أمام *صالة سينت جورج* في ليفربول ينتصب تمثال برونزي هائل يشرئب الى الأفق بارتفاع عشرة اقدام.
التمثال يظهر رجلا يقف في شموخ وكبرياء وهو يطأ بقدمه اليسرى *درعا* حديديا انتزع من صدر من كان يقود الثورة عليهم، فيما يشير بيمناه لجنوده ايذانا لهم باقتحام الجبل الذي يحتمي به الثوار..بالطبع لا تفوت على فطنة القاريء رمزية الدرع وهو يئن تحت وطأة التمثال!
وفي وسط صحراء البيوضة السودانية وفي منطقة تتخللها تلال صخرية مبعثرة هنا وهناك يوجد ضريح شيد من طين وبدات أطرافه تتآكل بفعل المناخ الصحراوي القاسي والذي لم يرحم حتى القبور التي كانت تحيط بالضريح فتناثر رفات ساكنيها...وما زاد الطين بلة في محو ما تبقى من أثر ان المياه بدات تندفع نحو الموقع من بحيرة خاب ظن صانعيها...
بداية الحكايتين كانت في مطلع عام ١٨٨٥ حين اصدر الخليفة عبد الله التعايشي امرا يقضي بأن تكون بربر هي نقطة الدفاع الأولى عن الثوار المهدويين لصد تقدم الجيش البريطاني الذي ارسلته بريطانيا مددا لانقاذ جنرالها المحبوب *غردون باشا.* ..وطلب الخليفة من فرسان المناصير والرباطاب تنفيذ امره.. وهو الامر الذي رفضه زعيما الرباطاب *الامير موسى اب حجل* والمناصير *الامير النعمان ود قمر الدويدي*. وبرر *موسى اب حجل* رفضه لاوامر الخليفة بقولته المشهورة ( *ما بنخلي الكفار يحومو فوق حريمنا ونحرس حريم بربر*)..وتقدم الزعيمان بقواتهما شمالا لمواجهة الغزاة اثناء تقدمهم جنوبا.. وفي العاشر من فبراير من عام ١٨٨٥ التقى طابور النهر (البلاك ووتش ) بقيادة *الميجر جنرال ويليام ايرل* بمقاتلي الثورة المهدية بقيادة زعيمي الرباطاب والمناصير..
*بربكان* كانت هي ارض المعركة التي استخدم فيها لاول مرة -كما ذكرت الصحف الغربية آنذاك-مدفع المكسيم في مواجهة بنادق تقليدية وسيوف وحراب.. حصد المدفع ارواح اكثر من الفي مقاتل من الدروايش وكان بينهم الزعيمان... قتل زعيم المناصير بعد ان حقق *ما تمناه..* كان يحمل بندقيته التقليدية وبها طلقة واحدة..كان ينزف دما داخل قطية اشعل فيها الغزاة النار..القطية تحترق وهو يدرك ان اجله قد دنا ولكنه كان رغم ذلك يمني نفسه بتحقيق مقصده وهو ان يقتل احد الغزاة بطلقته *اليتيمة*. فكان له ما اراد إذ انكشف له فجأة في مرماه *الميجور جنرال ويليام ايرل* وهو يأمر باشعال النيران في القطاطي التي كان بداخلها بعض الدراويش. فأطلق *الدويدي* يتيمته فاستقرت في جوف المعتدي فخر صريعا...
بعد مقتل *موسى اب حجل* انطلق حصانه عائدا الى *مشرع اب حراز* والى اهله ويعتلي ظهره *سرج مقلوب* يرتل ترتيلة الصمت الباذخ: *سيدي لم يعد معي!* فهمت حسناوات الرباطاب رمزية السرج المقلوب واندفعن يرثين من كان لهن السند:
حليل موسى يا حليل موسى.. حليل موسى للرجال خوسة.. ماب ياكل الملاح اخدر ولا بشرب الخمر يسكر
عجب عيني يوم ركب دفر
طلع صيته راح بنات بربر..
يوم جانا الحصان مجلوب
وفوق ضهرو السرج مقلوب
ابكنه يا بنات حي ووب
فوق راسكن رماد وخبوب حليل موسى وسدوهو الطوب..
وهكذا اسدلت الحكايتان استارهما: ففي ليفربول كلفت الحكومة البريطانية نحاتها الاشهر آنئذ *شارلس بيل بيرش* لينحت من البرونز الخالص تمثالا لابنها البار *الميجور جنرال يليام أيرل*. لم يدخر النحات جهدا في ان يكون تمثاله رمزا ناطقا بعنجهية بريطانيي القرن التاسع عشر فاعمل ازميله بحرفية عالية ليبزر وطاة قدم التمثال على الدرع الذي كان لسان حاله يقول: *غيري اعمى مهما اصغى لن يبصرني!*
وفي بربكان كانت مياه بحيرة الحماداب تندفع لابتلاع ما تبقى من اثر لرجال وهبوا انفسهم دروعا لحماية الوطن فكان جزاؤهم النسيان وصوت يبثه مسجل يتحلق حوله فتية (من فرق التعدين الاهلي) يرددون مع الكابلي مرثية عساها تكون ترياقا لهم من تعب البحث عن معدن يتلالا لهم بريقه حينا فيفرحون ويخبو حينا ويصير سرابا فيحبطون..
التمثال البرونزي في ليفربول سيبقى في مكانه ما بقي الزمن يذكر الاجيال ببطولة صاحبه!
وفي نفس الوقت تندفع مياه النيل لتغمر ما تبقى من اثر لرجل تصدى دفاعا عن الوطن وانسانه فطواه النسيان اللهم الا حين تاتينا المرثية من صوت الكابلي الباذخ البهاء..
والفرق واضح بين حكومات تحترم رعاياها امواتا كانوا ام احياء وحكومات تزدري رعاياها اموات كانوا ام احياء... فإلى الكابلي-يرحمكم الله- وصوته الباذخ البهاء عله يوقظنا من وهدة تكاد تقتل الفال في مآقينا: 👇👇
Post: #2 Title: Re: حليل موسى يا حليل موسى ... Author: ABDALLAH ABDALLAH Date: 02-04-2021, 11:44 PM Parent: #1
Post: #3 Title: Re: حليل موسى يا حليل موسى ... Author: Biraima M Adam Date: 02-05-2021, 07:31 AM Parent: #2