العنيدان

العنيدان


07-19-2021, 03:57 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=510&msg=1626663457&rn=1


Post: #1
Title: العنيدان
Author: Osman M Salih
Date: 07-19-2021, 03:57 AM
Parent: #0

02:57 AM July, 19 2021

سودانيز اون لاين
Osman M Salih-Netherlands
مكتبتى
رابط مختصر




العنيدان
-----------

في حديقة داري الخلفية تمثالان منزويان تحت عريشة للعنب، خلَّفهما لي، سكّان البيت القدامى، وارتحلوا.

أحد التمثالين منحوت من الحجر الأصم، يجسّم جنديّاً يرتاح على جذع شجرة مقطوع. هائم على وجهه، تلفه الحيرة، ليس يدري إلى أين يقوده الطريق، تقابله منحوتة رخامية لامرأة تحمل جرّة كبيرة للماء في هيأة سمكة فاغرة الفم لهفى لالتقاط الهواء.

فأمّا الجندي الهائم على وجهه فقد أطلقتُ عليه اسم هيرو أونودا الّذي كان آخر جندي ياباني يستسلم عام 1974، وذلك بعد عقود ثلاث من نهاية الحرب العالمية الثانية، قضاها
مختبئاً في أدغال الفلبين، رافضاً التصديق بأنّ الحرب التي خاض غمارها قد وضعت أوزارها، وأنّ بلده قد هُزِمتْ منذ زمن بعيد. وأمّا المرأة الرخامية فقد بدا لي، بالنظر إلى ردائها الأبيض السابغ والخفر والرزانة اللذين يضيئان قسمات وجهها الصبوح، أنّ أنسب الأسماء لها هو مريم العذراء الباحثة عن نبع المحبة الصادقة لترد منه الماء الزلال بجرّتها الشبيهة بسمكة كي تروي عطش العالم .

فوق التمثالين تتمدّد عريشة للكروم خضيلة، مورقة، تتدلّى منها العناقيد اليانعة، تتسلّقها طوابير من الحشرات الصغيرة، ويطنّ من حولها النحل والزنابير ، وتحج إليها الطيور- في الصيف، وذابلة، يابسة الفروع، جرداء من االأوراق- في الشتاء، وحول التمثالين، تنمو، هنا وهناك، زروع صغيرة يتطاول من بينها السرخس.


تتكرّر دورة الزمان في الحديقة الخلفية للدار . تترى الفصول فيها فترفع النباتات هاماتها للشمس الحارقة والهواء المتوهّج، والأنسام الملطفة للسخونة، وزرقة السماء الصافية ربيعاً وصيفاً، ثم تنكّسها عند حلول الشتاء، والعذراء المقدّسة، حاملة الجرة، لم تجد النبع الصافي بعد، لكنّها زامة شفتيها في إصرار وعزم لاتزال قابضة على الجرة، حريصة على سلامتها، لاتفلتها من يدها برغم طول الوقفة المضنية
في عصف الأنواء. أما هيرو أونودا، الحائر أبد الدهر، دون كيشوت اليابان، هازم الوحشة القاتلة في غابات الفلبين، ربّ الإرادة الفولاذية الّتي لا تعرف الاستسلام، فقد ظلّ يقاتل في الأحراش بعناد أسطوري منقطع النظير حتى بعد أن قضى رفيقاه نحبهما في اشتباكات وقعت مع قوّات تابعة للجيش الفلبيني، ومضى يحارب وحده حتى بعد أن لم تعد هناك حرب: تغير العالم، وخمدت لعلعة البنادق، وتوقّف رجم الطائرات، وهمدت روح الشرّ الكامن في جوف المجنزرات، وآب الجنود إلى ثكناتهم واهاليهم تلاحقهم ذكريات القتال المرعبة، واخرج المدنيّون رؤوسهم من المخابيء القاتمة بحذر حين سكن أزيز السماء وصمتت أجراس الإنذار، ودبّت الحياة رويداً رويداً في هياكل المدن المدمَّرة والأكواخ المستباحة والحقول المحروقة والطرقات الموحلة، لكن هيرو أونودا العنيد، ظلّ رابضاً في مكانه، تحت عريشة العنب، مستغرقاً في الهواجس دون أن يغيّر من جلسته القديمة.

انظرُ، الآن، إلى هيرو أونودا، حارس الحديقة الخلفية، وهو ساكن في جلسته على الجذع القديم المتقشِّر اللحاء، ملطخاً بالوحل، مرتدياً بزّة عسكريّة رثّة بالية، ومعتمراً خوذة فولاذيّة تفسَّخت من عوامل الطقس طوال السنين الّتي ظلّ فيها متوارياً عن الأنظار، هنا، يحارب الأشباح ببسالة الساموراي.

عثمان محمد صالح
تلبرخ، هولندا،
18-07-2021