|
Re: الموت في سبيل الوطن حماقة (Re: عبد الحميد البرنس)
|
في القاهرة، أخبرني لورد الله الفقير مرة أنّه لحظة أن يعبر ميدان التحرير، ويرى حسناء تتهادى على طريقة "واثق الخطوة يمشي ملكا"، يصرف بصره عنها، ويبدأ يبحث حالاً هنا وهناك، "لا لمانع عندي أو لعزوف ذاتي يا حامد"، بل لكي يرى تلك الحسناء من زاوية ما ظلّ يسميه "فتنة الهامش"، من خلال عين أحد أولئك الجنود المعدمين الفقراء، الذين يحرسون مداخل تلك البنايات التجارية والحكومية الضخمة ليل نهار، ربما بدا في انسحاق نظراتهم الحسيرة تلك جمال أنبل وأبقى في الزمن من جمال تلك الفتاة الساحق. قال "لحظة أن أفعل ذلك، كنت أحسّ في قرارة نفسي، كأن اللحظة سمفونية بالغة الاتقان، من وضع فنان قدير في مثل قامة بتهوفن، لا شيء زائد فيها، لا نشاز هنا أو هناك، لكل نغمة معنى، لكل إنسان قيمة، هدف، وجود، وخيال يحقق جاهداً ما حالت دونه الأيام". منذ أن أخبرني لورد الله الفقير بذلك، بدأت أعي ثراء الهامش، غنى المُهمل، ذلك الحيِّز المستتر غالباً خلف رتابة العادة، المحتجب وراء سلطة المركز وبريقه.
*
سلام اخي البرنس واصل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الموت في سبيل الوطن حماقة (Re: ابو جهينة)
|
شكراً العزيز أبو جهينة على مرور من البهاء بمكان.
بدا إذن بيني وبينه الصيني، مائدة عليها بعض متع العالم الصغيرة، بقايا حطام فتاة على جانب الآخر من الأطلنطي تدعى:
"مها الخاتم سعيد".
وهذه ليلة القتلة الطلقاء. لو لا أنني لم أتخيل أبداً أن الأمور يمكن أن تنحدر إلى مثل تلك الدرجة من السوء، حتى "الصيني هذا" وقد خِلتُ ألا شيء هناك بمقدوره أن يُحرِّك فيه ساكناً بدا مأخوذاً تماماً، حين علم من جمال جعفر الذي أثقلت الخمر رأسه بنبأ سقوط مها الخاتم سعيد وانتحارها ذاك: "لقد هوتْ صديقيَّ من أعلى نقطة في بناية سكنية في القاهرة".
في الحقيقة، باغتني رد فعلي الشخصي هنا، باغتني أنا حامد عثمان، بأكثر من نبأ انتحار مها الخاتم سعيد ذاك نفسه!!
أخذت فقط أقضم في هدوء ولا مبالاة وثمة شبح ابتسامة ساخر على طرف فمي إحدى قطع التفاح التي سبق أن قام الصيني ضمن برنامجه التدريبي القاسي ذاك بتقسيمها بمهارة ودقة في هيئة زهرة اللوتس. كما لو أنني أطالع تفاصيل مأساة جرت أحداثها منذ البداية على بعد آلاف الأميال من مناطقي النفسية الباردة. كان مثار تفكيري، منذ بداية السهرة، أخذت توجهه، بصورة عبثية خالية تماماً من أي معنى، تلك الطريقة الشرهة التي ظلّ جمال جعفر يعب بها الشراب عبا.
بدا التنفس مسألة عسيرة شاقة من كثرة ما قد تم نفثه تباعاً في أثير الصالة على سعتها من حريق للسجائر. الآن، الآن فقط، أرى على وجه الصيني هذا ما قد يدل على إنسانية ملامح وجهه الجامد المُتحجِّر. كما لو أن جمال جعفر هذا ظلّ يحكي له عن مها الخاتم سعيد مدى حياة كاملة. أو لعلي أنا حامد عثمان ببرودي ذاك كنت أُعاقب نفسي لحظتها في شخص جمال. هل كنت حقاً بحاجة إلى التكفير عما جرى بيني وبينها برجم كائن آخر كهذا الوغد؟ لعلّ دموع جمال التي أخذت تتدفق في صمت أصابت دواخلي اليابسة لا مفر بشيء من غيرة الموتى على ما يملك الأحياء من مشاعر. لعل ذلك كان حبّ الأذى وقد صار منذ أمد بعيد خيطاً عضوياً من مكونات نسيجي الداخلي. لكن لا. الدموع وحدها لا تريحني عادة في مثل هذه المواقف. وهذا الوغد، بهذا البكاء الصامت على مرأى من الصيني ومني، يحاول التخلص عبثاً على طريقة قديمة من جثة مها الخاتم سعيد الثاوية داخل أعماقه. هيهات، هيهات، مثل هذا التطهر أمر لن يتم في حضوري. أخيراً، تشجع الصيني، وسأل لعجبي بما بدا اللوعة: "لماذا انتحرت رفيقتكم هذه، يا جمال"؟ جمال جعفر، شيطان الغواية المعتزل، قال يجيبه: "العلم عند الله". كما لو أنه اكتشف للتو ميراث تدينه الضائع. كنت ملتزما الصمت حتى حينه. عقلي لا يزال يعمل على الرغم من خدر الخمر وذلك التكاثف المباغت لِسحب الذكريات، وقد صممتُ أن أشهد تقيح تلك الجثة في دواخل جمال الخربة بأي ثمن، وأكثر تصورتُ أن انتحار مها الخاتم سعيد ليس سوى مؤامرة نبيلة، ربما من تدبير القدر، لمعاقبة "هذا المدعو جمالا". فجأة، أخذت أصف بصوت عال وبراعة مسرحية أدق تلك التفاصيل الخفية من جسد مها الخاتم سعيد. التفاصيل التي أدركتها عينا رجل خبرتا جسد أنثى عار لفترة طويلة. ذات التفاصيل التي لا يدركها الناس من جسد المومسات عادة. تفاصيل تحجبها الرغبة المحمومة عن أعين العابرين على الجسد لحظة نزوة. تفاصيل يا للسخرية يدركها في آن العاشقون وأولئك الساعون بضمير ميت إلى تطويع الجسد لرغائبهم المتوحشة بأي وسيلة. كان جمال بلغ في سُكره تلك المنطقة من الوعي التي أخذ يتساوى عندها الوهم والحقيقة. كل ذلك بدا لي بمثابة الدافع المختزن لبلوغ نهاية شوط الإيذاء، وقد تحول الصيني منذ فترة إلى كتلة انصات ناسياً علة وجوده في تلك الجلسة كمتطلع للعمل قريباً كساق محترف في "بلاد متقدمة مثل كندا". هكذا، بدأت أتلو على مسامعهما شفرات الغرام السريّة لمها الخاتم سعيد. "وااا عليَّ.. واااا عليَّ". وصوت الأنثى في زخم الفراش كما البصمة تميزها عن سائر النساء. عينا جمال جعفر اصطبغتا في الأثناء بلون الدم، لكأن شيئاً ما لا يني يعتصرهما على ألم عظيم، وقد أخذ يهز رأسه يمنة يسرة، لكأنه يتجنب سهام حديثي المترنحة في استقامتها صوب قلبه، أو لكأنه هو الجلاد نفسه استيقظ ضميره في "الوقت بدل الضائع"، حيث نسب التعويض لا شيء، وقد أخذت تقلق هدوء منامه، أنّاتُ النساء الضحايا، ربما منذ بدء الخلق. ما أنا متأكد منه أو لست متأكداً منه والأمر سيّان أن جمال لم يتسلل إليه الشك أو قد تسلل إليه أنني قد أكون سلكت نفس الطريق التي سبق له هو أن سلكها بين فخذي الأنثى الضحية. تومض خطفاً في ذهني ذكرى ما أعقب أول لقاء لي مع جمال في وينبيك. أو لعل جمال يظن فقط أنني أعيد إليه ما ظلّ يشيعه هو بنفسه عنها على فترات كلما ضمّه مجلس ما للسُكر. في غمار ذلك الهجوم، بدأ شعور ما غامض بالرثاء ينمو في داخلي. لا تجاه نفسي فحسب. بل تجاه جمال نفسه. كما لو أن شيئاً ما أليفا يستيقظ بدوره في داخلي بعد موات. لعله صحوة الروح ساعة احتضار. لست أدري. وقد بدأت أدرك على حين غرة أن الحقد قد بلغ بي على هذا العالم مبلغا. كنت أحبّ مها الخاتم سعيد حقاً، لا على صورها الأخيرة وهي معي على فراش واحد، بل على تلك الصورة، التي طالعتني بها لأول مرة، لحظة أن عبرتْ بوابة مكتب الأمم المتحدة بكل ذلك البهاء الكوني المطلق، فجاء هذا الوغد اللعين، وأفسد كل شيء من قبل وصولي المتأخر ذاك. كما لو أن إعصاراً هائلاً حطّ برحله خطفاً على حقل النوّار. كان جمال جعفر لا يزال قابعا هناك في أقصى قاع الضعف. وقد كفَّ أخيراً عن البكاء الصامت. وهو في طريقه إلى الحمّام رمقني بنظرة حيوان جريح. وهو عائد من هناك يترنح سقط في جلبة على بعد خطوتين تقريباً من مقعده ذاك على السفرة. لم تمضِ سوى لحظة حتى أخذ يتعالى صوت شخيره. لم أكن فقدت وضوح وعيي بالأشياء بعد، حين طلبت من الصيني أن يساعدني على القيام بحمل جمال إلى غرفته، حيث مددناه هناك كجنازة، قبل أن يقوم الصيني بتغطيته حتى كتفيه، ويغادر الحجرة صامتا. آنذاك، بدأت أتمعن في ملامح وجه جمال هذا. وجه غريمي اللدود. كان وجهه من ذلك القرب الآمن خالياً من أي تعبير. لم يكن نفس الوجه الذي استقبلني به عند بداية المساء. كان وجه شيخ طاعن في الثمانين. وجه طيب يتابع أفراح العالم وأحزانه الصغيرة بلا عينين. أخيراً، أوصلني الصينيّ بعربته الكورولا القديمة إلى شقتي في شارع تورنتو. لا بد أنّ الصيني ظنّ أنني فقدت السيطرة على نفسي، حين انفجرت، عند منتصف شارع سيرجنت، متلوياً على مقعدي في موجة لا نهائية من الضحك، قائلا: "مها الخاتم، لم تنتحر، يا رفيق". كما لو أنّه لُدِغ، سألني الصيني وعيناه على الطريق: "ماذا". واصلتُ الضحك كالمجنون. كان ما حدث مؤامرة بالفعل، لا من تدبير القدر "الطيب"، بل من تدبيري "أنا حامد عثمان حامد شخصيّاً". ما حدث كان باختصار ضرباً من البرهنة على قدرتي الذاتية تلك في إلحاق الأذى، لا بوصفي هنا محض مؤلف ألعاب صبيانيّة ساخر، بل عاشقاً سريّاً سابقاً قد أقعده الفقر ورفيقه الحرمان، وقد تمّ جرح حلم حياته، على الجانب الآخر، من شارع الحجاز، في مصر الجديدة، على مرأى من عينيه، من دون أن يجرأ حتى على عبور نهر الطريق ذي الإتجاهين، لتدارك ما قد يمكن تداركه، في اللحظة المناسبة.
خطرت لي فكرة تدمير جمال معنوياً على ذلك النحو، بينما أجلس داخل شقتي وحيداً في غياب أماندا ماران بون، في الغرفة المخصصة كمكتب، أدردش كتابة عبر ماسنجر ياهو مع شكر الأقرع في القاهرة. بدا لي قبلها أن الأقرع قد تشبع من حديثي ذاك عن روعة الحياة في "بلاد متقدمة مثل كندا". كي يجري الدم مجدداً في عروقه بالحيوية تلك، سألته:
"هل لك في خدمة تسديها لي يا أقرع"؟
قال:
طبعاً.
كان لا بد للأقرع أن يقول: طبعاً.
لذكرى الأيام القديمة، بيني وبينه؟
لا أعتقد.
كان لا بد له فحسب أن يستجيب لطلبي على ذلك النحو. لأنني ببساطة قمت وقتها للتو بواسطة "الويسترن يونيون" بتحويل مبلغ مئتي دولاراً أمريكياً له لمواجهة أعباء الحياة المتزايدة في القاهرة. الوغد من شدة فرحه ذاك بالعطية أخذ كذلك كتابةً يدعو الله لي بطول العمر ودوام الصحة والتوفيق والستر "في الدارين". كما لو أنّه متسوّلة عجوز في مترو الأنفاق. كتبت له تالياً راجياً أن يقوم بالإتصال على رقم تلفون جمال جعفر "هذا". يخبره أنّه رفيق حزب من مكتب القاهرة يعلمه فقط "بما حدث لمها الخاتم سعيد". كتبت على ماسنجر ياهو ذاك: "قل له يا شكر إن البوليس المصري عثر في جيبها على ورقة عليها عبارة: لعن الله جمال جعفر حيّاً وميّتاً". وكتبت: "لا تنسى نريدها ميتة مأساوية بمعنى الكلمة، يا أقرع". قال: "دعنا نلقي بها من أعلى نقطة في بناية سكنية". قلت: "اتفقنا". حددت هنا لشكر الأقرع الوقت الدقيق للقيام بالمهمة. الساعات الأولى من صباح يوم الأحد بتوقيت وينبيك، حيث يواصل جمال جعفر العمل قبلها، في مطعم سويس شاليه، كغاسل للأطباق، طوال ساعات ليل السبت، بالكاد دون توقف. ثم يعود إلى شقته المشتركة مع الصيني بقدمين مسخنتين من طول الوقوف، ويبدأ مغمض العينين، في تجرع البيرة المسماة "آيس مولواكي"، وجهاز الهاتف، على الكنبة هناك، إلى جواره. وشكر الأقرع هذا، ابن حرام أباً عن جد، أنا متأكد أنّه نفّذ الجريمة، دون أن يترك ريبة ما في نفس الضحية. "وهذا بالضبط يا جمال جعفر ما يدعونه مطاردة ما فعلناه في الماضي لنا حتى نهاية العالم"!
| |
|
|
|
|
|
|
|