسيحية، لكنه لا يسعى لإقامة دولة دينية. بل يستخدم هذه القيم كإطار أخلاقي وسياسي لتشكيل سياساته وبرامجه دون المساس بالدستور وعلمانية الدولة.
بعبارة أخرى: في الديمقراطيات الليبرالية، يُسمح للأحزاب بتبني أفكار مستمدة من خلفيات ثقافية أو دينية طالما أنها لا تتعارض مع الدستور والقوانين. ففي أوروبا عموماً هناك تعدد سياسي كبير يتمثل في تيارات وأحزاب ذات توجهات ليبرالية، اشتراكية، خضراء، وأحزاب تمثل مصالح مجموعات مهنية أو إقليمية. لا توجد مشكلة طالما أنها تعمل في إطار الدستور.
وتجدر الإشارة إلى أن العلمانية في ألمانيا وهولندا مرنة مقارنة بالنموذج الفرنسي الصارم (اللائكية). ففي ألمانيا وهولندا، العلمانية أكثر توافقاً مع وجود تأثير ديني في الحياة العامة، مثل تدريس الدين في مدارس معينة أو وجود مساعدات وضرائب على الكنائس والمساجد. ولكن تبقى الدولة دائماً محايدة تجاه الأديان والمذاهب المختلفة داخل الدين الواحد.
بالنسبة للحزب الألماني المسمى "مسيحي"، رغم أن اسمه المسيحي، فإنه لا يقتصر على المسيحيين فقط، بل هو حزب سياسي يسعى لتمثيل جميع المواطنين، بما فيهم غير المتدينين، الملحدين، وأتباع ديانات أخرى مثل البوذية والإسلام، طالما أنهم يتفقون مع مبادئه العامة وبرنامجه السياسي.
إذن، وجود حزب ديمقراطي مسيحي في دولة علمانية ليس تناقضاً، بل هو جزء من التعددية السياسية التي تسمح للأحزاب بتبني قيم متنوعة ضمن إطار ديمقراطي يحترم الدستور.
ومن الجدير بالذكر أيضاً: لم يسبق للحزب أو أي من قياداته أن سعى لتقويض الدستور عبر الانقلابات العسكرية أو دعم النازية، كما حدث ويحدث في عدة دول في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
فعدد من الأحزاب ذات الصبغة الدينية هناك سعت إلى تقويض الدستور وأيدت الديكتاتوريات واحتكرت السلطة، مما أدى إلى قمع الأفراد والجماعات المختلفة بحجة تطبيق القوانين الدينية أو المذهبية التي يرونها ملزمة للجميع. وهذا السلوك يجب أن يُحرم ويُجرم بموجب القانون في دولة المواطنة الحقيقية.
لكن هذا لا ينطبق على الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني، حيث يعمل هذا الحزب دائماً ضمن إطار الدستور وقيمه وثقافته منذ تأسيسه في عام 1945 وحتى فوزه في آخر إنتخابات برلمانية ألمانية يوم أمس الأحد في 23 فبراير 2025.
ونذكر هنا أن كونراد أديناور، أول مستشار لألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، كان معادياً للنازية والفاشية والتسلط السلطوي، وكان من صلب الحزب الديمقراطي المسيحي.
محمد جمال الدين حامد ---- مجرد مقالة للتداول العام
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة