الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا

الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا


06-18-2021, 07:40 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=510&msg=1624041640&rn=0


Post: #1
Title: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-18-2021, 07:40 PM

07:40 PM June, 18 2021

سودانيز اون لاين
عبد الحميد البرنس-
مكتبتى
رابط مختصر



كنت أسير برفقة ياسر كوكو.

وقد توطدت علاقتي به كثيراً.

لم يكن ذلك اليوم من شهر سبتمبر ممطراً. أماندا ماران بون، التي لم أعد أتصور حياتي قطُّ من دونها، غائبة منذ منتصف النهار في إحدى زياراتها المتباعدة في الآونة الأخيرة لصديقتها جيسيكا لوكاس. لم يكن لدي ما أقوم به إلى حين عودتها في آخر المساء. كان الوقت قد بدأ يعبر منتصف عصره، حين تجاوزنا تقاطع شارعي سيرجنت وتورنتو مخلِّفين بقالة الزوجين الأثيوبيين إلى يمين سيرجنت. كنت أدلف إلى هذه البقالة أحياناً لشراء ما ظلّ يسميه جمال جعفر:

"أشياء لتهدئة كل هذا الحنين".

أشياء كما "الزغني بالأنجيرا"!!

كان ذلك الطعام قريباً من بعض "أطعمتنا االشعبية"، تلك الأطعمة المحببة فيما يدعى "الوطن"، ذلك الحيّز الذي يُولد فيه إنسان ما، يتعلّم لغته.. عاداته.. تقاليده.. ينشيء علاقات مع آخرين يعتقد أنّها ستبقى معه مدى الحياة. ما يحدث يجد هذا الإنسان نفسه تالياً وقد أجبر على العيش لوقت طويل وربما للأبد داخل حيّز آخر يُطلق عليه أحياناً اسم "المنفى".

أكثر ما ظلّ يغيظني كل مرة أدلف فيها إلى البقالة أن الزوجين الأثيوبيين ظلّا يلاحقانني طوال مكوثي بالداخل بمثل تلك الخصلة القميئة التي تُسمى في أدبيات السوق الحديث بمصطلح "ابتسامة التاجر الشاطر". كما الأعمى وُضِعَتْ في يده عصا. كنت أنسى لدهشتي أمر الأطعمة خلال تلك اللحظات العصيبة إلى حين وأنشغل بهما مرغماً على مبادلتهما برسمِ تعبير على وجهي قد يبدو أريحية مقابلة لابتسامة أكثر ما يميزها البله. يبتسمان. أبتسم. يبتسمان. أبتسم.

هكذا على الدوام تسير الحال:

يبتسمان، أبتسم على مضض.

يصادف أن أفقد مواعيد الباص المتجه إلى قلب وسط المدينة، إذا ما دلفت وقتها إلى بقالة هذين الزوجين الأثيوبيين السمجين لمجرد شراء علبة سجائر لا غير، أو حتى لتشمم رائحة الأطعمة، ثم متابعة الطريق صوب غايات المنفى الأخرى. ما جعلني بعد فترة أزهد تماماً، في طعام "الزغني بالأنجيرا"، أو مما هو قريب منه، دون رجعة، خاصّةً بعد أن بدا أن الزوجين الأثيوبيين الأحمقين أدخلا إلى حبائل ترحيبهما اللزج عبر تلك الابتسامة الخالية من المشاعر، تلك الطريقة الفرنسية جداً في الإيماءة والانحناء خفيفاً. كنت أتمنى في تلك اللحظات لو أن لي مسدس قاطع طريق محترف من تكساس. لحظة أن أنظر الآن من كل هذا البعد إلى ما ظلا يحدثانه داخلي أجد أنني ربما كنت أبالغ وقتها في ردود أفعالي تلك تجاههما. ربما طول المنفى وتراكم الخيبات ما يجعل من المرء صانعاً من ذرة الغبار جبلاً عسيرَ الصعود.

نواصل:

Post: #2
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-18-2021, 09:48 PM
Parent: #1

عدت إلى الشقة سيراُ على الأقدام في حوالي العاشرة. والمشي أحد أصدقائي القدامى. يخفف عني الكثير من ألم "هذه الروح"!

على امتداد شارع سيرجنت، كانت العتمة سائدة، الريح ساكنة تماماً، ولم يكن ثمة ما يدل على حضور سمانتا ماران بون وصديقها الآسيوي ذي العينين المبتسمتين. "شاهد الرحلة الأبديّة". لعلهما ذهبا للإيقاع بضحية أخرى على سكة الموت.

عدد قليل من البغايا كان يقف متناثراُ هنا وهناك بعيد البوابة الخلفية لجامعة وينبيك وحتى شارع تورنتو في انتظار ما قد يجود به "ليل الحيارى" من "رزق". تعرّفت على إحداهنّ. كنت جلبتها إلى شقتي قبل أن تستقر أماندا في حياتي. بدا على عينها اليسرى على ضوء أحد عمدان الإنارة تلك علامةٌ لها شكل الهالة السوداء. لا بدّ أنّها تلقت لكمة ربما من "سكران".

حدث أمر منذ بضعة أيام.

طرق البوليس علينا الباب. كانا شابين. سألني أحدهما وهو يمد نحوي صورة فتاة في بداية العقد الثالث من عمرها إن كنت رأيتها في مكان ما. قال إنها "مفقودة منذ ثلاثة أيام". قلت لهما "لم أرها من قبل". كانت أماندا تقف في الخلف. تتطلع إلى الصورة من وراء كتفي الأيمن. لا بدّ أنها هزت رأسها بدورها بالنفي لأنهما استدارا شاكرين وطرقا باب الشقة المقابلة.

في اليوم التالي، بينما نشاهد أنا وأماندا نشرة الأخبار المحليّة داخل غرفة النوم، أمكنني بيني وبين نفسي وأنا أتطلع إلى صورة "الفتاة المفقودة" أن أحدد موقعها في ذاكرتي. لقد كانت تلك البغي التي تلقت مكالمة من شقيقتها داخل غرفة نومي وعلى الخلفية هناك صوت طفل ينتحب. قالت المذيعة: "لا يزال البحث جارياً عن هذه الأمّ". أتذكر أنني قبيل مغادرتي أومأت لياسر برأسي مودعاً. لاحقني صوته، قائلاً بثقة لا أعلم تحديداً من أين يأتي بها: "أشوفك بكرة يا حامد". لكأنني لم أسمعه. بدا الآخرون على مقاعد بورتيج بليس تلك منهمكين في نقاش حول انخفاض قيمة الدولار الكندي مقابل ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي. ربما لهذا لم يولووا مسألة انصرافي عنهم قليل عناء. "أشوفك بكرة يا حامد". أخذت أردد في نفسي كلمات ياسر تلك طوال الطريق إلى البيت. "أشوفك بكرة يا حامد". لسبب ما، بمحاذاة بقالة الزوجين الأثيوبيين المغلقة، أديت أنا المسلم صلاة خاطفة قبيل أن تحتويني الشقة أخيراً راسماً علامة الصليب على نفسي. وقد دعوت "الربّ الرحيم" أن تكون تلك آخر رؤيتي لياسر "في هذه الحياة الدنيا"، وقد حدث كذلك أنني لم أره تالياً إلى أن مات.

لم تكن أماندا عادت بعد من زيارة جيسيكا.

وقد استقر رأيي أخيراً على ألا أخبرها قطُّ بما حدث لحظة أن قام صديقي ياسر "منذ ساعات" بعناق شقيقتها العاهر الموبوءة سمانتا. ثمة شيء لا يزال يربط أماندا وجيسيكا معاً. أماندا أخبرتني مرة أنها لم تعد تكن لجيسكا "مشاعر الصداقة تلك". لكنها ظلت في حيرة من أمرها. لا تدري كيف تحسم في نفسها شيئاً وُلِدَ ونما معها عبر السنوات وصار جزء لا يتجزأ من نسيجها. بدا من الصعوبة على أماندا أن تقول لتلك المغامرات والمواقف ومدى الذكريات المشترك بينهما:

"إلى هنا وداعاً فقد انتهى كل شيء بيننا".

زاد الأمر تعقيداً أن جيسيكا كانت تعلم جيّداً أن الدموع أكثر ما يمكن أن يشل إرادة أماندا. أو هكذا بدا لي الأمر لفترة طويلة!

ظللتُ أقول في نفسي، في مثل تلك الأحوال، لو أن أماندا عاشت في منفى وسيط كالقاهرة لما كلفها الأمر عندها كثير عناء..

هناك قمت "أجل حتى أنا" ببيع "صديقي" لورد الله الفقير بالصمت، في وقت كان لا بدّ لي خلاله أن أشتري براءته بالكلام.

هناك، في المنفى الوسيط المسمّى "القاهرة"، ظلّ معظم الناس يستبدل العلاقات كما يستبدل المرء ملابس قديمة بأخرى جديدة.

لكل مرحلة حساباتها الخاصّة "جداً"!!

أبداً لا صداقة دائمة هناك. كما لا عداء دائم هناك قطُّ. كان مثل ذلك السلوك يؤدي ببعض المثاليين إلى الانتحار أو الجنون أو الانطواء على ذواتهم أو معاقرة الخمر ليلَ نهار. أجل، المنفى تحكمه الحاجة لا القيم. لقد علمتني الخبرة هناك أن أكثر الناس حديثاً عن القيم كان أكثرهم بعداً عنها. أنا جزء من بين أولئك الناس. أُطلق على تلك الفترة من حياتي اسم "الحرباء". كانت كلمات، مثل الاحترام أو الأخلاق أو الصداقة، شرعت في التفكك والتحول في ظل شح النقود وانعدام فرص العمل أو ندرتها إلى عُملات لا بدّ منها لشراء الطعام، تأمين المأوى، وتعمير خرائب الرؤوس التي عصف بها الحنين بخمر رديئة مثل العرقي. ربما لاقصاء منافس ما قد تنقصه الخبرة اللازمة للصراع على "الفُتات المتاح".

لم تكن دواخلي متماسكة إلى الدرجة التي ظننتني عليها في أعقاب نوبة البكاء تلك التي داهمتني على إحدى درجات البوابة الخلفية لجامعة وينبيك. كما لو أن الانهيار في حاجة إلى مثل تلك المواقف للإعلان هكذا عن هشاشة دواخل المنفيّ المتداعية كركائز بيت ضارب في القدم. كذلك ما إن أخذت أفكر في مآل ياسر مرة أخرى حتى اندفعت في موجة أخرى طويلة من البكاء. وإن لم يبدل كل ذلك من أمر قرار اعتزالي له فلنقل "كصديق" إلى الأبد. لست حقّاً في حاجة أخرى لما قد يشدني نحو هذه الأرض ثانية. لا تزال بي رغبة عميقة في الطيران والتحليق في سماء لا يصل إليها رهط الطيور الداجن. أريد أن أغادر الحياة بحواسٍّ مشبعة. ما زلت جائعاً. جائع لكل شيء. جائع. وهناك، في قلبي، لا تزال تمور بحيرةٌ ليستْ في حاجة إلى نقطة واحدة أخرى من أسى التفكير في متاهة الضياع ما تنفك تطفو على سطحها خيبات وجثث. لياسر لا ريب قلوب عزيزة في مكان ما داخل الوطن بها كذلك متسع لجثته ودمع كاف لرثائه.


نواصل:

Post: #3
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: سيف النصر محي الدين
Date: 06-19-2021, 05:00 AM
Parent: #2

Up.

Post: #4
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-19-2021, 02:17 PM
Parent: #3

إلى حين عودة: شكراً يا سيف.

Post: #5
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: ابو جهينة
Date: 06-19-2021, 09:05 PM
Parent: #4

صديقي الاديب الاريب البرنس

*
لكل مرحلة حساباتها الخاصّة "جداً"!!

أبداً لا صداقة دائمة هناك. كما لا عداء دائم هناك قطُّ. كان مثل ذلك السلوك يؤدي ببعض المثاليين إلى الانتحار أو الجنون أو الانطواء على ذواتهم أو معاقرة الخمر ليلَ نهار. أجل، المنفى تحكمه الحاجة لا القيم. لقد علمتني الخبرة هناك أن أكثر الناس حديثاً عن القيم كان أكثرهم بعداً عنها. أنا جزء من بين أولئك الناس. أُطلق على تلك الفترة من حياتي اسم "الحرباء". كانت كلمات، مثل الاحترام أو الأخلاق أو الصداقة، شرعت في التفكك والتحول في ظل شح النقود وانعدام فرص العمل أو ندرتها إلى عُملات لا بدّ منها لشراء الطعام، تأمين المأوى، وتعمير خرائب الرؤوس التي عصف بها الحنين بخمر رديئة مثل العرقي. ربما لاقصاء منافس ما قد تنقصه الخبرة اللازمة للصراع على "الفُتات المتاح".
*

نعم يا صديقي العزيز
لكل مرحلة حساباتها ( الخاصة جدا )

واصل
دمتم

Post: #6
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-19-2021, 11:02 PM
Parent: #5


Post: #7
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-20-2021, 04:08 AM
Parent: #6

أشكرك، الصديق العزيز المبدع "أبو جهينة"، على بهاء الحضور وكل هذا الفيض الإنساني النبيل. كل الود

Post: #8
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-20-2021, 05:56 AM
Parent: #7

كان لياسر كوكو على الدوام ما أراد ورغب. وكنت لا أزال غريقَ تأمّلاتي تلك، لحظةَ أن انتشلني على حين غرة صوت ياسر المميز ذاك بيقينٍ أشبه في استحالة وجوده ذاك "هذه الأيام" بمشية النابغة الذبياني في شوارع مدينة فانكوفر: "تعرف، يا حامد، أنا عبقري". قلت بدهشةٍ لا بدّ أنّها مفتعلة: "كيف"؟ كان ياسر يشير هنا مجدداً إلى واقع وجوده "الماثل الآن" في كندا كمنجز استثنائي خارق في حد ذاته، قائلاً بنبرةٍ قد تسرق منك نصف المحبة: "أنا هسي ماشي معاك في بلد دا بتاع خواجة. طيب دا ما عبقري"؟ كتمت ضحكة: "طبعاً، يا ياسر، أنت عبقري، لمجرد أن تكون الآن في فردوس كندا هذا". ابتسم "هذا الوغد الجميل". ثم ما لبث أن شرع تالياً ربما للمرة العاشرة يعيد على مسامعي قصّة وصوله تلك إلى كندا كمعجزة أشبه ربما لطريقة حكيه المبالغ فيها تلك بمعجزة وصول الإنسان منذ عقود ولأول مرة إلى كوكب القمر.

"زمان، في سودان بلادنا داك، قلت لأخوي، يا كودي أنا زهجان ماشي لي مصر داك". "قالْ ليْ يا زولْ اللهْ معاكْ. قشة ما تعتر ليك. بس تأكل نارك هناك. ما ترسل لي تقول لي أنا عايز مساعدة. والله دينك يتلع في مصر دا. إنت يا ياسر شايف مصر دا ممكن أي زول قادر يمشي ليهو؟ مصر دا بياكل ناس! ولو ما أكلكْ يَدِيْك وجع راس لغاية تموت. يا حامد والله أخوك ياسر دا في مصر دا تِعب تَعب موت لغاية ما مشيت في يوم من أيامْ لِقهوةْ في نُسْ بلد في قاهرةْ دا. تلبتَ في قهوةْ داكْ شاي وراسي ضاربْ. سمعتْ هناك سودانيينْ بِتونْسوا في تربيزة جمبي كدا. وقالوا في ناسْ بتسافرْ تعيشْ مع خواجاتْ برا. لكينْ عشان تمشي بلدْ بتاعْ خواجاتْ جميلْ دا لازمْ يكون عندك "قضية" تمشي بيهو تقنعْ بيهو خواجاتْ في حتة اسمو أممْ متحدةْ. سألتْهمْ و"قدية" دا نلقاهو وينْ. قالوا فيْ ناسْ تدفعْ ليهمْ قروشْ يعملوا ليكْ "قضية" بسهولةْ شديدْ. المهم أخوك ياسر الماشي معاكْ في كندا دا هنا، قام مسك واحدْ من سودانيينْ في قهوةْ دا، قلتَ ليهو أنا أخوك في غربةْ لازمْ مساعدة، والله كان زولْ دا تيب شديد خالس. أنا بَرْدْو يا حامد عندي وجهةْ نظري خاسْ في ناس. قامْ قالْ ليْ بكرة في سباه بعد شمس تشرق نتقابلْ في ميدانْ بتاعْ تحريرْ دا. نقعدْ أنا وإنتَ شويةْ في قهوةْ اسمو "وادي نيلْ". نَفهِمَك يا ياسر شُويةْ شُويةْ قديةْ بِتَاعْكْ. نمشي من قهوةْ بتاعْ ميدانْ تحريرْ لمكتبْ بتاع أمم متحدة في حتة اسمو مهندسين. نقدم ليك طلب سماع بتاع "قضية" بتاعك. بعدين أمم متحدة دا بيعمل معاك مقابلة عشان يشوف قدية بتاعك دا حقيقةْ وَلاَّ مَكَنةْ وكِدِبْ من رأسكْ ساكت. توالي في قهوةْ دَاك بتاع ميدان تحرير قال لي أنا عايز يا ياسر بيانات بتاعكْ شخسي. يعني اسمك بِكاملْ وتاريخ بتاع ميلاد وكدا. وبعد ما فاتْ ومشى أيامْ كتيرْ تويلْ خالس، وبعد ما حفظتَ قديةْ بتاعي في رأسي دا، مشيت توالي مكتب أمم متحدة دا، لما بت بتاع مكتب شاب جميل داك سمع كلام بتاعي بعد مقابلةْ داك اقتنع توالي، كمان قرَّبْ يبكي عديل كدا عشان هو اتعاتفْ مع كلام بتاعي دَاك، البت قال لي يا ياسر يا ولدنا إنتَ مظلوم في بلدْ بتاعك وتمشي من هنا تسافر توالي لبلد بتاع خواجات كندا". كذلك، صمت ياسر كوكو تيه، بغتة. وتوقفت أنا بدوري عن السير.


نواصل:

Post: #9
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-20-2021, 06:12 PM
Parent: #8

ما لبث ياسر أن هرول نحو الجانب الآخر من شارع سيرجنت (شارع العاهرات الشهير نفسه ذاك) رأساً باتجاه ما بدا سمانتا.

بدتْ العاهر مرتبكة في حضنه. كما لو أنّها لا تدري كيف تتصرف، مع تقاليد في العناق لم تكن أبداً من أبجديات أقدم المهن.

بذلك العناء، أخذت أتابعهما.

كان صديق سمانتا الآسيوي بعينيه المبتسمتين يقف منها كعادته غير بعيد، متدثّراً ببالطو الصوف، برغم دفء الجو لحظتها. كما لو أن شعره الطويل المهمل أكثر ثقلاً في ميزان الرهبة من سائر جسده الضامر النحيل. يا لوقاحته، وقد أومأ نحوي محيياً عبر نهر الشارع برأسه. لكأنه على دراية تامّة بعلاقة صديقته الموبوءة سمانتا ماران بون برفيقتي أماندا.

يا له حقاً من عالم صغير!

كان ياسر بعد عناقه لسمانتا هرع كما لو أنّه الصديق الحميم إلى الآسيوي. حيّاه. لكأن الأمر برمته يحدث خلال أحد أسوأ تلك الكوابيس. أخيراً، عاد ياسر يمشي إلى جواري. وقد بدا أكثر سعادة. قال: "دا يا حامد واحد شرموتْ اسمو سمانتا، وداكْ معرّس بتاعو ما عارف اسمو شنو". تابع: "أنا بقيت يا حامد أعرف ناس كتير جداً في بلدْ كنديين كندا". كان لا يزال هناك في عيني ياسر كوكو فخر وزهو وابتسامة. وقد بدا في منتهى السعادة ولسان حاله لا يني يقول لي موضحاً بالنبرة القديمة الواثقة تلك نفسها: "انظر إلى أخيك، يا حامد، كيف يسحر النساء، في بلاد الخواجات هذه؟ أرأيتني كيف قمتُ منذ دقائق بفعلها أمام ناظريك، يا حامد؟ ما رأيك"؟ ثمة خوف. الخوف وحده. ولا شيء آخر هناك عدا الخوف. الخوف يملأ جوانحي، يتفاقم، يطغى. الخوف يتدفق عبر مسامي. أما ذلك، فوخذ أسئلة ما ينفك ينغرس عميقاً في قلبي ولا شك من توقع إجابة أكيدة أعلمها مسبقاً. ثم وجدتني أهمهم "يا إلهي، الرحمن الرحيم الملك العدل، ما ألطفك"!

هناك، بعيداً داخل تجويف صدري، يواصل قلبي دقاته بعنفِ وتسارعِ منقار طائرٍ جارح على سطح صلب، خيوط من العرق شرعت تنسكب تباعاً على جبيني، كما لو أنني أقف قرب فوَّهة بركان على وشك الانفجار. بمشقة، أمكنني سؤاله أخيراً:

"وإنتَ شفتَ البِتْ دي، قْبلْ كدا"؟

قال:

"كتير كتير، يا حامد، ها ها ها".

قلت:

"وعملتَ معاها شنو يا.. ياسر"؟

قال:

"راجلْ ومرةْ في سريرْ واحدْ، الباب مقفول، ملابس مافي، الواتة دُلُمَّةْ يعني، ها يعملوا شنو مع بعض في وجهة نظر بتاعك"؟

لم أكترث لتهكمه. واصلت استجوابي بصوت ميت: "كم مرة قمت بمضاجعتها"؟ قال بتيهٍ لا يُحسد عليه: "ها ها، كتير". متعلّقاً بخيط الأمل الأخير: "كان عندك عازل طبي"؟ قال محتجاً: "دا بِتْ نضيفْ، خلي عندكْ وجهةْ نظر خاسْ، يا حامد"!

واقتربنا كثيراً من بداية حرم جامعة وينبيك الخلفي. لقد تبقى تقريباً نصف المسافة على الوصول إلى مجمع بورتيج بليس التجاري. مع ذلك، بدا بورتيج بليس في ثنايا تلك اللحظات الكابوسية بعيداً، كما لو أنّه مجرة أخرى. لم تعد قدماي تحملانني بعد على المسير. زاد جفاف حلقي. لكأن القروح تتسلق الآن حوائطه الرخوة المتصلّبة. ثمة شيء مثل المسمار تعلوه مطرقة متحركة لا يزال يثقب رأسي في غير مكان. نهاية مسيرة بدأت من شقتي بقدر عال من سعادة ياسر كوكو تلك. هكذا، جلستُ على إحدى تلك الدرجات الحجرية المتعاقبة لبوابة الجامعة الخلفية. وضعت يديَّ على رأسي. انفجرت بالبكاء. لقد بدا رد فعلي على ما حدث للتوّ مباغتاً حتى بالنسبة لي. كان صوته يتناهى من حين لآخر مشفقاً ملتاعاً:

"حامد، يا زول، إنت كويس"؟

كلما زاد بكائي وألحّ ياسر المسكين في السؤال من حيرة ولا بدّ، جاوبته في سري: "هذه البنت مصابة (بالإيدز)، يا صديق"!

Post: #10
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-20-2021, 07:21 PM
Parent: #9

لم يخالجني تالياً أدنى قدر من ندم أو شفقة تجاه ياسر. لم أكشف له خلال ما تبقى من المساء في صحبته عن سر بكائي.

لقد تركته فحسب، لمصيره ذاك.

كي يصارع قدره المحتوم وحيداً.

لم أخبره أبداً بمأزق وجوده هذا.

كان البكاء جعل الموقف في ذهني خالياً من شوائب العاطفة التي بدا كأن نبعها جفّ بدوره في داخلي أعقاب آخر قطرة.

كذلك، استجمعت شتات نفسي.

واصلت معه الرحلة إلى بورتيج بليس. وقد لاذ هو كذلك بالصمت. كما لو أنه اطلع على حقيقة ما انطوت عليه نفسي من قرار بوداعه هكذا وداعاً أبديّاً لا تلاقٍ من بعده. ولم يفه هو أيضاً مثلي بكلمة خلال آخر خطواتنا تلك معاً في هذه الحياة.

لعل البكاء أيقظ كذلك في نفسه مرارة تلك الأشياء. المؤكد أن خطوات ياسر لم تعد خفيفة مرحة منطلقة واثقة ساخرة سعيدة بإيقاعها على أرض كندية مثلما بدت عليه من قبل لقاء سمانتا وصديقها الآسيوي على شارع سيرجنت "منذ دقائق". لما وصلنا صامتين هكذا، إلى بورتيج بليس، كان المنفيون يتحدثون بحماس لا تدري على وجه الدقة ما مصدره حديثاً مليئاً بمرارة عن لؤم الفلبينيين في أماكن العمل. مرارة عميقة تنحدر إلى ما هو أكثر عمقاُ من موضوع حديثهم ذاك. "الفلبينيون! لعنة الله عليهم"، قال أحدهم. لقد كانوا (هؤلاء المنفيون أنفسهم) يتحدثون في القاهرة عن لؤم المصريين بنفس "المرارة المطبقة". كما لو أنهم كانوا على الدوام بحاجة أخرى ماسّة للبحث عن أقرب مشجب خارج ذواتهم، لعل آلام الرحيل تخفّ عن كواهلهم بهذا القدر، أو ذاك. بعضهم كان قد استقبل ياسر بالأحضان. لو أنهم فقط قد رأووا مثلما قد رأيت منذ قليل من عناق لعاهر مصابة بداء عضال مميت، لفروا إذن من أمامه كما قد يفر الشجاع قبالة أسد. كذلك، بدأت أنظر إلى ياسر نظرتي تلك إلى رجل لا محالة أنّه ميت "في القريب العاجل" وأن الاقتراب منه بدرجة ما حماقة.

ما لبث ياسر كوكو وقد عادت إليه روحه القديمة تلك أن بادر يحدثهم عن رغبته في إقامة مشروع تجاري صغير في "الوطن".

كنت أعلم أنّ ياسر يسعى منذ حين إلى شراء ماكينة لتصليح الأحذية القديمة التالفة في أحد الأحياء العشوائية المحيطة بالخرطوم.

سأله جمال جعفر بتثاؤب عما إذا كان قد أقام دراسة جدوى لمشروعه ذاك بعدُ أم لا. أجابه ياسر كوكو أن "قم أنت يا جمال بالدراسة لنفسك وأترك لي أنا ياسر كوكو تيّه هذا مهمة الشراء لنفسي". أعجبني رده على الرغم من شبح المأساة الماثل.

لم أدهش لحظة أن تقبل جمال جعفر ما بدا مهيناً لأمثاله خلال سنوات الوطن والقاهرة في صمت. لعل جمال جعفر قد أدرك أن ما كسبه في الماضي من معارف وثقافة ودهاء سياسي ومكانة اجتماعية وما آل إليه على نحو عام بحكم وراثة العِرق قد انتهى في ظل لغة لا يعرف أبجديتها وقوم لهم طرائق أخرى مختلفة في الحياة إلى شيء لا جدوى منه، البتة.

كان ياسر يُطيب له في كثير من تلك اللقاءات أن يمازح جمال جعفر ضارباً على كتفه كزميل في مهنة هامشية مؤكداً له في كل مرة أنهما لو ظلا معاً داخل الوطن لما ألقى عليه جمال جعفر ولو "مجرد تحية عابرة". ظلّ جمال جعفر كادر اليسار وخطيبه المفوّه، الذي لا يُبارى في السابق، يواصل العمل في مطعم يقدّم الدجاج المشوي يدعى "سويس شاليه" كغاسل للأطباق. مطعم يؤمه عادة المتقاعدون البيض الذين يبحثون دوماً عن مصارف لما ادخروه طوال حياة كاملة، وكذلك كنت ترى ضمن الزبن بعض أولئك المحتفلين بمناسبات خاصة كما أعياد الميلاد. مطعم تسع قاعته لأكثر من خمسمائة زبون يتم خدمتهم لا مراء في لحظة واحدة. كان جمال يقف لمدى ثماني ساعات وسط أرتال من الأطباق والملاعق والشوك والأكواب المتسخة مغموراً بأبخرة حارة ما تنفك تتسرب من الغاسلات الآلية في شكل نفثات على مدى ساعاتِ خدمته الممتدة. كان جمال يعود في تلك المساءات إلى شقته بقدمين متورمتين ورأس محترق ونصف دزينة من بيرة مثلجة تسمى "مولواكي آيس". يسند ظهره إلى كنبة في الصالة. يمدد ساقيه. يغمض عينيه. يبدأ يرتشف بتتابع من علب البيرة المثلجة تلك مباشرة. يظل جمال على هذا المنوال نحو الساعة، من قبل أن يمسك في تلك الأيام التي لا يدعو الناس فيها للسهر معه بسماعة الهاتف مثل هارب عريق من الذكريات أو الحنين متسقطاً بشغفِ نمّامٍ أرهقه الخواء آخر أخبار المنفيين الغرباء في مختلف تلك الأحياء المتفرقة من مدينة وينبيك. عادةً ما قد يبدأ حديثه، قائلاً:

"الجديد شنو في الطب، يا رفيق"؟

Post: #11
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-24-2021, 02:31 AM
Parent: #10


Post: #12
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: osama elkhawad
Date: 06-24-2021, 08:14 PM
Parent: #11

Quote: المشي أحد أصدقائي القدامى

Post: #13
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: ابو جهينة
Date: 06-24-2021, 09:16 PM
Parent: #12

واصل يا برنس السباحة في لجة الفردوس


Post: #14
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-25-2021, 04:54 AM
Parent: #13

أشكرك عزيزي المشاء على بهاء المرور وجمال هذه التحية على الطريق.

Post: #15
Title: Re: الفردوس القاتل الجميل يدعى كندا
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 06-26-2021, 04:32 AM
Parent: #14

حياكم الله عزيزنا أبا جهينة من إنسان ومبدع:

هذا فردوس بالغ القسوة، مدمر، وقاتل، إذا لم ينتبه إليه الإنسان جيداً، لا ذلك الإنسان القادم إليه كما حالنا نحن من سياق ثقافي واجتماعي ولغوي آخر فحسب، بل حتى ذلك الإنسان الذي يمتد بجذوره في باطنه عميقاً. اليوتوب متخم لقصص أولئك "الخواجات بن الخواجات بن الأثرياء قديماً" الذين صاروا مشردين دون وظائف دون مأوى. النظام في هذا الفردوس الغربي يراكم داخل النفس البشرية مختلف أشكال الضغط. ثمفجأة على طريقة القشة التي قصمت ظهر البعير يحدث الانفجار مثلما يحدث في أثناء مشاجرات الطرق Road Rage حيث يتصاعد القتال إلى درجة الشروع في القتل road rage gone wrong فقط أكتب هذه العبارة على اليوتوب أو تلك وسيأتيك اليقين!