من اضابير الاغتراب

من اضابير الاغتراب


05-09-2024, 04:09 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=515&msg=1715267388&rn=0


Post: #1
Title: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 05-09-2024, 04:09 PM

04:09 PM May, 09 2024

سودانيز اون لاين
ابو جهينة-السعودية _ الرياض
مكتبتى
رابط مختصر



إلى اخي العزيز / وليد طه في صومعته الاغترابية بالرياض
*******
و إلى صديقي الذي ما فتيء يلعن الغربة ولكنه متشبث بها
********
الغربة طاحونة ، و حباتها ( المدقوقة و المدروشة بين رحاها هم المغتربين و ضجيجها يصيب أسرهم هنا و هناك فتجعلهم يعيشون في حالة من إنعدام الوزن ).
أهلنا في الشمال ، مارسوا الإغتراب منذ عهد الملكية في مصر ، الملك فؤاد ..
و منذ أيام الملك فؤادالدون جوان الأرناؤوطي فاروق ، أو قيل قبل ذلك.
سألوا أحد جهابذة الإغتراب ( و هو من عندينا ) :
ما رأيك في الإغتراب ؟ فقال : العشرة سنوات الأولى صعبة.
معنى هذا أن سنوات الغربة عندنا تقاس بالحزمة ( كالسنة الضوئية )،
كل حزمة تساوي عشرة سنوات.
يعني أربعين سنة غربة تساوي أربعة حزم و كل حزمة إغترابية تكون حبلى بالبحث عن كفيل أو عمل أو تأشيرة للذهاب و العودة بها أو طلبات لا تنتهي إن لم تنتهي كل الحزم بمرض السكر أو الضغط أجاركم الله و إيانا.
تسأل واحدة عن زوجها : متى يأتي ؟ فتقول لك : بعد نص حزمة.

لأنه لو قالت بعد خمسة سنوات ، الواحد بيشوفها كتيرة ، بالضبط زى ( الجنيه بالقديم و الجديد في هذه الايام غير المعروف وجهتها)
نحن أحسن شعب نختزل الزمن بصبر عجيب ،
حتى أن أحد الظرفاء قال ، إن المدفون في ذلك الميدان ( ليس أبو جنزير ) بل هو سيدنا أيوب عليه السلام ، جد كل السودانيين الصابرين، فرضعنا منه هذا الصبر الجميل و لم نفطم منه إلى يومنا هذا ، و تسرب إلى جيناتنا الوراثية ، فإنساب إلى شراييننا و تحكم في فصائل دماءنا.
كل واحد فينا شايل هموم نفسه وهموم اهله ، و هموم ناس تانين عزاز، و شايل قصص في راسه ، منها المضحك و منها المبكي و منها المضحك المبكي :

زولنا حمد ، زول سوداني ، فنجري الطباع ، فارع الطول كأجداده من سلالة تهراقا ، وسامته لا تخطؤها العين ، مشلخ شلوخا غائرة كخطوط المحراث في أرض بكر.
عندما إلتحق في الرياض بعمل لأول مرة قبل كم حزمة إغترابية ، سأله بدوي : ما هذه الشرطات على خديك؟
فقال له حمد مازحا و بهمس : أنا حأقول ليك بس ما تقول لي زول. في بلدنا الواحد لو ما قتل ليهو أسد أو نمر يعتبر ما راجل و ما بيعرسوا ليهو ، أها أنا صارعت نمر و قتلته ، و لكنو عمل فيني الشرطات دي.
البدوي تراجع مصدقا و هو يفتح فمه مندهشا و متوجسا خيفة. و لكنه لم يجهد تفكيره و يسأل نفسه : ما هذا النمر الذي يختار الجضيمات فقط و يقوم بتشريطها بهذا الإتقان الهندسي ؟
أوقف القدر في طريق حمد فتاة إسمها ( ريتا ) ..
فتاة جنسيتها ( خاتفة بلدين .. كلون بشرتها خاتف اللونين ) ..
فالوالد من قلب أثينا و الأم سليلة أمهرا ( بت عماً لي مادلينا ) فكانت للناظر متعة للعين و قلبه ، و الكمال لله ، كل شيء فيها بديع و جميل ،
حبشية ... أبوها إغريقي سليل هوميروس و أمها سليلة الأمهرا ، ولدت في أثينا ، و ترعرت في أديس ، و إغتربت في السعودية.
تتابعها بعيونك و أذنك عندما تتحدث و هي تحاول تقليد لهجتنا الحبيبة ،
فكأنها تتكلم و فمها مليء بحلاوة هريسة ،
و خاصة عندما تأتي بكلمة بها حرف العين ، فيخرج الحرف و هو شبعان من ريقها ، من جوة جوة الحلق. فتتمنى لو قالت أمامك طوال اليوم ( يا علوية عيونك عسلية ).
أحب حمد ريتا ، حبا ملك عليه فؤاده و لبه و جعلت مجاري شلوخه تتوهج كلمبة النيون و تمتليء بدماء العشق التي تغلى في عروقه. و بادلته ريتا حبا بحب. و ( الساعة الـ يقولو ليها حمد ، الكلام يكْمل و يقيف.)
قلنا له و نحن نظهر الشفقة و نضمر الحسد : دي ما معروفة مسلمة ولا مسيحية ، يعني أهلك ما حيرضو ..
لم يجعلنا نكمل تعليقنا الغتيت ، فقد قال و الشرر يتطاير من عينيه : و الله لو بقت راهبة ولا من السيخ ما بخليها...
تزوجها حمد

مازحه أحدنا بغيظ مكتوم و حسد بائن بينونة كبرى:
أولادكم حيطلعوا مشلخين جاهزين و إنت عامل لي شلوخك الغريقة دي.

المثل يقول ( البيحبك بيبلع ليك الظلط ) ، و لكن كان حمد بيبلع ليها الدراب و ( الكُرْكُتي ) و كتل الإسمنت المرورية.
فعندما دعانا لأول مرة لوجبة غداء ، قال لنا : ريتا عملت لينا أكلة سودانية بإيديها.
و حضرنا في الموعد المضروب ،
و نحن نشحذ أسنانا لإلتهام وجبة سودانية بأيدي أجنبية.
و حمد يدخل و يمرق ( كأم العروس ) تارة يستحث ريتا و تارة يمدح في ريتا و عمايلها السودانية،
ثم أتت الصينية مغطاة بطبق سوداني ، و عروق من الجرجير تتدلى معلنة أن المائدة ستكون عامرة ،
و إنكشف الطبق عن صحن ( ماكن ) يمكن أن يسبح فيه طفل عمره ستة شهور بحرية تامة ،
و داخله شيء أشبه باللحاف المطبق أو شملة الدخان قبل أن تصير قديمة ، أطلق عليه حمد إسم القراصة ،
كان لونه داكنا يميل للون الكاكي الغامق ، فقلنا ربما من نوعية الدقيق ،
و عندما سكب حمد ( الملاح ) و الذي من المفترض أن يكون ملاح الويكة ، إندلق سائل هلامي يمكن أن تحسب من خلال شفافيته عدد حبات الفلفل الأسود و حبات الويكة الناشفة و أجزاء من الماجي التي لم تذب في الحلة.
و إندلق السائل بعد عدة محاولات من حمد و كأنه يضع لك مرهم بنسلين في العين ،
و الذي غاظني و جعل الدم يصعد إلى نافوخي هو أن حمد ما إنقطع عن شكر هذا الهلام و هذا اللحاف القابع في طشت الغسيل الذي أمامنا :
قال و هو يبلع بنهم و تلذذ : بالله ما شاطرة إنو الواحدة تتعلم تعمل الحاجات دي و بالسرعة دي ؟
فقلت له متهكما : الكلام على الأستاذ يا شيف الهيلتون.
لم يفهم مغزى تهكمي و واصل إبتلاع الكتل العجينية و نحن نتسلى بالسلطة المليئة بالشطة الحبشية.
عند خروجنا ، قالت ريتا : الأكل عجبكم ؟
قلت لها و أنا أفكر في أقرب مطعم : و دي عاوزة كلام ؟ تسلم الأيادي يا مدام ريتا.
لكزني صديقي : تسلم الأيادي و تبوظ المصارين ، مش كدة ؟
معذور حمد ، فقد كان يرى فيها كل شيء حلو.
ثم إختفى عنا حمد ، و لفترة طويلة ضاعت أخباره عنا وسط زحام الحياة و حزمنا الإغترابية تأكل لحظاتنا يوما بعد يوم

***

إخواننا المصريين ، أطلقوا على اهلنا النوبة إسم البرابرة ، إنطلاقا من مفهوم معين. فقد قام الملك فاروق بتعيين السودانيين في مصر و خاصة النوبة في سلاح الهجانة ، يركبون على الجمال و هم يجرون بالأرض سيطان عنج ، كانوا يحرسون حدود الدولة ، و إن حدث أي هرج أو مرج في القاهرة يطلبهم الملك فاروق فينزلون وسط الدارة و يلهبون ظهور أولاد بمبة بهذه السياط و التي لا يتحملونها. فأطلقوا علينا هذا الإسم تشبيها لنا بالقبائل الهمجية البربرية.
المهم إنو واحد من البرابرة ، عاش في تلك الحقبة تاجرا ميسور الحال في أم الدنيا ، و كان بعين واحدة ( المتشاءم يقول له أعور ، أما المتفاءل فيقول أنه بعين واحدة )،
ففكر أن ( يلَغْوِس ) شوية في حياته ، و يعمل تحلية و يتزوج مصرية ( تجعل حياته في الغربة طرية و لينة ). فتزوج واحدة من باب اللوق ، و عاش مبسوطا مفتول الشاربين منفرج الشفتين ، يدخل عليها كل يوم و هو يحمل أكياس الفاكهة و اللحمة البتلو ، و البسبوسة ،
و دامت حاله هنية و رضية ، إلا أن دوام الحال من المحال ، فأفلس ، و صار يدخل يوميا على زوجته خالي الوفاض ،
فتسأله زوجته و هي تزم شفتيها ( ها ... ما لقيتش شغلة ولا مشغلة ؟ ).
فيقول و هو كسير العين ( لا ). و إستمر الوضع لبضعة أسابيع ،
و في يوم فتحت له الباب بحيث ظهر وجهها و صدرها فقط و قالت له : ها ، مافيش جديد ؟
فقال : لا
فقالت و هي تخبط على صدرها : يا لهوي ... و كمان أعور ؟؟؟؟؟؟
و تطايرت ملابسه و حاجياته من البلكونة ، قطعة قطعة ، يلتقطها و عينه الوحيدة تذرف دمعا غزيرا.

اللهم إختزل حزم إغترابنا .. و أرجعنا إلى أهلنا في وطن يسوده السلام .
و كل حزمة إغتراب و أنتم بألف خير.

Post: #2
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: walid taha
Date: 05-12-2024, 07:01 AM
Parent: #1

صباحك خير يا أستاذ

Quote: Quote: كما نرى انكساراتنا و أشواقنا.


لنا عودة

Post: #3
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: صديق مهدى على
Date: 05-12-2024, 07:12 AM
Parent: #2

عودا حميدا يا شاب ههههه
تحياتي

Post: #6
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2024, 12:58 PM
Parent: #3

تحياتي اخي العزيز صديق

مرورك حافز للاستزادة من ذكريات الزمن الجميل
دمتم

Post: #4
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ترهاقا
Date: 05-12-2024, 07:19 AM
Parent: #2


كالعادة تحول طاقاتنا السالبة في هذا الوقت العصيب إلى طاقة ايجابية متفائلة لما هو قادم بهذا السرد الجميل
لك الود يا قريبي الجميل

Post: #7
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2024, 01:00 PM
Parent: #4

ابن عمي العزيز ترهاقا
تحياتي لك
والشوق مطر
يا ريت تدينا طلة في الرياض
دمتم بألف خير

Post: #5
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 05-12-2024, 12:56 PM
Parent: #2

في الانتظار يا وليد

Post: #8
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 05-13-2024, 12:53 PM
Parent: #5

عندما ضاقت به أركان الوطن و أضحت أضيق من خرم إبرة
إقتنع بالهجرة سبيلا
فباعت أمه ( اال ورا و ال قدام ) ، حتى كل ما تبقى من ذكريات زوجها
سافر و أغترب و أطال الغربة
لما طال شوقها إليه ، هاتفته : ليه كل التأخير دة ؟ تعال شوفني قبال أموت
جاء رده كلفحة سموم : منتظر القرين كارد ، و الحكاية شكلها حتطول
هنا تحول كل أخضر في قلبها إلى سواد

Post: #9
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: walid taha
Date: 05-13-2024, 02:15 PM
Parent: #1

****
"إدريس عسكرتود" من نواحي "قوز اللباب " رمت به الأقدار في بحر الإغتراب وأمواجه المتلاطمة . من حيث لا يدري وجد نفسه في ركن قصى في الجمعية ينتظر المجهول .

قضى ليلته الأولى تلك يتأمل المكان و الناس من حوله يضجون ، منشغلون في لعب "الكتشينة" يستمع الى حكايات مختلفة بعضها من وحى المكان و أخرى لم يفهما . نام و المكيف يلفحه بهواءه البارد ويغض مضجعه بهديره العالي وفى خاطره ما ترك وراءه. حلم في ذلك الليل -و الناس من حوله يغطون في نوم عميق - بـ " الدونكي" وقد دخله غرباء اجتثوا النخيل و أتلفوا الزرع ، , و بــ"القسيبة" وقد هوت وتحطمت وتناثر ما بها من قمح وتمر ، رأى "الطنبور" وقد تقطعت أوتاره و "فافايودول" تبكي في صمت . صحى مذعورا على صوت تلفون الجمعية و جرسه العالي !.

يستتبع ،،

Post: #10
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 05-15-2024, 12:27 PM
Parent: #9

واصل

Post: #11
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: walid taha
Date: 05-27-2024, 02:37 PM
Parent: #1

الشوق الى " سِتّنا" و لـ "قوز اللباب" كان يُطوِّق خاطر إدريس ، يجعله يتقلب في فراشه كل ليلة .
الشوق الى " السيو" وجلساته كان لا يحده حدود !

Post: #12
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 05-28-2024, 12:50 PM
Parent: #11

تتمدد جدران البيت و تكبر حتى تسع كل زوايا الخواء بدواخله ..
يقف متفرساً في كل ما حوله ، يُمْلي ناظريه و هو يجوب بهما كل أنحاء المكان...
يجول ببصره في الشارع يستعرضه بيتاً .. بيتاً
وجوه الجيران تتأرجح ملامحها في ذاكرته ..
تطفو أحداث و مساجلات على سطح ذاكرته المتعبة ..
إنتابته مشاعر شتى قبْل أن يطرق الباب الذي غاب عنه خمس سنواتٍ طوال..
غالَبَ دمعة تقف على أطراف مقلتيه و هو يتأمل بقايا عربته ( التاكسي ) تقبع أمام منزله ..
دون أن يشعر هتف هاتف من دواخله المتلهفة :
( أهذا أنت يا رفيق الدرب ؟ أراك تقف متماسكاً أكثر مني ... هل أبوح لك بسر ؟ شوقي إليك كان يخالط حنيني إلى تراب البلد و الأهل ...)
رغم الظلام الحالك .. كان يرى كل تفاصيله عبْر ما يختزنه في عقله من مواقف و أحداث ..
إندلق مخزون أيامه الخوالي دفعة واحدة .. كبوابة مشرعة تؤدي إلى تصفح سِفْر قديم تختلط فيه بداياته و نهاياته...
رمقه و حزن يكسو وجهه و يغمر كيانه ...
هيكل بلا أحشاء ..
بقايا مقاعد بلا حشايا ..
نوافذ بلا زجاج ..
و مقابض مخلوعة عنوة ..
تلاشى اللون الأصفر الذي كان يتلألأ تحت الشجرة الضخمة عقِبَ كل تلميع على شارع النيل أمام ( القراند هوتيل ) و ( فندق السودان) ..
أخذ نفَسا عميقاً .. و تنهد ..
و هو يتأبط حقيبته بيد و بيده الأخرى يتحسس جسد العربة الساكن ..
كأنَّ عِبْق الصندل الذي كانت تُصِر زوجته على ( تبخير ) كل أركانه به لا زال يفوح كما كان في الأيام الخوالي فيظل يشده إلى إبتسامتها طيلة مشاويره في حنايا العاصمة و أزقتها و حواريها حتى موعد قيلولته و هو يحكي لها تفاصيل يومه و هو يغالب النعاس.
لم يتمالك نفسه .. و قد هيجته الذكرى.
تدارك دموعه قبل أن تنزلق .. فغيَّر مجرى تسارُع الصور في مخيلته..
ربَتَ على هيكل العربة .. بدأ بمقدمتها ....
مسح على بقايا طبقة الطلاء المخشوشنة برفق و حنو ..
ها هو المكان الذي كانت تتدلى منه ( المراية ) ..
لم تعد هناك ..
إنداحت عشرات الوجوه من مكان ( المراية ) تعكس وجوه زبائنه القدامى و هو يرنو إليهم عبْرها تارة و تارة يُبْقي نظره على الشارع ..
تنامى إليه لغطهم و أحاديثهم و قفشاتهم و كأنها لا زالت تتمسك بأهداب المقاعد و سقف العربة و أرضيتها..
خطرفات جاره السكِّير الذي كان دائماَ يصادفه أول كل شهر في ( المحطة الوسطى ) حاملاً كيس الورق المتخم و رائحة الخمر تفوح منه وضح النهار ...
ضجة الوقوف عند بوابة المستشفى الميري ..
شاى ( بت المِنا ) كثير السكر .. تطفو على سطحه حبات ( الهبهان ) تهرول في إتجاه حركة الملعقة بيد ( ست المنا ) .. و زخات بخور ( التيمان ) تطغى على الغبار المتصاعد من زحمة المتكالبين على باب المستشفى للدخول ( بعواميد ) الطعام.
و هنا كانت تتأرجح ( السبحة العتيقة ) التي أهدته إياها عمته ..
أما هنا فكان يرقد ( المصحف ) ... ملفوفاً في قطعة من القماش الأبيض ..
أدخل رأسه برفق من جهة باب السائق ..
تنامتْ إليه أصوات أغنيات قديمة تختلط بكم هائل من موسيقاها و إيقاعاتها ..
تخيل نفسه يدخل المفتاح ليفتح الباب صباحاً و هو ( يبسمل و يحوقل ) ...
نظر إلى ( الدريكسون ) الذي أمسك به أول مرة بعد أن ذبح ( خروف الكرامة ) و بَصَمَ بالدم على ظهر التاكسي و على جنباته..
إنزلقتْ ذكرى أول مشوار .. و هو يجول بأمه على شارع النيل عملاً بالنَذْر الذي قطعه على نفسه ...
( ندْراً علىْ لو إشتريت التكسي ... أول مشوار بفسحك في الخرطوم دي كلها ... شارع شارع ) ...
إبتسامة أمه يومها التي كانت تنم عن الرضا و السعادة الغامرة لا زالت ترقد على بقايا مقدمة العربة كصورة في إطار عتيق .. و دعواتها يتردد صداها في جنبات الهيكل الخاوية ..
و من هذا الباب دخل العسكري ليلكزه بهراوته قبل أن يجرجره زملاؤه خارج التاكسي لأنه تجاوز ساعات ( حظر التجول ) .. و تنهال عليه الصفعات و هو يحاول جاهداً أن يتحاشاها و يُسْمعهم تبريراته .
قفزتْ إلى مقدمة ذاكرته ليلة أن أحستْ زوجته بآلام المخاض ...
ليلتها لم يجد الداية التي كانت تباشرها فقد سافرت فجأة لواجب عزاء..
و أصر التاكسي ليلتها أيضاً على عدم التحرك و كأنه يتآمر هو الآخر على قدوم مولوده الأول .. ..
عندما أتى بالداية من الحارة الأخرى .. قالت له : ولدك دة إن شاء الله حيكون بخيت و سعيد ..
همهم في دواخله : وين السعادة و البَخَت يا حاجة ؟
ترك ولده في الرابعة من عمره ...
و ها هو يعود إليه بعد غربةٍ حفرتْ في روحه أخاديد نازفة ... يعلم الله كيف و متى تُنْكَأ ...
غمرته سعادة تلك الأيام ..
إنفرجت أساريره و هو قاب قوسين من أسرته و حفاوتها الدافئة ...
أفاق على سكون الشارع .. و على وقفته التي طالت يسبح في بحيرة تأملاته.
شعر بضجيج الهدوء المُطْبِق ..
و صَمْت عربته يكاد يملأ المكان بصخب عارم..
شلال ذكرياته التي سافرتْ به ثم ألقتْ برحالها على عتبات بيته و ساكنيه ، يلفه تماماً .. و يجرفه بعيداً.
طرق الباب بيد مرتجفة .. و هو يرمق ( التاكسي ) من طرف خفي و كأنه يستأذنه الإنصراف عنه..
إنفتح باب بيته و أطلتْ زوجته ..
شهقتْ متراجعة و غير مصدقة ..
ثم نضح وجهها بفرحة مباغتة ..
هتفتْ بإسمه بصوت مخنوق ...
سرعان ما أطلقتْ زغرودة يخالطها بكاء في هستيريا متواصلة ... و هي تنادي أولادها ....واحداً تلو الآخر في سعادة و بهجة طفولية غامرة..
عندما عانقها طويـلاً ... و دفن وجهه بين طيات عبقها الراقد بين حناياه أبداً .. خُيِّل إليه بأن هيكل العربة المتهالك قد إكتسى رونقه الأصفر القديم و أنه وقف على ( لساتكه ) الأربع و أطلق حشرجته القديمة لينطلق به مرة أخرى ليجوب شوارع الخرطوم...
***

( أبو جهينة .... من بانوراما الأيام الخوالي )

Post: #13
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: walid taha
Date: 10-13-2024, 02:03 PM
Parent: #1

up

Post: #14
Title: Re: من اضابير الاغتراب
Author: ابو جهينة
Date: 10-15-2024, 11:43 AM
Parent: #13

تحياتي لكل المغتربين في اصقاع الارض ومشارقها ومغاربها
اما بعد
قبل هذي الحرب اللعينة، كان الاغتراب يعني السفر إما لعمل واكتساب الرزق أو الدراسةولكن الآن ، نزح الناس نزوحا فكتب عليهم الاغتراب القسري، وتشتت الشمل ما بين قرى وأمصار الشمال والشرق، ثم الى مصر ثم الى اصقاع الارض، مشارقها ومغاربها
غربة ممزوجة بالحزن العميق والقلق
ستبقى هذه الفترة صفحات سوداء تقطر حزنا لا يندثر وسوف يضاف الى تاريخ السودان في اضابيره التي لا تخلو من بصمات متنوعة ، ولكنها ممزوجة بعدة انواع من الأسى والحزن
لله دركم ايها المغتربون بكل انواع الاغتراب