Post: #1
Title: صرخة راهب الكلمة في زمن الفوضى#
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 12-22-2024, 00:22 AM
11:22 PM December, 21 2024 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});صرخة راهب الكلمة في زمن الفوضى
الحقيقة، تلك العارية الجميلة، هي القيمة العليا التي أتشبث بها في الكتابة. لكنها في المقابل، قدرٌ ثقيل ينهش الروح. أصرخ فرحًا كلما رأى مقال النور، لكنني أموت ألف مرة وأنا أحاول أن أبعث الحياة في نص روائي، ويراودني الجنون كلما امتشقت قلمي لكتابة قصيدة. بين هذه المساحات المتناقضة، أقف راهبًا نبيلًا، فقيرًا إلا من مشاعري الفوضوية. أنا أبكي على أمي التي رحلت وتركتني بين ذكريات دفء حضنها وصوتها الحاني. وعلى معشوقتي التي رفضتني بعد سنوات عشق عشتها وكأنها أبد. أنا على تنكر الرفاق لي، أولئك الذين وعدوا بالبقاء ثم اختفوا حين احتجت إليهم. وعلى تشردي بسبب الحرب، إذ انتزعتني الحياة من جذوري وألقت بي بعيدًا عن أرضي.لكن يقيني الذي يسكن أعماقي يقول: ستعود، مهما طالت الأيام وتشوهت ملامح الوطن. كل ما أطمح إليه هو أن أدفن يومًا في مدينتي أمدرمان، تلك الجنة البسيطة للفقراء. لعبت فيها طفلًا، وتمردت فيها صبيًا، وهي الآن تحتضن وجعي وخيباتي.يا خيبات الكبار، ضحكوا عليّ وقالوا: "أنت عالم"، لكنني انتهيت معلمًا بسيطًا، أتنقل بين قاعات الدراسة منهكًا. ثروتي ليست إلا كتبًا ومراجع، أحذيةً بالية، وبضع قمصان وبناطيل. يا قلبي لا تحزن؛ لقد اخترت العلم حرفة، ومهنة التدريس ليست إلا مرآة للبؤس والضنك. حضور اجتماعي قليل، وكتابة صحفية خافتة، كوميض برق سرعان ما ينطفئ. أعيش على الخيال، ذلك الفضاء الوحيد الذي لم تصادره الحياة مني.أعيش في معركة، ليست فقط مع نفسي، بل مع العالم الذي ينهش القيم. كيف أواجه عولمة تلتهم الهوية، وتمحو الملامح؟ كيف أتصالح مع زمن يجعل المبادئ مجرد شعارات فارغة، ويختزل الفكر في جداول اقتصادية وأرقام؟معاناتي الفكرية تتجلى في صراع بين القيم الأصيلة والواقع الذي يسحقها تحت عجلات التحديث الجارفة. السياسة، تلك اللعبة التي تجرعت مراراتها، جعلتني أؤمن بأن الإنسانية ضاعت بين شعارات النضال وحروب المصالح.أقف اليوم بين أطلال يقيناتي، محاولًا استعادة بوصلة ضاعت في زحمة الماديات والعولمة. أكتب لأقاوم، وأحلم لأعيش. فالكلمة سلاحي الأخير، والخيال ملجئي الوحيد. لعل الكتابة، رغم كل شيء، تبقى نافذتي إلى عالم أعدل وأكثر إنسانية.صراع بين الوجود واليقينأنا، الواقف على حافة عالمين، أنتمي إلى الفكرة وأكابد الواقع. معتقًا للفكر الوجودي، غريبًا بين قوم يجعلون الإسلام منطلقًا وأفقًا لحياتهم. هذا الصراع، الذي يشبه انشطار الروح إلى نصفين، يثقل كاهلي، ولكنه يعلمني أن الحيرة قد تكون أجمل أشكال الحياة.الفكر الوجودي علمني أن الإنسان وحده مسؤول عن معناه، أنه بلا قيد أو ضمانة، سوى إرادته الحرة في مواجهة العدم. ولكني وجدتني في مجتمعٍ، يغرس جذوره في اليقين المطلق. \مجتمعٌ يجعل الإيمان سدًا منيعًا ضد القلق الوجودي، ويريح النفس بتسليمها إلى قوة عليا، بينما أجد نفسي، في صراع لا يهدأ، مع أسئلة تلاحقني: من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟بين رفاقي الذين يحيون حياتهم ببساطة الإيمان، كنت غريبًا في تفكيري، وحيدًا في عزلتي. كيف أشرح لهم أنني أؤمن بحرية الإنسان ومسؤوليته المطلقة عن أفعاله، بينما يقولون لي إن القدر مكتوب وإننا أدوات في يد الله؟ كيف أجادل، دون أن أبدو متعاليًا أو متشككًا في قيمهم، أن الوجود بالنسبة لي ليس جوابًا، بل سؤال لا ينتهي؟ هذه المسافة الفكرية جعلتني أكابد الأمريْن. فلا أنا قادر على التخلي عن جذوري الإسلامية التي شكلت وجداني وهويتي الثقافية، ولا أنا قادر على كبح اندفاعي نحو تأملات سارتر وكيركغارد، تلك التي تدفعني لتفكيك كل يقين وإعادة تشكيله. \في صراع كهذا، أجدني ممزقًا. حين أعيش بين أهلي، أبحث عن معنى مشترك، عن لغة لا تتنافر فيها الوجودية مع الإيمان. ولكن في محاولاتي تلك، أواجه اتهامًا بالضلال أو الابتعاد عن روح الجماعة. وفي وحدتي، يغمرني شعور بالذنب؛ \هل خذلت القيم التي نشأت عليها؟ أم أنني ببساطة أبحث عن طريق أكثر صدقًا مع ذاتي؟ولكن الوجودية ليست رفضًا للإيمان بقدر ما هي استفسار عميق عنه. هل يمكن أن تكون الحرية المطلقة التي تتحدث عنها الوجودية امتدادًا للخيار الذي يمنحه الله للبشر؟ هل يمكن للقلق الوجودي أن يكون جزءًا من الرحلة إلى الله، لا نقيضًا لها؟إنني أعيش في منطقة رمادية، بين فلسفة تجعلني مسؤولًا تمامًا عن حياتي، وبين دينٍ يقول إن هذه الحياة اختبار مؤقت. هذا الصراع يجعلني أنظر إلى نفسي كمشروع دائم البناء، كمزيج من الوعي المتناقض. وفي هذه المعركة الفكرية، أتلمس القيم الإنسانية المشتركة التي قد تجمع بين عالميْن يبدو أنهما متناقضان. أبحث عن حكمة تنقذني من مزالق الحيرة، وتعلمني أن الحقيقة، وإن بدت متضاربة، قد تكون أكثر رحابة مما أتصور.هذا الصراع ليس عبئًا بقدر ما هو نعمة؛ فهو الذي يجعلني أفكر، وأسأل، وأكتب. ربما تكون الكتابة هي الطريقة الوحيدة للتصالح بين هذه العوالم المتشابكة، وهي التي تمنحني بصيصًا من الأمل في أن أجد يومًا إجابة، أو ربما أتعلم كيف أحب الأسئلة دون الحاجة إلى إجابات.
|
|