Post: #1
Title: بكائية: نوستالجيا لقريتنا الرؤوم
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 04-12-2020, 07:47 AM
07:47 AM April, 12 2020 سودانيز اون لاين محمد عبد الله الحسين- مكتبتى رابط مختصر
بكائية لقريتنا الرؤوم
أين اختفت القرية؟
يا أهل قريتنا..... يا من كنتم تعمرون الذاكرة و الخيال و الوجدان، قولوا لي أين اختفيتم؟
يا من نشأنا في احضانكم، و رضعنا من براءتكم وطُهرِكم. ونمت أجسامنا في كنفِكم . و من حسن رعايتِكم كسِبنا صفاء روحِنا ،
ومن طيب مأكلكِم و مشربِكم تطهّرت دواخلُنا.
أين ذهبتم؟
و أين ذهب ذلك الفضاء؟... أين ذهبت تلكم المعالم العزيزة، و الذكريات الحبيبة التي كانت و لا زالت تسكن الذاكرة الطفولية ...
قولوا، أين اختفت تلكم الأشجار، والأغنام و المراعى؟ أين اشجار النيم و النخيل بطلعتها الباذخة القوام ، والبان بقاماتها الفارعة، وأشجار الدوم الرشيقة..
اشجار الدوم التي كانت تتهادى أغصانها و يصفق جريدها طول اليوم مع الهواء.. و في الليل كانت صوت وشوشة أشجارها يخيفنا إذا تعلو وشوشات ها مع
الرياح كأنها تهدهد أعين القرية و ساكنيها لتهجع باكرة.
و في الليالي المظلمة تقف تلكم الأشجار العملاقة منتصبة كأنها عماليق تحرس القرية من الجن و من تلكم المخلوقات الغامضة التي كان تسكن أرواحنا الخائفة
وتتفنن في رسمها صورتها في إتقان.
بل أين تلكم البئر الرؤوم، التي كم سقت انفساً عطشى و بهائم سائمة؟
أين ذهبت البئر فقد كانت في منتصف المسافة بين المنازل الطينية المتشابهة. كان الجميع يلتفون حولها و يلتقون حولها كأنها زمزم، ليسقوا الإنسان و الحيوان
و حتى الزرع في المنازل. كانت البئر قبل أن يسرق التلفاز اوقات الناس هي السقيا و هي اللقيا ...تتسابق الفتيات الغريرات باكرات (لنشل) الماء من البئر
في رياضة صباحية يومية يتبادلن إثناءها التحايا، و يتناقلن أخبار القرية و هي طازجة قبل أن يتلقفها وجه النهار. كانت البئر ملتقى النساء يقلبن فيها الأفكار
و الاقتراحات اليومية و يضعن البرامج للزيارات الاجتماعية و لتقديم واجب العزاء أو التهاني..
و بعد أن ترتفع الشمس في كتف السماء ويكون الضحى قد عم الكون، تكون البهائم قد ارتوت و ازيار الفخار قد امتلأت و الاواني كبيرها و صغيرها قد أُتْرِعَت..
و عنئذٍ ينفضّ السامر من حول البئر بعد أن ابتلت جوانبها بالماء المنساب من الدلو وانسال أثناء انشغال الفتيات بالمزاح و التغامز و المداعبات الصافية.
أين ذهب كل ذلك و أين ذهب هؤلاء و أين ذهب الأهل و أين ذهب الاقارب؟
..كيف انسلوا واحدا بعد آخر في غفلة مني و في غفلة من الزمان..؟
آه ...اعرف أن منهم من طوته المدافن و منهم من طواه النسيان و منهم من طوته المدينة بجناحيها الكبيرتين..
آه إنها المدينة ...فقد نادتهم المدينة نداء حفيا بجاذبية، و دعتهم بروقها الخُلّبْ. و هكذا انخدعوا بإغراءاتِ غانية خادعةٍ كذوب. فانطلت الحيلة عليهم فهاجروا إليها.
و بعد حين و بعد أن افاقوا ،لم يجدوا قريتهم الدفيئة و لا جيرانهم البسطاء، و لا علاقاتهم الصادقة.. وهكذا اكتفوا بتقليب الأكف حيرة وعضّ الانامل ندما و حيرة.
و حين ما يأتي القادمون إليهم من القرية كانوا ينقلون إليهم في حبور بأن قريتهم قد صارت السيارات تخيط شوارعها جيئة و ذهوب، و أن أعمدة الكهرباء قد غُرِزتْ
في الشوارع، و أن انابيب المياه قد غزت احشاء المنازل. و أن البشارات تتوالى..
قالوا كل ذلك و أكثر.. و لكنهم لم يقولوا لهم بأن قريتهم قد اصبحت ملاذا للغرباء، و إن كان الغريب لا يلقى شربة ماء، والتائه لا يجد من يدله على الطريق،
و أن ابن السبيل لا يجد القِرى.. و أن العذارى قد فارق الخفر الخدود و النظر، و كحّلت الجرأة عيونَهِن ،وفارق الحياء الأهداب و الخفر. وأن النساء
قد ارتفعت اصواتهن سطوة وأن الرجال قد فقدوا الهيبة و الوقار ...و صاروا بلا كلمة مسوح ولا قرار ولا صولجان.
ومرت الأيام، ورجعوا بعد غياب سنين لزيارة من تبقى في القرية. لكنهم لم يجدوا القرية التي تركوها من خلفهم... فالقرية التي عرفوها و الِفوها قد توارت
خلف الأيام. ولكنهم وجدوا قرية أخرى. قرية لا تشبه قريتهم. لم يجدوا البراءة و لا البساطة و لا الإيقاع الحنون و لا الأحضان الدافئة.. لم يجدوا حتى الحيوانات ولا الطيور التي كانت تجوس في الأنحاء، ولا الزرع النضير. و في المساء بحثوا عن جلسات السمر فوق الكثبان الملساء الباردة، و ضوء القمر الذي كان يداعب العيون النواعس، و القلوب الهوائم ، بحثوا عنه فلم يجدوها.
و اختفت كذلك الحكاوي الجميلة المجدولة بالبراءة و البساطة و الدفء..
واختفت الحكايات التي كانت حينما تُرْوى تدغدغ الأخيلة البريئة، وتُسَلّي العواطف البريئة و تبارك المساءات الخجولة..
بحثوا عن كل ذلك فلم يجدوه. و حينما الحّوا في السؤال، كان الجواب: لا ندري ...و علامة استفهام كبيرة، و حيرة تتبعها تشع من العيون.
و في الصباح حينما تجولوا في الانحاء فلم يجدوا أشياء كثيرة كانوا قد الفوها و تركوها وراءهم : لم يجدوا أشجار الدوم و لا البئر الرؤوم و لا ضحكات النساء
و الفتيات الغريرات حول البئر و في الطرقات..ولا همسات الاماسي الدافئة ولا قصص البراءة و التسلية الطريفة.
سألوا عن البراءة و المروءة و الشجاعة والكرم..و عن.. و عن... ظلوا يسألون، ولم يجدوا الجواب، إلى أن عادوا للمدينة محزونون.
|
Post: #2
Title: Re: بكائية: نوستالجيا لقريتنا الرؤوم
Author: محمد عبد الله الحسين
Date: 04-12-2020, 10:28 AM
Parent: #1
التمدّن ينقذ أهل القرى من كثير مما يقاسونه..على سبيل المثال تتحسن الخدمات التعليمية و الصحية و خدمات المياه و الكهرباء و المواصلات... بالتالي فإن هذه النوستالجيا لا تتمنى إلا عودة خيالية ..
|
|