Post: #1
Title: مقالات دكتور النور حمد في صحيفة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-02-2020, 08:51 AM
Parent: #0
09:51 AM April, 02 2020 سودانيز اون لاين Salah Musa- مكتبتى رابط مختصر
(adsbygoogle = window.adsbygoogle || []).push({});خلوة كورونا الإجباريةالنور حمدصحيفة التيار 2 أبريل 2020كتب كثيرون، في الأسابيع القليلة الماضية، عن تجربة البقاء بالمنزل، التي فرضتها على الناس، دون استثناء، وفي كل بقاع الأرض، جائحة كورونا. وأحب أن أتناول، هنا، هذه التجربة، من المنظور الصوفي. فقد عُرف المتصوفة باعتزال عالم الخارج، قصدًا، بغرض تحرير أنفسهم من أسره، بأن يخرجوا من حالة التوزع، والتشتت، إلى حالة الانجماع والانحصار. وقد كانت أمضى وسائلهم، في هذا الباب، إلى جانب وسائل التعبد الأخرى، الممارسة المعروفة، المسماة، "الخلوة". فالخلوة سجنٌ للحواس. فهي تقيد البصر، وتقيد السمع، وتقيد الشم، إلى حدٍّ كبير، كما تقيد الحركة. يفعل المتصوفة ذلك من أجل لجم النفس، وفطمها من عاداتها، بحبسها عما تحب، وعما أدمنت من انشدادٍ للعيش في تفاصيل العالم الخارجي.تأبى النفس الخلوة في بداياتها، مثلما تأبى الصيام. فالخلوة، صيامٌ، بغرض الفطام من الخارج، ومن عادة الانجذاب إليه، هروبًا من مواجهة النفس، ومن قيد البيت، حين لا تجد النفس، في أرجائه، مراحها. لكن، قليلون أولئك الذين ينتبهون لسلطان العادة عليهم، ولهروبهم المستمر من مواجهة أنفسهم. فالإنسان الغافل، يعيش خارج نفسه، أكثر مما يعيش في داخلها. والسبب في ذلك، أن داخله مقفرٌ، موحش. لكن، حين يكون الداخل عامرًا، تسهل الخلوة، بل وتتحول إلى متعةٍ، وفرصةٍ للنمو العقلي والوجداني.يكتسب العبَّاد المجودون، حالة الصفاء، بالخلوة. ويكتسبها المفكرون، والفنانون، بالخلوة، أيضًا، مع اختلاف الخلوتين، واختلاف الدرجة، فيما تحققانه. يقول الكاتب، الروائي، الشهير، جيمس جويس، إنه ما انتفع، في تجربته الإبداعية، بشيءٍ، مثلما انتفع بالغربة، والوحدة. فالغربة خلوةٌ، لأن الغريب معزولٌ عن محيطه الجديد، بعوامل كثيرة. وإذا ترادفت الغربة، مع الوحدة، استحكمت الخلوة. لكن، لا بد من القول، إن قيد الخلوة، لدى المتصوفة، قيدٌ مرحلي. فهي حيلةٌ، مؤقتةٌ، لجمع النفس من التشتت. فالمطلوب، أن تفضي الخلوة، إلى ما يسمونه "الجلوة"، وهي فترة ما بعد الخلوة، حيث يحدث التعاطي مع العالم الخارجي، الذي يمتحن فيه العابد، محصول خلوته، في مضمار إحسان معاملته للأحياء والأشياء. فالخلوة التقليدية، كما لدى المتصوفة، قد انقضى عهدها، ولم تعد ممكنةً، وبديلها، لدى أهل الطريق، هو صلاة الثلث الأخير من الليل. أما جلوتها، فهي معاملة الأحياء، والأشياء، في سبح النهار الطويل. وتحكي سورة المزمل، هذه الأمر، أفضل حكاية.دعونا نجعل خلوة كورونا الإجبارية هذه، فرصةً للتصالح مع البيت، ومع الذات، ومع الصيام، عن الانجذاب إلى صخب الخارج، واستمراء تشتيته للنفس، وصرفه للعقل، عن التفكر والتدبر. يعتاد الانسان الحرية، حتى ينسى نعمتها، فيضعها في خانة ما هو مضمونٌ، على الدوام. خلوة كورونا الإجبارية هذه، إلى جانب مزاياها الأخرى، هديةٌ من الغيب، للناس، أجمعين، ليتذكروا أن الحرية، نعمةٌ قابلةٌ للسلب، في أي لحظة؛ سواءً بالحبس، أو بالموت، لا قدَّر الله.
|
Post: #2
Title: Re: خلوة كورونا الإجبارية
Author: امتثال عبدالله
Date: 04-02-2020, 10:50 AM
Parent: #1
يعني ممكن نقول عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم،، لكن فعلا الغربة ايضا خلوة ، وخاصة في بداية ايام الغربة وقبل الاندماج في المجتمع الجديد،، ولكن تقول ايضا ان هذه العزلة الاجبارية لا يتحملها الكثير من الناس وهو شئ مر، ولكن الامر منه هو الموت بفيروس الكرونا،،،، ونسال الله ان يرفع عنا هذا البلاء والوباء،،،
|
Post: #3
Title: Re: خلوة كورونا الإجبارية
Author: Salah Musa
Date: 04-04-2020, 08:19 AM
Parent: #2
هل ستنطوي حقبة العسكر؟النور حمدصحيفة التيار 4 آبريل 2020تشكلت الدولة الحديثة، في كثيرٍ من أجزاء ما اصطُلح على تسميته بالعالم النامي، في الحقبة الاستعمارية، التي انداحت من أوروبا، عقب ظهور السلاح الناري، إلى مختلف أرجاء الكوكب. بخروج المستعمرين من المستعمرات، حوالي منتصف القرن العشرين، وقعت أقطارٌ كثيرةٌ في دوامة الانقلابات العسكرية. لم تكن أقطار العالم النامي مستعدةً، تمامًا، للتجربة الديمقراطية، المنقولة من السياق الغربي. لذلك، كان من الطبيعي، أن تقود الممارسة المشوهة للديمقراطية، والعجز عن التوافق الحزبي، في مضمار بناء الدولة الوطنية، إلى تدخل الجيش لانتزاع السلطة، بزعم أنه المؤسسة الأكثر تماسكًا، وقدرةً على اتخاذ القرارات. ارتبطت الانقلابات العسكرية، في كثير من البلدان، ومنها بلدان الشرق الأوسط، بالنزعة الثورية، التي جرت بلدانًا كثيرةً، إلى معسكر الشيوعية الدولية، آنذاك. جرت الانقلابات العسكرية، في مصر، والعراق، وسوريا، والسودان، وليبيا، وإثيوبيا، والصومال، وغيرها من البلدان، في إفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية. وكانت كثيرٌ من هذه الانقلابات، يسارية الطابع، رفعت شعارات التحرر من قبضة الامبريالية.خلَّفت حقبة العسكر هذه، في كل البلدان، التي ابتليت بها، أوضاعًا معقدة. فالدافع الوطني، أو الثوري، الذي دفع بالعسكر، بادئ الأمر، إلى سدة الحكم، في مختلف تلك البلدان، تحوَّر، رويدًا، رويدًا، ليجعل من المؤسسة العسكرية، نظامًا ملكيًا، جديدًا، على رأسه جنرال، أو عدة جنرالات. يظهر هذه النموذج، بوضوحٍ شديدٍ، في كلٍّ من مصر، والجزائر، والسودان، وسوريا. وقد قدمت سوريا، بصورةٍ خاصةٍ، نموذجًا، لتحوُّل النظام "الملكي العسكري"، إلى نظام ملكي أسري. ولولا الربيع العربي، أوشك نظام حسنى مبارك، في مصر، ونظام القذافي، في ليبيا، أن يحققا تلك الصيغة، بتنصيب الابن، خليفةً لوالده، كما في سوريا.تحولت دوافع الجيوش للوثوب إلى السلطة، باسم الوطنية، ومصالح البلاد العليا، إلى سطوٍ على الدولة، واحتكارٍ لمواردها، واغداقٍ لأموالها ومقدّراتها، على الطبقة الاجتماعية التي تشرعن النظام القائم، وتضمن له بقاءه واستمراريته. إمساك أفرع المؤسسات العسكرية، بمفاصل الثروة، حوَّلها إلى ما يشبه الإقطاعيين، الذين كانوا يحيطون بالأنظمة الملكية، في حقبة ما قبل الحداثة. ويمكن القول، إن المؤسسات العسكرية، بخروجها عن دورها المرسوم لها في الدساتير الحديثة، وسطوها على السلطة، في مختلف البلدان، وسيطرتها على الموارد، قد أعادت العبودية في ثوبٍ جديد.خلَّف نظام الإنقاذ، في السودان، ثلاثة جيوشٍ، فتح لكل واحدٍ منها، دربًا للتحكم في طرفٍ من اقتصاد البلاد. هذه الجيوش الثلاثة هي: الصناعات الحربية، وشركات جهاز الأمن، وقوات الدعم السريع. فإذا أخفقت الفترة الانتقالية، في تصحيح هذا الوضع، ووضعه في إطارٍ جديد، يحقق الشفافية، وولاية الدولة، ومؤسساتها، على المال العام، فإن الديمقراطية الرابعة سوف تولد ميتةً، هذا إن قُدِّر لها أن تولد، أصلاً.
|
Post: #4
Title: Re: خلوة كورونا الإجبارية
Author: Salah Musa
Date: 04-04-2020, 08:38 AM
Parent: #2
اسأل الله ان يرفع البلاء يا أستاذه امتثال
|
Post: #5
Title: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-05-2020, 09:34 AM
Parent: #4
الحكم المحلي وتفكيك التمكين
النور حمد
صحيفة التغيير 5 أبريل 2020
سبق أن قلت منذ سنوات، أن نظام الانقاذ تلبَّس الدولة بأكملها. لم تترك خطة التمكين التي بدأت، منذ العشرية الأولى للإنقاذ، موقعًا تنفيذيًا، أو تشريعيًا، أو قضائيًا، مؤثرًا، في منظومة الدولة، إلا وتولَّاه، شخصٌ، من الإسلاميين. وبعد أن حدثت المفاصلة، تركز التمكين في الجسم، النفعي، الضخم، المسمى، "المؤتمر الوطني". وتعود جذور التمكين، إلى فكرة إعادة هندسة الدولة السودانية، التي بدأت في مستهل العشرية الأولى. عمومًا، كان المجيء إلى دست الحكم، عن طريق الانقلاب العسكري، عملاً باطلاً، ومعلومٌ أن ما بُني على باطلٍ، فهو باطل. ولسوف تتناول هذه المقالة فرعًا من فروع الجهاز التنفيذي، وهو الحكم المحلي، الذي يمثل، في نظري، أهم مؤسسات إدارة الدولة، بسبب صلته اللصيقة بالجمهور. ولا يعني هذا أن التمكين، الذي حدث، في الجهازين؛ التشريعي، والقضائي، أقل خطورة.
السيطرة المطلقة على أجهزة الحكم المحلي القاعدية تعني، السيطرة على الجمهور. فعبر أجهزة الحكم المحلي، المرتبطة بحياة الناس اليومية، يجري جمع المعلومات لإحكام القبضة السياسية، والاقتصادية، والأمنية للنظام. فعبرها، نشأت الأذرع المساندة، كاللجان الشعبية، والأمن الشعبي، وغيرها من التنظيمات. عبر هذه الأذرع المتكاملة، يجري تزييف الانتخابات، ويجري شراء الذمم، ويجري تجنيد الأفراد للمنظومة، فيزداد إطباق السيطرة، ويجري ترسيخ الأدلوجة الحاكمة. أصبح الحكم المحلي، في عهد الإنقاذ أصبح أداةٍ للسيطرة، على مستوى الجذور، بتقديم الإغراءات للأفراد للاصطفاف إلى جانب النخبة الحاكمة. ومن ذلك، تقديم الخدمات، والتسهيلات للأفراد، من خلال التحكم في توزيع الأراضي، وتوزيع فرص الأعمال التجارية، والتلاعب في الفوز بالمناقصات، وفي مقاولات البروبوغاندا، كحشد البسطاء لكرنفالات البشير الخطابية، الفارغة.
لكن، رغم هذه القبضة الأخطبوطية، المُحكمة، التي استمرت لثلاثة عقود، استطاعت ثورة الشباب أن تبدأ حراكها من هذه الجذور، التي سيطر عليها الإنقاذيون. فلا الأمن الشعبي، ولا اللجان الشعبية، ولا جهاز الأمن المركزي، استطاعت أن تعطل الحراك، أو تخمد جذوته، حتى انتصر، في نهاية المطاف. أنجز الحراك الضربة الأولى، لكفاءة، لكنه وقف دون الثانية، وهي تفكيك التمكين. السبب، في تقديري، هو اعتلالات "قحت" كحاضنة سياسية، بسبب النحو الذي وُلدت به. فالتشرذم الحزبي، والرخاوة التي جعلتها تستسلم للجنة الأمنية. هذا ما جعل الحكومة الانتقالية تجئ على النحو الذي نراه الآن. لا يبدو، إلى الآن أن بنية الحكم المحلي الضخمة، التي تسيطر على كثير من مصالح الناس في العاصمة، وفي المدن الأخرى، وفي القرى، والفرقان، على مستوى القطر، قد طالها تفكيك التمكين. ولا شيء من الفساد في هذه المؤسسة الضخمة، قد جرى كشفه للجمهور. مع أنَّ التمكين في هذه المنظومة الضخمة، يمثل أحد آليات خنق الثورة.
|
Post: #6
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-06-2020, 09:34 AM
Parent: #5
الإعلام ورؤساء آخر الزمان
النور حمد
صحيفة التيار 6 أبريل 2020
لم تصبح وعود الديمقراطية الليبرالية على المحك، مثلما هي عليه اليوم. فحين يتغنى الناس بمحاسن الديمقراطية، ينسون عادةً شرور الرأسمالية، رغم أنها الوعاء الحامل للديمقراطية، في التجربة الغربية. بل، وينسون أنها هي ما حال بين الديمقراطية، وإنجاز وعودها؛ خاصة في العدالة الاجتماعية، وفي تحقيق السلم الدولي. ولعل أبلغ دليلٍ على أن الديمقراطية الليبرالية، قد أُفرغت من محتواها، حتى بلغت درجة الملهاة، وصول أشخاصٍ من شاكلة، دونالد ترمب، وبوريس جونسون، إلى سدة الحكم. وللغرابة، حدث ذلك، في أقوى بلدين، تبادلا، على التوالي، السيطرة على العالم، عبر القرنين الماضيين.
لم أقتنع، طيلة تجربة عيشي في الولايات المتحدة الأمريكية، أن فيها، شيئًا أسمه "اليسار". فرغم أن هناك طيفٌ، من القنوات الكبرى، مثال MSNBC، وNPR، وإلى حد ما، CNN، وأن هناك عديد الصحف، التي تظهر كأبواقٍ للحزب الديمقراطي، ولليسار، إلا أنها، من الناحية العملية، لا تختلف كثيرًا عن القنوات اليمينية. فهي الأخرى، غارقةٌ في دوامة الربح، وبذلك، لا تختلف، جوهريًا، عن قنوات، مثال FOX NEWS. تعمل قنوات اليسار، في تجهيل الجمهور الأمريكي، معرفيًا، وسياسيًا، مثلما تفعل قنوات اليمين. فإذا قالت النخب الحاكمة، أن أفغانستان، أو العراق، أو إيران، أو السودان، تشكل تهديدًا، جديًّا لأمن أمريكا، تردد معها قنوات اليمين، واليسار، ما قالت، مثلما حدث في حرب العراق، فصدقها الجمهور المُغيَّب.
إعلام اليسار الضائق ذرعًا بترمب، أسهم، بقدرٍ وافرٍ، في مجيئه إلى الحكم، لانشغاله، مثل رصيفه اليميني، بالتعبئة، والإثارة، والاستقطاب، لا بالتنوير. وكانت النتيجة، وصول رجلٍ من عالم العقار، وكازينوهات القمار، وحلبات المصارعة، إلى البيت الأبيض. وصل، رغم ضعف تعليمه، وضحالة ثقافته العامة، وافتقاره لأبسط مقومات الرزانة، واللباقة، والخلق الرصين.بذلك، اختفى أي تأثير لذخائر الثقافة الغربية، الغنية، في الفعل السياسي. ولو كانت ذخائر الفكر الغربي، بلاهوتها، وفلسفتها وآدابها، وفنونها، هي ما يغذي المجال العام، ويوجه مسار الديمقراطية في أمريكا، وانجلترا، لما أمكن لدونالد ترمب وبوريس جونسون، أن يصبحا رئيسين. بل، ما كان لهما أن يخرجا إلى دائرة الضوء، أصلًا.
روَّجت الآلة الإعلامية الأمريكية، بشقيها، للسطحية، والتفاهة، وجنون الربح، والاستهلاك. فالأنباء التي تحتل الخطوط الرئيسية، هي الأنباء التي تستقطب أكبر عدد من المشاهدين، مثال: سطو على محطة وقود، أو جريمة قتل، أو سقوط شاحنةٍ، من فوق جسر. إلى جانب هذا النوع من الأخبار، يجري شغل المواطنين بأخبار الموضة، ونجوم السينما، والغناء، والرياضة، وخلق أيقوناتٍ معبودةٍ منهم. لقد وضعت جائحة كورونا، الفأس على أصل هذه الشجرة الخبيثة، للرأسمالية، الاستهلاكية. ولسوف تواجه، منذ اليوم، تحديًا لم تعهده. ستذهب جائحة كورونا، ونأمل أن تذهب معها الأنانية المفرطة، وسباق التسلح، والشعبوية، والعنصرية، وتفاهات الإعلام، التي أتت بهذا الصنف من الرؤساء.
|
Post: #7
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-06-2020, 04:01 PM
Parent: #6
في ذكرى بداية الاعتصام في 6 أبريل 2019
ثورة ديسمبر إلى أين؟
د. النور حمد
صحيفة التيار 6 أبريل 2020
تمر علينا هذه الأيام الذكرى الأولى لبداية اعتصام الثوار، أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة. ولابد من اتخاذ هذه المناسبة فرصةً لكي نتساءل عما أنجزته الثورة، في عامها الأول، وعما يشي به مسارها، في مقبل الأيام. وأول ما يلفت النظر في هذا التفحص، ربما كان التباين الحاد بين دفق الثورة، وروحها المتوثب، اللذان وسما مسيرتها، حتى انتصرت، وبين ما يشبه العمل الروتيني، الذي وسم أداء الفترة الانتقالية.
هناك ملمحان رئيسان ميزا هذه الثورة، هما: سلميتها الصارمة التي لازمت مواكب المتتالية، منذ بدايتها، في ديسمبر 2018. ومحافظتها عليها، على الرغم من القتل الممنهج للثوار، والقمع الفظيع، الذي استمر لأربعة أشهر. صمد الثوار إلى أن اختل ميزان القوى لمصلحتهم، باعتصام القيادة العامة، الذي بدأ في السادس من أبريل، 2019. وقد عكس ذلك الاعتصام المبهر، رمزيةً عبَّرت عن أمل الشعب المسالم، الأعزل، في أن تقف قواته المسلحة، إلى جانبه، في معركته المصيرية، ضد سلطةٍ، فاسدةٍ، باطشة. جذب الاعتصام، وسائط الإعلام الدولية، وشكل ضغطًا رهيبًا، على سلطة الرئيس البشير، وعلى كبار قادة الجيش، ومعهم سائر القوى الحاملة للسلاح. واضطرت قيادة الجيش، تحت الضغط المتنامي، من الداخل، والخارج، أن تطيح بالرئيس، البشير بعد خمسة أيام من بداية الاعتصام. لم تكن القوى الحاملة للسلاح، التي أزاحت الرئيس، البشير، مؤمنةً، إيمانًا حقيقيًا، بالثورة. بل، كانت تقرأ التحولات الجارية، أمام عينيها، بنفس الذهنية، التي سادت في عهد الرئيس البشير. فاللجنة الأمنية التي كونها الرئيس البشير، في أخريات أيامه، للتعامل مع الأزمة، بقيت تعمل وفق نفس التصور الذي على أساسه أُنشئت. أظهر خطاب تنحية الرئيس البشير، الذي أذاعه الفريق، عوض ابن عوف، أن خطة اللجنة الأمنية، هي إزاحة الرأس، مع الإبقاء على بنية النظام. فسخر الشعب من الخطاب، واضطرت اللجنة الأمنية إلى تنحية الفريق، عوض بن عوف، بعد يومٍ، واحدٍ، من تنصيبه. ولاحقًا، أُزيح، عضوٌ اللجنة الأمنية، الفريق عمر زين العابدين، ولحق به آخرون. لكن، وكما هو متوقع، بقيت العقلية الإنقاذية، هي المسيطرة، محاولةً حبس الأمور في إطار تغييرٍ شكليٍّ، والإبقاء على دولة البشير الموازية، بأيديولوجيتها، وبامتيازات نخبها، وعلى رأسها النخب العسكرية.
رغم التظاهر بقبول الاعتصام، ورغم الوعود المتكررة بعدم وجود نية لفضه، قامت القنوات الفضائية، والصحافة المناوئة للثورة، بحملةٍ شرسةٍ، لشيطنة الاعتصام، بأساليب غايةً في الدناءة. في الثالث من يونيو، أي بعد 53 يومًا من تنحية الرئيس، البشير، هجمت، على منطقة الاعتصام، قواتٌ مختلطةٌ، فقتلت المئات. وصاحبت القتل، اغتصابات للفتيات، كما جرى رميٌ جثث بعض الشباب، في النيل، بعد أن رُبطت أقدامهم على كتلٍ أسمنتية، لكيلا تطفو. ظنت مختلف القوى؛ من العسكريين ومن المدنيين، الذين وافقوا على فض الاعتصام، أن الثورة قد انكسرت شوكتها، وأن في وسعهم رسم صورة المرحلة الجديدة، كما يحبون. لكن موكب 30 يونيو، التاريخي، الذي جرى بعد 27 يومًا، من فض الاعتصام، قلب الموازين الدولية، والإقليمية، والمحلية، وأربك جهود الالتفاف على الثورة. من هنا، بدأت المفاوضات بين الشقين العسكري، والمدني، ودخلت وساطة الاتحاد الإفريقي، والوساطة الإثيوبية، حتى خرج الجميع بالوثيقة الدستورية، التي ستحكم الفترة الانتقالية، التي تمتد لثلاث سنوات. جرى التوقيع على الوثيقة الحاكمة، في 17 أغسطس 2019؛ أي، بعد تسعة أشهرٍ من اندلاع الثورة.
رأت القوى الإقليمية، التي سبق أن جرَّت إلى معسكرها الرئيس البشير، في الثورة، فرصةً مواتيةً، لإقامة نظامٍ تابعٍ لها في السودان، شبيهًا بنظام الفريق، السيسي، في مصر. وقد انخرطت تلك القوى الإقليمية، منذ بداية الثورة، في إغواء بعض القيادات السياسية، والعسكرية، لتقوم لها بدور حصان طروادة الذي يصب حصيلة الثورة السودانية، في حاوية استراتيجيتها الإقليمية. ولعل ملابسات فض الاعتصام، الذي كان نسخةً من تجربة فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، في مصر، قد أظهرت هذه اليد الإقليمية، بوضوح كبير.
المشهد الماثل وتحدياته
لن تقف المقاومة للثورة، ولن تقف محاولات الحؤول بينها وبين تحقيق أهدافها. لكن، هناك عددٌ من أوجه القصور في أداء قوى الثورة. منها التعتيم على القضايا الحرجة، العالقة، وتجنب مناقشتها في الهواء الطلق. وتقف وراء هذا التعتيم مخاوف، ودوافع مختلفة. منها، خوف قيادات الحرية والتغيير من غضب الشارع، خاصةً فيما يتعلق بكشف أسماء المسؤولين عن جريمة فض الاعتصام، ومحاسبتهم. ومنها، أيضًا، سيطرة التفكير الأحادي، الثأري، على قسمٍ معتبرٍ من مجاميع الشباب، التي تريد فرض إرادتها، على القيادات، وسائر مكونات المشهد، دون التفاتٍ إلى حقيقة ما يمكن تحقيقه في ظل التعقيدات القائمة. ولا يوجد، حتى هذه اللحظة، عرضٌ، أمينٌ، وشجاعٌ، لتعقيدات المرحلة، التي نمر بها، ولا عملًا واضحًا، في تفكيك قنابلها الموقوتة، المبثوثة، في كل ركن. فالنكوص عن مواجهة هذه التعقيدات، وعرضها بأمانةٍ، وشجاعةٍ، ووضوح، هو السبب وراء هذا الصراع الكتيم، المملوء نفاقًا، وكيدًا، ومراوغة.
القوى المسلحة، من قوات مسلحة، وقوات دعم سريع، ليست جسمًا واحدًا. وتمثل قوات الدعم السريع جسمًا ذا وزنٍ كبيرٍ في المعادلة العسكرية القائمة. كما تمثل أقوى الحلقات في التقاطعات الإقليمية مع الداخل السوداني. يتعامل هذان الجسمان العسكريان الكبيران، مع بعضهما بحذرٍ شديد. وفي الجانب الآخر، من المشهد، هناك الحركات المسلحة. وهناك القوى المدنية التي كانت تدعم حكم الإنقاذ، وأصبحت تميل عقب الثورة إلى القوى العسكرية، وتعمل، على تشجيع العسكر، على إفشال حكومة الفترة الانتقالية، لكي تتحقق رغبتها في إجراء انتخابات مبكرة. باختصار، هناك تشققات وسط الكيانات الموالية للثورة. كما أن هناك خيوطًا، مختلفة السماكة، تربط بين كافة القوى المناوئة للثورة، وسط العسكريين، ووسط المدنيين.
ورطة الاعترافات
تمثل الاعترافات المسجلة، التي أثبتت أن المجلس العسكري، قرر مجتمعًا، بعد أن تشاور مع أطرافٍ مدنية، فض الاعتصام، واحدة من المخانق العويصة. بذلك الاعتراف المسجل، أصبح شبح جريمة فض الاعتصام، هاجسًا حاكمًا لخيارات العسكريين، وتصرفاتهم. فقد جعلهم أمام خيارين، الأول: شراء الوقت، وأصبح هذا متاحًا بحكم بأن الفترة الانتقالية، منحتهم حصانةً من المساءلة القانونية، لثلاث سنوات. أما الخيار الآخر، فهو قلب الطاولة واستلام السلطة؛ إما منفردين، وهذا احتمال ضعيف. وإما بالتحالف مع الحركات المسلحة، وبعض القوى الحزبية، التقليدية، مع دعم من الإقليم. يتطلب تفكيك هذا الوضع المعقد، شجاعةً استثنائية، وإدراكًا شاملاً وعميقًا، وتقييمًا، دقيقًا، للمخاطر والفرص، وقدرةً على الموازنة بين الخيارات، وعلى نزع فتائل القنابل الموقوتة. فالعسكر لن ينتظروا أن تنتهي الفترة الانتقالية، على النسق الذي رُسم لها، ليفقدوا حصانتهم التي ضمَّنوها في صلب الوثيقة الدستورية، لتصبح رقابهم، متاحةً للمقاصل، أو تصبح امتيازاتهم عرضة للتفكيك. وهم، كما سبق أن ذكرت، ليسوا وحدهم، في الحرص على اجهاض الثورة. فهناك قوى حزبية، ذات وزنٍ معتبر، لها أجندتها الخاصة، تنسق معهم، بقدرٍ من المقادير. المخرج من هذا الوضع الشائك، فيما أرى، هو اتباع الأنموذج الذي جرى في جنوب إفريقيا، وفي المغرب، مع سودنته. أي، المكاشفة، والمصارحة، والمصالحة، وإبراء النفوس، وجبر الأضرار، عبر إجراءات ما يسمى العدالة الانتقالية. فالمسار الذي رسمته الوثيقة الدستورية، ليس كافيًا، ولا ضامنًا، وحده، لعبورٍ آمن. ما أراه بوضوح، أن هناك تجنبًا لمناقشة القضايا الحرجة، بالصراحة الكافية. وهو ما سيذهب بريح الثورة وأهدافها، في نهاية المطاف. فالتاريخ يخبرنا، كيف أجهض الحماس، العديد من الثورات، بسبب قلة النضج السياسي، وتجاهل توازنات الواقع، ومحاولة القفز من فوقها . الثورة عبر صندوق الاقتراع ما من شك أن الشباب غير المنضوين تحت اللافتات الحزبية، مُضافًا إليهم المنتمون إلى الأحزاب، هم العنصر الرئيس في حماية الديمقراطية المقبلة، وحمايتها. أي، ألا تصبح نسخةً مكررةً من الديمقراطيات الثلاث، اللواتي مضين، وتميزن، جميعهن، بالأعطاب المقعدة. لكن، هناك شروط لابد من استيفائها حتى تصبح طاقة الشباب الضخمة، هذه، كابحًا ضد الانزلاق في الحفر التي ابتلعت، الديمقراطيات الثلاث، من قبل. وفيما أرى، هناك طريقان، الأول: أن تقتحم هذه الكتلة الشبابية الضخمة، بالغة الحيوية والنشاط، أجسام الأحزاب الرئيسة، فتسهم في دمقرطتها، ومأسستها، وإصلاح برامجها، وتجديد خطابها، وتبديل قياداتها. والطريق الثاني: أن تشكل هذه القوى الشبابية، كتلةً حزبيةً، عريضةً، جديدةً، تمامًا. وأن تجر إليها المتململين من الشباب داخل الأجسام الحزبية القائمة، بمختلف توجهاتها، ليصبح للثورة صوتٌ مؤثر في مسار الديمقراطية المقبلة. اختيار واحدٍ من هذين السبيلين هو الذي سوف يجعل من صندوق الاقتراع خادمًا لأهداف الثورة. فصندوق الاقتراع هو الذي سيحدد مصير أهداف الثورة، في نهاية المطاف، وليس المواكب في الشارع. لكن، لن يتيسر أي شيءٍ من هذا، قبل تجاوز العقبات التي سبق أن ذكرت.
تمضي الأيام سراعًا، وسوف تؤول قريبًا رئاسة المجلس السيادي، للشق المدني. وأرجو أن تُمنح رئاسته لشخصٍ من دارفور. فهل ستمنح تلك النقلة المدنيين سلطة القرار، التي بها يفككون فتائل القنابل الموقوتة، ويحققون انسجامًا، مستدامًا، بين المدنيين والعسكريين، وفي نفس الوقت، يزيلون الدولة الموازية، ويعيدون الولاية على المال العام، لوزارة المالية، وبنك السودان؟ لقد انزلقنا، على يدي الانقاذ، في منزلق النموذج المصري، الذي نشأ في حقبة الرئيس مبارك، واستمر بصورة أقوى في عهد الرئيس السيسي. يجعل هذا النموذج، من جنرالات الجيش، أباطرةً في دنيا المال والأعمال، ما يجعل تحقيق حكم مدني ديمقراطي، مستحيلا. خلاصة القول، لن تعبر الثورة، ولن تستعيد الدولة السودانية عافيتها، وقدرتها على تأدية وظائفها الطبيعية، إلا بتفكيك هذا النموذج. وينبغي علينا أن نعي أن تفكيك التمكين، له شقان. فإلى جانب تفكيك التمكين في المؤسسات المدنية، ينبغي أيضًا تفكيك شقه العسكري، المتمثل في الأعمال التجارية المملوكة حصرًا، للقوى العسكرية، والأمنية. هذا الشق هو الأصعب، والأكثر وعورة. فهل سيجتمع العسكريون والمدنيون على صيغةٍ، متوازنةٍ، تسمح للدولة السودانية باستعادة عافيتها، أم سندخل في دوامةٍ جديدةٍ من إضاعة الجهد، والوقت، وفرص الأمن، والاستقرار؟
|
Post: #8
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-07-2020, 12:43 PM
Parent: #7
ملحمة سد النهضة
النور حمد
التيار 7 أبريل 2020
يمثل مشروع سد النهضة، الفرصة الوحيدة لإثيوبيا لانتشال شعبها من ربقة الفقر. فتعداد الشعب الإثيوبي يزيد عن 100 مليون نسمة. وأثيوبيا، في مجملها هضبةٌ، صخريةٌ، شديدة الوعورة، فرصها في الزراعة الواسعة، محدودة. غير أنها، مثل السودان، تملك ثروةً حيوانيةً، هي من ضمن الأكبر في إفريقيا. كما تملك مناخًا مطيرًا، في معظم أيام السنة، خاصة في قلب الهضبة. لدى أثيوبيا فرصٌ لزراعةٍ محدودةٍ، لكنها نوعية؛ كزراعة البن، وهو محصول بالغ الأهمية في السوق العالمي، إضافةً إلى الزهور، وصنوف من الفواكه. رغم ضيق أراضيها، تعد إثيوبيا مكتفيةً من الغلة التي يأكلها الشعب الإثيوبي، وهي الذرة المسماة، "التف" Tef. عمومًا، المجال المتاح لإثيوبيا هو التصنيع. ولخلق قاعدةٍ صناعيةٍ كبيرةٍ، لا بد من مصادر ضخمة للطاقة الكهربائية. وقد أـتاحت لها طبيعتها الجبلية، فرصةً، كبيرةً، لإنتاج ما يكفيها، وما يفيض للتصدير. ولكونها تملك العديد من المسارع المائية، تبني، إثيوبيا، إلى جانب سد النهضة، عددًا من محطات توليد الكهرباء. وحين تكتمل هذه البنية الضخمة، سوف يصل إنتاج إثيوبيا، من الكهرباء إلى ما يقدر بـ20,000 ميغاوات، لتلحق بجنوب إفريقيا، ومصر، والمغرب، في الانتاج الكهربائي. ولتحقيق الطفرة الصناعية شيدت إثيوبيا، بمساعدة صينية، مجمعات صناعية ضخمة.
لم يتجه الإثيوبيون حين فكروا في بناء سد النهضة إلى الاقتراض من الجهات الدولية، وإنما اتجهوا إلى استنهاض همة شعبهم، وتجميع طاقته، ليُسهم كل فردٍ منهم، بما يستطيع. ولقد اكتشفت طرفًا من تفاصيل ملحمة سد النهضة المدهشة، عبر صداقةٍ ربطتني بدبلوماسي إثيوبي، كان يعمل في سفارة إثيوبيا، بدولة قطر. فقد عرفت من أحاديثي معه، أن المغتربين الإثيوبيين، في دول الخليج، بما في ذلك عاملات المنازل، وفي غير دول الخليج، يقتطعون من رواتبهم، قدرًا ثابتًا من المال يسهمون به في بناء سد النهضة. بعض هذا المال المقتطع تبرعات، وبعضه الآخر شراء لسندات ذات عوائد مالية، يتلقاها المشتري لاحقا. الشاهد أن القيادات الإثيوبية عرفت كيف تستنهض همة شعبها، لتبني، بالعون الذاتي، هذا الصرح الضخم، الذي تزيد كلفته، عن 4 مليار دولار. وقبل بضعة أعوام، بلغت تحويلات المغتربين الإثيوبيين، ولأول مرة، 5 مليار دولار. متخطية بذلك، ما ترفد به عوائد البن، الخزينة العامة.
تنشغل النخب في إثيوبيا بالسياسة كمعترك للتنافس على الإنجاز، وجمع الشعب حول ملاحم تنمويةٍ، تستنهض الهمم، وتبعث الأمل في المستقبل. في حين تنشغل نخبنا، بالسياسة، كتنظير ديماغوجي للتمايز. ينحصر في لغة الخطاب، والصراع العقيم، والمراوغات التي تبطئ أيقاع كل شيء، وتقتل روح كل شيء. فهلا جعلنا من فترتنا الانتقالية فرصة لوضع القواعد لانتشال البلاد من الوحل؟ وهلا كففنا عن النهل من طحالب المنصب، والوجاهة، والمال؟ وهلا عرفنا كيف نستقطب موارد مغتربينا الضخمة، لنخرج دولتنا الغنية، من ربقة الفقر المدقع؟
|
Post: #9
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-08-2020, 04:15 AM
Parent: #8
إرثنا الاجتماعي و"القومة للسودان"
النور حمد
التيار 8 أبريل 2020
حسنًا، أن أطلق رئيس وزراء الحكومة الانتقالية، الدكتور، عبد الله حمدوك، نداءه الذي اختار له اسم، "القومة للسودان". وهو نداءٌ تناوله العديد من الكتاب، منوِّهين لجوانب النداء الأخرى، التي تتجاوز مجرد جمع مبلغ من المال؛ كثُر، أو قل. فحالة الاصطفاف الجماهيري، وراء الحكومة الانتقالية، واستمرارية السند الشعبي لها، بما يضمن نجاح الفترة الانتقالية، هو الأهم. فقد خبت جذوة الثورة هونا ما، وكان لابد من وقدةٍ جديدة لروح الثورة، تعيد دفقها، وتملؤها، من جديد، بتلك الوحدة الشعورية، الصلبةٍ، التي حبست الأنفاس.
إن أخطر ما يمكن أن تواجهه الثورات، هو فقدان الدفق، وترهُّل الحماس، والانزلاق، تدريجيًا، في تلافيف الروتين. يحتاج الجمهور الثائر، كل فترة وأخرى، إلى هدفٍ، سامٍ، يلتف حوله. بل إن بعض القادة الأشرار، يختلقون أهدافًا وهميةً، ماكرة، يجمعون الناس حولها بشيطنة جهةٍ ما. ومن ذلك، على سبيل المثال، كذبة وجود أسلحة كيميائية في العراق، التي جعلت الجمهور الأمريكي يلتف، بمختلف أطيافه، خلف الرئيس بوش الابن، في غزوه للعراق.
ما من شك أن الوضع الاقتصادي للبلاد كارثي. لكنَّ، السبب في كارثيته، رغم اللغط الذي يثيره الذباب الإلكتروني، والورقي، لقوى الثورة المضادة، هو فساد هذه القوى، عندما كانت في السلطة. بل هي تعمل، الآن، ليل نهار في اختلاق العراقيل، ليبقي هذا الوضع الكارثي في مكانه. في مثل هذا الوضع الذي تواجه فيه حكومة الدكتور حمدوك، هذا النوع من الكيد الرخيص، من مختلف الأطراف، وفي الظروف الدولية الراهنة، التي لا تمتد فيها يد بالعون لأحدٍ، لا يبقى أمام السيد، رئيس الوزراء، سوى أن يستنجد بشعبه، وأن يقول "يا أبو مروة"، كما اعتاد السودانيون أن ينادوا، عادةً، في الضوائق، والمصائب. فقوى الثورة المضادة التي لم تعترف، ولا تريد أن تعترف بالثورة، لا تملك الثورة خيارًا إزاءها، سوى كسر إرادتها، بمثل هذا الفعلٍ الشعبي، التطوعي. وقد مثل الاعتصام في استقطاب البذل التكافلي، قمَّةً لا تُجارى لصراع الإرادات، انتصرت فيه إرادة الشعب. وسيفتح نداء "القومة للسودان" هذا، بابًا جديدًا لإظهار الإرادة الشعبية، في مواجهة إرادة من يريدون كسرها.
القوى التي تشيطن طموحات الثوار، وآمالهم، قوى استوردت جل أفكارها، ووجدانها، من محيطنا الإقليمي، ولا علاقة لما هي عليه من قيم بمواريث السودانيين. هؤلاء قومٌ أزاغ المال عقولهم، وأفرغ قلوبهم من كل شيء، سواه. فبيئتنا هذه بيئة تصوف؛ ليس منذ دخول الإسلام، وحسب، وإنما منذ أن نشأت ديانات التوحيد في أرض كوش، منذ آلاف السنين. هذه بيئة النفير، وبيئة الفزعة، وبيئة المسيد، وبيئة اقتسام النبقة. لا تحتاج هذه البيئة لمُتَفيْقِهٍ، ضحلِ العقلِ، جديبٍ الوجدانِ، يعلمها قيم الإسلام. فلنجعل نداء "القومة للسودان"، وقودًا جديدًا لوحدتنا، ولقوتنا التي نكسر بها من يريدون كسر إرادتنا.
|
Post: #10
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-11-2020, 11:47 AM
Parent: #9
في فجوة الاستراتيجيا
النور حمد
صحيفة التيار 11 أبريل 2020
عانى السودان، منذ استقلاله من انعدام الرؤية الإستراتيجية، فنحن لم ننشئ سوى مراكز للبحوث. لكن، هناك فرق بين مراكز البحوث، وبين المراكز المسماة، "مستودعات تفكير" Think tanks، هذا النوع من المراكز هو الذي تعتمد عليه كثيرٌ من الدول، في قراءة خريطة العلاقات الدولية، وتغيراتها المختلفة. ومن ثم، صوغ استراتيجيات، طويلة، ومتوسطة، وقصيرة المدى. عندما جاءت الإنقاذ وتحسنت المداخيل في فترة النفط، نشأت أعدادٌ كبيرة من المراكز، لكنها كانت، في غالبيتها، مراكز مسيسة، ذات منتوجٍ بائس. وبما أننا قد خرجنا من ذلك العهد المظلم، الكئيب، ينبغي أن نلتفت إلى ضرورة التفكير الاستراتيجي، في عديد المناحي، التي تتصل ببناء الدولة، ورسم شخصيتها الحضارية، وضمان استقلاليتها، وأمنها واستقرارها، ونموها. لكي نضع تصوراتٍ استراتيجيةٍ ناظمةٍ، متكاملة الأركان، يتعين علينا أن نفهم مسارات الأمور وتغيُّراتها على مستوى الكوكب. فقد أصبح العالم مترابطًا، واجتاحته العولمة، حتى كاد أن يصبح سوقًا واحدة. لكن، تتغير الآن أمورٌ كثيرةٌ، كانت تعد، حتى الأمس القريب، مسلماتٌ مفروغٌ منها. لقد سمعنا، وقرأنا، هذه الأيام، أن عالم ما بعد كورونا، لن يشبه، عالم ما قبلها. سينكمش الاقتصاد العالمي، بسبب هذه الجائحة، بصورة غير مسبوقة. وقد تظهر خريطةٌ جديدة للعلاقات الدولية، مختلفة تمامًا، عما ألفنا، في حقبة الحرب الباردة، وحقبة القطب الواحد.
لقد رشح، غض النظر عن صحته، من عدمها، أن قوى الرأسمال المتمثلة في القلة المسيطرة على كل شيء، بدأت تُسَرِّب ما يشي عن نيتها في خفض أعداد السكان في العالم. وسواءً كانت جائحة كرونا مصنوعةٌ أو أنها جاءت بصورةٍ طبيعية، فقد وافقت ما سبق أن اقترحته النخب الغربية المتنفذة، وبر عنه بيل غيتس، حين تحدث، قبل سنوات، عن ضرورة إنقاص سكان الكوكب. فالذكاء الاصطناعي، خفض حاجة أصحاب العمل لليد العاملة. بل، بدأ إبدال الجنود بمقاتلين إلكترونيين، ذوي كفاءة تفوق التصور، وازداد الاعتماد على الطائرات العسكرية، من دون طيار، وقس على ذلك.
في ظل هذه المتغيرات، سينقسم العالم، في تقديري، بين رؤيتين: رؤية أجرؤ فأسميها رؤيةً "وثنية"، ترى أن في العالم فائضٌ بشري، ينبغي التخلص منه، لينعم عددٌ محدَّدٌ بخيرات العالم الجديد، الذي ستقوم فيه التكنولوجيا بمعظم العمل، إن لم يكن كله. أما الرؤية الأخرى فرؤيةٌ روحانيةٌ، نافيةٌ للأنانية، ترى أن خيرات الأرض تكفي الجميع، كما في الأديان. فالعالم فيه ما يكفي جميع الناس، ولكن ليس فيه ما يكفي أطماع البعض. مع تراجع وضع الولايات المتحدة، وتقدم الصين، وحلفائها، ستتغير الأوضاع الإقليمية القائمة. ولسوف يؤثر هذا على علاقتنا بالغرب، وبمن يوظفهم لخدمة أهدافه في الإقليم. غالبًا ما تتراجع العولمة، على النسق الغربي. وغالبًا ما يظهر برادايمٌ أخلاقيٌّ جديد. باختصار، نحن على أعتاب حقبةٍ جديدةٍ، تقتضي تفكيرًا جديدا.
|
Post: #11
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-11-2020, 11:49 AM
Parent: #10
11 أبريل: فجر الحرية ومخاطر الطريق الوعر
النور حمد
صحيفة التيار 11 أبريل 2020
ارتدى الرئيس المخلوع، عمر البشير، في الثلاثين من ديسمبر، أي بعد اثني عشرة يومًا من اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، زي الشرطة الأزرق، وخاطب قيادات الشرطة، في لقاء متلفز، بدار الشرطة. كان يبدو في عينيه الجزع، ففاجعة السقوط أخذت ترفرف فوق رأسه. عندما اعتلى المنصة، وأجال عينيه الزائغتين في الحضور، أحس من نظراتهم، فتور الحماس، وقلة الاهتمام بما يقول. شرع في الكذب كعادته، قائلاً إن هناك تخريبًا للممتلكات. انبرى يتحدث عن القصاص، بعد أن منح نفسه حق الإفتاء، محاولاً أن يقنع مستمعيه، بأن قتل المتظاهرين، في الشارع، يُعدُّ قصاصًا. قرأ الآية الكريمة: "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ". لكنه، مع ذلك، رأى انخذال ما يقول، وضعف تأثيره على مستمعيه. لحظتها، بان على وجهه أن ميقات ذهابه قد دنا. بعد أربعة أشهر ذهبت إليه اللجنة الأمنية، في مسجد القياد العامة، في 11 أبريل، لتخبره بقرار عزله، فوجدت رجلًا منهارًا. سمع الخبر الصاعق، وطأطأ رأسه، وابتلع حسرته، وبدأ رحلة انزلاقه في نفق النسيان، تطارده لعنات الشهداء الذي ماتوا، والأحياء الذين عُذِّبوا، والذين تشردوا، في حروبه العبثية، على مدى ثلاثين عامًا. لكن، لم تأخذ اللجنة الأمنية أية عبرة من سقوط البشير، ولم تتعظ من فشل القنص العشوائي للمتظاهرين، الذي جرى على مدى أربعة أشهر، فقامت في الثالث من يونيو 2019، بما هو أبشع. نسيت اللجنة الأمنية درس البشير، على جدته، فغدرت بالشباب النائمين، الغافلين، في ساحة الاعتصام، وقتلت منهم المئات في ساعةٍ واحدة. "حكمةٌ بالغةٌ، فما تُغني النذر". الأكثر غرابةً وإيلامًا مما فعلته اللجنة الأمنية، هو ما رشح من أن مدنيين، حزبيين، وبعضًا من كهنة السلطان، ومعهم بعضٌ من رجال القضاء، شاركوا في قرار فض الاعتصام. وهو قرار ترتبت عليه واحدةٌ من أكبر المذابح، فظاعةً، وخسةً، ونذالةً، في التاريخ. مذبحةٌ مورس فيها قتل العزل بدمٍ بارد، واغتصاب الفتيات، وإلقاء الجثث في النيل، وأرجل أصحابها مشدودٌ وثاقها إلى كتلٍ أسمنتية. وربما يكون بعضهم قد أُلقى ببعضهم، في النيل، وهم لا يزالون أحياء. أولياء أمور هؤلاء الشهداء، وكل صاحب ضميرٍ حيٍّ، في هذه البلاد، وما أكثرهم، في انتظار ما تسفر عنه أعمال لجنة التحقيق. علَّ ذلك يبرئ الجروح الغائرة، التي خطتها تلك المذبحة البشعة، في نفس كل سوداني وسودانيةٍ.
"حصان طروادة" الانتخابات المبكرة
التحول الذي جرى عقب ثورة ديسمبر 2019، لا يشبه التحولين اللذين سبقاه، في أكتوبر 1964، وأبريل 1985. في أكتوبر 1964، رضي الجيش أن يسلِّم السلطة بلا مقاومةٍ تذكر، وترك الأمر للمدنيين. غير أن الفترة الانتقالية، لم تصمد عقب أكتوبر 1964، سوى أربعة أشهر، فقط. ضغط الحزبان الكبيران، على رئيس الوزراء، سر الختم الخليفة، فقدم استقالته، منهيًا الفترة الانتقالية. وكانت دوافع الضغط، إلى جانب عجلة الحزبين الكبيرين، المعتادة، للوصول إلى السلطة، ما وضح من اختطاف الشيوعيين للثورة، عبر جبهة الهيئات. ومحاولتهم جعل أكتوبر، ثورةً جماهيريةً يساريةً، تستخدم الشرعية الثورية لتمكين العمال والمزارعين، ومن ورائهم القوى الحديثة، يسارية الطابع. الآن، يعيد التاريخ نفسه، فلقد قال السيد الصادق المهدي، منذ أول يومٍ للحكومة الانتقالية: "إذا فشلت الحكومة الانتقالية سنذهب إلى انتخابات مبكرة". وقبل أربعة أيام، كان العنوان العريض لصحيفة "صوت الأمة"، تصريحٌ لمحمد الجزولي يدعو فيه الجيش للتدخل لتصحيح مسار الثورة، على حد قوله. وهكذا أصبح الجزولي، المقرب من قطر، وحزب الأمة، في مركبٍ واحد. أيضًا سيطر الجيش على الفترة الانتقالية، التي أعقبت انتفاضة أبريل 1985. وقد حمد كثيرون، للفريق سوار الدهب، تخليه عن السلطة، بنهاية الفترة الانتقالية، وتسليم الحكم للمدنيين. لكن، فات على هؤلاء، أن سوار الذهب لم يفعل ذلك، إلا بعد أن أفرغ الثورة من مضامينها التي حملتها شعاراتها. ونفَّذ بدلا عنها، خطة الجبهة القومية الإسلامية، بمساعدة، رئيس الوزراء الدكتور، الجزولي دفع الله، القيادي في الجبهة القومية الإسلامية. عمومًا، لم تكن الديموقراطية الثالثة، سوى فترةٍ للإعداد للوثوب إلى السلطة، مارست فيها الجبهة القومية الإسلامية، مختلف الأساليب لهدم الديمقراطية، تمهيدًا لانقلابها العسكري، الذي نفذته في يونيو 1989. عسكريو الديموقراطية الرابعة
لعب العسكر في كل فترةٍ أعقبت واحدةً من الثورات الثلاث، دورًا مختلفًا عن سابقه. ويمكن القول، إن أعقد وأخطر وضعٍ، في علاقة العسكريين بالمدنيين، لهو الذي بدأنا نشهد فصوله، منذ إزاحة الرئيس البشير. فالقوى حاملة السلاح تحولت في فترة حكم البشير إلى مؤسسة اقتصادية، بنخبٍ ثريةٍ، أصبحت جزءًا من نسيج النخب النيلية، الثرية، التي سيطرت على موارد الدولة السودانية منذ الاستقلال. فلو نظرنا إلى تأثير هذه الوضعية الجديدة، غير المسبوقة، المتعلقة بثروات العسكريين، وأضفنا إليها تورطهم في مجزرة القيادة العامة، وربما، تورط بعضهم في فظائع دارفور، وخشيتهم من المحاكمات، فسوف يتضح لنا جليًّا، صعوبة فك يد العسكر من السلطة.
لفك يد العسكر من السلطة، وإعادة الدولة السودانية إلى وحدتها العضوية، هناك طريقان، فيما أرى. الطريق الأول: حدوث تسوية، ومصالحة شاملة، تحقق العدالة لأهل القتلى، وتبرئ الجراح، وتجبر الأضرار، وتزيل الدولة الموازية. وربما اقتضى إزالة الدولة الموازية، منح كبار العسكريين، والأمنيين، في حالة التقاعد، مناصب رفيعة ومخصصاتٍ مغريةٍ، في الشركات شبه الحكومية، التابعة للجيش، والأمن، والشرطة، بعد أن تصبح تحت إشراف الدولة ورقابتها. فمن البديهي جدًا ألا يتخلى صاحب الامتياز عن امتيازه، بلا مقابل، خاصةً إن كان يملك القوة العسكرية. ولو كان أصحاب الامتيازات يتنازلون عن امتيازاتهم، هكذا، لتحققت العدالة والمساواة في العالم، منذ قرون، وقرون، ولما احتاجت الشعوب أن تثور، أصلا.
لن تصبح الدولة السودانية دولة إلا بالقضاء على الدولة الموازية، وأن يصبح كل شيءٍ خاضعًا للسلطة التنفيذية. قد يستغرب كثيرون هذا التدبير، بل وربما يستنكرونه، إلا أنه تدبيرٌ استثنائي، القصد منه فك حالةٍ مستحكمة الاستغلاق. لقد كان من الضروري أن تشمل المفاوضات منذ البداية، تفكيرًا في مثل هذا التدبير. غير أن الذين أداروا المفاوضات الماراثونية، عقب الثورة، لم يملكوا المعرفة، والحكمة، والشجاعة. لقد انصرفوا، في نشوة النصر الجزئي، إلى الأمور الإجرائية، الهامشية، وتجنبوا مناقشة العقد الرئيسية، التي تشكِّل ألغامًا مدمرة. ظنوا أن الوثيقة الدستورية، كما هي جميلةٌ على الورق، ستكون، بالضرورة، جميلةً على الواقع.
ستبقى كفة القوى التقليدية راجحة
إذا جرى رفض المقترح الأول من جانب العسكريين، أو المدنيين، أو منهما معاً، فإن الطريق الثاني، سوف يفرض نفسه بنفسه. هذا الطريق الثاني، غدت ارهاصاته واضحةً، تتمثل في هذا التحالف الضمني بين العسكريين، بمؤسساتهم الأربع: الجيش، والدعم السريع، والشرطة، والأمن، وبين الحزبين الكبيرين، (الأمة والاتحادي)، إضافة إلى طيف الإسلاميين، العريض. ولسوف يسيطر هذا التحالف الضمني، على المجلس التشريعي المرتقب. وسيكون هو الذي يضع صيغة السلام مع الحركات المسلحة، وفقًا لما يراه. كما سيسيطر على مفوضية الانتخابات، ويتحكم في وضع قانونها، وتقسيم دوائرها. يضاف إلى ذلك، أن حكومة "قحت"، أضحت أقرب ما تكون إلى الحكومة الصورية؛ فهي بلا سلطة قرار في الشؤون ذات الأهمية الكبيرة. كما جرى تقييدها، بإحكام، على مقعد الإملاق الدائم. فالمال، كله، في الجانب الآخر من الملعب، ومعه القوة العسكرية، وأذرع الدولة العميقة، والخبرة الطويلة. لقد استهانت قوى الحرية والتغيير، المتنازعة فيما بينها، بقوة خصومها. كما أهملت العقد العصية على الحل. لذلك، خسرت التفاوض، وخرجت بورقةٍ مكتوبةٍ بإنشاءٍ حسن، يصعب جدًا تحقيق بنودها، على الأرض. ولسوف يجعل هذا الوضع، نتيجة الانتخابات القادمة محسومةً لصالح اليمين التاريخي، مثلما كان الحال في الديمقراطيات الثلاث، اللواتي مضين. لكن، لا بد من القول، إن داخل هذا الطريق الثاني احتمالٌ آخر، أكثر بشاعة، وهو قتل التطلع للتحول الديمقراطي، عبر خطواتٍ بطيئةٍ، محسوبةٍ، وإنشاء نظامٍ شبيه بنظام السيسي، في مصر، بهندسةٍ من القوى الإقليمية.
لا مستقبل لليسار بصيغه الراهنة
لقد ظل الصراع، عبر تاريخ السودان المستقل، سجالاً بين القوى التقليدية، والقوى الحديثة. وقد كسبت القوى التقليدية، حتى الآن، كل جولات الصراع ضد القوى الحديثة. تتحالف قوى اليمين مع بعضها، في المنعطفات الكبيرة، لأنها تتشارك كراهية اليسار. كما أن ما يجمعها، أيضًا، هو حب الرضاع من ثدي الدولة. فالنخب المالية عقب الاستقلال، كانت منحصرةً في حزب الأمة، وحزب الاتحاديين. ثم جاء الإسلاميون فأصبحوا هم الدولة، وأفقروا الجميع، بلا استثناء. يُضاف إلى ذلك، أنهم خلقوا من القوى حاملة السلاح، نخبةً ماليةً جديدةً، بالغة القوة. لكن، رغم أن هذه القوى، تجمعها كراهية اليسار، إلا أنها لا تملك إلا أن تصارع بعضها، مستقبلا، ودونكم غدر الإسلاميين بحزب الأمة، وبالاتحاديين. لذلك، غالبًا ما تصبح الديمقراطية الرابعة، مجرد صراعٍ على المغانم، والمناصب، مع إهمالٍ تامٍ لقضايا بناء الدولة.
لقد كانت ثورة ديسمبر ثورةً عظيمة، لكنها لا تزال ثورةً ناقصة. قامت بالثورة كتلةٌ جماهيرية ٌضخمةٌ، شديدةُ الحيوية، لكنها تفتقر إلى شيئين: القيادة المدركة، واللحمة الصلدة بين الجماهير والقيادة. هذا ما لم يدركه بعمق، أهل النزعة اليساروية، الذين أداروا التفاوض، وهم لا يزالون يقتاتون من تاريخهم ومن مانيفستوهاتهم القديمة. وهو، أيضًا، ما لم يدركه، شباب الإسلاميين، ذوي التفكير الأقرب إلى اليسار، الذين يصب جهدهم، رغمًا عنهم، في جيب اليمين الكبير. على شباب اليسار، وشباب الإسلاميين، وشباب الأحزاب التقليدية، واللامنتمين حزبيًا، أن يفكروا في انتاج صيغةٍ، مشتركة، لليسار. لكن، لكي تكون راسخة وفاعلة، لن تستغني، هذه الصيغة، عن البعد الروحاني.
سوف تزداد الشقة بين قحت وقاعدتها الجماهيرية، اتساعًا، بسبب إفلاس الحكومة. وبسبب العمل الدؤوب لقوى اليمين، كلٌّ من موقعه، في التسبب في الغلاء الطاحن، لخلق تذمُّرٍ شعبيٍّ واسعٍ، لإفشال الفترة الانتقالية. يقول الواقع القائم الآن، وبوضوحٍ شديد، أن إجبار العسكريين على الرضوخ للشرعية الثورية، قد فشل. والأمثل هو أن تتحول جماهيرية الثورة الضخمة، التي شهدناها، إلى وعيٍ مستحصد، وتصبح قوةً انتخابيةً ضاربةً، تفوز بالانتخابات، وتفرض برنامج الثورة، عبر صندوق الاقتراع. وهذا ما لم ينشغل به، من قوى الثورة، أحدٌ بعد. لذلك، سيفوز اليمين بالانتخابات القادمة، بتحالف عريضٍ بين مكوناته، كالعادة. وستصبح الديمقراطية الرابعة، كما ذكرت، نسخةً مكررة، إلى حدٍّ كبيرٍ، من الديمقراطيات الثلاث اللواتي مضين. أما الاحتمال الأسوأ والأبشع، كما ذكرت سلفًا، أيضأ، هو أن يجري قطع الطريق على التحول الديمقراطي، بخلق نموذجٍ شبيه بنظام الرئيس السيسي، في مصر، تنحصر أجندة في خدمة استراتيجيات الدول الخليجية. وفي كل هذه الأحوال، والاحتمالات، يبقى الطريق، لاستئناف الثورة، من جديد مفتوحًا. على الأقل، من الناحية النظرية.
|
Post: #12
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-12-2020, 07:06 AM
Parent: #11
مسلسل الأزمات
النور حمد
صحيفة التيار 12 أبريل 2020
لا يوجد في دول الجوار في شرق إفريقيا، صوف خبز، أو وقود، أو غاز؛ لا في كينيا، ولا يوغندة، ولا إثيوبيا، ولا تنزانيا. أما نحن، فقد ظل هذا وضعنا، منذ أن أدخلنا جعفر نميري، بسياساته الاقتصادية المرتجلة، في منتصف سبعينات القرن الماضي في هذا الجحر. فمنذ خمسة وأربعين عامًا، ونحن ندور في هذه الدائرة الشريرة، باستثناء وقتٍ قصير، هو فترة عوائد النفط، قبل انفصال الجنوب. إذن، لابد أن هناك علةٌ بنيوية في الطريقة التي ظللنا ندير بها بلادنا. فنحن بلاد الكيد، والكيد المضاد. وهذه علة مُقعدة، جعلت رأسماليينا، ضمن الأسوأ في العالم، ابتداءً من كبار الحيتان، وانتهاء بأصحاب الكناتين، في الأحياء الشعبية. كما جعلت سياسيينا، ضمن الأسوأ في العالم النامي. ودونكم حالنا، وحال دول الجوار، التي تعد أفقر منا، بما لا يقاس، من حيث الموارد.
بدأت قوى الثورة المضادة تضرب، منذ أن تسلمت الحكومة الانتقالية مهام الحكم، على وتر الأزمات، لتدلل على أن الحكومة الانتقالية حكومةٌ فاشلة. هذا، على الرغم من أن هذه الأبواق الإنقاذية المأجورة، التي تقود، هذه الحملة القذرة، تعرف، أكثر من غيرها، إنها، إنما تمارس تدليسًا، صريحا. ولو أننا رجعنا إلى أرشيف صحفهم الباهتة، هذه، التي ما كانت، طيلة فترة حكم الإنقاذ، سوى "صوت سيِّدِه"، لوجدناهم قد أنفقوا زمنًا طويلاً، في مناقشة نفس هذه الأزمات، ولكن، بطريقتهم الحنونة، الملساء، المحسوبة. لقد خلقت الإنقاذ دولةً موازيةً، أفقرت بها الدولة الأصلية، فتركتها مجرَّد قوقعةٍ فارغة. الذي كان يحدث، في العهد البائد، حين تشتد الأزمات، أن الرئيس يتصل بأركان الدولة الموازية، ويطلب منهم إنقاذ الموقف، فيستجيبون صاغرين. كما رأينا كيف تاجر في القضايا الإقليمية، فهجر حلفًا، ودخل حلفًا مضادًا، لقاء بضع أعطياتٍ، نقديةٍ أو عينية، من ملوك وأمراء الخليج. نعم، نحن نعاني الآن، معاناة فظيعة، ولكن بسببكم أيها الانقاذيون. ولا مهرب لنا من احتمال المعاناة، حتى ننجح في إدماج الدولة الموازية، في الدولة الأصلية.
هناك وضعٌ يسميه الغربيون "النبوءة التي تصدق نفسها، بنفسها" Self-fulfilled prophecy. أي، أن يخلق الشخص الأزمة ثم يقول: ألم أقل لكم إن هذا سوف يحدث؟ تعلم أبواق العهد البائد، قبل غيرها، أن الدولة الموازية لا زالت قائمة. وأن الحكومة الانتقالية لم تسيطر بعد على موارد هذه الدولة الموازية. فالدولة بقيت منهوبةً على مدى ثلاثين عاما. لكنهم، مع ذلك، يريدون للحكومة الانتقالية أن تجترح معجزة، تنزل بها عليها مائدةٌ من السماء، وتنفرج الأزمات في لمح البصر. يحدثوننا وكأن المصانع كانت دائرة، وكأن عوائد الصادر، من بيع الذهب، والسمسم، والماشية، وغيرها من الصادرات، كانت تعود إلى خزينة الدولة. إنهم، يعرفون، كما يعرفون جوع بطونهم، أين هي الدولة الموازية الآن. لكنهم لا يشيرون إليها، لأمرٍ في نفس يعقوب، فالغرض مرض.
|
Post: #13
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-14-2020, 00:51 AM
Parent: #12
مدارس أم كناتين؟
النور حمد
صحيفة التيار 13 أبريل 2020
ما ينبغي أن يمر يومٌ، من هذه الفترة الانتقالية، من غير أن نتذكر فيه شيئًا، من ركام الانقاذ، من البلايا. فإبقاء ذاكرتنا حاضرةً، ومتَّقدة، على الدوام، يمنع الارتداد إلى الماضي، ويحول دون تكرار أخطائه. اندفعت الإنقاذ في خصخصة التعليم، اندفاعًا أهوجًا. رغم أن معظم كوادر الإسلاميين هم من أبناء الريف، الذين تلقوا تعليمًا مجانيًا في مدارس داخلية، أنفقت على معاشهم وسكنهم، بل وحتى على ترحيلهم إلى ذويهم، في العطلات. إلا أنهم تنكروا لهذا الكرم المجتمعي، الذي لولاه ما وصلوا إلى السلطة. بل، ما عرفوا عيش المدن، أصلا. ما أن أمسك الإسلاميون بالسلطة، التفتوا، إلى هذا النظام التعليمي التكافلي، العظيم، وقاموا بهدمه. فتحول التعليم من حق أساسي، إلى امتياز، لا يناله إلا من ملك المال. ومن لا يملك المال، عليه أن يبعث بفلذات كبده إلى المدارس الحكومية، حيث جعلوا التعليم شبيهًا بعدمه.
لأمرٍ في نفس يعقوب، انصاع الإسلاميون لسياسات البنك الدولي، في الخصخصة، بصورةٍ تتجنب أغلبية الدولة النامية تنفيذها بحرفية. ولم يكن غرض اتباع نهج الخصخصة تحقيق النمو، كما تزعم الرأسمالية. وإنما فتح الباب لمنسوبي الحركة الإسلامية، لامتلاك المدارس الخاصة، والمشافي الخاصة، ليغتني أفراد التنظيم. لم يكفهم احتكار مناصب الدولة، والتحكم في سلطة القرار، فأضافوا إلى ذلك، تخريب التعليم، والنظام الصحي، حتى يتحول الناس إلى مؤسساتهم، الصحية والتعليمية ذات الطبيعة التجارية. استخدم الإسلاميون سلطة القرار لتكسير مرافق الملكية العمومية، لتتحول الدولة برمتها، إلى مرتعٍ للنهب المنظم.
للمدرسة معايير تقوم عليها بنيتها المادية؛ من مباني، ومرافق، وميادين، إلخ. وتحسب المساحة الكلية للمدرسة بصورةٍ تتناسب مع عدد الطلاب. لذلك لا ينبغي أن يسمح بتحويل عمارة أُنشئت أصلا لتكون سكنيةً، أو تجاريةً، إلى مدرسة خاصة. لأن لحجرات الدراسة مقاييسها، وللممرات مقاييسها، وللميادين الرياضية المختلفة، نسبتها المتوافقة مع مساحة المبني، ومع عدد الطلاب. فلكل طالب مقدار محدد من الأمتار المربعة، يجري على أساسه حساب المساحة الكلية للمدرسة. فالمدرسة ليست مكانًا لحشو الأدمغة بالمعلومات. وإنما مجالٌ محسوبٌ، بدقة، لتحقيق النمو على مختلف الصُعد. فهناك النمو البدني، والنفسي، والعقلي، والجمالي، والروحاني، وغيرها. ويجب أن يخدم تصميم المدرسة، وتوفر مرافقها الفرصة لكل هذه الجوانب المتعلقة بالنمو.
أفقر الإسلاميون المدارس الحكومية القائمة، من كل شيء، حتى أضحت أشبه بالخرائب. كما أفقروا معلميها، بعد أن اجتذبوا كثيرين منهم، إلى مدارسهم الخاصة. ولم يفت عليهم أن يجعلوا من التعليم وسيلة للمباهاة، كما الأعراس. ينبغي، أن تعمل الفترة الانتقالية، وما يليها على مراجعة التعليم الخاص، وإعادة تأهيل التعليم الحكومي من جديد. لا بأس أن يكون هناك تعليم خاص، لكن، على أسس جديدة. ينبغي أن تنشأ المدرسة الخاصة مستوفية لكل المواصفات منذ البداية. فالمدرسة ليست كنتينًا يُفتح في أي مبنى أو بيت في الحي.
|
Post: #14
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-15-2020, 05:51 PM
Parent: #13
منظمة الدعوة الإسلامي
النور حمد
صحيفة التيار 15 أبريل 2020
ألاعيب الإنقاذيين، في خلق الدولة الموازية، ألاعيبٌ متنوعةٌ، وماكرة. من ضمنها، ما سُميت "منظمة الدعوة الإسلامية"، التي أثار قرار حلها ومصادرة أملاكها، زوبعةً في الداخل السوداني، وفي الخارج. جرى إنشاء هذه المنظمة في بداية الثمانينات، من القرن الماضي، واتخذت من السودان دولةَ مقرٍّ لها. تستخدم هذه المنظمة العمل الإغاثي غطاءً لعملها الرئيس، وهو نشر الإيديولوجيا الإخوانية، مستعينةً، جزئيًا، بموارد الدولة السودانية، التي وضعها الانقلاب العسكري تحت أيدي الإنقاذيين. لذلك، لا غرابة، أن جرى تسجيل بيان انقلاب البشير، داخل مباني هذه المنظمة.
لو كانت هذه المنظمة تابعةً للحركة الإسلامية السودانية، وممولةً من حر مالها، لما اعترضنا عليها، ولا على ترويجها إيديولوجيا هذه الحركة. لكن، المنظمة ذراعٌ لتنظيمٍ عابرٍ للأقطار، يعمل في عشرات البلدان. فالفكرة الجوهرية، التي تقف وراءها، وأساليب عملها، تعرض الأمن القومي السوداني للخطر. يقول موقع المنظمة على شبكة الإنترنت: "تضم منظمة الدعوة الإسلامية عدة مؤسسات بينها مؤسسة تأهيل وتدريب الدعاة، التي أُنشئت عام 2008، وهدفها تدريب الدعاة - رجالا ونساء - بحسب الوسائل العلمية الحديثة وإعدادهم لنشر الدعوة الإسلامية ". ويقول الموقع أيضًا: "كما تضم "المؤسسة الأفريقية للتعليم"، التي أنشئت عام 2007 وهي متخصصة في تعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية بين "مناطق التداخل اللغوي والحضاري في أفريقيا". ويقول الموقع، أيضًا: "أما معهد مبارك قسم الله للبحوث والتدريب الذي أنشئ عام 1989 فقد بدأ كمركز لدراسة التنصير ورصد النشاط المضاد للدعوة الإسلامية، ثم أصبح معهدًا شبه أكاديمي يقدم شهادة الدبلوم في الدعوة الإسلامية، قبل أن يتحول إلى "مؤسسة متخصصة في مجال البحوث والتدريب لرفع قدرة ومهارة الدعاة". راجع الرابط: https://bit.ly/3ejnk7ahttps://bit.ly/3ejnk7a
استخدم التياران السلفي والإخواني، منذ الطفرة النفطية، المال الخليجي للتغلغل الأيديولوجي، والمذهبي، في إفريقيا. فخلقا القلاقل، وزعزعا السلم الاجتماعي، في البلدان الإفريقية. وللمرء أن يتساءل ما الذي أنجزه السلفيون والإخوان، للإسلام، في الجزيرة العربية، ليأتوا للتبشير به في إفريقيا؟ فإسلام إفريقيا، في مجمله إسلامٌ صوفيٌّ، قيميٌّ، متسامحٌ، لا ينسجم إطلاقًا مع طبيعة هذين التيارين المتطرفين. ورغم أن للسودان وزارةٌ للتربية والتعليم، ووزارةٌ للشؤون الدينية والأوقاف، إلا أن المنظمة، جعلت من نفسها مؤسسةً موازيةً، تقوم بعملهما، منفردةً، لتبقى خارج دائرة الرقابة العامة. فهي تقوم بالتعليم، وبإعداد الدعاة، منفردةً، لأنها، ببساطة، تريد أن يصبح الطلاب والدعاة "إخوانًا مسلمين". فعملها سياسي، غرضه اختراق النسيج الثقافي للدول. ولقد فعل السيد الصادق المهدي خيرًا، بوقوفه مع قرار حل هذه المنظمة. وأرجو أن يفتح وضع الأيدي على ملفاتها، الطريق إلى إجلاء الحقيقة حول الاتهامات التي ما فتئت تتردد حول قيام مؤسسات سودانية بإعداد المتطرفين؛ مثال حركة الشباب الصومالي، وحركة بوكو حرام. واجبنا، جميعًا، أن نبذل قصارى جهدنا، لغسل تهمة الإرهاب عن هذا البلد المسالم.
|
Post: #15
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-26-2020, 09:49 PM
Parent: #14
*
|
Post: #16
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-26-2020, 09:54 PM
Parent: #15
الحراك المضاد للثورة
النور حمد
صحيفة التيار 16 أبريل 2020
نبهني أحد الأصدقاء قبل ضعة أيام، إلى أن عبارة "الثورة المضادة"، تحمل في أحشائها تناقضًا. فالفعل المضاد للثورة، لا يمكن أن يوصف، هو الآخر، بأنه ثورة. ولأن ملاحظته هذه، راقت لي، فقد جعلت عنوان هذه المقالة، "الحراك المضاد للثورة"، وليس "الثورة المضادة". الحراك المضاد للثورة، فعلٌ ملازمٌ لكل ثورة. فما من ثورةٍ في التاريخ، إلا وكان هناك حراكٌ مضادٌ لها. فالثورة، في جملة الأمر، تريد أن تجعل الناس شركاء في سلطة القرار، ومن ثم شركاء في الثروة. والوضع الذي تتفجر الثورة ضده، لهو الوضع الذي سلب الناس سلطة القرار. ومن ثم، حصر الثروة في الممسكين بمفاصل السلطة، إضافة إلى داعميهم، الذين يقفون في صفهم. لكن، من المهم، جدًا، أن نتبين أنه لا يوجد دائمًا خطٌ فاصلٌ، واضحٌ مئة في المئة، بين الثورة وبين معارضي الثورة. فهناك منطقةٌ رماديةٌ يمكن أن يصبح فيها البعض داعمين للثورة، ومعارضين لها، في نفس الوقت. فعندما يصبح التحول قدرًا لا فكاك منه، ينضم إلى ركبه نفرٌ من غير المؤمنين به، لإيجاد مكانٍ لهم في الحالة الجديدة.
عمومًا، ليس كل من يقف مع الثورة، هو بالضرورة مؤمنٌ إيمانًا، قاطعًا، بأهدافها. فكما يلتصق الانتهازيون بالنظام الفاسد، الذي قامت عليه الثورة، يلتصقون أيضًا بالثورة. لا من أجل نصرة أهدافها، كما هي في أذهان الجماهير الثائرة، وإنما لإعادة موضعة منظومة مصالحهم، في إطار النظام الذي سيولد. وربما تجهر مثل هه الفئة بدعم الثورة، في حين تحتفظ بخطوط للتواصل، عبر الأبواب الخلفية، مع القوى التي تريد أن تجهض الثورة، وتحول بينها وبين تحقيق أهدافها. ودعونا ننظر إلى الطريقة التي تكونت بها ما سُمِّيت "قوى الحرية والتغيير"، وكيف أنها تنازعت أمرها فيما بينها، حتى أصبحت، إلى حدٍّ كبيرٍ، عقدًا منتثرًا بلا خيطٍ ناظمٍ، يربط بين حباته.
لابد لأي ثورةٍ من نخبةٍ تقودها. لكن، من الغفلة بمكان أن نظن أن أهداف الثورة، كما هي في خيال الجماهير، وتطلعاتها، تكون مطابقةً، بالضرورة، لما في خيال النخب، وتطلعاتها. فالثورة سيرورة تنمو من داخل ذاتها، لتصحح أوضاعها، كل حينٍ، وهي تسير نحو أهدافها. وليس هناك ثورة مثَّلت حدثًا حاسمًا، أنجز كل شيءٍ، في ضربة واحدة. وإنما الثورة سيرورة تنداح على مدى زمني، قد يطول، وقد يقصر. تدخل الثورة في جدل مع الواقع المحيط بها، وهي تسير نحو أهدافها، فيشحذ هذا الجدل أدواتها، ويصحح مسارها، ويوفر لها فرصًا لمراقبة النخب القائدة، ومحاسبتها، وربما يقتضي أحيانًا تغييرها، كليا. لذلك، من الضروري ألا ينحصر التفكير والجهد، في إفشال مخططات الحراك المضاد للثورة، فقط. وإنما أيضًا في محاصرة النخب التي تقود الثورة لكيلا تتقارب، بقصدٍ، أو بغفلةٍ، مع خطط الحراك المضاد للثورة، الظاهر منها، والمستتر.
|
Post: #17
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-26-2020, 09:59 PM
Parent: #16
الشرعية الثورية والشرعية الدستورية
النور حمد
صحيفة التيار 22 أبريل 2020
الشرعية الثورية حالةً، استثنائيةً، مؤقتةً، ولا ينبغي أن تصبح حالةً مستدامة. فإذا كانت الثورة تهدف أصلًا إلى إحداث تحولٍ ديمقراطي، فإن الشرعية الثورية تبقى، بالضرورة، حالةً مؤقتةً، عابرة. ولا تكون الشرعية الثورية حالةً مستدامةً، إلا في حالة الثورة التي تود أن تأتي بنظامٍ شمولي، كالنظام الشيوعي، الذي يهدف إلى ترسيخ واستدامة ديكتاتورية البروليتاريا، مثلا. لكن في الحالتين، تتحقق الشرعية الثورية، نتيجةً لتفويض الشعب، قيادة الثورة، عقب ثورةٍ شعبيةٍ، حاسمةٍ، أن تشرِّع، وتفعل ما تراه خادمًا لأهداف الثورة. فالثورة إنما تعني التقويض الكامل لأركان النظام القديم، أو هكذا ينبغي أن تكون. أي، أنها تلغي القوانين، والإجراءات، التي كانت تسند فساد النظام القديم، وتحول بين الشعب وبين إنفاذ إرادته.
إذن، لابد أن نفرق بين الشرعية الثورية، التي تأتي نتيجةً لثورةٍ تهدف إلى تحقيق تحولٍ ديمقراطي، وبين الشرعية الثورية التي تأتي نتيجة لثورةٍ تريد تغيير النظام القديم بنظام شمولي ديكتاتوري. فالثورة التي تهدف إلى تحول ديمقراطي، تنتقل من الشرعية الثورية، إلى الشرعية الدستورية. أما التغيير على نسق النظريات الشمولية، كالشيوعية، أو ما يشبهها، كالبعث العربي، بكل أطيافه، فإنها تنحو إلى جعل الشرعية الثورية، حالةً مستدامة. ولقد بلغ التدليس، في هذا المنحى، درجةً سُمِّيت بها الانقلابات العسكرية، التي حدثت في البلدان العربية، "ثورات". من أمثلة ذلك: انقلاب جمال عبد الناصر في مصر، الذي سمي، "الثورة المصرية". وانقلاب البعث في العراق، الذي سمي "ثورة تموز". وانقلاب سوريا، الذي سُمي "ثورة آذار"، وقد تلته انقلابات أخرى. وكذلك انقلابا نميري وقذافي، في كل من السودان، وليبيا، اللَّذيْن سميا، "ثورة مايو"، "وثورة الفاتح من سبتمبر". وأيضًا، انقلاب الإسلاميين في السودان الذي أسموه، "ثورة الإنقاذ". أما ثورة الخميني التي كانت، بالفعل، ثورةً شعبيةً، فقد استبدلت النظام الملكي، الشمولي، بديكتاتوريةٍ، دينيةٍ، مدنية.
يبدو أن طيف اليسار العريض، الذي سيطر على قوى الحرية والتغيير، وأصبح الحاضنة السياسية، للحكومة الانتقالية، التي أعقبت ثورة ديسمبر العظيمة، لا يزال أسيرًا للتصورات الماركسية/البعثية للشرعية الثورية. انشغل اليسار بالفترة الانتقالية، وكأنه سيمارس شرعيةً ثوريةً مستدامة. لم تنشغل أي من مكونات قوى الحرية والتغيير، بما يعقب الفترة الانتقالية. فإذا لم تتحول الثورة، عبر تحالفٍ ثوريٍّ عريض، إلى قوةٍ انتخابيةٍ، كاسحةٍ، تكسب الانتخابات المقبلة، فإن كل الإجراءات التي جرى اتخاذها، عن طريق الشرعية الثورية، تبقى عرضةً للنقض بواسطة القوى المعارضة للثورة، حين تملك هي الشرعية الدستورية. ولا يبدو، إلى الآن، أن هناك ما يمكن أن يحول بين القوى المعارضة للثورة، وبين أن تكسب أول انتخاباتٍ تجري في الديمقراطية الرابعة. حين يحدث هذا، وهو الأرجح عندي، فإن الأمور ستعود، كرة أخرى، إلى نقطة الصفر. أثبت دروس التاريخ، أن قصر النظر، والانحصار في الأهداف الآنية، والتشرذم، تجهض الثورات.
|
Post: #18
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-26-2020, 10:00 PM
Parent: #16
الشرعية الثورية والشرعية الدستورية
النور حمد
صحيفة التيار 22 أبريل 2020
الشرعية الثورية حالةً، استثنائيةً، مؤقتةً، ولا ينبغي أن تصبح حالةً مستدامة. فإذا كانت الثورة تهدف أصلًا إلى إحداث تحولٍ ديمقراطي، فإن الشرعية الثورية تبقى، بالضرورة، حالةً مؤقتةً، عابرة. ولا تكون الشرعية الثورية حالةً مستدامةً، إلا في حالة الثورة التي تود أن تأتي بنظامٍ شمولي، كالنظام الشيوعي، الذي يهدف إلى ترسيخ واستدامة ديكتاتورية البروليتاريا، مثلا. لكن في الحالتين، تتحقق الشرعية الثورية، نتيجةً لتفويض الشعب، قيادة الثورة، عقب ثورةٍ شعبيةٍ، حاسمةٍ، أن تشرِّع، وتفعل ما تراه خادمًا لأهداف الثورة. فالثورة إنما تعني التقويض الكامل لأركان النظام القديم، أو هكذا ينبغي أن تكون. أي، أنها تلغي القوانين، والإجراءات، التي كانت تسند فساد النظام القديم، وتحول بين الشعب وبين إنفاذ إرادته.
إذن، لابد أن نفرق بين الشرعية الثورية، التي تأتي نتيجةً لثورةٍ تهدف إلى تحقيق تحولٍ ديمقراطي، وبين الشرعية الثورية التي تأتي نتيجة لثورةٍ تريد تغيير النظام القديم بنظام شمولي ديكتاتوري. فالثورة التي تهدف إلى تحول ديمقراطي، تنتقل من الشرعية الثورية، إلى الشرعية الدستورية. أما التغيير على نسق النظريات الشمولية، كالشيوعية، أو ما يشبهها، كالبعث العربي، بكل أطيافه، فإنها تنحو إلى جعل الشرعية الثورية، حالةً مستدامة. ولقد بلغ التدليس، في هذا المنحى، درجةً سُمِّيت بها الانقلابات العسكرية، التي حدثت في البلدان العربية، "ثورات". من أمثلة ذلك: انقلاب جمال عبد الناصر في مصر، الذي سمي، "الثورة المصرية". وانقلاب البعث في العراق، الذي سمي "ثورة تموز". وانقلاب سوريا، الذي سُمي "ثورة آذار"، وقد تلته انقلابات أخرى. وكذلك انقلابا نميري وقذافي، في كل من السودان، وليبيا، اللَّذيْن سميا، "ثورة مايو"، "وثورة الفاتح من سبتمبر". وأيضًا، انقلاب الإسلاميين في السودان الذي أسموه، "ثورة الإنقاذ". أما ثورة الخميني التي كانت، بالفعل، ثورةً شعبيةً، فقد استبدلت النظام الملكي، الشمولي، بديكتاتوريةٍ، دينيةٍ، مدنية.
يبدو أن طيف اليسار العريض، الذي سيطر على قوى الحرية والتغيير، وأصبح الحاضنة السياسية، للحكومة الانتقالية، التي أعقبت ثورة ديسمبر العظيمة، لا يزال أسيرًا للتصورات الماركسية/البعثية للشرعية الثورية. انشغل اليسار بالفترة الانتقالية، وكأنه سيمارس شرعيةً ثوريةً مستدامة. لم تنشغل أي من مكونات قوى الحرية والتغيير، بما يعقب الفترة الانتقالية. فإذا لم تتحول الثورة، عبر تحالفٍ ثوريٍّ عريض، إلى قوةٍ انتخابيةٍ، كاسحةٍ، تكسب الانتخابات المقبلة، فإن كل الإجراءات التي جرى اتخاذها، عن طريق الشرعية الثورية، تبقى عرضةً للنقض بواسطة القوى المعارضة للثورة، حين تملك هي الشرعية الدستورية. ولا يبدو، إلى الآن، أن هناك ما يمكن أن يحول بين القوى المعارضة للثورة، وبين أن تكسب أول انتخاباتٍ تجري في الديمقراطية الرابعة. حين يحدث هذا، وهو الأرجح عندي، فإن الأمور ستعود، كرة أخرى، إلى نقطة الصفر. أثبت دروس التاريخ، أن قصر النظر، والانحصار في الأهداف الآنية، والتشرذم، تجهض الثورات.
|
Post: #19
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-26-2020, 10:01 PM
Parent: #15
الحراك المضاد للثورة
النور حمد
صحيفة التيار 16 أبريل 2020
نبهني أحد الأصدقاء قبل ضعة أيام، إلى أن عبارة "الثورة المضادة"، تحمل في أحشائها تناقضًا. فالفعل المضاد للثورة، لا يمكن أن يوصف، هو الآخر، بأنه ثورة. ولأن ملاحظته هذه، راقت لي، فقد جعلت عنوان هذه المقالة، "الحراك المضاد للثورة"، وليس "الثورة المضادة". الحراك المضاد للثورة، فعلٌ ملازمٌ لكل ثورة. فما من ثورةٍ في التاريخ، إلا وكان هناك حراكٌ مضادٌ لها. فالثورة، في جملة الأمر، تريد أن تجعل الناس شركاء في سلطة القرار، ومن ثم شركاء في الثروة. والوضع الذي تتفجر الثورة ضده، لهو الوضع الذي سلب الناس سلطة القرار. ومن ثم، حصر الثروة في الممسكين بمفاصل السلطة، إضافة إلى داعميهم، الذين يقفون في صفهم. لكن، من المهم، جدًا، أن نتبين أنه لا يوجد دائمًا خطٌ فاصلٌ، واضحٌ مئة في المئة، بين الثورة وبين معارضي الثورة. فهناك منطقةٌ رماديةٌ يمكن أن يصبح فيها البعض داعمين للثورة، ومعارضين لها، في نفس الوقت. فعندما يصبح التحول قدرًا لا فكاك منه، ينضم إلى ركبه نفرٌ من غير المؤمنين به، لإيجاد مكانٍ لهم في الحالة الجديدة.
عمومًا، ليس كل من يقف مع الثورة، هو بالضرورة مؤمنٌ إيمانًا، قاطعًا، بأهدافها. فكما يلتصق الانتهازيون بالنظام الفاسد، الذي قامت عليه الثورة، يلتصقون أيضًا بالثورة. لا من أجل نصرة أهدافها، كما هي في أذهان الجماهير الثائرة، وإنما لإعادة موضعة منظومة مصالحهم، في إطار النظام الذي سيولد. وربما تجهر مثل هه الفئة بدعم الثورة، في حين تحتفظ بخطوط للتواصل، عبر الأبواب الخلفية، مع القوى التي تريد أن تجهض الثورة، وتحول بينها وبين تحقيق أهدافها. ودعونا ننظر إلى الطريقة التي تكونت بها ما سُمِّيت "قوى الحرية والتغيير"، وكيف أنها تنازعت أمرها فيما بينها، حتى أصبحت، إلى حدٍّ كبيرٍ، عقدًا منتثرًا بلا خيطٍ ناظمٍ، يربط بين حباته.
لابد لأي ثورةٍ من نخبةٍ تقودها. لكن، من الغفلة بمكان أن نظن أن أهداف الثورة، كما هي في خيال الجماهير، وتطلعاتها، تكون مطابقةً، بالضرورة، لما في خيال النخب، وتطلعاتها. فالثورة سيرورة تنمو من داخل ذاتها، لتصحح أوضاعها، كل حينٍ، وهي تسير نحو أهدافها. وليس هناك ثورة مثَّلت حدثًا حاسمًا، أنجز كل شيءٍ، في ضربة واحدة. وإنما الثورة سيرورة تنداح على مدى زمني، قد يطول، وقد يقصر. تدخل الثورة في جدل مع الواقع المحيط بها، وهي تسير نحو أهدافها، فيشحذ هذا الجدل أدواتها، ويصحح مسارها، ويوفر لها فرصًا لمراقبة النخب القائدة، ومحاسبتها، وربما يقتضي أحيانًا تغييرها، كليا. لذلك، من الضروري ألا ينحصر التفكير والجهد، في إفشال مخططات الحراك المضاد للثورة، فقط. وإنما أيضًا في محاصرة النخب التي تقود الثورة لكيلا تتقارب، بقصدٍ، أو بغفلةٍ، مع خطط الحراك المضاد للثورة، الظاهر منها، والمستتر.
|
Post: #20
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-26-2020, 10:06 PM
Parent: #19
كان الهبوطُ أنعم ما يكون
النور حمد
صحيفة التيار 23 أبريل 2020
في أثناء تصاعد الحراك المعارض لحكم الإنقاذ، وتفرُّق وجهات النظر حول مساراته، شاع استخدام عبارة "الهبوط الناعم". ويُشار بالعبارة إلى القوى التي عارضت نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، مع بقية المعارضين، لكنها لم تغلق الباب تمامًا، أمام احتمال أن يأتي الحل نتيجة لتسويةٍ، من نوع ما، تحت تنامي مختلف الضغوط. لكن، الذي حدث، هو أن الثورة اشتعلت من حيث لم يحتسب أحد. وكانت مفاجأتها الفارقة، أنها اشتعلت، من المدن الإقليمية، ثم لحقت بها الخرطوم. برز تجمع المهنيين منظمًا لحركة الشارع، ودخلت على الخط، قوى الإجماع الوطني، ونداء السودان، ومجموعات أخرى، مكوِّنةً ما سُمِّيت، "قوى الحرية والتغيير"، (قحت). لكن، عقب سقوط البشير، ودخول العسكريين شركاء، بنصيب الأسد، تشقق ذلك التحالف العريض. وتعددت، وتقاطعت، خطوط الاتصال والانفصال، بينه وبين المكونات العسكرية.
"الهبوط الناعم" يقتضي، بالضرورة وجود مقابل له، هو "الهبوط الخشن". والهبوط الخشن يقتضي العنف. فالثورة الفرنسية، والثورة الأمريكية، والثورة البلشفية، في روسيا القيصرية، والثورة الصينية، والثورة الكوبية، كلهما، صاحبهما العنف. حقق هذه الثورات نصرًا حاسمًا بقوة السلاح، غض النظر عما انجزته، فيما بعد. فالثورة التي لا تحمل السلاح، فرصتها في النصر الحاسم، جد ضئيلة. ولقد تنتصر، لكن، في ظروفٍ غير ظروف السودان الحالية. عمومًا، ما دام السلاح مملوكٌ لدى الطرف الآخر، يصبح العبور عبر التفاوض، خيارًا لا مناص منه. وهذا هو ما حدث، على وجه التحديد، لثورة ديسمبر. لقد سقط عمر البشير في 11 أبريل 2019، لكن نظامه لم يسقط. فقد حدثت عقب سقوطه حادثة كولمبيا، وحدثت مجزرة الاعتصام البشعة، التي بها مال ميزان القوة لصالح العسكر. لكن، جاء موكب الثلاثين من يونيو 2019، فعدَّل ميزان القوة، واستمر التفاوض، إلى أن جرى التوقيع على الوثيقة الدستورية.
طيلة فترة العمل المعارض لنظام الانقاذ، كان هناك حديثٌ عن خيارات عديدة، من ضمنها "الانتفاضة المحمية بقوة السلاح". غير أن الخيار الذي فرض نفسه، بمحض الفضل الإلهي، كان خيار السلمية الصارمة، الكاملة، الذي أذهل العالم. لكن، لهذا الخيار العظيم، ثمنه، ومسؤولياته الجسيمة. ثمنه هو الصبر، والأناة، والابتعاد عن النزق، والطيش، وعن عنتريات النضال، ودعاوى الطهر الثوري، والترديد الببغاوي، لعبارة "الهبوط الناعم"، بغرض شيطنة رفقاء الدرب على طريق التغيير.
لا توجد، كما هو واضح الآن، وحدةٌ صلدةٌ بين قوى الثورة، تمكِّنها من انجاز نصرٍ حاسم، به يذهب الجيش إلى ثكناته، ليقوم المدنيون بإدارة الدولة، ابتداءً من الفترة الانتقالية. كما لا توجد قيادةٌ كارزميةٌ مجمعٌ عليها تمنح الثورة السلطة الفكرية والأخلاقية. بغير هذه الشروط لا تكون الثورة حاسمة تماما. يضاف إلى ذلك، إن العسكر الذين يحتكرون السلاح، لهم نصراؤهم وسط المدنيين. دعونا لا نستعيض عن التفكير الرصين بالعبارات الطنانة، ودعونا نقرأ خريطتنا السياسية، المتشابكة الخطوط، بوعي، ونضج، لكي نعبر بسلام.
|
Post: #21
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-29-2020, 08:39 AM
Parent: #20
في الاعتماد على الذات
النور حمد
صحيفة التيار 25 أبريل 2020
يتوقع بعض الخبراء أن تكون الأزمة الاقتصادية، التي تعقب جائحة كورونا، أكبر من الأزمة العالمية التي حدثت في نهايات عشرينات القرن الماضي. يقول فؤاد زكريا صاحب البرنامج الشهير بقناة "سي إن إن"، الأمريكية، إن الأعمال التجارية الصغيرة لن تتعافى بسرعة. مثال: الفنادق، والمطاعم، والمقاهي، والحوانيت، وغيرها، بسبب انقطاع متسلسلة إمدادها بالمواد، وهي متسلسلة مترابطة ومعقدة. كمل سيتأذى بعضها بسبب عزوف الزبائن عن ارتيادها. يضاف إلى ذلك أن العاملين في هذه الأعمال، قد جرى تسريحهم. فهم غالبًا ما سيقومون بالبحث عن أعمال أخرى، وقد يضطرون إلى تغيير أماكن سكنهم، فيرحلون من مدينة إلى مدينة، أو حتى من ولاية إلى ولاية. وقد فقد، حتى الآن، ما يقارب الثلاثين مليون أمريكي وظائفهم، وقد يزداد هذا العدد. وإذا أضفنا إلى ذلك انهيار صناعة السفر، والسياحة وتراجع أسعار البترول، والتوتر بين الصين والولايات المتحدة، فإن متغيرات جديدة، كثيرة، غاية في الخطورة، سوف تدخل في الصورة. ويكفي فقط، أن عالمًا من عيار نعوم تشومسكي، يتوقع أن يكون ما بعد جائحة كورونا، أسوأ مما يشكوه العالم منها الآن.
ليس واضحًا، حتى الآن، ما إذا كانت هذه الجائحة ستنقشع تمامًا، أم أنها ستكرر في موجات جديدة، تطيل من سياسة التباعد الاجتماعي، التي سوف تؤثر، كثيرًا، على قطاعي الصناعة والخدمات. أما المهم بالنسبة لنا نحن، هنا في السودان، فهو أن تحدياتٍ جديةً ربما تظهر في مجال الغذاء. فالدول التي كانت تصدر الحبوب، ربما تصبح أكثر ميلاً إلى التخزين، تحسُّبًا لما هو أسوأ، الأمر الذي سيضر بالدول المستوردة. وبلادنا من البلدان التي تستورد أكثر من 50% من قوتها الضروري. فإن كانت مشكلتنا حاليًا هي عدم توفر العملة الصعبة لشراء الحبوب من الخارج، فلربما تصبح المشكلة، غدًا، عدم توفر الحبوب، نفسها، في السوق العالمي. أو ارتفاع أسعارها بصورةٍ تجعلها فوق طاقة المستهلكين الشرائية، وفوق قدرة الدولة على الدعم. وقد ينطبق ذلك على ضروريات أخرى من المواد الغذائية، وقد يطال ذلك بعض صنوف الدواء. إذن، لا خيار لنا سوى أن نفكر في أننا سنواجه تحديات جديدة. فيد العون غدًا لن تكون كما هي اليوم. فلابد لنا، على سبيل المثال، أن نصل بإنتاجيتنا من القمح إلى الضعف، أو أن نغير عادتنا الغذائية المستحدثة، بالعودة إلى الذرة، والدخن، كما كان حال غالبيتنا، في الماضي. الخطير في الأمر أن جدلنا السياسي الدائر الآن، غارقٌ في تجريدات الصراع، عازفٌ عن التفكير الاستراتيجي، وعن إدارة الحوار حول المخاطر الاقتصادية المحتملة لهذه الجائحة. ولربما من حسن حظنا، أن مجتمعاتنا لا تزال قريبةً من الأرض، ومن مجمل الأساليب القديمة لكسب العيش، وهذه ميزة، في هذه اللحظة المفصلية، لكن، علينا أن نعرف كيف نعود إليها.
|
Post: #22
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-29-2020, 08:40 AM
Parent: #21
لا مركزة مشروع الجزيرة
النور حمد
صحيفة التيار 25 أبريل 2020
لعل من أبدع ما أنجزه البريطانيون في مستعمراتهم، هذا المشروع المسمى، مشروع الجزيرة. ويكفي في تفرد هذا المشروع نيله لقب "أكبر مزرعة مروية ريا انسيابيًا في العالم". الترعة الرئيسية التي تسقي أراضي هذا المشروع يتعدى طولها مئتي كيلومترا. أما شبكة القنوات المتفرعة من ترعته الرئيسية، ومن ترعة المناقل فتقارب خمسة ألف من الكيلومترات. لم هدف البريطانيين من إنشاء المشروع هو أخذ قطنه إلى مصانعهم للأقمشة. لذلك، يمكن القول إن أي تحسن أصاب حياة المزارعين في الجزيرة، إنما جاء بصورة عرضية، لا غير. علة هذا المشروع هي إدارته السودانية التي سارت به على درب الإدارة البريطانية، حذو النعل. فهي لم تدرك أن هدفها ينبغي أن يختلف عن هدف البريطانيين. بل ينبغي أن يكون نقيضا له. فالبريطانيون لم يهدفوا بالمشروع إلى إحداث تنمية شاملة، وإنما لأخذ ناتجه الخام إلى إنجلترا، عبر علاقة عمل أقرب ما تكون إلى القطاع. ذهب البريطانيون وأصبحت إدارة المشروع السودانية، هي الإقطاعي الجديد. وبقيت نفس الذهنية التي لم تعامل المزارعين إلا بوصفهم عبيد أرض.
أيضا، مما ورثته الإدارة السودانية، نهج المركزية الشديدة التي جعلت من المزارع "عبدًا للمأمور"، سالبة ًمنه شعوره بامتلاك ما يقوم به من جهد، واحساسه بأنه شريك. يضاف إلى ذلك، نزعت منه التراتبية البيروقراطية الإدارية المتسلسلة؛ من مدير المشروع مرورًا بمدير القسم والمفتشين الزراعيين، انتهاءً بالصمد، حق إبداء الرأي، وحق القرار. ليس عمليًا إدارة مزرعة مساحتها مئات الآلاف من الأفدنة، من مركز واحد. وليس مفيدًا أن تكون كل التفاتيش نسخًا من بعضها. لم تتفتق عقول السودانيين، الذين أداروا وزارة الزراعة، وأداروا مشروع الجزيرة، عن أي خطة للخروج عن هذا الأنموذج البريطاني.
لقد آن الأوان، فيما أرى، أن نعيد النظر في هيكلية مشروع الجزيرة. وأقترح أن نفكر في فك القبضة المركزية، التي كان يدار بها، بحيث يصبح كل تفتيش وحدةً قائمةً بذاتها. وحدة لها إدارتها المستقلة، وخطتها المستقلة، المتعلقة بالمحاصيل التي تزرعها؛ من حبوب وألياف وخضروات، وفواكه، وغيرها. وكذلك أنواع الحيوانات التي تستثمر فيها. باختصار، أن تكون لها خطتها، الخاصة بها، لتطوير الإنتاج الزراعي والحيواني، إضافةً إلى تطوير البنى التحتية والخدمات الاجتماعية. يضاف إلى ذلك إنشاء الوحدات المعينة، كالوحدة الميكانيكية المستقلة، من آلات حفر وإزاحة تربة وتراكتورات حرث وحاصدات، واختصاصي مبيدات وأسمدة، وما إلى ذلك. ولسوف يمنح تفتيت المركزية القديمة مزارعي كل تفتيش أن ينتخبوا مجلس إدارتهم من بينهم، وأن يوظفوا ما يحتاجون اليه من فنيين كالزراعيين والمهندسين، وغير ذلك من فريق الطاقم الإداري، مستعينين في كل أولئك، بخريجي الجامعات. نهج تمليك المواطنين مسؤولية تنمية مناطقهم، وإدارتها على نسق العمل التعاوني، هو الذي سوف يخرجنا من قبضة التركة الاستعمارية المكبلة.
|
Post: #23
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-29-2020, 08:42 AM
Parent: #22
فلتكن الجزيرة أنموذجا للتعاونيات
النور حمد
صحيفة التيار 27 أبريل 2020
سبق أن كتبت أن لامركزة مشروع الجزيرة، ربما تمثل خطوة للقفز بإنتاجيته وترفيع أحوال قاطنيه، من مزارعين وعمال زراعيين، إلى مستوى جديد. فالمركزية كانت خصما على التطوير، وعلى الإبداع، بحبسها المزارع في خانة متلقي التوجيهات، لا أكثر. يضاف إلى ذلك، أن المركزية تتسم ببطء البت في الأمور. فمشروع الجزيرة مشروع ضخم، ومن الأفضل تحويله إلى وحدات إنتاجية مستقلة. فكل تفتيش، كما سبق أن ذكرت، يمكن أن يصبح وحدة إنتاجية قائمة بذاتها.
تختلف مساحات تفاتيش مشروع الجزيرة. لكن يمكن أن نقول إن متوسط عدد المزارعين في كل تفتيش حوالي الألف مزارع. وتبلغ مساحة التفتيش الواحد، ما يقارب 200 كيلومتر مربع، تقريبا. بعد الشروع في التجربة، ويمكن أن تكون محدودة في البداية، يمكن باستشارة الفنيين العاملين في الوحدة، أن بختار المزارعون المحاصيل التي يزرعونها، من حبوب بمختلف أنواعها، ومن قطن وخضروات وفاكهة. هذا إضافة إلى الإنتاج الحيواني. وكذلك الشروع في التصنيع الزراعي والحيواني، لجلب قيمة مضافة للمنتجات.
لدى البلدان التي لم تقع بعد في قبضة العولمة، والتمدد النيوليبرالي، فرصة ذهبية. في أن تخلق لنفسها أنموذجا اقتصاديا يخصها. وأرى أن الطريق إلى هذا النموذج، هو أحياء التعاونيات بمفاهيم جديدة. وأرى أن الجزيرة من أنسب أقاليم السودان، لإعادة إحياء التعاونيات. وقد درج أهل الجزيرة، كما في أقاليم سودانية أخرى، منذ حقبة نميري، على إدارة كثير من شؤونهم، عن طريق ما يسمى "العون الذاتي". وتملك بلادنا من الخبراء، في مجال التعاون، من بوسعهم أن يقدموا الدراسات الفنية المتخصصة لإحيائه من جديد. فالعمل التعاوني هو أنجع السبل لمحاربة جشع التجار، خاصة إذا ارتبط بالإنتاج الزراعي والحيواني. وكذلك إذا ارتبط بتوزيع السلع الاستهلاكية.
حين ترتبط الممارسة الديمقراطية بالعمل التعاوني، وممارسة حق اتخاذ القرار الإداري، التنموي، على مستوي القرية والحي، فإنها تمنح فرصة لتجنب منزلق الممارسة الديمقراطية في الأنظمة الرأسمالية، حيث لا ترتبط ممارسة الديموقراطية بالعدالة الاجتماعية في أفقها الأعلى. لا أعتقد أن هناك بيئة اجتماعية ذات وحدة عضوية، وتطور اقتصادي واجتماعي نسبي، تصلح لأن تكون مجالا مثاليا لنقلة برادايمية في مفاهيم التنمية الريفية، مثل بيئة الجزيرة. عموما هذه دعوة للحوار من أجل البدء في اختراقات عملية، تخرجنا من دوامة الجدل غير المنتج، والفعل السياسي الذي ظل، منذ الاستقلال، يتمحور حول نيل كرسي الحكم، فيبدأ تجريديا، وينتهي إلى هلام بلا نفع.
|
Post: #24
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-29-2020, 08:43 AM
الإعلام من الإلهاء إلى التعليم
النور حمد
صحيفة التيار 28 أبريل 2020
لا حاجة بي إلى القول، إن أخطر مؤثر على العقول في العصر الحديث، هو الإعلام. بالإعلام صعدت النازية إلى دست الحكم، في ألمانيا. وبالإعلام انتشرت الشيوعية في أركان الأرض الأربعة. وبالإعلام أصبح ماوتسي تونغ، وكيم إيل سونغ على كل لسان. كما بالإعلام أبقت النخب الممسكة بمفاصل السلطة والثروة، في أمريكا، الجمهور تحت قبضتها، وقفلت الباب على أي تحولاتٍ تصب في صالح الجماهير، فتخفض نصيب هذه النخب المتحكمة في السلطة والثروة. أما هنا في السودان، فقد جرى استخدام الإعلام، في عهد الإنقاذ، لتخدير الجماهير بالخطاب الديني الزائف، وكذلك، بالإلهاء، عن طريق الإسراف في الإمتاع والتسلية. وما من شك أن الإمتاع والتسلية، عن طريق الغناء، والموسيقى، والأدب، والدراما، أمورٌ ضرورية، لكن، مع مراعاة ألا يكون ذلك هو كل شيء.
التعليم شقان: هناك التعليم الرسمي، وهذا هو الذي يتلقاه الطلاب في المدارس والجامعات. وهناك التعليم غير الرسمي، وهذا هو الذي يتلقاه الناس من وسائط الإعلام المختلفة، من صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، ومسرح، وسينما. كما يتلقونه، أيضًا، من الأنشطة العامة؛ في المساجد والأندية، والجمعيات، ومختلف منظمات المجتمع المدني. ولا بد أن يتناغم التعليمان؛ الرسمي وغير الرسمي، وأن يستهدفا رفع الوعي بحقوق المواطنة وبضرورة المشاركة في سلطة القرار، وبمعنى العدالة الاجتماعية. فلرسم سياسةٍ إعلاميةٍ قاصدةٍ، لابد من وجود هدفٍ واضحٍ لها، منذ البداية. ولن يخدم الإعلام مسيرة التغيير إن هو اتبع سياسة سر كما تشاء، وقم بملء وقت البث بما توفر، وبما هو معتاد. يحتاج وضع الأمور في نصابها، في مجال الإعلام إلى عملٍ يحدث تغييرًا جذريًا في المفاهيم، وسط الطواقم الإعلامية العاملة، وخلق بيئةٍ إعلاميةٍ جديدة. هذا إضافةً إلى صوغ رسالة إعلامية تخدم في كل تفاصيلها أهداف الثورة، التي من أجلها ثار الشباب وقدموا التضحيات الجسام.
التغيير يبدأ في العقول أولا، ثم ينتقل إلى أرض الواقع ثانيا. وقد أثبتت ثورة ديسمبر المجيدة أن تغييرًا كبيرًا قد حدث لعقلنا الجمعي. لكنَّ الذي حدث هذا، على عظمته، لا يمثل سوى ضربة البداية لمسيرةٍ طويلة. ولن تبلغ هذه المسيرة غايتها، إلا إذا استثمرنا رأس المال الذي تحقق بالثورة، في وجهة خدمة أهدافها. لقد أزحنا نظام الإنقاذ، لكننا لا نزال أسرى لسياساته الإعلامية، التي سممت العقول، وشوهت الوجدان الجمعي، وهبطت بالتذوق الجمالي. فحتى الآن، لا يوجد فارق كبير بين الإعلام الواقع في يد كارهي الثورة، وبين إعلام الثورة. ما نحتاجه، في هذه الفترة المفصلية، خلق إعلام بمنظورٍ جديد، وخيالٍ إعلامي خلاق، يفك احتكار النخب للمجال العام. يتمثل التحدي القائم الآن في الخروج من قولبة الإنقاذ للعقول، وللذوق العام، وللرسالة الإعلامية. فنظام القهر يقولب عقول المقهورين، حتى يفقدوا القدرة على أن يروا بغير عين قاهرهم.
|
Post: #25
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-29-2020, 08:45 AM
Parent: #24
مداخلة لدكتور عطا البطحاني
صحيفة التيار 29 ابريل
وردتني هذه المداخلة من الصديق، د عطا البطحاني، له مني جزيل الشكر والتقدير.
الاخ الدكتور النور حمد، تحياتي وشكرا على ما جاء في عمود يوم 23 أبريل 2020 الذي أوردت فيه نقاطاً عديدة مثيرة للنقاش وتبادل الرأي. وأرجو أن تسمح لي بمداخلة مختصرة: أثير فيها نقطتين – مع أن العمود دسم يغرى بالحديث المطول. النقطة الاولى واتفق معك فيها هي وكما ذكرت، أن قوى الثورة حتى الآن لم تنجح في تعديل موازين القوة، وذلك لعدم وجود "وحدةٌ صلدةٌ بين قوى الثورة، تمكِّنها من انجاز نصرٍ حاسم، به يذهب الجيش إلى ثكناته". "كما لا توجد قيادةٌ كارزميةٌ مجمعٌ عليها تمنح الثورة، السلطة الفكرية والأخلاقية". والأثر السلبي لهذين العاملين تعكسه قراءة ثيرموميتر علاقات القوة بين المكون العسكري والمكون المدني. وهو ما يظهر في أداء كل مكون وحصده للنقاط لتعديل ميزان القوة. فميزان أو موازين القوة لا تكون في حالة ثبات جامدة بمعنى أن تتعادل %50 الى %50، بل الطرف القوى تصل درجاته في الغالب الى %52 مقابل %48 للطرف الآخر، في وقتٍ محدد، ولان الحياة لا تتوقف وطبيعة الصراع السياسي الحيوية والديناميكية، قد يعمل الطرف الثاني (مستفيدًا وموظفًا لقواعد اللعبة وما يطرأ من أحداث) من رفع رصيده، مثلا، الى %60 وفى المقابل يتدحرج نصيب الاول الى %40، وهكذا دائما في حالة حراك ديناميكي لا يتوقف. وخير مثال ما أوردته أنت في أن فض الاعتصام زاد معدل المكون العسكري عندما أعلن فض الشراكة، لكن جاء 30 يونيو ليعيد الكفة الى حد كبير الى المكون المدني.
أرجع للقول بأنه حتى في غياب الوحدة الصلدة والقيادة الكاريزمية، كان يمكن للمكون المدني التحرك التدرجي والتدريجي والتراكمي (وأضيف الكمي) المتواصل، لتعديل ميزان القوة "لو"، وستقول لي: "آه من لو"، كان هناك اِستراتيجية حد أدنى بين أطراف المكون المدني، مثلا كان على لجنة التفكيك أن تبدأ عملها مباشرة، بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية، ولا تنتظر عدة شهور للتفكيك. من المؤكد أن عملاً كهذا كان سيرفع معدلها في ميزان القوة وهكذا. الحديث يطول هنا، ولا أريد أن استرسل في هذا الجانب. النقطة الثانية تتعلق بالهبوط الناعم والهبوط الخشن. باختصار ما أود الإشارة اليه هنا هو أن الأثر التراكمي الكليبتوقراسي والكارثي للإنقاذ يجعل من الهبوط الناعم عملية صعبة، إِن لم تكن مستحيلة. وذلك لغياب شروط بنيوية للهبوط الناعم. فالتجارب المقارنة للدول التي انجزت هبوطا ناعماً تشير الى النخب التي حكمت في عهود الاقصاء والقهر تماماً كالإنقاذ، أنجزت عمراناً تنموياً نقل بنية مجتمعاتها للأمام، وهيأ لها – أي لهذه النخب - مواقع نفوذ وامتيازات خارج جهاز الدولة، مكنها لاحقا من قبول التسوية والمقايضة بالتنازل عن السلطة السياسية مقابل إدارتها للاقتصاد – كما في جنوب افريقيا كمثال بارزً. بالنسبة لنا السؤال والحسرة المميتة: ما هي إنجازات نخب الانقاذ (بما فيها المكون العسكري – الأمني)، طيلة الثلاثين عاماً؟ أين هي مواقع النفوذ والامتيازات التي تم بناؤها بعيد عن الدولة حتى يمكن للمكون العسكري – الأمني الانسحاب لها، دون أن يخسروا كل شيء؟ لا توجد. ألا تلاحظ أن هذا واحد من أسباب التراجع والتردد وفتح خطوط اِتصال مع، "... نصراؤهم وسط المدنيين".مع كل ذلك، وكما أبدعت قوى الثورة الشبابية "سلمية الثورة"، الأمل كبير أن تبدع وتجد قوى الثورة من التكتيكات والأنشطة ما تعدل به ميزان القوة، مثلما نجحت في ذلك في وقت كان نظام الاسلاميين يحتكر كل شيء. ً مع التقدير.
|
Post: #26
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: بدر الدين الأمير
Date: 04-29-2020, 09:21 AM
Parent: #25
فوق
|
Post: #27
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-30-2020, 07:42 AM
Parent: #26
شكرا يا بدر علي رفع الخيط
|
Post: #28
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 04-30-2020, 07:43 AM
Parent: #27
نحو تعليم مرتبط بالتنمية
النور حمد
صحيفة التيار 30 أبريل 2020
كلنا يعلم أن التعليم الحديث الذي أنشأه البريطانيون في السودان، كان تعليمًا ذا هدف محدد جدا. من يقرأ كتاب بروفيسور محمد عمر بشير، عن تطور التعليم في السودان، تتضح له محدودية ذلك التعليم، بل و تتضح له، أيضًا، أضراره. أنتج ذلك النمط من التعليم خريجين، لا يتعدى خيال وطموح أكثريتهم مجرد الجلوس وراء مكتب، لتأدية عمل روتيني متكرر، لتنحصر همومهم في العلاوات، والترقيات، والنقليات. أيضًا، خلق ذلك التعليم مسافةً بين أكثرية هؤلاء المتعلمين، وأهاليهم. فعافوا حياة الريف، وهربوا منها إلى المدن، حيث عاشوا فيها في فقاعةٍ، معزولةٍ، صنعوها، لكنهم، لم ينعموا بها سوى لبضع عقود. أهملوا قضايا التنمية، والارتفاع بحياة البسطاء، وانحصروا في التمتع بعوائد تصدير المواد الخام. لكن، تبدلت الأحوال، وانفجرت تلك القاعة، وأصبح من يغسلون العربات على شارع النيل، يكسبون من المال أكثر مما يكسبه كبار الأفندية.
في بلد شاسع الأراضي الخصبة كالسودان، غني بالثورة الحيوانية، والغابية، وبالأنهر، وبالقنوات المائية، وبالمياه الجوفية، ينبغي أن يتخذ التعليم مسارًا تنمويًا، عمليا. أقصد، مسارًا يتصل عضوياً بالنهوض بحياة الريف، وحياة المدن، من جميع النواحي، بحيث يركز على إكساب طيف المهارات المتنوعة، للنهوض بالواقع. بعبارة أخرى، تعليم ترتبط فيه دارسة الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والرياضيات، بقضايا الزراعة، وتربية الحيوان، وتحسين المسكن، وتمليك مهارات الحرف اليدوية، وأساليب إنشاء الصناعات الصغيرة، وتطوير البنى التحتية، والنهوض بالعمران في جميع صوره. كما يرتبط فيه الدين، بتمتين الأخلاق، وتقوم فيه العلوم الإنسانية، برفع الوعي الحقوقي، ومحاربة الخرافة، والعادات الضارة. فالمدارس، وخاصة المدارس الثانوية، في الحي، أو القرية، ينبغي أن تصبح معملاً تجريبيًا، مرتبطًا باحتياجات البيئة المحلية. وبما أن البيئة الزراعية، والبيئة الرعوي، والبيئة الصناعية، تختلف عن بعضها، يصبح من الضروري أن نبتعد عن المركزة الكلية للمنهج. وأن نتيح للمنهج، أن يخاطب، في بعض جوانبه، احتياجات البيئة المحلية لمختلف الأقاليم. ففشل التعليم في تغيير البيئات الريفية، هو سبب هذه الهجرات المأساوية، الضخمة، إلى المدن، ففقدنا الريف، وفقدنا معه المدن. من الضروري ربط التعليم بموهبة الطالب، وباستعداده الفطري، منذ البداية، مع ربطه، أيضًا، بالمهنة التي تناسب استعداده. فالتعليم القائم على حشو أدمغة الطلاب بالمعلومات، بغرض أن يجتاز بها الامتحان، ثم ينساها، ليس سوى إهدار للوقت والجهد. أي تعليم لا يربط المعرفة العقلية بالمهارة اليدوية، وبتمليك الخيال لحل المشكلات، هو تعليم عقيم. لذلك، من الضروري إبعاد التعليم من الأدلجة، ومن تنمية العقل مع إهمال اليد، ومن زرع الانحصار في الهم الشخصي. فالتعليم الصالح هو الذي يجعل المتعلم كلفًا بتعليم، نفسه بنفسه، طيلة حياته. وهو الذي يجعل منه شخصًا واسع الحيلة، نافعًا لنفسه ولمجتمعه. لكي نحدث نقلةً حقيقيةً فيه، عقب هذه الثورة العظيمة، علينا ألا نتعجَّل في وضع التصور الجديد.
|
Post: #29
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-01-2020, 04:55 AM
Parent: #28
صحيفة التيار 1 مايو 2020.
وصلتني المداخلة التالية من الدكتور الباقر العفيف تعقيبا على ما ورد في عمود 23 أبريل، وما ورد في تعقيب د عطا البطحاني.
الأخ العزيز النور تحية طيبة
توقعتك ان تواصل الحوار مع عطا، لأنه أثار نقاطا جديرة بالنقاش. فمثلا عطا يقول: إن على قوى الثورة أن تسعى لترجيح موازين القوة لمصلحتها. وأن هذا غير ممكن الآن، لأنها منقسمة على نفسها. صحيح إن تاريخ التحالفات السياسية في السودان لا يبعث الأمل في النفوس، بل يحمل على اليأس من إمكانية صناعة تحالف صلب. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الهشاشة في تحالفاتنا السياسية أمر أزلي، وصفة تكوينية طبيعية، أو جينية، في أحزابنا؟ أم أن ضعف التحالفات وهشاشتها نابع من كونها لا تقوم على أسس علمية وواقعية. فاذا اتفقنا أن تعديل ميزان القوة لمصلحة المدنيين لا يتأتى الا بتمتين وحدة قوى الثورة، يصبح السؤال: ما هي الكيفية التي يمكن أن نحقق بها هذا التمتين؟ لابد لنا من ابتدار مشاريع علمية لتقوية هذه الوحدة، تقوم على المعرفة والإحصاء وقياس الرأي، تقوم بانجازها، مثلا، أقسام العلوم السياسية في الجامعات، خاصة أن البلاد تعوزها المراكز البحثية المتخصصة، أو ما يسمى "الثنك تانك".
بناء على ما تقدم، أقترح أن تتعاون منظمات المجتمع المدني، مع أقسام العلوم السياسية في الجامعات لتطلع بعمل دراسة متكاملة، يتأسس عليها إعادة هيكلة تحالف الحرية والتغيير. فمبادرة حزب الأمة لإعادة هيكلة الحرية والتغيير، في تقديري، على سبيل المثال، محكوم عليها بالفشل. لأنها ببساطة تهدف لهيمنة الحزب على التحالف، بدعوى أنه كان أكبر الأحزاب التي نالت مقاعد في آخر انتخابات. رغم أن تلك الانتخابات جرت منذ أربعة وثلاثين عاما. وأن هناك براكين سياسية تفجرت في البلاد، خلال هذا الزمن المديد، أصبح فيها السودان سودانَيْن. كما تمزقت دارفور شر ممزق، وتحول الهامش إلى قوة سياسية لها وزنها السياسي والعسكري. يضاف إلى ذلك، أن شباب الثورة قد كفر بالأحزاب. إذن لماذا لا تقوم جهة محايدة بهذه الدراسة العلمية تستخدم فيها أحدث مناهج البحث العلمي وتأخذ في الحسبان الحقائق التاريخية المستقاة من آخر انتخابات ومضاهاتها بالمعلومات المستجدة المستمدة من الشعب، عن طريق قياس الرأي. ثم نقوم بتقديم نتائجها للأحزاب السياسية كمبادرة من جهة محايدة. كمت تُطرَح المبادرة للجميع، ويثار حولها الحوار الشعبي لتتاح الفرصة لجماهير الأحزاب المشاركة في الحوار وصنع القرار، والضغط على قياداتها بأن تسير في اتجاه العمل الوحدوي الذي يحقق الاستقرار السياسي للبلد.
أيضا أثار د. عطا قضية غياب القيادة الكارزمية. ولكن هناك نظريات تقول إننا نحن من نصنع قياداتنا. وأن الأحداث الجسام التي تحرك كل قطاعات الجماهير مثل ثورتنا هذه تنتج قياداتها. والسؤال هنا أليس من الممكن أن نجعل من قيادة الحكومة الحالية قيادة كارزمية قادرة على تعدِيل ميزان القوة بصورة حاسمة، إن نحن دعمناها ولم نبتعد عنها؟ أما أكثر النقاط حيوية في طرح د. عطا، في تقديري، والتي تستحق منا نقاشا مطولا، فهي حديثه عن الهبوط الناعم، وأن له شروطا لا يتحقق بغيابها. أي أنه لا يحدث اعتسافا أو برغبة السياسيين. وهذا إن صح، فسوف ينسف كل الحبر المراق في هذا الحديث وما أكثره. وسوف يعيد النقاش من جديد حول الكيفية التي يتحقق بها التحول الديمقراطي في بلادنا. وفي هذا سيكون لي حديث لاحق. مع تحياتي
|
Post: #30
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-02-2020, 02:48 AM
Parent: #29
الاستثمار في ذاكرتنا التشكيلية
النور حمد
صحيفة التيار 2 مايو 2020
يبدو أن ثورة ديسمبر المجيدة، قد فتحت شهيتنا للتعبير عن أمانينا الغوالي، التي طالما خابت. من هذه الأماني العزيزة، وجود هيئة لحفظ آثار السودان التشكيلية. إن من أسطع دلائل تخلفنا الحضاري أننا على الرغم من مرور 64 عامًا على استقلالنا، لا تزال بلادنا بلا متحفٍ لحفظ أعمال كبار التشكيليين السودانيين. هذا في حين تزدان بأعمالهم أروقة أعظم المتاحف في العالم. وعلى سبيل المثال، فإن أعمال الفنان الرائد، إبراهيم الصلحي، ضمن معروضات متحف الفن الإفريقي في واشنطن. وقاعة التيت غاليري في لندن، إضافةً إلى متحف الفن المعاصر، في الدوحة، وقس على ذلك. من الضروري أن تنشأ هيئة متخصصة، تابعة للدولة، لتشرف على إنشاء مستودع، لحفظ أعمال كبار الفنانين التشكيليين السودانيين، المنتشرين في عواصم الدنيا، والمقيمين في البلاد، من ذوي المستوى الذين تحرص متاحف مختلف العواصم الكبيرة، على اقتناء أعمالهم. على نخبنا السياسية، والتنفيذية، أن تعي معنى الثقافة، وأن تعرف حجم ما تشكله في سردية هويتنا الجامعة. اعتدنا، منذ أن كنت طلابًا في كلية الفنون الجميلة، أن نرى المراكز الثقافية الأجنبية، في الخرطوم، تفتح صالاتها لمعارض الفنانين السودانيين. ولم نر للدولة دورًا في رعاية هذا النوع من النشاط الثقافي، شديد الأهمية. كانت هناك غاليري عرض حكومية، يتيمة، عرفتها الخرطوم في فترة نظام نميري، في سبعينات القرن الماضي. جرى إنشاؤها بتصميم مرتجل، في ميدان أبو جنزير، شرق الجامع الكبير، في الخرطوم. ولعلها كانت قاعة للمعارض العامة، جرى استخدامها قبل أن تكتمل مباني معرض الخرطوم الدولي الحالية ببري. لكن، اختفت تلك الصالة، وحل محلها موقف للمواصلات.
هذا المقال دعوة لوزارة الثقافة، ومن ورائها الحكومة الانتقالية، إلى إنشاء هيئة صغيرة من المتخصصين، للإشراف على عملية خلق مستودعٍ لمقتنيات الدولة، من الفن التشكيلي السوداني. ويمكن أن يجري إلحاق هذه الهيئة الصغيرة، بالمجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون. ومن حسن الطالع أن هذا المجلس يقع في موقع ممتاز في الخرطوم شرق. ورغم أن مبناه قديم ومتهالك، إلا أن قطعة الأرض التي يقع عليها كبيرة. فبقليلٍ من جهد الدولة، ومن إسهام القطاع الخاص، مع التواصل مع المنظمات الدولية، يمكن لهذه الهيئة أن تجمع من المال ما يمكِّن من الشروع في مبنى جديد لهذا المجلس، مع مستودعٍ لحفظ الآثار التشكيلية بطريقة علمية. هذا إضافةً إلى صالةٍ لعرض المقتنيات الثابتة، وصالة أخرى لعروض الفنانين المتغيرة. هذا العمل، ليس ترفًا، ولا ينبغي أن يُقصى من أولوياتنا، بالحجج الباهتة، المعتادة، التي لا يقف وراءها سوى الجهل بقيمة الكنوز التشكيلية. فالآثار التشكيلية من النفائس التي تقتنيها الدول ويقتنيها الأغنياء من الناس ويدخرونها كما يدخرون الأشياء الثمينة من ذهب وغيره. لذلك، فإن حفظ الآثار التشكيلية، عملٌ اقتصاديٌّ، استثماريٌّ، من الدرجة الأولى. كما أن السياحة الثقافية، سوف تصبح، في الغد القريب، رافدًا اقتصاديًا بالغ الأهمية.
|
Post: #31
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-03-2020, 02:09 AM
Parent: #30
إعلام يضر بسمعة البلد
النور حمد
صحيفة التيار 3 مايو 2020
سبق أن ذكرت أن من مهام الإعلام تحسين صورة البلاد. فالإعلام الحكومي، شأنه شأن الدبلوماسية في إعلاء سمعة البلد. ومعلوم أن الديموقراطية تسمح بقيام إعلام خاص إلى جانب الإعلام الحكومي. والأمثل هو أن تتخلى الحكومات عن امتلاك أجهزة الإعلام. غير أن ذلك يقتضي تحلِّي الإعلام الخاص بالمهنية والحيادية، التي تجعل الحكومة تتخلى عن امتلاك أجهزة إعلامية، عن طيب خاطر. لكن، حين يكون الإعلام الخاص فاقدًا للمهنية والحيادية، فإن الدولة تجد نفسها مضطرةً إلى امتلاك ذراعٍ إعلاميٍّ خاصٍّ بها. فإذا لم تفعل، أصبحت ضحيةً لإعلام غير محايد، وربما مغرض ومخرب.
من طبيعة هذا المفترق الذي نمر به، أن تكون الأمور مرتبكة. فالبنية الإعلامية الحكومية كانت أهم موقع استهدفه التمكين. وقد وضح الآن، أن هناك مغرضين يعملون بدأب شديد، لهلهلة مجمل صورة الفترة الانتقالية، من داخل البنية الإعلامية؛ الحكومية، وغير الحكومية. لذلك ينبغي على حكومة الفترة الانتقالية أن تولي إصلاح الإعلام الأولوية في أجندتها. بل يمكن القول إن إصلاح الإعلام ينبغي أن يكون على رأس الأوليات. ومن أساسيات هذا الإصلاح، فك قبضة نصراء النظام المدحور عن الأجهزة الإعلامية. ولا ينبغي أن يكون هناك أي تردد، أو مجاملة، في هذا الأمر.
صحب الفترة الانتقالية تراجعٌ لافتٌ في الأداء الإعلامي. وقد شمل ذلك التراجع حتى الجوانب الفنية البسيطة. فعلى سبيل المثال، لم يخرج من وكالة "سونا" تنويرٌ، أو مؤتمرٌ صحفي، لم تكن فيه مشاكل في الصوت، أو الإخراج. ولم يتحدث رئيس الوزراء حديثًا كان فيه صوته نقيًا وواضحًا، كما ينبغي. أما قناة السودان المملوكة للدولة، فقد أصبح الصوت فيها مشكلةً فظيعةً، يضطر معها المشاهد أن يكون ممسكًا بجهاز "الريموت"، طيلة الوقت، ليرفع ويخفض. ولا أعتقد أن هذا الذي يجري أمر عادي، وإنما هناك إرباكٌ متعمد. الأمر الآخر، أن غالبية القنوات الفضائية السودانية، تعطي من يشاهدها انطباعًا، غاية في الإضرار بصورة البلاد. هذه القنوات غير مستوفية لأبسط المعايير، وكأنَّ من يقفون وراءها، لا يشاهدون ما يبثه الآخرون في الإقليم، وفي العالم. أعتقد أن على الدولة أن تحرص على صورتها في الخارج، مثلما تفعل ذلك عن طريق جهازها الدبلوماسي. وأن تحرص ألا يجري إهدار المال العام في تشويه صورة البلد، وألا تترك الحبل على الغارب، للهواة، وخالي الوفاض من الثقافة العامة، ومن الموهبة، ومن التدريب العلمي، لكي يسرحوا ويمرحوا دون رقيب.
لا أدعو، بطبيعة الحال، إلى تقييد حق إنشاء قنوات فضائية، ولكن أدعو إلى وضع معايير صارمة تتعلق بالفنيات، وبالمحتوى، وبالرسالة. فالتصديق بالبث ينبغي أن يقوم على أسس، وليس على مجرد القدرة على شراء مساحة بث في قمر صناعي. كما يجب ألا ننسى أن الإنقاذ حينما صدقت لهذه القنوات، إنما صدقت بها لمن ائتمنتهم على خدمة خطها، ورسالتها، ومجمل أهدافها المعاكسة لأهداف الشعب، التي لم تكن تحفل بأي معايير.
|
Post: #32
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-04-2020, 06:38 AM
Parent: #31
اللغة الإنجليزية وتكنولوجيا المعلومات
النور حمد صحيفة التيار 4 مايو 2020
لم تتعرض اللغة الثانية في نظامنا التعليمي لتجريف كالتجريف الذي تعرضت له في فترة حكم الإنقاذ البغيض. السبب هو غلبة الأيديولوجيا الدينية المنغلقة، على النظر العقلاني المنفتح. وكذلك، غلبة التشبث العاطفي المحض بالتراث، وضعف الإدراك لتحديات الحاضر ومتطلباته. من هذا المنطلق الخاطئ في فهم الأصالة، وفهم كيفية الحفاظ على الهوية، انطلقت السياسات التعليمية للإنقاذ، فأضعفت اللغة الإنجليزية، وأضعفت التعليم بصورة عامة. والآن، علينا، ونحن ندير هذه الفترة الانتقالية، أن نصلح ما أفسدته الإنقاذ في حقل التعليم. وعلى رأس ما ينبغي عمله هو تقوية اللغة الإنجليزية، وكذلك منح المزيد من الاهتمام لتكنولوجيا المعلومات، وللتعليم الفني.
تسببت العولمة في خلق سوق للعمل عابرة للحدود. فنزعة مضاعفة الأرباح لدى النظام الرأسمالي دفعت بالولايات المتحدة الأمريكية، وبقدر أقل، الدول الأوروبية، إلى نقل التصنيع إلى دول شرق آسيا، حيث العمالة الأرخص. وقد حظيت الصين والهند بنصيب الأسد، من فوائد هذا التحول. وأصبح هذا التحول عاملا من عوامل نهضة هذين البلدين الكبيرين اللذين تحولا في عقود قليلة إلى قوتين عظميين. يضاف إلى ذلك، فقد انتفعت بلدان شرق آسيوية أخرى من سوق العمل المعولم هذا، مثال: تايوان وإندونيسيا والفلبين وغيرها. لكن، ما ساعد هذه البلدان على أن تصبح بؤرا للصناعات الغربية، هو التعليم الفني، وتكنولوجيا المعلومات، واللغة الإنجليزية.
أصبحت الصين مصنعا للعالم الغربي، وأصبحت الهند مقرا للعمل الإداري المكتبي، الذي يجري عن طريق الإنترنت، لصالح كبرى الشركات الغربية. ولقد أشرت في كتابات سابقة إلى أن الفلبين تحصل على مليارات الدولارات، سنويا، بسبب مغتربيها الذين يعملون في الخارج، في مهن استثمرت الفلبين في تعليمها لمواطنيها بتركيز خاص، كالتمريض وكصناعة الضيافة (الفنادق والمطاعم والمقاهي وغيرها). وأيضا في صناعة السفر، (حجوزات السفر والضيافة الجوية، وغيرها). كل ذلك، إلى جانب المهن الأخرى كالهندسة بأنواعها والطب وتكنولوجيا المعلومات وغيرها. أما النتيجة فهي أن الفلبين لها الآن نصيب الأسد من الوظائف في هذه المجالات في السوق الخليجية. المهم هو أن يختار كل بلد نامي ما يناسبه من هذه السوق وفق خطة مدروسة.
يتجه العالم أكثر فأكثر إلى أداء العمل من البيوت. وسوف تلغي هذه النقلة، إلى حد كبير، الوجود الفعلي للموظف في مقر العمل. فالتوظيف في الأعمال الإدارية سوف يكون عابرا للحدود. وكذلك التوظيف في مجالات الصناعة. ومع تراجع العمل اليدوي بسبب ثورة الروبوتات التي تتسارع الآن ستنتقل المهارات المطلوبة إلى مستوى جديد. فالذي سيجعل الدول النامية تنال قسطها من هذه السوق المفتوحة، هو التعليم الذي يعتني باللغة الانجليزية وبتكنولوجيا المعلومات وبالتعليم الفني، وغير ذلك من المعارف والمهارات الأخرى، التي يوفرها النظام التعليمي الجيد. وغني عن القول أن اللغة الانجليزية وتكنولوجيا المعلومات ستزداد أهميتها لسوقي العمل الخارجي والداخلي سواء بسواء. الشاهد ان العالم يتغير الآن بسرعة كبيرة جدا، وتتغير مع ذلك مفاهيم العمل ومفاهيم الاقتصاد، ومن ثم مفاهيم التعليم. ومن يتخلف عن إدراك هذه التحولات وعن بذل الجهود من أجل اللحاق بالركب، فسوف يجد نفسه منفيا في الهوامش القصية، حيث الجهل والفقر والمرض وقلة الحيلة والحروب.
|
Post: #33
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-05-2020, 03:22 AM
Parent: #32
من إشراقات التعليم البديل
النور حمد
صحيفة التيار 5 مايو 2020
رغم أن التعليم الغربي أنجز تقدمًا مشهودًا في العصر الحديث، إلا أن بعض الغربيين ظلوا يرون فيه الكثير من العلل وجوانب القصور. يعيب هؤلاء المنتقدون على أنظمة التعليم العام الغربية أنها مهنية محضة. وأنها تعاني قصورًا واضحًا في الجانب التربوي. فهي تخلق شخصًا قادرًا على أداء مهنة ما، ولكنها تقصر في خلق الشخصية المتكاملة. ويعنون بذلك تنمية البعد الأخلاقي، إلى ما وراء النطاق الذي تمليه أخلاقيات المصالح المتبادلة. كما يعيبون عليه قصوره في تنمية المواطنة الصالحة والاهتمام بالشؤون العامة، وتكريسه للفردانية المنكفئة على ذاتها. لذلك نشأ في السياق الغربي ما يسمى "التعليم البديل". ومما اطلعت عليه أثناء دراستي للتربية في أمريكا، ثلاث نماذج هي: مدارس "والدورف"، التي تأسست على رؤى المفكر الألماني رودلف شتاينر، ونموذج "ريجيو أميليا" في إيطاليا، ونموذج مدرسة "سكاترقوود"، في قرية ويست برانش بولاية أيوا في الولايات المتحدة الأمربكية. ولسوف أحصر حديثي هنا في هذه الأخيرة، لكونها قد كانت الجزء المكمل لبحثي لدرجة الدكتوراه.
أنشأت مدرسة سكاترقود طائفة الكويكرز، وهي طائفة مسيحية تركز على الإخاء، وعلى التساوي بين الأفراد. فهي بلا قساوسة، وبلا تراتبيات دينية، وظيفية. ويتميز الكويكرز، عموما، بالاستقامة الأخلاقية، وبالإعلاء من شأن العمل اليدوي. أمضيت عامًا كاملاً في التردد على هذه المدرسة، متفقدًا مختلف جوانبها ومن ذلك تاريخها، وأدبياتها المكتوبة وفلسفة تعليمها، وسائر تفاصيل رؤيتها ورسالتها. تحدثت في مقابلات فردية مطولة مع إدارتها ومدرسيها وطلابها. تتوافق مدرسة سكاترقوود وشقيقتها الأخرى في ولاية بنسلفانيا، مع مدرسة ريجيو أميليا في إيطاليا، في جعل التربية الفنية مادة مركزية، ملزمة لكل الطلاب. فاستوديو الفنون يتوسط المدرسة. وتتضمن دراسة الفنون إلى جانب الرسم والتصوير، الخزف، وصناعة الزجاج، والنجارة. ويوافق منحى مدرسة سكاترقود، في ذلك، منحى مدارس والدورف. أي، ربط نمو العقل وزيادة المعارف بتنمية المهارات اليدوية، وأخلاق العمل. هذه المدرسة ثانوية داخلية، يرتادها الطلاب من مختلف أنحاء أمريكا وكندا، وأمريكا الجنوبية. وتتمثل جاذبيتها لأولياء الأمور، في كونها تربط التعليم ربطا محكما بالأخلاق وبالعمل. فللمدرسة مزرعة يديرها الطلاب بأنفسهم، بإشراف الأساتذة. يأكل الطلاب من خضروات المزرعة، ومن لحوم أغنامها، كما يستخدمون لبن أبقارها في غذائهم. أيضا يقسم الطلاب أنفسهم في نوبات تتناوب على الطبخ، وعلى إدارة قاعة الطعام، مع طباخ يشرف على تعليمهم وتوجيههم. في تقديري، أن هذا النمط من التعليم الذي يربط المعرفة النظرية بالخبرة العملية؛ الفنية، والإدارية، وتوظيفهما للاكتفاء الذاتي، هو ما نحتاجه كبلد نام.
لقد آن الأوان لكي ندرس مثل هذه التجارب، لنصيغ منها نموذجنا الذي يتناسب مع احتياجات التنموية، في الأرياف وفي المدن. إن حصر التعليم في الورقة والقلم، الذي ظل ديدننا، منذ دخولنا حقبة التعليم الحديث، قد أضر بعقول طلابنا، وبوجدانهم، وخنق حيوية الحياة لدينا، وأعاق تفتحها وتجددها. إن ربط الطلاب بالطبيعة وبالعمل مهم جدًا لنموهم الروحي، ولمعرفة الحياة على ما هي عليه، وراء ما بخفيه قناع الحداثة. ولربما يكون من الأفضل أن نبدأ بنموذج تجريبي واحد في كل ولاية، لإجراء دارسة مقارنة للتحقق من النتيجة. ختامًا، ليس من الصائب أن يكون التعليم على نمط واحد، فالمدرسة ليست مصنعًا ينتج بضاعة متطابقةً في كل شيء.
|
Post: #34
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-07-2020, 03:57 AM
Parent: #33
ستموت في العشرين
النور حمد
صحيفة التيار 7 مايو 2020
شاهدت قبل أيام الفيلم الروائي السوداني، "ستموت في العشرين"، الذي حصد عددًا من الجوائز العالمية، وأسهم، بقدر غير مسبوق، في جذب الأنظار إلى السودان، وإلى السينما السودانية. من أقوى الدلائل على جودة أي فيلم سينمائي، أن يشدَّك اليه، طيلة فترة العرض. وهذا، بالفعل، ما حدث لي مع هذا الفيلم. كما يمكن القول إن هناك عنصرًا آخر، أسهم في استغراقي في الفيلم، وهو أنني كأي سوداني، يحدوني التوق لكي أرى عملاً سينمائيًا سودانيًا ناجحا. وهذا، ربما يشبه الاستغراق في مشاهدة مباراة للفريق القومي، وهو ينافس فريق بلد آخر. لكن رغم وجود هذا العنصر، إلا أن جودة عناصر الفلم المختلفة هي التي شدت انتباهي اليه، واحتفظت به، من البداية إلى النهاية. ويمكن القول، بصورة عامة، إن أي مقارنة لهذا الفلم مع الأفلام الرواية السودانية القليلة، التي سبقته، وجرى إنتاجها في أزمنة متباعدة، سوف تؤكد أن هذا الفيلم يمثل قفزة كبيرة جدًا، في الأفلام الروائية السودانية.
اتسم هذا الفلم بلمسة شاعرية، فتحت بابًا سحريًا لولوج الحالة الشعورية، التي تمغنط الروح، وترفع من ذبذبتها. نجح هذا الفيلم في اختيار البيئة البصرية المناسبة، وبرع في تصويرها، أو ما يسمي، لدى السينمائيين بـ "السينماتوغرافي". فالقرية، والنهر، وخط السكة الحديد، والجسر الصغير على الترعة، وأزقة القرية، ومشهد الدكان، ومنزل سالم المختلف عن منازل القرية، خلقت، في مجملها، مناخا أليفًا، ممتعًا، للعين وللذائقة الجمالية؛ المحلية، والأجنبية. كما أن تنقل الكاميرا بين بيوت القرية وبين بيت سالم، أحدث تقابلا وشدا، طبقيًا، وجيليا، أوحى بالكثير. نجح الفيلم في مجمل ما رمى إليه، رغم أنه، فيما يبدو، من أفلام الميزانية المحدودة.
هناك بعض الملاحظات النقدية التي لا تقلل من قيمة هذا العمل العظيم. منها: لو تضمن التصوير لقطة أو لقطات بانورامية، من أعلى، لتوصيف مجمل مسرح الأحداث، لكانت أضافت إلى التأثير الجمالي الكثير. هناك أيضا ضعف في التمثيل في بعض المناطق. لكن، رغم ذلك يبقى مستوى التمثيل في هذا الفيلم أفضل من كل ما عرفناه في أعمال سودانية مشابهة. ولابد من إبداء الإعجاب هنا بالممثلتين، بونا خالد، وإسلام مبارك، لأدائهما المتميز. أيضًا، عانت نصوص الحوار من بعض الضعف، ومن الابتسار، ومن قدر من الخطابية، ومن عدم ملاءمة الصياغات للسياق البيئي. كما يمكن القول إن هناك تأثرًا بمنحى خالد الصديق الفلوكلوري، في فيلم "عرس الزين". فمحاولة كسب الذائقة الأجنبية بالفولكلور، هي واحدة من الطرق السهلة لتحقيق النجاح، لكنها تخصم من متانة المضمون. أيضا لم أستسغ الربط ذا المنحى الاستتباعي للثقافة السودانية، وجعلها بعضًا من صدى للثقافة المصرية. عكست هذا شخصية سالم وذائقته وتركه جهاز العرض لمزمل. من الملاحظات الأخرى، أن النهاية كانت مكدسة ومربكة، كما أن الموسيقى التصويرية كانت ضعيفة التأثير. مرة أخرى لا تنتقص هذه الملاحظات من عظمة هذا الفيلم، الذي أحدث قفزة في مسار السينما السودانية. حار التهنئة للمخرج أمجد أبو العلا، ولجميع طاقم الفلم على هذه المتعة المميزة. هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن هذا الفلم المتميز، لكن هذا ما تسمح به هذه المساحة.
|
Post: #35
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-08-2020, 06:15 AM
Parent: #34
من عجائب مناهج الإنقاذ
النور حمد
صحيفة التيار 8 مايو 2020
كلفني مركز الخاتم عدلان قبل حوالي ست سنوات تقريبًا، بعمل دراسة نقدية لمنهجي اللغة العربية والتربية الإسلامية، لمرحلة الأساس. فقمت بهذا العمل بالاشتراك مع المربي، الأستاذ خلف الله عبود الشريف. وقد قام مركز الخاتم عدلان بنشر تلك الدراسة في كتابٍ حمل عنوان "حكم الإنقاذ وأدلجة التعليم". لم يستطع المركز توزيع الكتاب لأن السلطات أغلقت المركز مع صدور الكتاب. وجرت مصادرة الكتاب ضمن ما جرت مصادرته من ممتلكات المركز قبل أن يوزع. وأود أن أورد، في هذا العمود، نموذجًا واحدًا من العوار الكثير الذي شاب ذلك المنهج المتخلف. والنموذج الذي سوف أعرضه مأخوذ من كتاب "الفقه والعقيدة للصف الثامن الأساس"، صفحتي 42 و 43.
في هذه الصفحات تحدث الكتاب عن الأفعال التي توجب القضاء والكفارة في الصيام. وذكر منها ثلاثة هي: "تناول الطعام عمدًا في نهار رمضان. و"الاتصال الجنسي مع الزوجة أو غيرها". و"إذا رجع شيءٌ عمدًا من القيء المتعمد إخراجه". ولن أعلق على "تناول الطعام عمدًا، لأنه لا مشكلة هنا. غير أنني أرى أنه كان من الأفضل لواضعي المنهج أن يكتفوا بـ "تناول الطعام عمدًا"، بوصفه موجبًا للقضاء والكفارة، ولا يتعدوه ليحدثوا صبيةً وصبياتٍ، هم دون سن الرشد، عن المعاشرة الجنسية، كموجب للقضاء والكفارة. والأغرب أنهم أضافوا إلى معاشرة الزوجة، معاشرة غير الزوجة. هذا في حين آن الاتصال الجنسي بغير الزوجة، يدخل في باب الزنا، قبل أن يدخل في مبطلات الصوم. وهو جريمة، إذا ثبتت، تجري عقوبة مرتكبها بالرجم، إن كان محصنًا، وبالجلد إن كان غير محصن. لذلك، لا موجب البتة لإيراد الاتصال الجنسي بغير الزوجة في هذا السياق. بل، إن إيراده بهذه الصورة ربما أوحى للتلاميذ أن الاتصال بغير الزوجة، إذا جرى في غير رمضان، فلا غبار عليه.
أيضًا، جاء في توصيف الحالة الثالثة مما يوجب القضاء والكفارة، قولهم: "إذا رجع شيءٌ عمدًا من القيء المعتمد". هذه الجملة الغريبة نقلتها حرفيًا من الكتاب، كسابقاتها. وأول صور غرابتها صياغتها الركيكة جدا. تأمل عبارة: "إذا رجع شيءٌ عمدًا من القيء المتعمد إخراجه". وإذا تركنا الرِّكة جانبًا، فهل يُعقل أن يتعمد الصائم التقيؤ من أجل أن يبتلع جزءًا مما تقيَّأه، مرةً أخرى؟ فإذا تقيأ المرء، فالراجح أنه مريض. والمستحب في هذه الحالة، أن يأخذ برخصة المرض، فيفطر ثم يقوم بالقضاء لاحقا. أما الأكثر غرابة مما ورد في هذا الباب، وما لا يصدقه المرء، فهو قول من أعدوا المنهج، أن على من ارتكب واحدة من مبطلات الصيام التي توجب القضاء والكفارة، فعل واحدة من أمور ثلاثة، وضعوا على رأس قائمتها، "عتق رقبة". نعم، "عتق رقبة"، وأرجو ألا تفرك عينيك عزيزي القارئ، فقد قرأتها صحيحا. هل أنا بحاجة لكي أقول، إن هذه العقول التي وضعت هذا المنهج، لا تختلف في شيء عن عقول الدواعش، الذين سبوا الكرديات، والإيزيديات، في العراق، واسترقوهن واغتصبوهن.
|
Post: #36
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-08-2020, 07:44 PM
Parent: #35
حول حفظ وعرض الذاكرة التشكيلية
النور حمد
صحيفة الحداثة 7 مايو 2020
تعد مدرسة الخرطوم للتصميم، التي كانت ملحقةً بكلية غردون التذكارية، من أوائل مدارس الفنون في إفريقيا. وبعد أن جرى تأسيس المعهد الفني، في بداية خمسينات القرن الماضي، انتقلت إليه مدرسة التصميم لتصبح كلية الفنون الجميلة والتطبيقية. قامت هذه الكلية الرائدة منذ إنشائها، وحتى اليوم، بتخريج آلاف الخريجين، في عديد التخصصات، التي شملت: الرسم والتلوين، والنحت، والخزف، والتصميم الإيضاحي، وتصميم وطباعة المنسوجات، والخط العربي، والتصميم الصناعي، وتجليد الكتب، وغير ذلك. لكن نسبة للسياسات التعليمية السودانية، التي اتبعت "نهج سر كما تشاء"، أي بلا خطة، وأهداف واضحة، إضافة إلى غياب برامج للتنمية الشاملة، وعدم الاهتمام بالتخطيط الثقافي، فقد بقي أثر هذه التخصصات في الحياة الثقافية السودانية العامة، وفي الصناعة، وفي مجمل أحوال الاقتصاد، محدودًا، جدا. ولعل معارض الفن التشكيلي، التي ظلت تحدث هنا، وهناك، عبر منافذ العرض المختلفة، في العاصمة الخرطوم، هي التي ظلت بقيت تذكِّر الجمهور السوداني بهذه الكلية الرائدة. هذا، إضافة إلى ما يقوم به خريجو الكلية من قسم التصميم الإيضاحي من إسهامات متنوعة، في مجالات الطباعة، والأجهزة الإعلامية، وسوق الإعلان.
من هذه الكلية بدأ الرواد الأوائل من التشكيليين السودانيين مسيراتهم التي وصلوا لفتوا بها مؤسسات الفنون الجميلة في عواصم العالم الكبرى. من هؤلاء، على سبيل المثال: ابراهيم الصلحي، ومحمد عمر خليل، وعامر نور، وتاج السر أحمد، وكمالا إبراهيم إسحق، والخزاف صديق النجومي. ومنهم من شقوا طريقهم إلى الإقليمية والعالمية بأنفسهم، مثال: حسين شريف، ومحمد عمر بشارة، وحسان علي أحمد. ومن الأجيال المتأخرة نسبيًا، من خريجي كلية الفنون، برز على سبيل المثال، على المستوى الدولي والإقليمي، حسن موسى وراشد دياب. وهناك عدد ممن أصبحوا معروفين في دول الخليج. ففي دولة قطر، برز على سبيل المثال: محجوب المقبول، وإسلام كامل، ونور الهادي الخضر، وعبد العظيم محجوب. كما أن هناك مجموعة أخرى من السودانيين تمارس التشكيل في كينيا ويوغندا، وربما يكون أبرز هؤلاء أحمد أبوشريعة. كل هذه مجرد أمثلة، ومجرد غيض من فيض، فأسماء التشكيليين السودانيين الذين يعيشون خارج السودان بالعشرات، إن لم يكونوا بالمئات. ويمكن أن نقول أن نزفًا ضخم للعقول التشكيلية السودانية، قد حدث في العقود الخمسة أو الستة الماضية، بسبب تراجع مواعين الدولة السودانية المستمر وعدم قدرتها على استيعاب طاقات بنيها. بذلك، أصبحت الأعمال التشكيلية السودانية مشتتة في جهات الأرض الأربع. ولعل التظاهرات التشكيلية السودانية، التي استضافتها إمارة الشارقة في السنوات الأخيرة، تدل أبلغ دلالة، على أن أعظم ما أنجزه التشكيل السوداني، مغترب عن وطنه. بعبارة أخرى، هناك جزءٌ كبيرٌ ومهمٌّ، من الذاكرة التشكيلية السودانية، أصبح من مقتنيات جهات خارج البلد. وهذا هو عيم ما حدث لآثارنا التاريخية في الحقبة الاستعمارية. فقد نهبت، ولم نعمل على استردادها كما يفعل المصريون. لكن يمكن القول، مع الأسف الشديد، أن بقاءها في الخارج أفضل لهذه الآثار ولنا. فاستعادتها قبل أن يصحو سياسيونا وتصحو نخبنا، وتصبح لدينا مؤسسات حارسة لكنوزنا القومية، يعني تلفها أو ضياعها. باختصار، هناك ميراث حضاري ورأسمال ثقافي، بالغ النفاسة يمثل حتى هذه اللحظة كمًّا مضيعا. هذا الوضع المؤسي حقا، يقتضي نظرًا جديدًا، وتخطيطًا ثقافيًا، به يعود إلى البلاد، على الأقل، جزء من هذا الرأسمال الثقافي المشتت في أرجاء العالم.
من أسطع الأدلة على تخلفنا الحضاري، أننا على الرغم مرور 64 عامًا على استقلالنا، لا تزال بلادنا بلا متحفٍ لحفظ أعمال كبار التشكيليين السودانيين. هذا في حين تزدان بأعمال هؤلاء أروقة أعظم المتاحف في العالم. وعلى سبيل المثال، فإن أعمال الفنان الرائد، إبراهيم الصلحي، ضمن معروضات متحف الفن الإفريقي في واشنطن. وكذلك في قاعة التيت غاليري في لندن، إضافةً إلى متحف الفن المعاصر، في الدوحة، وقس على ذلك. من الضروري أن تنشأ هيئة متخصصة، تابعة للدولة، مهمتها أن تشرف على إنشاء مستودع، لحفظ أعمال كبار الفنانين التشكيليين السودانيين، المنتشرين في عواصم الدنيا، إلى جانب المقيمين في البلاد، من ذوي المستوى الذين تستوفي أعمالهم معايير المتحفة. وعلى نخبنا السياسية، والتنفيذية، خاصة بعد ثورة ديسمبر المجيدة أن تفكر أكثر في معنى الثقافة، ودورها. وأن تعرف وزن وقيمة ما تشكله في سردية هويتنا الجامعة.
أود أن أطرح في هذا المقال مقترحا لوزارة الثقافة، ومن ورائها الحكومة الانتقالية، لتشرع فير إنشاء هيئة صغيرة من المتخصصين، للإشراف على عملية خلق مستودعٍ لمقتنيات الدولة، من الفن التشكيلي السوداني. تستطيع هذه الهيئة بقليلٍ من عون الدولة، ومن إسهام القطاع الخاص، إضافة إلى التواصل مع المنظمات الدولية، والمؤسسات الشبيهة في الأقطار الأخرى، والقطاع الخاص السوداني، أن تجمع من المال ما يمكِّن من الشروع في جهود تأسيس متحف قومي للفنون التشكيلية السودانية. ولتكن البداية بخلق مستودع مؤمَّن، يجري فيه حفظ الأعمال العائدة من الخارج، بطريقة علمية. هذا إلى جانب الأعمال التي يمكن أن يجري اقتناءها في الداخل. ولا أشك أبدًا أن كثيرًا من الفنانين سوف يتبرعون بأعمالهم لهذا المتحف. من أولويات عمل هذه الهيئة ابتعاث متدربين ليتعلموا الأساليب العلمية لحفظ الآثار التشكيلية وترميمها، أو ما يسمى،restoration ، وكذلك تعلُّم مهارات التوثيق والتأرخة، والأرشفة، وتوصيف الأعمال التشكيلية، أي ما يسمىcuration ، وهذه ليست سوى رؤوس أقلام لتوجه كبير له جوانب وتفاصيل أخرى عديدة. المهم في البداية أن ننظم سمنارًا، أو مائدة مستديرة، لذوي الخبرة من متخصصي تاريخ الفنون، والتربية الفنية، ومن التشكيليين السودانيين، وكبار المثقفين، لوضع تصور لهياكل هذه الهيئة، التنظيمية والإدارية، وتحديد رؤيتها ورسالتها، وأجندة عملها. مهمة هذه الهيئة أن تتولى الإشراف على المستودع القومي للآثار التشكيلية السودانية وكذلك المتحف الدائم للآثار التشكيلية السودانية. إضافة إلى تنظيم المعارض التشكيلية المتغيرة. أيضًا يمكن أن تتطلع هذه الهيئة بتزيين المقار السيادية بأعمال التشكيليين السودانيين. كما يمكن أن تطلع، أيضًا، بإعادة التصوير الخيالي للتاريخ السوداني، من معارك حربية، وغيرها، بإيكالها إلى رسامين مجيدين للتصوير الزيتي الواقعي.
أقترح أن يضم المتحف صالة كبيرة للعرض الثابت. وأن تكون هناك صالات أصغر مثال: صالة أعمال الفنانين العصاميين، الذين لم يتلقوا تدريبها أكاديميًا، مثال: العريفي، وموسى كزام جحا، وأبو الحسن مدني وغيرهم. ويمكن القيام بالبحث عن هذه الأعمال لدى الأسر أو لدى من اقتنوها. وكذلك صالات أخرى للنحت، والخزف، والخط العربي. وكذلك صالة للفنون الشعبية من نسيج وسعفيات ومنحوتات وأوشام ونقوش وخزف تقليدي، الخ. أيضا، من مهام هذه الهيئة أن تنشئ وحدة للتعليم المتحفي، مهمتها ربط المدارس والجامعات بالمتحف القومي للفنون التشكيلية السودانية، وتنظيم الزيارات له، إضافة إلى إقامة الورش والمحاضرات وتنظيم أنشطة الفنانين الزائرين. أيضا يمكن لهذه الهيئة أن تنظم، بالتنسيق مع وزارة الشباب والرياضة، لأنشاء مراسم الشباب في المدن الإقليمية. فتقدم وزارة الشباب البنية التحتية، وتقدم هيئة المتحف القومي للفنون التشكيلية، الخبرة المتخصصة في اختيار الكوادر ووضع المناهج. كذلك، يمكن أن تطلع هذه الهيئة، أيضًا، بإنشاء وحدة صغيرة من المتخصصين للبحوث في تاريخ الفن التشكيلي السوداني. وأن تطلع بجمع الآثار المكتوبة عن الفن التشكيلي السوداني ونشرها، والعمل على خلق حقل لتاريخ الفنون السودانية، وربطه لاحقا بالمنهج المدرسي. كما يمكن أن تطلع بإصدار دورية محكمة تعنى بالفنون البصرية السودانية. ليس من الضروري أن يقام مبنى فخم لهذه الهيئة منذ البداية. فدولة قطر على سبيل المثال، رغم غناها، أنشأت متحف الفن المعاصر، في الدوحة، في مبنى مدرسة قديمة. ولدى وزارة الثقافة الآن فرصة ذهبية لتطلب لنفسها مبنى من المباني المستعادة من قبل لجنة تفكيك التمكين. هذه الهيئة يمكن أن تكون فرعًا من المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون، لكن من الضروري أن يكون لها مبنى منفصلا، وتنظيمًا هيكليًا ذا صفة أكاديمية، وليس مجرد إدارة بيروقراطية. أيضا يمكن لهذه الهيئة أن تسهم بالتنسيق مع كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، ووزارة التربية والتعليم، في جهود إعادة التربية الفنية الى المدارس السودانية، وفق أسسٍ علميةٍ جديدة. المهم أن تكون هناك بداية للعصف الذهني والتخطيط ون النظري حول هذه الهيئة المقترحة، وبدء الجوانب العملية بما هو متاح. فوجود جسم يقوم بالتنظيم هو الذي يفتح الباب للبحث عن الموارد المطلوبة، العيني منها، وغير العيني.
|
Post: #37
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-09-2020, 05:38 AM
Parent: #36
إزالة التمكين من عقول النشء
النور حمد
صحيفة التيار 9 مايو 2020
المناهج التي وضعتها الإنقاذ، في جملتها، مناهج هزيلة، مرتجلة، وغير مواكبة للتطورات التي أحدثتها مختلف الدول، في فلسفة التعليم، ومحتوى مناهجه، وطرق تدريسه. وقد جاءت مناهج الإنقاذ نتيجة لسطو تنظيمٍ واحدٍ، وهو تنظيم أقلية قليلة، على الدولة السودانية. استغل التنظيم المال العام، ومجمل البنية التحتية للنظام التعليمي السوداني، من أجل غرس رؤاه الخاصة، في أدمغة أبناء وبنات سواد الناس. ورغم أن محاولة صبغ كل مواد التعليم بفكر التنظيم، إلا أن التركيز كان على مادتي التربية الإسلامية واللغة العربية، لكونهما الأنسب، والأكفأ، لخدمة غرض بذر أفكار التنظيم في تلاميذ وتلميذات المدارس. لذلك نلاحظ أن الحملة الشعواء، التي زحمت الأقنية الإعلامية، انصبت على مادة التربية الإسلامية، وتركت كل شيء آخر، جانبا. السبب، أن منهج التربية الإسلامية الذي وضعته الإنقاذ للطلاب، لم يقصد منه أن يكون منهجا تعليميًا، حديثًا ينتج خريجين ملمين بعلوم العصر، مالكين لطيف المعارف والمهارات العصرية، التي بنت بها الأمم الصاعدة، دولها، وإنما أداةً للتجنيد الأيديولوجي. فلو كان القصد هو رفعة التعليم العام، لاهتموا ببناه التحتية، وزادوا الانفاق عليه من الموازنة العامة، واهتموا بتحسين معاش المعلمين وتدريبهم، على أعلى المستويات، وهو ما لم يحدث قط. لقد أفقروا مدارس التعليم العام، حتى أصبحت خرائب، وأصبح معلموها يشترون الطباشير من جيوبهم الخاصة. من الجانب الآخر، أنشأوا، المدارس الخاصة، التي تدر عليهم الأموال. وبعثوا بأبنائهم وبناتهم إلى تلك المدارس الخاصة، بل وإلى المدارس والجامعات الأجنبية، التي توفر المعارف والمهارات العصرية. لقد استخدموا بنية التعليم العام من أجل خلق بيئة صالحة لغرس الأفكار الدينية الانغلاقية، والمتطرفة، لتتسرب تدريجيًا، بمرور الزمن، من المدارس إلى بيوت السواد الأعظم من الشعب، فيصبح الجهل والعاطفة الدينية الفجة هما الضامنين لاستمرارية نظام حكمهم. وفي حين يصبح أبناء أهل السلطة والأثرياء يفكرون تفكيًرا عصريًا، ويعيشون حياة عصرية، يبقى أبناء الفقراء من السواد الأعظم غاطسين في وحل الفقر والجهل والتعصب والانغلاق العقلي.
يحاجُّ الإنقاذيون أن تغيير مناهج التعليم ليس من مهمة الفترة الانتقالية، لأن الفترة الانتقالية لا تملك تفويضًا شعبيًا. وهذه ليست سوى سفسطة فارغة، بلا معنى. هل يوجد تفويضٌ شعبي أكبر من هذه الثورة الجماهيرية التي رفضت نظامهم جملة وتفصيلا؟ وهل حين جاءوا في 1989، وأعملوا معاولهم في النظام التعليمي بذلك الارتجال العجيب، كان يملكون تفويضًا شعبيًا؟ تغيير مناهج التعليم واحدٌ من مهام إزالة التمكين، التي تمثل أهم واجبات الفترة الانتقالية. وهي عمليةٌ تجري وفق قانون مرتكز على الوثيقة الدستورية، التي تمثل دستور الفترة الانتقالية. إن ما فعلته الإنقاذ في التعليم كان تمكينًا لفكر التنظيم من عقول النشء. وفي تقديري، أن إزالة التمكين من عقول النشء، أهم بما لا يقاس من غيره من صور إزالة التمكين الأخرى.
|
Post: #38
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-10-2020, 07:12 AM
Parent: #37
عاقبة الاستثمار في التطرف الديني
النور حمد
صحيفة التيار 10 مايو 2020
تشظَّت "الحركة الإسلامية" في السودان، وتحولت إلى عدة كيانات، مثلما تشظت غيرها من التنظيمات والأحزاب. جند الإسلاميون ضباطًا من الجيش ليستخدموهم في الإمساك بالسلطة، فانتهى الأمر بعد عقدٍ واحدٍ من الحكم، أن تصبح السلطة في يد الضباط، ويصبح الإسلاميون مجرد تابعين مقهورين. ولقد انتهى مشروع الإسلاميين في السودان، نهاية مخزية. فرأس النظام ملقىً في السجن، متهمًا دوليًا، ومحليًا، بجرائم قتلٍ بلغت مئات الآلاف، وبسرقة المال العام، مع عمالة للدول الأجنبية، وتسلم الأعطيات منها، وتخزينها في منزله. ولن يستطيع أي ناقدٍ أن يقدم هجاءً أبرع وأوجع، لتجربة الحركة الإسلامية السودانية، من الهجاء الذي قدمه لها عرابها، الدكتور حسن الترابي، في حلقاته مع أحمد منصور التي بثتها قناة الجزيرة. قاد فشل المشروع إلى أن يتراجع عددٌ من عقلاء الإسلاميين، وينزووا. في حين شرع بعضٌ آخر في تقديم شيءٍ من النقد الخجول، في محاولةٍ للاحتفاظ للتجربة الفاشلة، ببعضٍ من ماء الوجه. مصير كل تنظيم يتجر بالدين، لكي يفرض فكرًا سياسيًا، أحاديًا شموليًا، يزعم لنفسه صحة مطلقة، وللآخرين بطلانًا مطلقًا، أن ينتحر في نهاية المطاف. ومثلما انتحر الحزب الشيوعي السوداني، بسبب النزعة الشمولية الأحادية، كذلك انتحر الإسلاميون. استخدم الإسلاميون سلاح الإرهاب الديني، وحاولوا الاستقواء بالجهلاء والعوام، على المستنيرين، ليبلغوا السلطة. ويبدو أنهم ظنوا أن الوصول إلى السلطة سيغير الأوضاع، فيتراجع الخطاب الغوغائي. لكن، فات عليهم، أن من المتعذر تمامًا، إدراك الغايات الصحائح، بالوسائل المراض. فالوسيلة طرفٌ من الغاية، وليست سلَّمًا ترمي به بعيدًا، بعد أن تصعد إلى غايتك. التطرف الديني يخلق وحشًا كاسرًا، يتعذر التحكم فيه لاحقا. فهو لا يلبث أن يقلب الطاولة على الذين أطلقوه من عقاله، بادئ الأمر. والآن، ها نحن لا نسمع من عقلاء الإسلاميين، سوى لقلائل يحسبون على أصابع اليد الواحدة. فقد أمسك بالمقود الجهلاء، وأصحاب العلل النفسية، الذين لا يرون الأمور إما بيضاء أو سوداء. أي: إما أن يفرضوا رأيهم على الكل، أو يدمروا الكل.
لم يقرأ الإسلاميون التاريخ بذهن مفتوح، ولو أنهم قرأوه بذهن مفتوح، لما استثمروا في التطرف والغلو. لقد استثمرت الأسرة المالكة السعودية، من أجل حماية سلطانها المطلق، وثرواتها العريضة، في فكر محمد بن عبد الوهاب، فاستخدمت النزعة السلفية من أجل السيطرة على عقول رعيتها. خلقت بن لادن وأمثاله، وبعثت بهم إلى أفغانستان، لكن ما لبث هؤلاء أن تحولوا إلى تهديدٍ للبيت السعودي. كما خرجت منهم داعش فهددت العالم الإسلامي برمته. تحاول السعودية، الآن، فك حبل التطرف الديني الذي ربطته حول عنقها، ولربما تؤدي بها هذه المحاولة، في نهاية المطاف. خلاصة القول، إن الاتجار السياسي بالخطاب الديني المتطرف، وخيم العواقب. فهو يحرق، في نهاية الأمر، الأخضر واليابس، بما في ذلك الذين استثمروا فيه.
|
Post: #39
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-10-2020, 07:13 AM
Parent: #37
عاقبة الاستثمار في التطرف الديني
النور حمد
صحيفة التيار 10 مايو 2020
تشظَّت "الحركة الإسلامية" في السودان، وتحولت إلى عدة كيانات، مثلما تشظت غيرها من التنظيمات والأحزاب. جند الإسلاميون ضباطًا من الجيش ليستخدموهم في الإمساك بالسلطة، فانتهى الأمر بعد عقدٍ واحدٍ من الحكم، أن تصبح السلطة في يد الضباط، ويصبح الإسلاميون مجرد تابعين مقهورين. ولقد انتهى مشروع الإسلاميين في السودان، نهاية مخزية. فرأس النظام ملقىً في السجن، متهمًا دوليًا، ومحليًا، بجرائم قتلٍ بلغت مئات الآلاف، وبسرقة المال العام، مع عمالة للدول الأجنبية، وتسلم الأعطيات منها، وتخزينها في منزله. ولن يستطيع أي ناقدٍ أن يقدم هجاءً أبرع وأوجع، لتجربة الحركة الإسلامية السودانية، من الهجاء الذي قدمه لها عرابها، الدكتور حسن الترابي، في حلقاته مع أحمد منصور التي بثتها قناة الجزيرة. قاد فشل المشروع إلى أن يتراجع عددٌ من عقلاء الإسلاميين، وينزووا. في حين شرع بعضٌ آخر في تقديم شيءٍ من النقد الخجول، في محاولةٍ للاحتفاظ للتجربة الفاشلة، ببعضٍ من ماء الوجه. مصير كل تنظيم يتجر بالدين، لكي يفرض فكرًا سياسيًا، أحاديًا شموليًا، يزعم لنفسه صحة مطلقة، وللآخرين بطلانًا مطلقًا، أن ينتحر في نهاية المطاف. ومثلما انتحر الحزب الشيوعي السوداني، بسبب النزعة الشمولية الأحادية، كذلك انتحر الإسلاميون. استخدم الإسلاميون سلاح الإرهاب الديني، وحاولوا الاستقواء بالجهلاء والعوام، على المستنيرين، ليبلغوا السلطة. ويبدو أنهم ظنوا أن الوصول إلى السلطة سيغير الأوضاع، فيتراجع الخطاب الغوغائي. لكن، فات عليهم، أن من المتعذر تمامًا، إدراك الغايات الصحائح، بالوسائل المراض. فالوسيلة طرفٌ من الغاية، وليست سلَّمًا ترمي به بعيدًا، بعد أن تصعد إلى غايتك. التطرف الديني يخلق وحشًا كاسرًا، يتعذر التحكم فيه لاحقا. فهو لا يلبث أن يقلب الطاولة على الذين أطلقوه من عقاله، بادئ الأمر. والآن، ها نحن لا نسمع من عقلاء الإسلاميين، سوى لقلائل يحسبون على أصابع اليد الواحدة. فقد أمسك بالمقود الجهلاء، وأصحاب العلل النفسية، الذين لا يرون الأمور إما بيضاء أو سوداء. أي: إما أن يفرضوا رأيهم على الكل، أو يدمروا الكل.
لم يقرأ الإسلاميون التاريخ بذهن مفتوح، ولو أنهم قرأوه بذهن مفتوح، لما استثمروا في التطرف والغلو. لقد استثمرت الأسرة المالكة السعودية، من أجل حماية سلطانها المطلق، وثرواتها العريضة، في فكر محمد بن عبد الوهاب، فاستخدمت النزعة السلفية من أجل السيطرة على عقول رعيتها. خلقت بن لادن وأمثاله، وبعثت بهم إلى أفغانستان، لكن ما لبث هؤلاء أن تحولوا إلى تهديدٍ للبيت السعودي. كما خرجت منهم داعش فهددت العالم الإسلامي برمته. تحاول السعودية، الآن، فك حبل التطرف الديني الذي ربطته حول عنقها، ولربما تؤدي بها هذه المحاولة، في نهاية المطاف. خلاصة القول، إن الاتجار السياسي بالخطاب الديني المتطرف، وخيم العواقب. فهو يحرق، في نهاية الأمر، الأخضر واليابس، بما في ذلك الذين استثمروا فيه.
|
Post: #40
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-11-2020, 04:56 AM
Parent: #39
نخبٌ مُعتلَّةٌ يصعب تعافيها
النور حمد
صحيفة التيار 11 مايو 2020
أثبتت النخب السياسية السودانية، مرارًا وتكرارا، أنها لا تتعلم من تجاربها. ولعل السبب امتلاؤهم بشعور كاذب، أنهم مكتملون، ولا يحتاجون جديد معرفة، أو زيادة خبرة، أو شحذا للهمة. غالبيتهم منكفئةٌ على ذاتها، مشغولةٌ بصورتها عند نفسها، وبموقعها من منظومة الثروة والسلطة والجاه. وحتى لا يظن القارئ الكريم أنني أفتئت على هذه النخب بغير شاهد أو دليل، أعيد إلى الأذهان طرفًا يسيرًا من تجاربها. دعونا ننظر، على سبيل المثال، إلى كم حزبٍ استطاعت الإنقاذ أن تقسًّم حزب الأمة والحزب الاتحادي الديموقراطي؟ والى كم فصيلٍ مسلحٍ قسمت الحركات المسلحة؟ وكم قيادي في حزب الأمة استوزروا في الإنقاذ. وكم قيادي في الحزب الاتحادي الديموقراطي استوزروا، أيضا؟ كم من قياديي الحركات المسلحة استوزروا، في الإنقاذ؟ وكم عضو من كل هذه الأحزاب والحركات نالوا، إلى جانب الوزارات، مناصب في مؤسسات الإنقاذ المختلفة؟ وإذا تساءلنا عن سر وسبب كل هذه الانقسامات، فلسوف لن نجد أي تبريرٍ، سوى جنون هذه النخب بالمال والسلطة وبريق المنصب؟
هذه النخب منعزلةٌ عن الشعب، وعن همومه عزلةً شبه تامة. فهي أخطبوط ضخم ذو أعضاء متداخلة متشابكة، بعضه من بعض. لا يختلف من يكون منهم في الحكم، عمن يكون في المعارضة. فمن يحكم منهم، يمد الجسور للذين أقصاهم لكي يدخلوا معه في الحلبة، ويقوموا بأدوارٍ ثانوية، "كومبارس"، من أجل إضفاء مشروعية على ما هو قائم. وأكثرية من يدعوهم الحاكم الذي أقصاهم يقبلون دعوته، ويأتوا ليتحلقوا حوله، ويزينوا له عرشه، لقاء أعطيات مالية ووجاهية. حدث هذا في عهد نميري، وفي عهد البشير سواءً بسواء. يقوم الشعب بثورات يظهر فيها من النبل ومن أصائل الطبائع، ورفيع الخصال، ومن كراهية الظلم، وحب العدالة، والحرية، ومن توقد الروح وتوثبها، ومن الشغف العارم بالتغيير، ما يبهر العالم. لكن الحصيلة لا تتعدى الإبقاء على ما هو قائم من تخلفٍ وعجز وقلة حيلة.
أفضت ثورتا أكتوبر 1964، وأبريل 1985، إلى تراجع. وحتى ثورة ديسمبر هذه، على عظمتها التي شهد بها القاصي والداني، تعمل هذه النخب، الآن، لكي تحيلها إلى موات، شأنها شأن سابقتيها. التقدم السلحفائي المتعثر لمحادثات السلام في جوبا، والتنازع حول خطوة تعيين الولاة المدنيين، والمجلس التشريعي، وانسحاب حزب الأمة من قوى الحرية والتغيير، إلى أجل غير مسمى، ورفضه أخذ نصيبٍ في قائمة الولاة وفي المجلس التشريعي، كلها مؤشرات دالَّةٌ على أن نخبنا لم تُشف من أدوائها القديمة، المزمنة. أما شق النخب الذي يدير دفة الحكم للفترة الانتقالية، فبينه وبين روح الثورة هوَّةٌ سحيقةٌ. فروح الثورة التي أفعمت الصدور، لم يظهر لها أثرٌ ملموس على الواقع المتردي. كل شيءٍ يشير، حتى الآن، إلى أن رحلة هذه الثورة، لا تزال طويلة، وأن أمدًا لا يزال يفصل بيننا وبين بروز قياداتٍ، ثوريةٍ، تقود تحولاً ديموقراطيًا، حقيقيًا.
|
Post: #41
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-13-2020, 05:24 AM
Parent: #40
مداخلة جديدة من د عطا البطحاني
صحيفة التيار 13 مايو 2020
الاخ العزيز دكتور النور حمد، مرة أخرى، أرجو أن تسمح لى بالتعليق على ما جاء فى مقالك " نخبٌ مُعتلَّةٌ يصعب تعافيها " فى يوم 11 مايو 2020. أتجاوز عن التعميم الذى ورد فى السطور الاولى بالاشارة الى " أثبتت النخب السياسية السودانية، مرارًا وتكرارا، أنها لا تتعلم من تجاربها". أظنك تتفق معى أنه لا يمكن الجمع بين الاستاذ عبدالخالق محجوب والاستاذ محمود محمد طه من جهة وبين السياسيين الذين أشرت اليهم فى مقالك من جهة أخرى. لكن هذا موضوع أخر وله ميقات آخر. ما أود التعلبق عليه هو ما جاء فى السطور الاخيرة "فروح الثورة التي أفعمت الصدور، لم يظهر لها أثرٌ ملموس على الواقع المتردي. كل شيءٍ يشير، حتى الآن، إلى أن رحلة هذه الثورة، لا تزال طويلة، وأن أمدًا لا يزال يفصل بيننا وبين بروز قياداتٍ، ثوريةٍ، تقود تحولاً ديموقراطيًا، حقيقيًا".
النموذج الكلاسيكى للثورات يقول بضرورة وجود قيادة ثورية. مثلا يرى ليون تروتسكى ان الحركات الجماهيرية حتى وان كانت متوحدة حول العداء للنظام المتسلط كالحالة عندنا فى ثورة ديسمبر 2018، ستنتهى الى الفشل ان لم يكن لها هدف واضح ووسائل محددة للنضال، وقيادة واعية، أكرر "قيادة واعية". على النقيض من ذلك يرى كارن روس ان الجماهير فى هذا العصر هى التى تقود. أنظر كتابه "الثورة بلا قيادت: كيف سيبادر الناس العاديون الى تولى السلطة وتغيير السياسة فى القرن الواحد والعشرين".
وفى محاول للمقاربة بين تروتسكى وروس والحالة عندنا، أظنك تتفق معى ان التشكيلة الاجتماعية تتسم بكثير من التعقيد الاثنى، الاقليمى، المناطقى، والدينى، واللغوى مع تداخل وتقاطع الهجين الاجتماعى – الطبقى، كل ذلك يجعل من الصعب لكتلة واحدة أو مجموعة واحدة اياً كان تصنيفنا لها اثنيا، اقليميا، طبقيا، سياسيا، ايديولوجيا، ان تحتكر ادارة العملية السياسية. وحتى فى حالة التحالفات والعمل المشترك، دائما تكون هناك فئة او شريحة مهيمنة (بلغة غراميشى) اى قيامها بدور القيادة يلقى قبولاً من أطراف التحالف، ولا تفرض نفوذها بالسيطرة (أقرب مثال حزب المؤتمر الوطنى الافريقى مع حلفائه فى جنوب افريقيا) .
وعودة الى واقعنا، الذى وصفه مقالك بالتشرزم - السؤال على من تقع ادارة التحالفات واجراء التسويات والتنازلات بين الكتل السياسية للوصول الى قاسم مشترك أعظم. التحالفات ضرورية بحكم تعقيد التركيبة وايضا بحكم موازين القوة الجبرية التى اعاقت عملية تعميق مجرى التغيير. ونعلم ان تعميق مجرى الثورة سيبعد حلفاء مصالحهم لا تذهب بعيداً فى اعادة ترتيب بنية السلطة السياسية وجهاز الدولة (لدى مداخلة مؤجلة مع مع دكتور الباقر العفيف والاستاذ السر سيد أحمد حول حول هذا الامر). تعميق مجرى الثورة يهدد اطراف فى المؤسسة السياسية وقد يدفعهم هذا للعمل مع انصار النظام الانقاذى المرتبطين معهم بوشائج اجتماعية وفكرية. ومصلحة هؤلاء العمل على تكرار سيناريو اكتوبر 1964، وأبريل 1985 ، وتكرار هذا السيناريو يشكل ردة وخيانة لدم الشهداء. اذن ما العمل؟
التحدى الذى يواجه قيادات الثورة (قيادات وليس قيادة)، هل ستشحذ خبرتها النضالية لتكوين تحالفات تتجاوز بها اخطاء كتوبر 1964، وأبريل 1985 وتعمل على ايجاد المعادلة، وترتيب القطع المتناثرة فى كل واحد منتظم حسب قانون الثورة كما يرى تروتسكى، أم ترك الامر للجماهير حسب قول كارن روس؟ أم هل ستفاجىء قوى الثورة غير المؤدلجة نخب المؤسسة السياسية باطرافها المتععدة بسيناريو غير متوقع – تماما كما بهرت العالم؟ أم ستجد فيزياء السياسة سانحة لها فتقلب الموازين فجأة؟
|
Post: #42
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-15-2020, 05:50 AM
Parent: #41
الثورة وإرهاصات النقلة البارادايمية
النور حمد
صحيفة التيار 15 مايو 2020
كلمة "بارادايم" paradigm كلمة مستحدثة، ولم أجد لها، فيما قرأت، ترجمةً منضبطةً في اللغة العربية. فأهل المغرب العربي يترجمونها "براديغم"، ويستخدمون نفس لفظها اللاتيني في كتاباتهم بالعربية، وذلك، ربما لكونهم تلقوها عن الفرنسية. أما في الإنجليزية، فتنطق "بارادايم"، وهكذا أكتبها، بحكم أنني تلقيت دراساتي فوق الجامعية باللغة الإنجليزية. تعني لفظة بارادايم، التصورات والمفاهيم والممارسات التي سادت في فترة بعينها. وأشهر من جر مفهوم "النقلة البارادايمية"، paradigm shift، إلى المجال الأكاديمي، الفيلسوف، وعالم الفيزياء الأمريكي، توماس كون. وقد كان المفهوم، أول ما بدأ، منحصرًا في مجال العلوم الطبيعية، حيث تسود مفاهيم علمية في فترة بعينها، لكن تصبح، بمرور الزمن، قاصرةً عن استيعاب التطورات المضطردة. فيتهيأ، تبعًا لذلك، الجو لنقلةٍ بارادايميةٍ، وهكذا يحدث الانتقال إلى بارادايم جديد. ثم، لا يلبث البارادايم الجديد، أن يضيق هو الآخر عن استيعاب المستجدات، فيفسح المجال لبارادايم آخر، أجد. لكن المفهوم، انتقل من مجال العلوم الطبيعية، وأخذ المفكرون والأكاديميون يطبقونه على النقلات في العلوم الإنسانية، وتفرعاتها المختلفة، في الفلسفة والدين والاقتصاد والاجتماع والتربية، وغيرها.
أحببت أن أمهد بهذه المقدمة المبتسرة أن أطبق المفهوم على الممارسة السياسية في سودان ما بعد الاستقلال. فكامل الممارسة السياسية السودانية، منذ الاستقلال وإلى اليوم، تمثل، في نظري، بارادايمًا واحدًا. ورغم أن هناك تباينات بين فصول هذا البارادايم الواحد، إلا أنها تباينات شكليةٌ، لا أكثر. ولا تزال عقابيل هذا البارادايم المحتضر، تتبعنا في هذه الفترة الانتقالية التي نمر بها. فكل بارادايم قديم لا يتوقف فجأة ليفسح المجال للبارادايم الذي يليه. فهناك منطقة يترادف فيها البرادايمان. في هذه المنطقة يضمحل البارادايم القديم ويقوى الجديد حتى يخلي البارادايم القديم الساحة تماما.
بدأ بروز احتشاد قوى البارادايم الجديد في العمل الشبابي في المنظمات الطوعية، كشارع الحوادث، ونفير، وصدقات، وغيرها، والتي شنت عليها حكومة الانقاذ حملةً شعواء. برز التشبيك القاعدي لتخلُّق البارادايم الجديد، في ذلك الطور، في انتفاضة سبتمبر 2013، التي قمعها النظام بصورة بالغة الوحشية. نفس هذه الوحشية تكررت، بصورة أبشع، في فض اعتصام القيادة، من قبل قوى البارادايم القديم التي أوجدت لنفسها مساحة في حراك التحول.
كان اعتصام القيادة بهتافاته وتضامن وتعاون وتآزر من قاموا به، وفي اشتراكيته وتكافليته، وجدارياته، وموسيقاه، ومجمل أجوائه، إرهاصًا للنقلة القادمة. تتضافر الآن قوى البارادايم القديم، حتى الذين زعموا أنهم جزء من الثورة، لتستبقي البارادايم القديم، في محله. هذه القوى، بمختلف مسمياتها، على جانبي اليمين واليسار، مارست السياسة والتكتيك السياسي، وفقًا لمفاهيم بالية عفا عليها الزمن. مفاهيم لا تعرف الشفافية ولا صراحة القصد، ولا الشغف بالصالح العام، بقدر ما تعرف الإخفاء، والتعمية والتآمر. وهي لن تستطيع الانتقال إلى الحقبة الجديدة المنتظرة، لأنها مثقلةٌ، بنيويًا، بإرث معتل. جيل الشباب هو المادة التي يتخلق منها الآن البارادايم الجديد المنتظر. لكن تقصير أجل المعاناة يعتمد على تعميق الوعي، وعلى خلق حاضنة سياسية جديدة للقوى الشبابية. فالمستقبل، سيكون حتمًا، لروح الثورة، ولنبل مقاصدها، في الحرية والسلم والتنمية وحكم القانون، مهما كثرت العراقيل، ولن يكون، بأي حال، لذلك البارادايم المعطوب الغارب.
|
Post: #43
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-16-2020, 01:57 AM
Parent: #42
منظومة الانقاذ وإجهاض الثورة
النور حمد
صحيفه التيار 16 مايو 2020
ربما لا تقدح كلمة "الإنقاذ" في أذهان كثيرين، أكثر مما يعينه "المؤتمر الوطني"، الحزب الذي أدار به الرئيس البشير البلاد، في العشريتين الأخيرتين من حكمه. وبطبيعة الحال، إضافة إلى العشرية الأولى، التي أدارها من منزله، في المنشية، الشيخ الراحل حسن الترابي، وفيها اشتدت قبضة الدولة الأمنية وتوطدت أركان التمكين، واستعرت حرب الجنوب، وبرز الاتجاه الجديد في سياسة السودان الخارجية، الذي قاد إلى العزلة عن المجتمع الدولي، وأدى إلى المقاطعة التي لا تزال البلاد تعاني منها إلى الآن. غير أن الإنقاذ، في حقيقتها منظومة متكاملة، تضم طيفًا واسعا من مختلف القوى. فكل أقلية تسيطر، كالأقلية التي قامت بانقلاب يونيو 1989، لابد لها أن تسعى إلى توسيع قاعدتها لتكتسب شرعية شعبية صورية. في جهودها الرامية إلى توسيع قاعدتها الاجتماعية سعت الإنقاذ إلى استقطاب قوى اجتماعية كثيرة، وفق الطبيعة المعروفة للحكومة الزبائنية. وقد جرى ذلك بخلق مصالح اقتصادية واجتماعية، متنوعة، لقوة اقتصادية واجتماعية لا تنتمي حقيقةً لإيديولوجيا النخبة التي أمسكت بمفاصل السلطة والثروة لتصبح جزءًا من المنظومة الحاكمة، بحكم حرصها على ما تحقق لها من مصالح. فالإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني وفقًا لهذا الإيضاح، هما طيفٌ واسعٌ، لا يمثل أصحاب الإيديولوجيا الحاكمة فيها، سوى رأس الهرم.
تتكون هذه المنظومة المستتبعة بمصالحها، الداعمة لما هو قائم من أوضاع، من جماعاتٍ تجارية وأحزاب لها ارتباطات بالمصالح التجارية، وحركات مسلحة، وجهات ذات طبيعة عشائرية ودينية متنوعة. لذلك فإن الثورة لا تعني اقتلاع رأس هرم هذه المنظومة، وإنما إعادة تشكيل هياكل نظام الدولة لتصبح الدولة دولة الجميع، بعد أن جرى تحويلها إلى دولة خادمة لأصحاب الإيديولوجيا الحاكمة وما استتبعت من قوى مجتمعية، وفقًا لهذا النهج الزبائني، المعروف في العلوم السياسية. أكثر من ذلك، يمكن أن تتشكل في بدايات الثورة – أقصد هنا أي ثورة – نفس التركيبة الزبائنية التي كانت سائدة في النظام المقتلع. لذلك لا ينبغي أن ينخدع الثوار ويظنوا أن من أتوا بهم إلى الحكم مجرد ملائكة أطهار، هبطوا عليهم من السماء. فالسلوك البشري يتبع أنماطًا وميكانيزمات تعيد إنتاج نفسها، في كل سياق جديد، بصورة جديدة. هذا هو الذي جعل كثيرًا من الثورات تحدث في موجات؛ متعاقبة، موجةً أثر موجة.
شهدت الفترة الماضية استهدافا مركزا على شخصيتين من الذين أتت بهم الثورة إلى مناصب عامة، وهما وزير الصحة الدكتور أكرم على التوم، ومدير قسم المناهج بوزارة التربية والتعليم الدكتور عمر القراي. دوافع الحملة على هذين الشخصين منطلقة من غرضين: الغرض الأول شيطنة الفترة الانتقالية، بغرض هلهلتها قبل الانقضاض عليها بصورة من الصور. أما الغرض الآخر، فهو لأن هذين المسؤوليْن لمسا أهل المصالح في مواضع موجعة تتعلق بما حصلوا عليه من مزايا نتيجة لزبانتهم للنظام المدحور، سواءً في تجارة الدواء، أو تجارة الاستطباب، أو تجارة طباعة الكتب. لكن، ما يثلج الصدر، أن عديدًا من الأقلام انبرت لفضح الدوافع الحقيقية للحملة، وقد بدأت علائم اندحارها الآن. خلاصة القول إن حراسة الثورة هي مسؤولية جماهير الثورة، وأن بلوغ الثورة أهدافها ليس نزهة، وإنما وقوفًا على أهبة الاستعداد لدحر التواءات الملتوين.
|
Post: #44
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-17-2020, 06:25 AM
Parent: #43
صناعة الزعازع لاستعادة السلطة
النور حمد
صحيفة التيار 17 مايو 2020
واضحٌ لكل من راقب الحالة الأمنية في البلاد في الشهور الماضية، أن هناك أيادي تعبث بأمن البلاد واستقرارها. تمثلها جهات أعلنت عن نفسها بنفسها. فقد راج قبل بضعة أشهر تسجيل فيديو تداولته وسائط التواصل الاجتماعي، قال فيه أحد قياديي الاسلاميين: "نحن ما حنخلي حكومة حمدوك تشتغل". وكلنا يذكر حوادث العنف القبلي في بورتسودان، وحادثة انغلاق الخط الناقل للنفط الخام بالشمع، وكيف قفز سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني، فجأةً إلى الضعف، وما لبث أن صار ثلاثة أضعافٍ ويزيد. أيضا شهدت البلاد أزمةً طاحنةً في الخبز والوقود والغاز. ثم أعقبت ذلك حرائق حقول القمح في الجزيرة، وتلتها حوادث دارفور وأخيرا كسلا وكادوقلي. تستمر قيادات المؤتمر الوطني، والمؤتمر الشعبي، تتوعد، وتلوح بالعنف، فتلوذ الجهات العدلية بالصمت، وينصرف الإعلام كالعهد به، إلى "الفارغة والمقدودة"، وكأنَّ نشر ثقافة العنف والتهديد، وصناعة الزعازع، واستغلال العاطفة الدينية لدى البسطاء لا تعنيهم في شيء.
من آخر التسجيلات الصوتية التي سمعتها عبر تطبيق "واتساب" تسجيل لأحدهم يخاطب إخوته، بعد أن أشاد بجهودهم في خلق الزعازع، أن عليهم أن يضاعفوا الجهود، وأن يعملوا على استغلال العاطفة الدينية وسط البسطاء، (قالها هكذا حرفيا). وذكر في حديثه تجربة لهم مع "ستات الشاي"، قال إنهم قدموا لهن مواد غذائية لرمضان، وأنهن بسبب ذلك وعدنهم بالخروج معهم في تظاهراتهم المقبلة. المفارقة المحزنة هنا أن هؤلاء هن نفس ستات الشاي اللواتي كانوا يضايقوهن في كسب عيشهن ويحملوهن في "كشات" على "الدفارات"، ويصادرون معداتهن. لكن، حين وجدوا الآن أنهن يمكن أن يكن مفيدات، خطبوا ودهن، لجرهن ليقفن، بلا وعيٍ، ضد مصالحهن. هذا النوع من العقليات التي لا ترى بأسا في استغلال البسطاء لتحقق أهدافها السياسية الجهوية. وهذا الصنف من السياسيين لا يعرف ما هو القانون وما هي الحقوق وما هو النبل الأخلاقي وما هو شرف الخصومة، والنزاهة. ينتمي هذا النمط من التفكير والسلوك إلى هذه الديانة المنحولة التي جاءتنا من خارج البلاد، وقد أُلصق بها جالبوها اسم الإسلام زورا وبهتانا.
تشير كل المؤشرات إلى أن هناك تراخيا حكوميا في مواجهة هذا العمل المنظم لصناعة الزعازع. فعلى الرغم من أن هؤلاء يهددون، باستمرار، باستخدام العنف، جهارًا نهارا، نجد أن الشرطة، والجهاز العدلي، صامتين، والإعلام الحكومي صامت كذلك. ولسنا بحاجة إلى الإشارة إلى أن هذا النمط من التفكير السياسي، هو نفس نمط التفكير الذي خلق المتطرفين وأحدث بهم الزعازع في العراق، وسوريا، وليبيا، والصومال.، وظل يصنعها بهم، في السودان، منذ 1989، وإلى الآن. هذه الزعازع مرتبطةٌ بمشروع عابر للأقطار، لا يمثل السودان فيه سوى حلقةٍ ثانويةٍ خادمة لاستراتيجية إقليمية كلية. كل حديث من هؤلاء عن مصلحة الوطن والمواطنين، ليس أكثر من مخاتلةٍ وخداع، فاعتبروا يا أولي الألباب.
|
Post: #45
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-18-2020, 03:21 AM
Parent: #44
عطب المحليات؟
النور حمد صحيفة التيار 18 مايو 2020
سبق أن تحدثت عن المحليات بوصفها جهازًا إداريًّا قاعديًا في منظومة الحكم المحلي. وتحدثت عن أنها من المؤسسات التي ينبغي أن تمنحها الثورة عناية خاصة. فهي الآلية الرابطة بين الخطط الحكومية، عندما تكون هناك خططا حكومية، حقيقية، وبين الجهد الشعبي لإنزال الخطط على الأرض. وبتضافر هذين الجهدين يمارس الناس في المدن والأحياء والقرى، الديموقراطية ويتعلمون صناعة القرار، ومتابعة تنفيذه. وهو ما يتيح للجماهير تعلُّم إدارة الشؤون العامة، عن طريق التجربة. وما من ديمقراطية إلا وكانت الانتخابات البلدية مصاحبةً فيها للانتخابات العامة. أيضا قلت في مقالة سابقة أن الإنقاذ بنهجها الشمولي، جعلت من المحليات أداة للجبايات ولإحكام القبضة الأمنية على مستوى القواعد. وعبرها استخدم النظام منسوبيه لتزوير الانتخابات. بل ومنح منسوبيه فرصا واسعة للثراء الحرام.
في نهايات شهر أبريل أصدر والي الخرطوم المكلف، قرارًا بإعفاء مدراء المحليات السبع بولاية الخرطوم، وتعيين بدلاء لهم. وحسنًا فعل. فالإنقاذ أصلًا لم تضع على رأس أي محلية إلا يصبح لها يدا في استتباع جهاز الحكم المحلي للتنظيم الشمولي الحاكم. لكن، لابد من القول هنا، إن التعيين ليس هو الطريق الأمثل لخلق محليات جديدة، همها الأول والأخير خدمة المواطن. الطريق الصحيح لقلب أوضاع المحليات الإنقاذية، رأسًا على عقب، لهو الانتخابات المحلية الحرة النزيهة. لا ينبغي للحكومة الانتقالية أن تتجاهل لجان المقاومة، فهي نبض الشارع، وهي التي تعرف، بحكم التجربة الطويلة على أرض الواقع، كيف أدارت الإنقاذ هذه المحليات، وكيف زيفت بها إرادة الجماهير، وكيف أدخلتها ضمن منظومة الفساد الشامل. لذلك يصبح إشراك هذه اللجان في وضع تصور للحكم المحلي وإدارته ديمقراطيًا، من أهم مهام الفترة الانتقالية. فثورة بعظمة ثورة ديسمبر، ينبغي أن تقلب منظور التغيير النخبوي من أعلى، الذي ظل سائدًا منذ الاستقلال، لينطلق من القواعد، فيصبح من أسفل إلى أعلى.
إن القذارة التي تغرق فيها أحياء ولاية الخرطوم، والعجز الفاضح عن إزالة الأوساخ، والقبح الذي يطالعك أنى اتجهت، وصور التعدي المتزايد على الشوارع، لأكبر دليل على أن هذه المحليات قد أصابتها سنوات الإنقاذ في مقتل. فقد ظلت تعمل بأمزجة من يديرونها وليس وفقًا لضوابط، حتى أصبح عملها أقرب إلى التخريب. أما إذا نظرنا لأحوال المدارس التي تحولت إلى خرائب، والى الشوارع الرئيسية المظلمة، وإلى التصديقات العشوائية لإنشاء الورش، بل وإنشاء ما يشبه المناطق الصناعية، وسط الاحياء، لتأكد لنا أن هذه المنظومة تحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية، والى مفاهيم جديدة، وروح جديدة، وضوابط صارمة، بل وتدريب. والآن، هذا هو الخريف يقرع الأبواب، ولم يظهر للمحليات، حتى الآن، أي تحرك، في نظافة مصارف المياه من الأوساخ والأتربة المتراكمة. إن أداء المحليات ليجعل المرء يتساءل: أين يمكن للمواطن أن يجد لها فعلاً فيه منفعة له؟
|
Post: #46
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-19-2020, 06:17 AM
Parent: #45
الواجهات النيلية
النور حمد
صحيفة التيار 19 مايو 2020
ظلت بلادنا، منذ الاستقلال تسير بغير خططٍ، وبلا استراتيجيات واضحة المعالم. تدل على ذلك أمورٌ كثيرة، تعكس، في مجملها، حالةً من العجز المزمن في التخطيط. يشمل ذلك التخطيط الاقتصادي، والتخطيط الاجتماعي، والتخطيط الاستراتيجي الأمني، والعلاقات الخارجية، والتخطيط الثقافي، والتخطيط البيئي، والتخطيط العمراني، إلخ. لكن، ما من شك أن هناك أشياءً عديدةً جرى إنجازها، هنا وهناك، عبر الأربع وستين سنة المنصرمة، لكنها، لم تقم وفق خطةٍ كليّةٍ لامَّة، أو ناظمة master plan. ما أود أن أتناوله اليوم، في هذه الزاوية، هو الخسران المتنامي للواجهات النيلية في العاصمة الخرطوم، لصالح أبنية، ربما وقف وراءها سوء التخطيط، أو استغلال النفوذ، أو كليهما. حدث هذا على الرغم من ان الصحافة المحلية أوردت أن بيتًا إيطاليًا للخبرة سبق أن وضع خطة هيكلية للعاصمة، من ضمن ما ورد فيها عدم حجب الواجهات النيلية بالأبنية.
لم تكن للعاصمة المثلة، عقب الاستقلال مباشرة، واجهةً نيليةً مرصوفةً، سوى تلك التي كانت تغطي المنطقة الممتدة من حديقة الحيوان سابقًا (فندق كورنثيا حاليا)، إلى ما بعد القصر الجمهوري، بقليل، في اتجاه الشرق. نشأت الخرطوم في العهد التركي (1821 - 1885)، وتطورت أكثر في ظل الاستعمار البريطاني (1898 - 1956)، وعبر هاتين الحقبتين بقي شارع النيل يفصل بين المباني والنهر. بذلك، بقي، منظر النهر مفتوحًا وملكًا للجميع. وهذا أمرٌ مطلوبٌ، جماليًا، ووظيفيًا في إطار التخطيط العمراني الحديث لأي مدينة لها واجهة مائية. فالدول، عادةً، تحرص أن تكون الواجهات البحرية والنهرية ملكًا عامًا، فلا يستأثر بها فردٌ أو مؤسسةٌ؛ حكوميةً كانت، أم غير حكومية. عمومًا، لم يجر، عبر حقبة ما بعد الاستقلال تطويرٌ يذكر للواجهات النهرية للمدن الثلاث، إلا بقدرٍ ضئيل. هذه الواجهات كنزٌ عامٌّ ثمينٌ؛ من الناحيتين الجمالية والاقتصادية. الواجهات النهرية في العاصمة الخرطوم، بالغة الطول، ولربما يتجاوز طولها، عبر شطآن الخرطوم، وبحري، وأمدرمان، المئة كيلومتر. تمثل هذه الواجهات متنفسًّا تنزُّهيًا مهمًّا لسكان المدينة، ورافدًا اقتصاديًا استثماريًا ضخمًا، لو جرى تطويرها، وأُحسن استغلالها.
منذ حقبة نميري بدأ التعدي على الواجهات النيلية، خاصةً في أمدرمان. فقد جرى تشييد مجلس الشعب (مبنى البرلمان)، ومسجد النيلين، وجامعة القرآن الكريم على الشط مباشرة، ففصلت بين شارع النيل في امدرمان، والنهر، وجعلت الشط خارج متناول عامة المواطنين. كما جرى في حقبة الانقاذ إنشاء صالات أفراح ومحلات تجارية جديدة بين النهر وشارع النيل، على شط أمدرمان بين حديقة الموردة وكبري شمبات . في الخرطوم نشأ في حقبة نميري مطعمٌ قبالة وزارة التربية والتعليم، ففصل بين شارع النيل في الخرطوم، وبين النهر. وفي عهد الإنقاذ نشأ نادي في شط حي غاردن سيتي يقال إنه تابعٌ لجهاز أمن البشير، لا يزال تحت التشييد. أما مدينة بحري فليس لها شارع محاذي للنيل، أصلا. هذا الخسران المتنامي للشطآن واحدٌ من رزايا الأنظمة الشمولية. فليتنا نجعل من هذه الثورة المجيدة مبتدأً لخلق استراتيجيات، متسمة ببعد النظر وبضوابط صارمة لحراسة الصالح العام، بعد أن أنفقنا عقودًا ونحن أسرى لسوء التخطيط، ولنزوات الفئات، والأفراد، وإيثارهم لذواتهم.
|
Post: #47
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-20-2020, 06:18 AM
Parent: #46
استهداف لجان المقاومة
النور حمد
صحيفة التيار 20 مايو 2020
هناك عدة محاور تحركها القوى الكارهة للثورة، تعمل متضافرةً، وغرضها، جميعها، إجهاض الثورة، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لاحظت في الأشهر القليلة المنصرمة، أن القوى الكارهة للثورة تتحول من المحور المعين حين، يتضح أنه لم يأت بثمر، لتعمل على محور آخر. ولا أعتقد أن القوى المُنكِرة للثورة قد كرهت شيئًا في كل الحراك الذي جسد هذه الثورة العظيمة، مثلما كرهت ما سميت "لجان المقاومة". تميزت هذه الثورة على الثورتين السابقتين بأنها ثورة شارع بأكثر مما هي ثورة نخب سياسية. هذه الطاقة الرهيبة التي تفجَّرت في كل حيٍّ وفي كل قرية هي التي أجبرت نظامًا مدججًا بالسلاح، مرد على استخدام أقصى صور العنف، عبر عقود حكمه الثلاثة، على أن يجثو على ركبتيه ويستسلم. وكما يقول المثل "يُؤتى الحَذِرُ من مأمنه"، أي أن الشخص كثير الحذر يأتيه الخطر من حيث لا يحتسب. فهو بعد أن يسد كل الثغرات يأتيه الخطر الداهم من الثغرة التي ظنها أصلاً آمنة، ولا تحتاج منه إلى تأمين. استثمر الإنقاذيون عبر مناهج تعليمهم وإعلامهم في تجهيل الجيل الأصغر سنا، فكان هذا الجيل هو الأداة التي اقتلعت نظام حكمهم.
يحاول كارهو الثورة حاليًا شيطنة لجان المقاومة، من أجل تفكيكها وإضعافها عن طريق ضرب وحدتها، بمختلف الذرائع والأساليب. السبب هو أن لجان المقاومة أجهضت محاولة تحويل الثورة إلى انقلاب عسكرب على يد الفريق عوض ابن عوف، والفريق عمر زين العابدين. كما قلبت الطاولة على القوى المحلية والإقليمية التي خططت لفض الاعتصام، وارتكاب مجزرته البشعة، بغرض إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. والآن، فإن كارهي الثورة يعرفون أن لجان المقاومة هي السلاح المُجَّرب، شديد المضاءة، الذي يمكن أن يهزم أي انقلابٍ عسكري قادم. لذلك أصبحت هذه اللجان هدفًا رئيسًا لهم، فشرعوا في تخريب سمعتها بنسبتها إلى تيارات سياسية بعينها. وكذلك، بافتعال أعمال غوغائية وانفلاتات أمنية، ثم نسبتها إليها. بل ذهبت الشيطنة إلى أبعد من ذلك، لتصل درجة ربطها بالجريمة المنظمة.
لقد برهن طيف كارهي الثورة، المرة بعد الأخرى، أنهم قومٌ لا خلاق لهم. فهم لا يتورعون عن فعل أي شيء، مهما كانت خساسته ووضاعته، ما داموا قد توسموا فيه أنه يخدم غرضهم. ويبدو أنهم غافلين تمامًا عن الحقيقة الدينية البسيطة، وهي أن الاستثمار في الشر لا ينتج منه خيرٌ أبدا. لجان المقاومة هي الشعب الذي أذلوه وأضاقوه الأمرين عبر ثلاثين عامًا. هي الضمير الأخلاقي لهذه الأمة الذي رفض الضيم والظلم والعنجهية، ووقف في وجه الطغاة بصدورٍ مكشوفةٍ ماهرًا ثورته بدمٍ عزيزٍ غزير. في هذه اللجان شبان وشابات وُلدوا وترعرعوا في بيوت العز الزائف المشيدة بمال السحت، لكن ذلك لم يمس شيئًا من معدنهم، وهذا من فضل الله عليهم وعلى أهلهم. فقد برهنوا بالفعل، لا بالقول، أنهم أنقياء أتقياء، ملكوا الضمير والوازع الديني الذي جعلهم يقفون مع الضعفاء. إن معركة هذه الثورة مع خصومها معركةٌ أخلاقية، بالدرجة الأولى. ولن تكون لهذه البلاد رفعة إلا إذا تأسس عهدها الجديد على منظومةٍ أخلاقيةٍ جديدةٍ، نقيضةٍ لما ظل جاريًا منذ الاستقلال.
|
Post: #48
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-21-2020, 00:57 AM
Parent: #47
هذا هراء السياسة فأين السياسات؟
النور حمد
صحيفة التيار 21 مايو 2020
ظل الأستاذ عثمان ميرغني يتساءل مرارًا وتكرارًا: أين خطط وبرامج هذه الثورة؟ وهذا، دون شك، سؤال مركزي. فالثورة تعني، بالضرورة، أن هناك تطلعًا ملحًا للتغيير، لا يحتمل الإرجاء. هذا التطلُّع المُلح هو ما دفع بالناس إلى الشوارع، ووضعهم في مواجهة النظام المدحور، بكل ما كانت تحمله تلك المواجهة من أخطار. لابد لأي تغيير من خططٍ وبرامج، لكن، لا يبدو أن نخبنا السياسية بعقليتها المنحبسة في أطر الماضي ومفاهيمه، منشغلة بهذا. هي، كما عودتنا دائمًا تتصارع، على الأسلاب؛ من توسيعٍ للحيِّز السياسي، والحصول على مقعدٍ في السلطة، ومن ثم، فتح باب للثروة والوجاهة. لذلك يسيطر عليها هذا الانهماك في القضايا الإجرائية. يقوم هذا النهج المُقعد على فكرةٍ يمكن تلخيصها في الآتي: دعوني أُمسك بالسلطة أولا، ولسوف يكون كل شيء، بعد ذلك، على ما يرام.
بدلاً من أن تصبح الفترة الانتقالية تباريًا بين القوى السياسية في تقديم الخطط والبرامج الإصلاحية والإنمائية، التي من شأنها أن تدعم الانتقال من وضع العجز الذي انحبسنا فيه لعقود، إلى وضع الحراك الثوري العارم في دروب التنمية والنهضة الشاملة، على مختلف الجبهات، انشغلت القوى السياسية بإضعاف الفترة الانتقالية، لتصل بأقصر طريق إلى السلطة. تضافرت جهود مختلف النخب السياسية وتحت مختلف الذرائع الديماغوجية لإضعاف حكومة حمدوك، ودمغها بالفشل؛ وزيرًا، عقب زير، تارةً، ومجتمعةً، تارةً أخرى. هذا النهج، هو ما يمكن أن نطلق عليه "هراء السياسة". وهو ذات النهج الذي ظل فاعلاً لدينا منذ الاستقلال، وحتى يومنا هذا. وهو ما جعل بلادنا في ذيل القافلة البشرية في كل شيء. لا ترى نخبنا السياسية، التخلف المريع لواقعنا، ولا تحدياته الجسيمة، وإنما ترى، فقط، خصومًا سياسيين، لا ينبغي أن يحتلوا معها موقعًا في الساحة. لذلك، فإن الأولوية، قبل كل شيء آخر، هي إزاحتهم، كليًا، أو إضعافهم إلى أقصى مدى ممكن.
لقد ظل اليمين السوداني، واليسار السوداني، يتبادلون إقصاء بعضهم، عبر منعرجات تجربتنا السياسية لفترة ما بعد الاستقلال. وقد جسدت هذه المسيرة المضطربة تطبيقًا عمليًا، لهذا الفهم القاصر للسياسة. لكن، الأمل، كل الأمل، في هذه الأجيال الجديدة، التي أنجزت هذه الثورة العظيمة، في أن تخلق لنفسها، جسمًا سياسيًا جديدًا، أو أن يضغط المنتمون منهم إلى الأحزاب القائمة، على أحزابهم لكي تغير تصوراتها، ونهجها، بل، وحتى قياداتها، لإخراج الممارسة السياسية من هذا الطرق المُقعد. ما نحتاجه في الفترة الانتقالية خطط وبرامج لإعادة حكم القانون وإعادة المؤسسية إلى أجهزة الدولة، وأن نضع السياسات والضوابط المانعة، كليًّا، للفساد. كما نحتاج خططا ًلإعادة إعمار الريف، وتشغيل الشباب، وتمويل مشاريعهم الانتاجية، وتوسيع البنى التحتية، وزيادة الانتاج وإصلاح النظام التعليمي والصحي، وإصلاح الحكم المحلي، والسياسة الخارجية. وأن تصبح هذه خطة الجميع التي ينبغي أن تتضافر كل الجهود لإنجاحها. أما الانحصار في تكتيكات الوصول إلى المقعد، عن طريق ضرب الفترة الانتقالية، وتهميش دور الثوار، فهو من جنس النهج الذي أنتج ركام الفشل الضخم، المتجسد في حياتنا. وأرجو أن تكون فرص نجاحه قد ضؤلت أو انغلق بابها بعد هذه الثورة.
|
Post: #49
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-23-2020, 05:05 AM
Parent: #48
متحفٌ في ذكرى مجزرة القيادة
النور حمد
صحيفة التيار 22 مايو 2020
بنهاية شهر رمضان المبارك تمر علينا الذكرى الأولى لمجزرة القيادة البشعة، التي خطط لها شيبٌ وكهولٌ لقتل شبان وشابات في ميعة الصبا والشباب. شبانٌ وشابات غافلون، عُزَّلٌ، لا سلاح لهم سوى حناجرهم. في هذه الذكرى الأليمة، وبسبب غيرها من الفظائع التي ارتكبها نظام الإنقاذ، أود أن أقترح إنشاء متحفٍ لضحايا القتل والتعذيب. فالنسيان يمثل ركنًا أساسيًا في أن يعيد الفرد أو المجموعة من الناس، أو البلدان، التجارب المريرة. وترد في هذا المقام صيغٌ من عبارة شهيرة قالها أشخاص مختلفون، بصورٍ مختلفة، من بين تلك الصيغ: "من ينسون التجارب المريرة من الماضي معرَّضون لتكرارها". من هنا تأتي ضرورة إبقاء الذاكرة الجمعية متقدة عن طريق التعليم وعن طريق الإعلام وعن طريق المتاحف والنصب المختلفة.
أقام اليهود متاحف مختلفة لضحايا المحرقة النازية المعروفة بـ "الهولوكوست" التي حدثت في ألمانيا وفي الأراضي التي احتلها النازيون من أوروبا. من أشهر هذه المتاحف متحف الهولوكوست في العاصمة الأمريكية واشنطن، الذي فتح أبوابه للزوار عام 1993، في عهد الرئيس بيل كلينتون. يزور هذا المتحف حوالي مليوني زائر سنويا. ويكرر اليهود، دائمًا، عندما يتذكرون محارق النازية عبارة تقول: " لن نترك هذا يحدث مرة أخرى"، never again. ولو تركنا متحف الهولوكوست في واشنطن الذي كلف بناؤه 200 مليون دولار، ووقفت وراءه مؤسساتٌ كبيرة، ومعها أغنى أغنياء اليهود في العالم، وتحدثنا عن جارتنا إثيوبيا، فإن فكرة إنشاء متحف للقتل خارج القانون وللتعذيب تصبح فكرة ممكنة التطبيق.
زرت قبل بضعة أعوام "متحف شهداء الرعب الأحمر"، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وهو متحفٌ متواضعٌ يصور سنوات الرعب التي عاشها الإثيوبيون تحت الحكم الشيوعي بقيادة منغستو هيلامريام الذي شغل الفترة من 1974 إلى 1991. يضم المتحف صورًا للناشطين الذين جرى قتلهم، وقصص قتلهم بتوثيق دقيق يشمل رصدًا للأحداث التي جرت في فترة الرعب الأحمر الرهيبة. هذا المتحف مفتوح للجمهور الإثيوبي ولزوار إثيوبيا. كما تجري زيارات للمتحف من طلاب المدارس. هذا النوع من المتاحف يبقي الذاكرة الجمعية للشعب متقدة. فقيام اختصاصيون محايدون بتوثيق جرائم القتل التي تمارسها السلطات خارج نطاق القانون، إضافة إلى ممارسات التعذيب، مأخوذة من أفواه الضحايا، ومن شهاداتهم المكتوبة، مع الشروح والصور، يفتح مجالا للتعليم الخلقي، كما يفتح بابًا لإبراء الجراح. ويصبح مثل هذا المتحف جهةً مرجعية، يمكن أن يؤخذ من المادة التي وثقتها، طرفٌ إلى مناهج المدارس، خاصة في مادة حقوق الإنسان، وما أصبح يسمى التربية المدنية civic education. لقد لاحظنا جميعًا حرص من قاموا بمذبحة فض الاعتصام على محو الجداريات التي حاول بها شباب الثورة تخليد صور من استشهد من زملائهم. السبب أن هذه الرسوم تقض مضاجعهم وتؤرق ضمائرهم التي يريدون لها أن تظل نائمة. وما من شك أن في حرصهم على محو تلك الرسوم دلالةٌ بليغةٌ على قوة تأثيرها، المتمثلة في رسالتها الأخلاقية التي تصل إلى أعماق الضمير. فالتعليم الأخلاقي لا يتم بالوعظ، وإنما بالصورة والنصوص المزلزلة، التي تصل إلى أكثر النفوس كثافة، وأكثر القلوب والعقول إظلاما.
|
Post: #50
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-23-2020, 05:07 AM
Parent: #49
هكذا تنهار الدول
النور حمد
صحيفة التيار 23 مايو 2020
من يتأمل المشهد السياسي الراهن ويربط بينها وبين الأحوال العامة للبلاد، عبر العقود الستة ونيف الماضية، يشاهد بوضوح كيف أن الدولة السودانية تتآكل، وتغذ السير بصورةٍ حثيثةٍ، نحو الانهيار. ولا جدال، البتة، في أن أكبر قدر من التآكل والانحدار صوب الهاوية، قد جرى في ظل حكم الإنقاذ الغاشم. فقد كان حكمًا تأسس منذ البدء، على الجهل الموبق بطبيعة السودان والسودانيين. كما تأسس على الرعونة، وعلى بداوات لأنفسٍ كزة، تجانفت عن الحق وعن الخير والفضيلة. وهو فوق ذلك، كان حكمًا بلا خطة، وكان فاسدًا وعنيفًا، لم يكتف بتخريب البنى السياسية والإدارية والخدمية والوأد الممنهج لمبادرات المجتمع المدني، وإنما أعمل معاوله هدما للنفوس فأحدث فيها خرابًا فظيعًا. الأحداث العنيفة التي توالت في غضون الأسبوعين الأخيرين، تقريبًا، في كل من دارفور، وكسلا، وكادوقلي، ومستشفى أمدرمان، لهي من أبلغ الدلائل على هذا التخريب المريع الذي طال النفوس. فقد وقفت وراء كل هذه الحوادث المؤسفة أيادي أقوام لا خلاق لهم. أقوام ذاقوا طعم السلطة، وطعم الوجاهة الزائفة، واعتادوا على نهب المال العام، فصعب على نفوسهم الفطام.
في هذه اللحظة المفصلية التي نمر بها الآن، وبعد هذه الثورة العظيمة، التي مثلت تطلعًا غير مسبوق نحو الحق والعدل والأمن المجتمع والنهضة الشاملة، لا يقع اللوم على الإنقاذيين وحدهم. وإنما يقع على من يديرون هذه الفترة الانتقالية، بهذا القدر من اللامبالاة والتراخي، والصمت المريب. فالإنقاذيون أصلا لم يكونوا ليفعلوا غير ما يجري منهم الآن من أعمال بالغة الخسة. فهم قد صُمموا ليكونوا على هذه الصورة، ولسوف لن يتغيروا في المدى المنظور. غير أنهم لم يكونوا ليسيروا في التخريب، بمثل هذه الوتيرة المتسارعة، وهذه الجرأة لولا أنهم تأكدوا بأن من يتولون أمر الدولة الآن بلا وعيٍ دولتيٍّ، وبلا عزيمة، وبلا شعور بالمخاطر. ولربما عرف الإنقاذيون أن بعضًا ممن بيدهم الأمر، يستثمرون معهم في هذه الألاعيب الخطرة، كل وفقًا لأجندته قصيرة النظر.
الأحداث المتسلسلة التي حدثت في مختلف الولايات، إضافةً إلى خروج السيد الصادق المهدي من قوى الحرية والتغيير، ألى جانب الشروخ التي حدثت في محادثات السلام في جوبا، تدل كلها أن بعضا من نخبنا السياسية لا ترى أبعد من أنفها. بل هي لا تهتم بغير مصالحها المباشرة التي أعمت أعينها عن رؤية المخاطر الماحقة التي يمكن أن تنجم من مثل هذا الشقاق . وإذا أضفنا إلى ذلك الصمت الحكومي تجاه ما يحدث، والتراخي الشرطي، وغياب الجهاز العدلي، وعدم إطلاع الناس على ما جرى للمتسببين في هذه الأحداث، واكتفاء الإعلام بنقل مراسيم التوقيع على اتفاقيات الصلح بين الأهالي المتحاربين فإن صورة سقوط هيبة الدولة وانحلال عزيمة من يقومون على أمرها، يصبح أمرا شديد الوضوح. من يقرأ التاريخ يجد أن ما يجري الآن هو مطابق لكل الحالات التي عادة ما تسبق انهيار الدول. كان الإنقاذيون يخيفون الناس من الثورة، بمصير العراق وسوريا وليبيا، غير أنهم الآن هم الذين يقودون البلاد إلى تلك المصائر ولا يجدون من يردعهم. بل، ويساعدهم في ذلك بغفلةٍ عجيبةٍ، وربما بغرض، بعض من الطيف السياسي؛ ممن هم في سدة الحاكم، وممن انشقوا عن حاضنته السياسية.
|
Post: #51
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-24-2020, 11:14 AM
Parent: #50
الإمام والانغماس في الذاتي
النور حمد
صحيفة التيار 24 مايو 2020
من أشق الأمور على النفس نقد بنية وعي شخصٍ بعينه، لكن المرء يجد نفسه مجبرًا أحيانا على فعل ذلك، خاصةً حين يتصل الأمر بالصالح العام. فالسيد الإمام، الصادق المهدي، زعيم طائفة دينية كبيرة، وهو علاوة على ذلك، رئيس حزبٍ كبير. وقد كان منذ ظهوره في مسرح السياسة في ستينات القرن الماضي، وحتى انقلاب الإسلاميين على حكومته في يونيو 1989، شخصًا مثيرًا للجدل وللزوابع السياسية. وقد، بلغت إثارته للجدل ذروتها عبر أعوام الإنقاذ الثلاثين، وصولاً إلى ثورة ديسمبر المجيدة. هذه المقالة تعليقٌ مقتضبٌ على مقطع فيديو قصير، مقتطفٍ من مقابلة أجراها معه الأستاذ بابكر حنين، شاع تداوله مؤخرًا في وسائط التواصل الاجتماعي. في هذا المقطع وردت على لسان السيد الصادق المهدي جملةٌ، قال فيها: "أنا يا حبيب عندي صفات غير موجودة، لا في العالم العربي ولا في العالم الإسلامي ... دي صفات نادرة".
هذه الجملة بالغة الغرابة والخطورة، تصلح لأن تكون مفتاحًا لفهم شخصية السيد الصادق المهدي، ولفهم مناوراته السياسية الجمة التي لم تتوقف منذ ظهوره الأول في الساحة السياسية السودانية، في ستينات القرن الماضي، وحتى خروجه الأخير من قوى الحرية والتغيير، عقب طرحه ما أسماه "نحو عقد اجتماعي جديد". لقد عكس ما جهر به السيد الصادق المهدي تضخمًا للذات، بلغ حدًا منح به نفسه فرادة لا نظير لها في العالمين العربي والإسلامي، اللذين يبلغ تعداد سكانهما ما يزيد على المليار شخص. تقرع تلك المقولة في عقل كل شخص يفكر باتزان، مهمومٍ بمصير البلد، أجراس الخطر. فوصول شخصٌ بهذا التصور للذات، أو أي واحدٍ ممن حوله، ممن يشاركونه رأيه هذا عن نفسه، إلى قيادة الدولة، سيضع البلاد في كف عفريت. فالقيادة في المجال السياسي العام تقتضي الاتزان النفسي، والرؤية الموضوعية للأمور. لا مجال البتة في السياسة المعاصرة للغنوص، وللشعور بالاصطفاء الإلهي. بل إن كل شخص في التاريخ، رأى في نفسه بشرًا استثنائيًا، تسبب في كوارث يشيب لها الولدان.
تشرح فكرة الإمام الصادق المهدي عن نفسه، التي عبر عنها في هذه المقابلة كثيرًا مما غمَّ علينا من تصرفاته السياسية. فهي، على سبيل المثال، شرحت استخفافه بالثورة، ومحاولته خلق تحالف مع الإسلاميين، وربما مع غيرهم، لقلب الطاولة على الفترة الانتقالية. كما أبانت دوافعه للتقدم بمقترحه الضرار، "نحو عقدٍ اجتماعي جديد"، الذي وضع فيه نفسه في موضع ماكينة القاطرة، والآخرين مجرد مقطوراتٍ، تصطف خلفه. هذه الفكرة المتضخمة عن الذات، والشعور بالانتداب الإلهي، هي نفس الفكرة التي امتلأ بها عقل الدكتور حسن الترابي، فأربك بها المشهد السياسي السوداني لخمس عقود. حاول الترابي جعل السودان منصةً تنطلق منها أممية إسلامية تكتسح العالمين العربي والإسلامي. لكن، كانت النتيجة أن انتهينا أسرى لأفسد وأتعس وأعنف نظام حكم عرفه السودان. الجامع بين السيد الصادق المهدي، وبين الشيخ حسن الترابي هو وهم الدولة الدينية، ووهم القيادة الإسلامية المتجاوزة لحدود القطر. من زار السيد الصادق المهدي، مؤخرًا، من دهاقنة قدامى الإسلاميين، يعرفون سيطرة هذا الوهم عليه. وبالفعل، لم يخيب ظنهم فيه. فبعد نحو أسبوعٍ من تلك الزيارة، خرج الإمام من صفوف الثورة، لينزلق، فيما أحسب، متاهته الأخيرة.
|
Post: #52
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-26-2020, 04:53 AM
Parent: #51
فلنتعلم من إخوتنا الأفارقة
النور حمد
صحيفة التيار 26 مايو 2020
في عقد الاستقلال الإفريقي، وهو عقد الخمسينات من القرن الماضي، كان السودان قطرًا علمًا تتطلع إلى أحواله كثيرٌ من شعوب القارة. بمقاييس تلك الفترة، كان السودان قطرًا متقدمًا نسبيًا؛ في نظامه التعليمي، وفي بنيته التحتية، وفي خدمته المدنية، وفي مجمل جهازه الإداري. علاوة على ذلك، بدأ السودان استقلاله قطرًا ممارسًا للديمقراطية، بل، إن استقلاله نفسه، جرى إعلانه من داخل برلمانه المنتخب. مر عقد الاستقلال والعقد الذي يليه ودخلت عبرهما كثيرٌ من دول القارة، في حقبة الحرب الباردة، في دورة الانقلابات العسكرية المنهكة، والحروب الأهلية الداخلية التي عصفت بالاستقرار وبفرص التنمية. لكن، لم تكن النخب السياسية التي استلمت مقاليد الحكم من المستعمر، في السودان، جاهزة ًحقًا لإدارة قطرٍ بحجم وتعقيد السودان. بل، إن من أغرى العسكر بالانقلابات العسكرية هم السياسيون المدنيون. وقد أُهرق في هذا مدادٌ كثير، ولا أود الخوض فيه في هذه العجالة. مأ أود الخوض فيه هو أن إخوتنا الأفارقة الذين ترنحوا مثلنا بُعيد الاستقلال، ما لبثوا أن ثبتت أقدامهم، وشرعوا في النهوض من جديد. هذا، في حين غرقنا نحن أكثر، وأكثر، في وحل القعود والتراجع.
وقوعنا في البرزخ الفاصل بين العالمين العربي والإفريقي، واحتلال جغرافيتنا لمعظم حوض وادي النيل، جعلنا على رأس الأهداف المصرية. استتبعتنا القومية العربية وقضية فلسطين وأخرجتانا من خدمة أجندتنا الوطنية لنصبح في خدمة أجندة قوى تقع وراء حدودنا، طرفاها القومية العربية والشيوعية الدولية. ومن مصر، أيضًا، وفد إلينا تيار الإسلام السياسي وأعمل فينا معاوله، حتى تمكَّن من سرقة بلادنا لثلاثين عام؛ بدأها بوهم تصدير الثورة الإسلامية إلى العالمين العربي والإسلامي، وأنهاها بأكبر فشلٍ وفسادٍ مؤسسي عرفته دولةٌ معاصرة. من جانب آخر، أسهم تولي السيد الصادق المهدي زعامة حزب الأمة، وهو الحزب الذي كان على رأس الأحزاب الاستقلالية، في أن يتراجع الحزب، ويتقدم انجرار زعيمه وراء أوهام عولمة الإسلام، والاصطفاف مع إيران، خارجيًا، والتماهي داخليًا مع أجندة الإسلام السياسي. أما اخوتنا الأفارقة فقد انحصروا في أجندتهم الوطنية، وحققوا قدرا من الوحدة الوطنية مكنهم من النهوض. وبقينا نحن نصطرع أيديولوجيًا في وقتِ غربت فيها شمس الإيديولوجيا القابضة في كل العالم. باختصار، أصبحنا قطرًا بلا هوية وطنية، وبلا استقلالية في القرار السياسي والاستراتيجي. وأصبحنا، من ثم، نهبًا للأجندة الخارجية، حتى بلغ بنا الهوان حدَّ أن طمعت فينا دول الخليج، التي تخوض، بسبب تخمة المال، حروب وكالة عبثية ضد بعضها في عدد من الأقطار العربية.
خلاصة القول، إن من أوجب المهام بعد هذه ثورة ديسمبر العظيمة، الخروج من هذا الانجرار المهين وراء القوى الخارجية، ورسم سياسة خارجية مستقلة تضع حماية أراضي البلاد ومقدراتها وكرامتها الوطنية فوق كل شيء. معظم سكان إثيوبيا مسلمون، ومعظم سكان تشاد مسلمون، ومعظم سكان إريتريا مسلمون. بل إن العربية هي لغة أكثرية التشاديين، والإريتريين. ومع ذلك لا نرى لدى جيراننا هؤلاء انجرارًا وراء الأجندة العربية والإسلاموية. هذه الدول الثلاث محترمةٌ مهابةُ الجانب، لا يطمع فيها طامع. ودولتنا مع كل توفر فرص المنعة، أضحت فضاءً مستباحًا لكل طامع. والعلة، كل العلة، في هذا العقل المُحتَل، المُستتبَع، الجاهل بهويته، وأيضًا في القادة المنحبسين في وهم الدولة الدينية، الراكضين وراء الأوهام، المتطلعين، بلا إمكانيات مادية ، وبلا مؤهلات من أي نوع، لأدوارٍ عالمية.
|
Post: #53
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-27-2020, 04:22 AM
Parent: #52
كورونا والتدين الرعوي
النور حمد
صحيفة التيار 27 مايو 2020
بصورة عامة يمكن القول إن تجربة جائحة كورونا أثبتت أننا أقل الشعوب انضباطا والتزاما بالتوجيهات الحكومية. وقبل ذلك، أقل انضباطا في أتباع ما تقتضيه الحكمة الدينية الواردة في أحاديث النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. فالحكمة الدينية تقول إن السلامة ودرء الضرر مقدمةٌ على كل شيء. فالنص النبوي الشريف، يقول: "إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا". وتقول الآية الكريمة "وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ". غير أن نمط التدين الرعوي له منطقه الخاص، وتأويلاته التي تحبسه في التدين المظهري، وتجعله يتجافى عن صريح النص ومؤدى الحكمة. يتمرد التدين الرعوي على حكمة الدين، إن هي ضيقت عليه المساحة التي اعتاد عليها، وطالبته بتفهم الضرورة، ومراعاة أحكامها، التي نص عليها الدين حرفيا.
يغيب على أصحاب هذا النمط من التدين أن حظ النفس يمتزج أحيانا بدعوى الحرص على الدين. أعني، الحرص على الطقس أو الشعيرة الدينية المعينة، أو الذهاب إلى المناسبات الدينية الحاشدة، في حين يكون الواجب المباشر هو تجنبها. مثال ذلك: صلاة الجماعة، أو تشييع جنازة، أو تقديم واجب العزاء، في زمن استحكم فيه الوباء. يميل العقل الرعوي في تدينه إلى التشدد والغلو. ولسنا بحاجة لضرب الأمثلة بطالبان، وبداعش، وببوكو حرام، وبالشباب الصومالي، وبمجمل الطيف السلفي الجهادي. يختلط التشدد والغلو في كثير من الأحيان، بحظ النفس، وبمجافاة مقاصد الدين العليا. فالحكمة الدينية المتمثلة في الحرص على حفظ النفس، وأنفس الآخرين من الأذى، لا تحتاج إلى حجاج أو دليل، لكن هذا النمط من العقول لا يرى تلك الحكمة، لأنه يجد متعة في التمرد على السلطة، سواءً كانت دينية، أو سياسية، أو قانونية، وفي عموم العصيان، من أجل إثبات الأنا وتأكيدها. تنعجن كل هذه الدوافع الملتبسة مع نزعة إفحام الآخر الداعي إلى إعمال العقل، فتتخذ من إبداء الحرص على إقامة الشعائر، واحتكار منصة المدافع عن الدين مركبًا للتغلب عليه يجري استخدام الدين لخدمة الرعونة، والصلف الشخصي، والأنا المتضخمة، اللامبالية، التي تستمتع بالموقف المعاند – مجرد الموقف - بغض النظر عن نتائجه الكارثية. وهكذا يضرب هؤلاء بحكمة الدين، ونور العقل، وتوجيهات أهل الاختصاص في الحقل الصحي، عرض الحائط.
شاهدنا طيلة شهر رمضان المنصرم العديد من التفلتات، من بعض الأئمة، ومن بعض المجموعات في الأحياء، ومن الأفراد، الذين أقاموا الصلوات الجماعية. بل ومن بعض الطرق الصوفية، التي شيعت شيوخًا كبارًا كرامًا، انتقلوا إلى جوار ربهم، عليهم رحمة الله ورضوانه، بحشودٍ ضخمةٍ متراصةٍ، متلاصقة. وقد قاد هذا المنحى، منذ البداية، كارهو الثورة، العاكفين على شيطنة قواها. لكن حين طرق الوباء عتبات دورهم عرفوا أن هذه الجائحة حقيقية، فتراجعوا، وتلك فضيلة. أما قناة الجزيرة، المُشيطن الأكبر للثورة ولقواها، فقد تبرعت، في بدعةٍ غير مسبوقةٍ، بنقل صلاة التراويح من منزل أحدهم بالخرطوم، في الوقت الذي كانت فيه، ولا تزال، صلاة الجماعة ممنوعةٌ في مساجد الدوحة، بأمر السلطات. إن أسوأ عملٍ يلقى به المرء ربه لهو الاتجار بدين الله لتجريم الآخرين بغير وجه حق، من أجل كسبٍ سياسي، لن يزن عند الله مثال ذرةٍ، يوم تُنصب عنده موازين الحساب.
|
Post: #54
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-28-2020, 00:34 AM
Parent: #53
الطائرة الاسرائيلية والنفي المضطرب
النور حمد
صحيفة التيار 28 مايو 2020
ظللنا نعاني عبر تاريخنا السياسي المعاصر من أزمة مستحكمة في الوضوح والشفافية في العلاقة بين المسؤولين الحكوميين والشعب. تتغير الأوضاع لدينا بالانقلابات العسكرية وبالثورات، لكن يبقى سلوك المسؤولين في الدولة فيما يتعلق بالجنوح إلى التعمية، والغموض، وعدم الشفافية، كما هو، بلا تغيير. من منا لا يعرف اليوم أن التطبيع مع إسرائيل أصبح واقعًا معاشا، في كثير من الدول العربية، فلماذا نواريه عن الشعب السوداني متوهمين أنه يقف ضده. من المخجل أن يتعامل مسؤولونا مع الإسرائيليين سرًا، وينكرون ذلك التعامل معهم في العلن. إن الذين يرفعون سلاح الإرهاب بتصوير أن التطبيع مع اسرائيل خط أحمر، يعلمون علم اليقين أن الدول الداعمة لهم، وهي قطر وتركيا، لها علاقات وطيدة مع إسرائيل منذ وقت طويل. لكن، رغم كل ذلك لا يزال المسؤولون الحكوميون لدينا يمارسون سياسة التعمية والإخفاء، واضعين كل فئات الشعب، بلا استثناء، في خانة القصور وقلة النضج وعدم الأهلية لمواجهة الحقائق، ويتصرفون بهذه البهلوانية التي تثير نحوهم الشعور بالرثاء.
تردد أول أمس أن طائرة إسرائيلية هبطت في مطار الخرطوم. ولأن كارهي الثورة يبحثون عن كل شاردة وواردة لشيطنة الثورة وحكومة الفترة الانتقالية، فقد زحم خبر هذه الطائرة وسائط التواصل الاجتماعي. ولأن تابوو التعاطي مع إسرائيل لا زال يعشش في أدمغة بعض هؤلاء المسؤولين المساكين، فقد هرعوا في ذعرٍ وعجلة قاتلة إلى نفي الخبر. بل ذهبوا في النفي مذهبًا يطعن في المصداقية ويجلب السخرية. فقد قالوا إن السلطات السودانية لم تسمح أصلاً للطيران الإسرائيلي بعبور أجواء السودان، دع عنك أن تتركه يهبط في مطار الخرطوم. وهذه كذبة بلقاء لم يكن هناك داعٍ أصلا للتفوه بها في هذا النفي. وهو نفي لا ضرورة له أصلا، سواء أن هبطت تلك الطائرة أو لم تهبط في مطار الخرطوم، لولا الخوف والتلفت، فزعًا، من فوق الأكتاف.
لقد سمح السودان عقب لقاء البرهان بنتنياهو في كمبالا، في بدايات فبراير الماضي، بعبور الطيران الاسرائيلي أجواءه. وقد أعلن نتنياهو بنفسه خبر عبور أول طائرة إسرائيلية أجواء السودان في اليوم التالي لعبورها. وقد أوردت الخبر قناة الجزيرة في 16 فبراير، نقلاً عن موقع صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية. المدهش، أن تركيا المتضامنة مع قطر في تعويق ثورة السودان أرسلت قبل بضعة أيامٍ معدات طبية إلى إسرائيل. وبعدها بيوم هبطت طائرة إسرائيلية في مطار اسطنبول. لكن، سيرًا على نهجها في ازدواجية المعايير، لم تنشغل قناة الجزيرة، ولا رهطها هنا في السودان، بهذين الحدثين. فيا أيها المسؤولون في السودان عاملوا شعبكم في مستوى درجة الوعي الذي يتمتع به. وضعوا بطاقات اللعب مع إسرائيل، جميعها، فوق الطاولة. فأغلبية هذا الشعب لم تعد أسيرة لتابوو تطبيع العلاقة مع إسرائيل. بل إن أهل القضية أنفسهم لم يعودوا يتقيدون بذلك التابوو، وبلغوا في التطبيع معها درجة جعلتهم يذهبون لتأدية واجب العزاء في موتى أسر القادة الإسرائيليين.
|
Post: #55
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-29-2020, 03:55 AM
Parent: #54
ممارسة السياسة بهدم القيم
النور حمد
صحيفة التيار 29 مايو 2020
البيئة السياسية السودانية بيئة معلولة بنيويًا. الحاضر فيها على الدوام هو مجافاة القيم وهدم الثوابت من أجل الكسب السياسي. فالهدف هو الكرسي، ولا يهم ما هي الوسيلة التي يجري اتخاذها للوصول إليه. بدأت ظاهرة التكسب السياسي بخنق المواطن عن طريق افتعال الأزمات، ودفعه ليثور، في فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري. وكل الذين عاشوا تلك الفترة يذكرون متسلسلة الأزمات المتلاحقة. كنا نصحو فنجد الصلصة قد اختفت من الدكاكين، وما أن تُحل مشكلة الصلصة، تنعدم زيوت العربات. فمرَّةً يختفي زيت الماكينة، ومرة يختفي زيت الفرملة. ثم نخرج من هذه فندخل في أزمة خبز، أو ذرة، أو فحم، أو زيت طعام، أو بصل، وهكذا دواليك. ويبقى المواطن المغلوب مسحوقًا بين حكومة مكبَّلة، ومعارضين يتآمرون عليها، ليل نهار، يريدون كرسي الحكم بأي سبيل. يمثل هذا النهج، في نظري، قمة الاستخفاف بالمواطن. فالمواطن في تقدير هؤلاء، ليس عقلا يُخاطب بما يرفع درجة وعيه، وإنما مجرد بطنٍ يجري تجويعها، لكي تخرج إلى الشارع محتجّةً، وتصبح مركبًا يتخذونه مطيةً توصلهم إلى كرسي الحكم.
هذا الفصل المحزن يعيد نفسه اليوم بزخم أكبر بكثير مما كان في فترة حكم نميري. فكارهو الثورة اليوم هم من كانوا ممسكين بمفاصل الدولة لثلاثين عاما. لذلك، تملك المعارضة اليوم قدرة على إنهاك الحكومة لا تقارن إطلاقًا بما كان في الماضي. والآن، كلما تحدث المسؤولون الحكوميون عن أن السلع قد تم توفيرها، يمد لهم الواقع العملي لسانه، ويقول لهم: "كضبًا كاضب". فصفوف الخبز تختفي ثم لا تلبس أن تعود، ويبقى الاصطفاف في محطات الوقود، كما هو. أما الدولار الذي قفز سعره إلى ثلاثة أضعاف على ما كان عليه قبل بضعة أشهر، فهو أم الكوارث التي سوف تسحق المواطنين سحقا. أكثر من ذلك، دخل هذا النمط من المعارضة اللاأخلاقية الآن طورًا جديدا. فبعد أن كان السلاح المستخدم في الماضي هو سلاح تجويع المواطن وإرهاقه وجعله يعيش حالة من عدم الطمأنينة الدائمة تجاه معاشه، تحول الآن إلى قتلٍ مباشرٍ له، بتعريضه بقصد، لهذا الوباء الفتاك. يتزايد التحريض على التمرد على ترك صلاة الجماعة في المساجد، ويجري الاعتداء على الطواقم الطبية. والغرض هو أن يتفشى الوباء وتُرهق الكوادر الطبية وتخرج من الخدمة وتخرج معها المستشفيات. ثم تكتمل هذه الدائرة الشريرة بانعدام الأدوية؛ بما في ذلك المنقذة للحياة.
الذين يقومون بهذه الأعمال يظنون أن الشعب غافل عما يصنعون. وقديما قيل إن الغبي هو من ظن بالآخرين الغباء. لن تنجح هذه الأفعال الدنيئة أبدًا، لأن الوعي الشعبي تخطى هذه العتبة. فالشعب أصبح في مجموعه قادرًا على التمييز بين العمل المعارض النظيف وبين هدم القيم. فرعاية الثوابت الأخلاقية هي ما نهضت بها كل الأمم العظيمة، التي يصفها أنصار الدولة الدينية لدينا، بالكفر والعلمانية والانحلال الأخلاقي. المؤسف أن هدم القيم يُمارس عندنا باسم الدين. ومن يمارسونه لا يهمهم إن هلك الناس جميعًا أو انهارت القيم الفاضلة أو فشت المكيدة والحيلة في حياتنا. نحن الآن في منعطف تاريخي سوف تحدث فيه إرادة السماء الغالبة فرزًا أخلاقيا حاسمًا للخبيث من الطيب.
|
Post: #56
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-30-2020, 05:18 AM
Parent: #55
سوف لن يصح إلا الصحيح
النور حمد
صحيفة التيار 30 مايو 2020
الصحيح الذي لن يصح شيءٌ غيره، هو النظام الديمقراطي، الذي لا يقصي أحدًا، ما دام قد رضى اللعب وفق قواعده وضوابطه ومحاذيره. وهذا المكتوب موجهٌ لكل من يظن أن المسار نحو الديمقراطية يمكن قطعه. فإرادة الشعوب من إرادة الله، ومن يغالبها مهزومٌ حتمًا، طال الزمن أم قصر. وفي التاريخ من الشواهد على هذا ما يكفي. في الأوضاع الانتقالية التي تمر بها الشعوب غير النامية، يصل إلى مواقع السلطة من ليس لهم إلمامٌ بالتاريخ، ولا بتطور المجتمعات، ولا بمرحلية أنظمة الوصاية والاستبداد. لقد وقعت أقطارٌ شتى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، والعالم العربي، في مستنقع الأنظمة الشمولية، عقب الاستقلال. لكن، خرجت كثيرٌ من أقطارٌ أمريكا اللاتينية وآسيا من ذلك المستنقع، وبقيت بعض الأقطار الإفريقية، وكثيرٌ من الأقطار العربية، مقيمة فيه، إلى الآن. لكن، في نهاية المطاف، ستسقط كل الأنظمة الشمولية، وعلى رأسها تلك التي تستغل الدين لتكريس الاستبداد والفساد، كنظام البشير الذي قدم النموذج الأبرز في العالم لهذا النمط.
الذين يريدون قطع الطريق على المرحلة الانتقالية لا يريدون للبلاد أن نصل إلى مربع اللعب النظيف، لأنهم لم يعتادوا عليه، بل، إن بنية وعيهم نقيضةٌ تمامًا للعب النظيف. ولأنهم يعرفون تراجع سندهم الجماهيري، وخواء خطابهم السياسي، وفساد تجربتهم الطويلة التي حطمت البلاد وأزهقت ملايين الأرواح، فأنهم يحاولون عرقلة الوصول إلى نقطة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. يريدون ألا ينشئ شباب الثورة، والقوى غير المنظمة، حزبًا جماهيريًا جديدا. كما لا يريدون لبقية الأحزاب أن تجد وقتًا تنظم فيه صفوفها، بعد التهشيم الذي ألحقوه بها في الثلاثين عامًا الماضية. أيضًا، لا يريدون أن تتبدل قوانين الانتخابات التي حاكوها لتخدمهم، دون غيرهم. ولا يريدون أن يفقدوا القوائم الزائفة التي كانوا يفوزون بها، وكذلك، مال الشعب الذي احتازوه بالحرام. لذلك، شرعوا في مغازلة بعض قادة العسكر، الحالمين مثلهم بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، للقيام بانقلاب عسكري. يمهدون لهذا الانقلاب، الآن، بشيطنة الفترة الانتقالية، وبخنق السوق، وبافتعال التفلتات الأمنية. يريدون انقلابًا عسكريًا يوقف كل إجراءٍ يستهدف فك قبضتهم الطويلة على السلطة والثروة والتشريع، ويشطب لهم هذه الثورة من سجلات التاريخ.
على ظهر هذا المركب الغارق يجلس الآن المؤتمر الوطني، بكل تاريخه المخزي. وعلى ظهره أيضًا طيفٌ واسعٌ من بقية الإسلاميين، الذين تقف من ورائهم قوى خارجية. وقد انضم إلى المركب، مؤخرًا، السيد الصادق المهدي، لنفس الأسباب. عرف هذا الطيف أن الثورة أصابت جماهيريته في مقتل، فشرع عبثًا، وبلا حياء، في محاولة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، عن طريق العسكر. ما لم يعه هؤلاء، أن هذه الثورة إنما جاءت لتبقى. فنحن الآن في قلب اللحظة التاريخية التي ستبدأ فيها ثورات الشعوب في الثبات، وفي الانعتاق النهائي من أنظمة الاستبداد، والفساد، ليتسنى لها الانطلاق في مسارات الحرية والديمقراطية والنهضة الشاملة. لقد مرت الحقبة التي كانت فيها الثورات تُهزم، على الأقل، أراها مرت فيما يخص هذه الثورة السودانية العظيمة، التي لا يزال ثوراها واقفين على أمشاط أصابعهم. لكن، ربما يقوم كارهو الثورة بمغامرة حمقاء، غير أنهم سيندحرون. إنهم من شاكلة القوم الذين لا يتوبون ولا هم يذكرون.
|
Post: #57
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-31-2020, 06:47 AM
Parent: #56
ضائقة غذائية في الأفق
النور حمد
صحيفة التيار 31 مايو 2020
من مشاكلنا المزمنة انعدام التفكير الاستراتيجي وضعف الاستشعار المبكر. ينطبق ذلك على كل سياساتنا؛ في الاقتصاد، والعلاقات الخارجية، والتنمية، والخدمات. ويكمن أصل المشكلة في مجمل بنية الوعي، خاصةً وسط من يتصدرون منا المشهد السياسي. ولو تأملنا فقط، انعدام الحديث عن الآثار الكارثية التي يمكن أن تسببها جائحة كورونا وسبل مواجهتها، لتبين لنا غياب الرؤية. وأما إعلامنا الإنقاذي فغارقٌ في "الفارغة والمقدودة"، وكأننا نعيش في دولةٍ للرفاه. ففي الوقت الذي تشير فيه كثيرٌ من المؤشرات إلى أن جائحة كورونا ستكون لها آثار كارثية مدمرة على اقتصاديات كبرى الدول الصناعية، دع عنك الدول الهشة، نجد أن بعض قنواتنا الفضائية منشغلةً بمحاورة فنانٍ مغمور، شاع عنه أنه يأخذ حقنًا تصل قيمة الواحدة منها 6000 دولار، لكي يحصل على لون بشرةٍ فاقع.
أرسل مدير البنك الزراعي، مؤخرًا، رسالة إلى الجهات الحكومية في المركز والولايات، ينبه فيها إلى أن العجز في محصول الذرة، وهو غذاء البلاد الرئيس، بلغ هذا العام، 1.3 مليون طن. أي، نقص عما يكفي عادةً بنسبة الثلث. ولو أضفنا إلى ذلك، ما سبق أن نبَّهتُ إليه في عمودٍ سابقٍ من أن الدول المنتجة للقمح، ربما لا تتحمس لتصديره إلينا، بسبب تأثيرات كورونا على أمنها الغذائي، فإن الوضع يصبح أكثر خطورة. إن أكبر خطر يمكن أن يهدد أمن البلاد واستقرارها لهو الجوع، خاصةً في مثل هذا الظرف الاستثنائي القاسي. هذا الفيروس الفتَّاك الذي انطلق من معامل الحرب البيولوجية لا يعرف أحدٌ، حتى الآن، مدى تأثيراته الممتدة. فإلى جانب سياسة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي التي ربما تطول، فتتسبب في تراجع معدلات الانتاج، فهناك أيضا احتمال أن يموت كثيرون. وأيضًا، ربما يصبح كثيرٌ من المتعافين، غير قادرين على العمل الشاق. وستكون الدول النامية هي الأكثر تأثرًا بذلك، لاعتمادها على الجهد البدني أكثر من الآلة.
يسير العالم الآن نحو كارثة محققة، وبلادنا، بحكم ظروفها، سيكون نصيبها من هذه الكارثة أفظع من غيرها. رغم هذا المشهد القاتم تنفق فلول الإنقاذ وقتها في نثر الشائعات وتشجيع الناس على التمرد على النظم والتوجيهات، وخلق الندرة والتفلتات الأمنية. وفي الجانب الآخر من المشهد يتعارك بعض سياسيينا وبعض حركاتنا المسلحة، على كيكة المغانم، فيؤخرون مفاوضات السلام، وغيرها من الأمور الملحة، منشغلين بالحصول على أكبر عدد من مقاعد الولاة، وغير الولاة. يحدث هذا في الوقت الذي ينبغي أن يقف فيه الجميع على أمشاط أصابعهم. فيشتغل الخبراء والسياسيون وقادة المجتمع والمؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، في التنوير الوافي بكيفية التعاطي مع أسوأ السيناريوهات المحتملة. في بلادنا هذه تتوفر الأرض والشمس والماء، لكن، ليس هناك معرفة، وليس هناك عزيمة. على الدولة أن تنصرف بكليتها إلى كيفية إنجاح الموسم الزراعي القادم. وأن يتجه الجهد التنويري إلى الكيفية التي يمكن أن تجتاز بها الأسر السودانية الضوائق المحتملة. نريد حديثًا وحثًا على الزراعة حتى في الحيشان، خاصة في الريف. فالبطاطس والبامبي يمكن أن تسد محل الذرة والقمح، واللوبيا بأنواعها، والخضروات، والدواجن، يمكن تسهم في العبور وقت الضائقة. يقيني، أنه لا يجوع في هذا العصر، سوى جاهلٍ خاملٍ، لم يجد أمامه قادةً وعلماءَ يوجهونه، ويستنهضون همته.
|
Post: #58
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 05-31-2020, 01:58 PM
Parent: #57
up
|
Post: #59
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-01-2020, 04:56 AM
Parent: #58
حتى لا نكون مخلب قط
النور حمد
صحيفة التيار 1 يونيو 2020
أعمال العنف على الحدود السودانية الإثيوبية ليست جديدة، فقد ظللنا نسمع عنها كثيرًا منذ عقود. ولقد تساهلت الحكومات السودانية المتعاقبة مع هذه الظاهرة، وبلغ التساهل في عهد الإنقاذ درجة اللامبالاة. والآن تصبح هذه السيولة فرصة سانحة للاستغلال السياسي، وأكثر من ينتفع باستغلالها سياسيا هي مصر، إلى جانب قوى سودانية مختلفة متقاطعة الأجندة. لذلك علينا أن نفكك الالتباس الذي يكتنف هذه الحالة المزعجة، بدل أن ننخرط باندفاع صبياني في دق طبول الحرب. علينا في البدء أن نتساءل: هل من مصلحة إثيوبيا وهي تستعد، وفقًا لخطتها، بدء ملء السد في هذا الخريف، أن تعتدي على السودان؟ الجواب في تقديري: لا. إثيوبيا أحوج ما تكون في هذه اللحظة إلى وقوف السودان إلى جانبها، أو، على الأقل، وقوفه في الحياد في نزاعها مع جمهورية مصر العربية.
تعاني أثيوبيا من صراعات داخلية. وإقليم الأمهرا المتاخم للحدود السودانية إقليم مضطرب. فبعض قيادات الأمهرا، ظلت غاضبةً منذ الإطاحة بالنظام الإمبراطوري، الذي كانوا سدنته. وبعد أن اضمحلت سلطة التقراي وصعد أبي أحمد، تحول الغضب نحو الأورومو. متعصبو القومية الأمهرية ومتعصبو القومية التقراوية الذين فقدوا السلطة يمكن أن يصبحوا أداةً لحرب وكالة، تزعزع الاستقرار الداخلي لإثيوبيا، وتخرِّب، في نفس الوقت، العلاقات السودانية الإثيوبية. ولقد ظل القرن الإفريقي، عبر الخمسين سنة الماضية، مرتعًا خصبًا لحروب الوكالة. كتب الصحفي الإثيوبي نور الدين عبدا أن أحداث الفشقة ليست سوى محاولة لتحويل السودان إلى ميدان معركة لتصفية الحسابات الإقليمية. وأضاف، أن ما يجري في الفشقة ليس نزاعًا بين دولتين بقدر ما هو صراع بين المجموعات المحلية من أجل النفوذ والمصالح. ويرى عبدا أن إثيوبيا لن تتجه إلى التصعيد، وإنما ستتجه إلى التعاطي مع القضية عبر الأقنية الدبلوماسية. وبالفعل، جاء بيان الخارجية الإثيوبية، بالأمس، هادئًا ومتعقلا.
ما لفت نظري في هذه القضية، وهي قضية علاقات خارجية، تقع في اختصاص وزارة الخارجية ومن ورائها مجلس الوزراء، ظهور ضباط الجيش في منطقة الحدود وهم يدلون بتصريحات للإعلام، في أمر ليس من اختصاصهم. وهذا أمرٌ يشير إلى أن وراء الأكمة ما وراءها، لأن ليس من مهام الجيش أن يتناول النزاع مع دولة جارة في الإعلام. مهمة الجيش هي الاستعداد، وإظهار القوة في صمت، وإدارة الحرب إذا أعلنتها الدولة.
لقد استدعت وزارة الخارجية السفير الإثيوبي وأبلغته احتجاج السودان، وهذا هو النهج الصحيح. فمن حقنا على إثيوبيا أن تسيطر على إقليم الأمهرا، وألا تتذرع بأن ما يجري ليس سوى عمل عصابات. ينبغي على إثيوبيا ألا تسمح لمزارعيها بتجاوز الحدود الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة. لكن، هناك سؤال لابد من توجيهه لضباط الجيش الذين تصدروا المشهد وهو: لماذا لم تخرجوا إلى الإعلام وتطلقوا مثل هذه التصريحات وحلايب ظلت محتلةً منذ عام 1995؟ الصور التي تدور الآن في وسائط التواصل الاجتماعي، توضح أن مصر فرغت تمامًا من تنمية حلايب وحولتها إلى مزارٍ سياحيٍّ لتصبح غردقةً ثانية. هذه الازدواجية في المعايير تضرب الجدية والمصداقية في مقتل. ثم إن الشعب السوداني يعرف أن البلاد لم تشهد تفريطًا في السيادة الوطنية، والتراب الوطني، كالذي شهدته في عهد الانقاذ.
|
Post: #60
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-02-2020, 07:18 AM
Parent: #59
مما كشفته أحداث الحدود الشرقية
النور حمد
صحيفة التيار 2 يونيو 2020
كشفت الأحداث التي جرت على حدودنا الشرقية، حقائق ظلت غائبة، فيما يبدو، رغم أن أحداث العنف في هذه المنطقة تكررت كثيرا. من الحقائق التي لفتت نظري أول أمس، معلومة أوردها أحد الصحفيين استضافته قناة سودانية 24، وهي أن كثيرًا من المزارعين السودانيين ظلوا، على مدى ما يقارب الخمسين عامًا، يؤجرون أراضيهم للمزارعين الإثيوبيين، لقاء مبالغ باهظة. ودعونا نتصور أراضي زراعية يؤجرها المزارعون السودانيون للإثيوبيين، ولا أدري إن كان هذا بعلم الدولة أم من وراء ظهرها، وأن يظل هذه العمل جاريًا لعشرات السنين، ثم لا يجد منا التفاتا أو نقاشا. وسواء ظل هذا يجري بعلم السلطات، أو بغير علمها، فإن المزارعين السودانيين، فيما يبدو يتركون أمر الأرض للإثيوبيين، ولا ينشغلون بغير ما يقبضونه منها من ثمن. دعونا نتصور التغيرات الديموغرافية التي يمكن أن تحدث في عشرات السنين في هذه المزارع. فهناك عمالة إثيوبية، تعمل في هذه المزارع، وربما نشأت قرى إثيوبية بأكملها عبر هذه العقود، ونشأت معها منظومة خدمات مختلفة. مثل هذا الوضع السائب يجعل الإثيوبيين يشعرون بملكية هذه الأراضي؛ إما بسبب فلاحتها لوقت طويل، أو بسبب ما يشبه وضع اليد عليها. لذلك علينا أن ننشغل ببحث التداخلات الديموغرافية والمصالحية الكثيفة في هذه المنطقة. نحتاج أن نصل إلى جذور هذه الممارسة الخاطئة، التي استمرت طويلا. فهذا أمر يحتاج أن يدرس بعناية وأن تُراجع فيه اخفاقاتنا واخفاقات الإثيوبيين في حوار علمي، شفاف وبناء، بدل أن نهرب إلى الأمام، باحثين عن الحل في حرب.
ما جرى في الأيام الماضية من قرع لطبول الحرب أمر يثير الدهشة. هذه مشكلة نحن طرف فيها ولذلك علينا أن نعمل على حلها ببحث علمي يجريه خبراء ملمون بتعقيدات التداخلات الإثيوبية السودانية في هذه المنطقة وبمشاورات سودانية إثيوبية معمقة. إن العمالة الموسمية الإثيوبية التي تعمل في منطقة القضارف تقدر بـ 80% من جملة العمالة. ويبدو أن المواطنين من سودانيين وإثيوبيين يعبرون الحدود، في هذه المنطقة، بلا ضوابط، لأن حياتهم متداخلة جدا. وهذا ليس جديدًا وإنما كان كذلك منذ قرون طويلة. فالتبادل السلعي بين السودانيين والإثيوبيين، وعبور الحدود لمختلف الأسباب، والاستيطان، في هذه المنطقة قد ظل مستمرا لقرون. غير أن الإثيوبيين أكثر ضبطا للوجود الأجنبي في بلادهم، مقارنةً بنا، بل لا توجد مقارنة بيننا وبينهم في هذا الأمر. الإثيوبيون أكثر من 100 مليون يعيشون في أرض صخرية. ونحن 40 مليونا نعيش في قطر سهلي أشبه بقارة. لذلك كنا نحن مهبطًا للهجرات من جميع الجهات، وكنا أكثر الشعوب قبولا للأغراب. وهم على العكس من ذلك، بسبب ظروفهم الطبيعية والديموغرافية.
هذه قضية تحتاج بحثا، ليس على مستوى السياسيين وحسب، وإنما أيضًا على مستوى الأكاديميين الملمين بطبيعة المنطقة وتعقيداتها. ولعل ذلك يفتح بابا ظل مغلقًا بسبب الغفلة؛ وهو باب التعاون الأكاديمي بين السودان وإثيوبيا. قال محمد أبو القاسم حاج حمد، إن فهم السودان لا يكتمل إلا بفهم إثيوبيا، والعكس صحيح. واتركونا يرحكم الله من المزايدات السياسية الداخلية، ومن خدمة الأجندة الأجنبية، وقرع طبول الحرب، خاصة من أولئك الذين لم يفتح الله عليهم بكلمة في شأن حلايب.
|
Post: #61
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-02-2020, 07:23 AM
Parent: #60
في أربعينية رحيل منصور خالد: منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل (1)
د. النور حمد
هذه ورقة جرى نشرها في الكتاب الذي صدر في مناسبة تكريم الدكتور منصور خالد، التي جرت في 16 مارس 2016. وقد حمل الكتاب الذي جرى توزيعه في حفل التكريم، عنوان، "منصور خالد: عمارة العقل وجزالة المواهب". يسرني أن أنشر هذه الورقة هنا في أربعينية رحيله، إكراما لذكراه العطرة.
أعترف بدءًا، أنني واجهت صعوبةً جمةً في كتابة هذه المساهمة، رغم أنني، عادةً، لا أتهيب الكتابةَ، ولا أجد فيها صعوبةً تُذكر. ولكن حينما تعلق الأمر بالكتابة عن منصور خالد، أحسست إحساسًا حقيقيًا بجسامةِ المسؤولية. فتبيانُ مكانةِ منصور خالد في خارطةِ الفكرِ السوداني، وإيضاحُ أهميةِ ما قدمه في حياته الخَصِبةِ العامرةِ بالإنتاج الفكري المتسلسل، المتصل، مهمةٌ شاقة، بلا شك. لذلك، لا غرابة، أن يخالج المرءَ إحساسٌ قويٌّ بالحذر. وتجيء الصعوبةُ ويجئ الحذرُ، من جهةِ أنَّ منصورًا ليس كاتبًا وحسب، وإنما هو أيضًا فاعلٌ سياسيٌّ صاحب ُخياراتٍ سياسيةٍ مثيرةٍ للجدل. فهو ممن يسلكون الطرقَ غيرَ المألوفةِ. وسلوكُه للطرقِ غير المألوفة، بقدرِ ما يثير الجدلَ وسط كثيرين، فإنه، أيضًا، وبنفسِ القدرِ، يثير الإعجابَ لدى آخرين. وأبدأ في البداية بالحديث عن منصورٍ الكاتب، ثم أُتبعه، لاحقًا، بحديثٍ عن منصورٍ الفاعل السياسي، ومنصورٍ المحصَّنِ ضدَّ الإيديولوجيا، ثم منصورٍ الفنان. منصور الكاتب بوصفه كاتبًا، يجلس منصور خالد، دون مراءٍ، ضمن القلةِ الأكثرِ تميزًا من بين الكتابِ السودانيين. هذا، إن لم أقل إنه الأكثر تميّزًا، على الإطلاق. ظل منصور خالد، على خلافِ أكثريةِ السودانيين، ملتصقًا، طيلةَ حياته، بفعلِ الكتابة. يضاف إلى ذلك أنه من جنسِ المفكرينَ، والباحثينَ، والكتاب، الذين يُفعمون عقلَك ووجدانَك، بذكائِهم اللّماح، وبغزارةِ علمِهم واتساعِه، وبتنوع معارفه، فيصابُ من يحاول التعبيرَ عن تقديرِه له، بحالةٍ هي أشبهُ ما تكونُ بالشلل، لأنه لا يدريَ ماذا يأخذ، وماذا يترك، أو من أين يبدأ وأين ينتهي. في تبيانِ تميُّزِ منصور خالد عن سواه، من الكتاب السودانيين، ربما أمكنني القولُ، إنه السودانيُّ الذي لم يجاريه سودانيٌّ آخر، على الإطلاقِ، لا في القديمِ، ولا في الحديثِ، في كمِّ الصحائف، التي سوّدها. أما من حيث نوعيةِ الكتابةِ، فهو، دون شكٍّ، من بينِ القلةِ الأفضل. وأكثر ما يميزه عن غيرِه انحصارُه في القضايا الجوهريةِ المرتبطةِ بتحدياتِ بناءِ الدولةِ في السودان. يضاف إلى ما تقدم، فإن تناوُله لما يقومُ برصدِه من زوايا تحليلية، تتوكأ على فرزٍ دقيقٍ لمدلولاتِ الوقائعِ التاريخية، وطبيعة السياق السوداني، وحقيقة وضعه، بإزاءِ الواقعين؛ الكوكبي والإقليمي، تجعله الأدق رصدًا، والأوسع منظورًا، والأطول نفسًا. لقد أرسى منصور خالد تقليدًا مهنيًا، في صناعةِ الكتابةِ، بالغ الأهمية، سوف يكون له أثرُه الممتدُ على الأجيالِ المقبلةِ من الأكاديميين السودانيين، وعلى غيرِ الأكاديميين، من عامةِ المثقفين والناشطين السياسيين، المنخرطين في حقليْ السياسةِ والثقافة. هذا التقليدُ البارزُ الذي أرسى قواعدَه منصور، هو الرهبنة الجَّلِدةُ في محرابِ البحثِ والكتابة، في بلدٍ لا يصبر أهلُها، عادةً، على رهقِ البحثِ والكتابة، بل هم لا يصبرون على رهقِ التجويدِ، من حيث هو. لم يصبرْ سودانيٌّ على مشقة التوثيق والرصد، وهو عملٌ غايةٌ في الإملال، مثلما صبرَ منصور خالد. ولذلك، ليس لدي تحفظ البتة، أن منصور هو الأفضلُ، بلا منازعٍ، في الصبرِ والجلدِ على رهقِ البحثِ والكتابة. فهو لم يتركْ شاردةً، ولا واردةً، في حقبةِ ما بعدَ الاستقلالِ في السودان، إلا ورصدَها، وأشبعها تحليلا وتشريحا. ولو أراد أيُّ باحثٍ معلومةً ذاتَ مغزىً في سيرةِ الحياةِ السياسيةِ السودانية، لحقبةِ ما بعد الاستقلال، سواءً تعلق الأمرُ بالوقائع، أو بالقضايا، على تشعُّبِها، وعلى اتساع طيفِها، فإنه لا شك واجدُها في مؤلفات منصور خالد. لقد ترك منصور خالد للأجيال القادمة، من السودانيين، سجلا توثيقيًا فريدا، من أجل إيجادِ المعلومة، كما ترك لها جودةُ الكتابةِ، والرصدُ الدقيقُ، والتركيزُ على القضايا المركزية، وثلاثتُها لا تمثل سوى بضعِ جوانبَ مما أنجزه الرجل. كل تلكا الأمور، تقول، وبأعلى صوت، إنّ منصور خالد هو من بين السودانيينَ القلائلِ الذين يستحقون الاحتفاءَ بجدارة. ولو كنا في بلاد تجري فيها الأمورُ بصورةٍ طبيعيةٍ، ويُحتَفى فيها بالفكرِ، وبالإسهامِ النوعيِّ، وبالإنجازِ الضخم، بعيدًا عن ضيقِ أفقِ أهلِ الإيديولوجياتِ الرَّثّةِ، وفسالتِهم المعهودةِ، وعصبياتِهم الشبيهةِ بعصبياتِ القبائلِ الرعوية، فإن منصور خالد ممن تُقامُ لهم التماثيلُ في الميادينِ العامة، وتُسمى باسمِهم الشوارعُ والمؤسسات. وإننا لنحلُم باليومِ الذي تجري فيه الأمورُ في بلادنا، بصورةٍ طبيعيةٍ، كما هي لدى الأممِ ذاتِ التقاليدِ الوطنيةِ الراسخة، منذ فجر حقبة الحداثة، فيكونُ التكريمُ والتخليدُ لمن هم أهلٌ له بالفعلِ، بغضِّ النظرِ عن الاتفاقِ أو الاختلاف معهم في الرؤى. فالتكريمُ، وهو فعلٌ نفيسٌ جدًا، ابتُذل، في بلادِنا، في الآونةِ الأخيرةِ، ابتذالاً أوصلَه حدَّ الإسفافِ، فأضحى شيئًا بلا معنى. فالعصبيةُ الإيديولوجيةُ، والنزعةُ الشعبويةُ المتزايدةِ، والاشرئبابُ الأجوفُ إلى مواقع المنجزين، بلا إنجازٍ يذكر، صارت قوىً دافعةً لسدِّ الفجواتِ النفسيةِ المقلقةِ في جانب رضا الفرد عن ذاته. وهي فجواتٌ اتضح لأصحابها أن السلطةَ والمالَ، لا تستطيعان، وحدَهما، سدَّها. "الناجحة من عشها زوزاية" حين لمع نجمُ منصور خالد، في منتصفِ ستيناتِ القرنِ الماضي، وهو بعدُ في منتصفِ الثلاثيناتِ من العمر، لمعَ، منذُ الوهلة الأولى، بتوهِّجٍ كاملٍ. فمقالاتُه التي نشرَها على صفحاتِ الصحفِ آنذاكَ، وجمعَها لاحقًا في كتابه "حوار مع الصفوة"، وضعته، حالَ نشرِها، مع من كانوا يجلسونَ، حينها، على القمة. ولا شهادة في هذا الجانب تعلو على شهادة الراحل جمال محمد أحمد . ولا أزالُ أذكرُ، كيف أننا كنا، ونحن بعدُ طلابٌ أيفاعٌ، نقفُ وقفاتٍ طويلةٍ أمامَ اللوحةِ التي تُعلّق عليها الصحفُ اليوميةُ في داخليةِ ود ضيف الله، في مدرسة حنتوب الثانوية، لنقرأ "يوم أُكِلَ الثورُ الأبيض". ومن يُعدْ قراءةَ مقالاتِ منصور خالد، التي نشرها في "حوار مع الصفوة"، اليومَ، ويرى مبلغَ التطورِ في الرؤى، وفي المعالجاتِ، وفي صنعةِ الكتابة، الذي تحقق لمنصور خالد، عبر العقود التي تلت نشرَه ذلك الكتاب، يعرف أن منصور خالد، أحد الذين لا تمنعَهمُ النجوميةُ المبكِّرةُ عن النمو. فهو من الذين وُلدوا لكي ينموا باضطراد. وقليلٌ أولئك الذين ينمون باضطراد. وقليل جدًا، أولئك الذين لا تقف النجوميةُ حجرَ عثرةٍ أمامَ نموِّهم. ومن يتأمل مسيرة منصور خالد الفكريةِ والسياسيةِ يلاحظ هذا القدرة المدهشة على النموِ المضطردِ، وعلى تغييرِ الجلد. رغم القفزاتِ الكبيراتِ التي حققها منصور خالد عبر مسيرتِه الباذخةِ، فإن اللبناتِ الأولى التي وضعها في "حوار مع الصفوة" بقيت متماسكةً، إلا قليلاً جدا. وهذا هو حالُ المفكرين الذين ينفذون منذ البداية إلى الخلاصاتِ الجوهرية فيما يعالجون من مواضيع. وعمومًا، ليس الكمالُ في أن تقول شيئًا يبقى كما هو، يدَ الدهر. وإنما الكمالُ في أن تقولَ ما يظلُّ قابلاً للتوسيعِ والتعميقِ، باستمرار. فأطروحاتُ منصور خالد الأساسيةُ، التي ألقى بها في بركةِ التنظيرِ السياسيِّ السودانيِّ الراكدة، نسبيًا، عند منتصف ستينات القرن الماضي، بقيت، في جملةِ الحالِ ساريةَ المفعولِ، إلى حدٍّ كبير، إلى يومِنا هذا. وقد قفز وعي الرجل بعدها، قفزاتٍ كبيراتٍ، فتعمَّقت معارفُه، واتسعت خبراتُه، فوسَّع طروحاته الأولى، وعمّقها، وراجعها، ونقَّحها، وأنضجَها وعجم عودَها، وضاهاها بمجرياتِ الواقعِ وتغيُّراتِه، فشكَّلت، في جملتِها، ما يمكن أن نصِفَه بأنه جسرٌ سودانيٌّ نحو المستقبل. تصورْ شابًا سودانيًا، في الثلاثينات من عمره، يناقشُ في منتصفِ ستيناتِ القرنِ الماضي، إشكاليةَ ديمقراطيةِ ويستمينيستر، في بلدٍ مثل السودان، ونظامَ الحزبِ الواحدِ في بلدٍ نامٍ، بحيدةٍ، وبنظرٍ ثاقبٍ، بحيثُ يرى الإشكاليةَ في كلا الخيارين. قال منصور في مقالته: "الهيكل الدستوري بين الحزبِ الواحدِ والجبهةِ المتحدة" التي نشرها في 25 فبراير من عام 1965 على صفحات صحيفة الأيام، وأصبحت جزءًا من المجموعة التي ضمها كتابه، "حوار مع الصفوة"، ما نصه: "صادقٌ من يقول إن هذا الواقع يجعل من الحزب الواحد ضرورة وإن هذا الواقع عينه يجعل منه استحالة عملية. في مثل هذا الواقع يضحى الحزب الواحد ضرورة، لأن الحزب الواحدة يرتكز أساسًا على دعامتين: أولاهما القاعدة، كانت من الصفوة في حالة الأحزاب الطليعيةِ، كجبهة التحرير في الجزائر، أو من الجماهير العريضة كحزب التجمع الديمقراطي السوداني في مالي، وثانيتهما هي العقائدية السياسية. والاعتبار الثاني هذا هو الذي يضفي على الحزب الواحد أهميةً خاصةً في البلادِ الناميةِ مثل السودان، لأن العقائدية بطبعها إنما تقدم، بجانب ما تقدمه من أسس يخطط بمقتضاها الناس وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، تقدم لهم، عنصرا يوحد بين أطرافها المتنازعة ويثبِّت كيانها القومي". هذا حديث مرَّ عليه نصفُ قرنٍ من الزمان ظهرت خلالها، على أرضِ الواقعِ، عوراتُ الأنظمةِ في العالم النامي؛ سواءً كانت حزبًا واحدًا، أو جبهةً متحدة، أو حتى ديمقراطية تتشبهُ، بلا مقوماتٍ تذكر، بديمقراطية ويستمينستر. الملفتُ في هذا الحديث، الذي مر عليه نصفُ قرنٍ من الزمان، هو توقُّد ذهنِ صاحبِه وإحساسه بالإشكالية وبتعقيدها. فالتجربة السودانية خاصة ما أعقب ثورة أكتوبر1964 عكست في الواقع العملي هذه التعقيدات. فحين جاء انقلاب الفريق عبود، في عام 1958، وكان ذلك بعد سنتين فقط، عقب الاستقلال، استقبله الناس استقبالاً حسنا، بل أعلن كلٌّ من السيد عبد الرحمن المهدي، والسيد علي الميرغني، زعيما الحزبين اللذين أطاح الانقلابُ بحكمهما، تأييدَهما له. يقول منصور خالد عن دوافع ثورة أكتوبر: "من العبث أن يظن أحدٌ بأن أهل السودان قد شقوا عصا الطاعة على نظام عبود لأنه كان نظامًا عسكريًا لا يحترم الليبرالية كما يعرفها المولعون بها والراكنون إليها؛ فإن كانت هذه هي دوافع أهل السودان في محاربة نظام عبود فلأشرعوا رمحاهم وهبوا في وجه ذلك النظام منذ السابع عشر من نوفمبر 1958، عندما استولى على الحكم". تأكد نقص الإيمان بديمقراطية ويستمينيستر في السودان، حين جاء العقيد جعفر نميري إلى الحكم في مايو 1969، بانقلابه العسكري، فلقي استقبالاً وترحيبًا شعبيًا منقطعِ النظير. الشاهد هنا، أن فشلَ الأنظمةِ الديمقراطيةِ ظل يهيئ الشعبَ السوداني، بصورةٍ مستمرة، لاستقبالِ الأنظمةِ العسكرية، واستمر هذا الحال حتى انقلاب البشير، الذي جرى في عام 1989. فإذا كان تعريف الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب لمصلحة الشعب، فقد اتضح، وللمفارقة، أن الشعبَ السودانيَّ، كلما ضاق ذرعًا بحكم الحزبين الكبيرين، يصبح متحرقًا شوقًا، لاستقبال الأنظمةِ العسكريةِ. فالشعب من جهةٍ، والنخبُ المتعلمةُ من الجهةِ الأخرى، ظلوا يبحثون باستمرارٍ عن شيءٍ مغايرٍ لما عرفوه في تجاربِهم التي تسمى "ديمقراطية". برهن منصورٌ على أنه من القلةِ التي تعي التعقيدات، وتعي صعوبةَ الخياراتِ في السياق السوداني. فالسياقُ السودانيُّ هو أصلا سياقٌ غيرُ متسقٍ. ومن يسعى إلى طلب الاتساقِ والانسجامِ المطلق فيه، إنما يطلبُ المستحيل. لذلك، ستنصب محاولتي، وأنا أناقش خيارات منصور خالد، في ناشطيته السياسية، في المفاضلةُ الصعبةُ الشاقةٌ: بين أن يكتفي المفكر بالتنظيرِ ويبتعدَ عن الممارسةِ العملية، أو أن يُتبعَ التنظيرَ بالممارسةِ العلمية، واختيار موقعٍ عمليٍّ وسط القوى الفاعلة في الساحة السياسية. فالاكتفاءُ بالتنظيرِ، والنأيُ بالنفسِ، عن الممارسة العملية، فعلٌ ينتقص من دور المثقف. بعبارةٍ أخرى، لا يختارُ خيار التنظير، والوقوف على السياج، سوى مثقفٍ مرتبك لا يعرف كيف يفصل بين عوالم التنظير وبين ما يتيحه الواقع العملي. فالمثقفُ المدركُ لوظيفته، هو الذي يُتبِعَ التنظيرَ بالفعلِ السياسي، بما يتيحه السياقُ، والظرفُ القائم. (يتواصل)
|
Post: #62
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-03-2020, 06:43 AM
Parent: #61
"ورجغة" العلمانية
النور حمد
صحيفة التيار 3 يونيو 2020
يعتقد جماعة الإسلام السياسي والطائفيون، وهم أصلاً فصيلٌ واحد، أن إثارة قضية "علمانية الدولة"، هي البطاقة الرابحة التي يمكن أن يضللوا بها العوام، وينهوا بها الفترة الانتقالية، ليصلوا إلى السلطة، ويتمكنوا، من جديد، من حراسة الجاه والامتيازات التي احتازوها. لقد ظل تيار الإسلام السياسي يمارس ابتزاز كل من عداه، باسم الدين، منذ ستينات القرن الماضي. عمل لربع قرن في تكسير كل قيمة وكل فضيلة، وأغرق البلاد في الغوغائية، والجامعات في العنف، وبث أنماط التدين التجهيلي، وراوغ حتى وصل إلى السلطة. أمضى في السلطة ثلاثين عامًا حكم فيها بمفرده بالحديد والنار، وقتل من السودانيين أكثر مما قتلت التركية والمهدية والغزو الإنجليزي المصري مجتمعة، لكننا لم نر طيلة هذه الفترة "دولةً إسلامية". بل لم يجرؤوا حتى على تسميتها دولةً إسلامية، كإيران مثلا. فيا هؤلاء: هذه تجارة خاسرة. لم يعد العبث والتدليس باسم الدين، ينطلي على أحد. حتى أبناءكم وبناتكم الذين ولدتموهم من ظهوركم وقفوا ضدكم، فتوبوا إلى بارئكم، يرحمكم الله.
العلمانية ليست أيديولوجية؛ أي ليست عقيدة كلية يعتنقها الأفراد، بدلاً عن الإيمان بالله. العلمانية في السياق السياسي مجرد مفهوم، أو قل إطار قانوني لإدارة الدولة، ويختلف هذا المفهوم من ثقافة إلى أخرى. فالهند علمانية ومعظم الهنود متدينون. وماليزيا علمانية، ومعظم السكان مسلمون. وإندونيسيا علمانية غالبية السكان مسلمون، وتركيا وقطر اللتان تدعمان الإسلاميين في السودان، دولتان علمانيتان، غالبية سكانهما مسلمون. فالدولة جهاز لإدارة حياة الناس، ولذلك ينبغي أن تقف على مسافة واحدة من جميع أهل العقائد الدينية وغير الدينية. فالمواطنة وفقًا لعلمانية الدولة هي أساس العقد الاجتماعي الذي يربط بين سكان الدولة وليس الدين. ببساطة، علمانية الدولة لا تعني علمانية المجتمع والفضاء العام. فالذين يطالبون الآن بـ "علمانية الدولة" مسلمون مثلكم. بل، قد يكونون أكثر تدينا منكم، فلا تشيطنوهم، وتخلوا، يرحمكم الله، عن النزعة التكفيرية التي انغرست في أذهانكم منذ ست عقود.
الحلقة التي قدمتها قناة سودانية 24 حول العلمانية أول أمس، وأدارتها بتلك الفجاجة ونقص المعلومات، تدل على أن التنوير ليس هو الغرض، وإنما الغرض هو "الورجغة" من أجل التشويش وإثارة البلبلة. مثل هذه الأمور الفكرية، الدولتية، لا ينبغي أن تسند إلى مذيعين فقيري المعارف، لا إلمام لهم بما يتحدثون عنه. يقف وراء هؤلاء المذيعين المساكين، كما هو واضح، معدو برامج جهلة، ومغرضون. ولقد رأينا كيف وضعوا صورة عبد الحي يوسف، على الشاشة أثناء الحوار، وهو ذات الشخص الذي أفتى البشير بقتل ثلث الشعب، وقبض منه خمسة ملايين دولار جاءت من السعودية، ثم لم يطرف له جفن أن ينحاز بعد ذلك للقطريين. أما ذاك الذي أتت به القناة ليعدد أسماء القواميس الإنجليزية، ظانًا أنه يثبت بذلك رسوخه في العلم، فأرغى وأزبد وتحدى كل بني البشر، فإنه لم ينجح سوى في عرض عقلٍ توقف نموه عند تكفيريات سيد قطب. ختامًا: يا من تشيطنون مسيرتنا نحو دولة المواطنة المتساوية، لن نسمع منكم قط، حتى تشيطنوا لنا تركيا عضو الناتو وحاضنة قواعده العسكرية، التي تعج بالبارات والملاهي الليلية. وايضًا، حتى تطلبوا من قطر إعلان نفسها دولة إسلامية، فتوقف استيراد الخمور وبيعها في المطاعم والفنادق، وللأفراد، وأن تمنعها عن القادمين لكأس العالم.
|
Post: #63
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-03-2020, 07:05 AM
Parent: #62
في أربعينية رحيله:
منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل
الحلقة الثانية
النور حمد
قد نتفق أو نختلف مع خياراتِ المثقفين، وهذا طبيعي، لكن ما ينبغي أن نعرفه، هو أن السياق في الدول النامية لا يتيح أفضل الخيارات، دائما. كما أن السياقاتِ في دول العالم النامي سياقاتٌ مختلفة، ينبغي أن تجري معالجةُ كلٍّ منها في الإطارِ الخاصِّ به. بعبارةٍ أخرى، لا يتيح السياقُ، والظرفُ القائم، في عددٍ من دولِ العالمِ النامي، من بينها السودان، فرصةً لاتساقٍ كاملٍ مع المبادئِ الديمقراطيةِ، التي مخضتها التجربةُ الغربيةُ. ولربما يحسن بنا أن نستحضرَ في أذهانِنا أن المبادئَ الديمقراطيةَ رسخت في الفضاء الغربي، عبر صراعٍ مريرٍ، أفرز في مختلف المنعطفات في التاريخ الأوروبي، أفعالاً سياسيةً، غير متسقةٍ مع المبادئِ الديمقراطية. وتلك حالةٌ ظلّت تطلُ برأسِها في أوروبا لقرون. فأيُّ خياراتٍ متسقةٍ في الفعل السياسيِّ يمكن أن يجدها المثقفِ، في هذا السياقِ السياسيِّ السوداني بالغِ الارتباك، الذي تتحكم فيه الطائفيةُ، والعشائريةُ، والأميةُ، وغريزةُ القطيع؟ أكثر من ذلك، لربما أمكن القولُ، مع بالغِ الحزن والأسى، ومع كاملِ التفهُّمِ، إن السياقَ في الدولِ الناميةِ، في مرحلةِ ما بعد خروج الاستعمار، قد فرض، على المثقفين إلى حدٍ كبير، أن يكونوا انقلابيين، أو، على أقلِّ تقديرٍ، دافعين لعربةِ الانقلابيين.
صنع حزب الأمة الانقلاب الأول في الحياة السياسية السودانية، لفترة ما بعد الاستقلال. فجاء ثأر القوى الحديثة ضد الأحزاب قويًا في أكتوبر، حيث ارتفع شعار "لا زعامة للقدامى". وامتلأت وزارة أكتوبر بالقوى الحديثة الدائرة في فلك الحزب الشيوعي. وما لبثت أن انقضّت عليها القوى التقليديةُ بليلٍ، وجرى دفن أكتوبر وشعاراتِها اليساريةِ المتطرفةِ في مهدها. وبعد عامٍ واحدٍ من أكتوبر جرى حلُّ الحزبِ الشيوعي. وفي نوفمبر 1968 حوكم الأستاذُ محمود محمد طه، بتهمةِ الردة، وكثُرُ الكلام عن إجازةِ ما سمي بـ "الدستور الإسلامي". وحين جاء نميري بانقلابه في مايو 1969، كانت القوى الحديثة جاهزةً لكي تأخذَ بثأرها. فاستلمت قوى اليسارُ، وبسرعةِ البرق، دفةَ الانقلابِ الجديدِ، وشرعت في الأخذ بثاراتها إلى أن اختلف الحزب الشيوعي مع نميري فانقسم، وكان انقلاب يوليو 1971. ودارت الدوائرُ على اليسار، ودخل نظام نميري مرحلة الاتحاد الاشتراكي، التنظيم الفرد، والاستعانة بالتكنوقراط، وكان من بينهم منصور خالد. بدأ منصور خالد، يوم أن لمع نجمه على نطاقٍ واسعٍ، في الستينات، مهمومًا بأحوالِ البلد، وبقي مهمومًا بها باستمرار. كان منصور خالد عمليَّ التفكيرِ مشغولاً بالخططِ الواقعيةِ للنهضة، في حين كانت أغلبيةُ رصفائِه منقسمةً إلى شقين: شقٌّ غارقٌ في الاسترخاء القاعد، أسيرًا لضمور للخيالِ ومحدودية الطموح، المكتفي بريْعِ بيعِ الموادِ الأولية، من قطنٍ، وصمغٍ، وجلودٍ، وحبوبٍ، وغيرها، وشقٌ آخرٌ غارقٌ في أوهامِ الإيديولوجيا، وربطِ نهضةِ البلادِ بأجنداتٍ خارجية، وبشعاراتِ اليسارِ العالمي، الأممية، أو بشعاراتِ اليسارِ العربيِّ، القومية، ومؤخرًا شعاراتِ الإسلاميين العابرة للأقطار. فبقاءُ منصور خالد خارجَ هذه الأطر هو الذي أتاح له بناءَ هذا الجسرَ الذي ظل طرَفُهُ الأدنى منغرسًا في معترك السياسةِ السودانية، بكل إشكالاته، وطرفُه الأقصى يشرئب، لكي يصَلَ بالسودانيينَ إلى الضفةِ الأخرى، حيث يرقد المستقبلُ الواعد.
لقد انهارت دولةُ الأفنديةِ بعد أن أكلت نفسَها بنفسِها، في بضعِ سنين. لم تعرف دولةُ الأفندية التماسكَ، منذ أن أسلم البريطانيون قيادَها لطلائعِ المتعلمين. فكلُّ العقودِ التي تلتَ الاستقلالَ، لم تكن سوى حلقاتٍ متصلةٍ من التراجع. لقد كانت دولةُ الأفنديةِ السودانية، منذ البدايةِ، دولةً هشةً. وكانت، إلى حدِّ كبيرٍ، دولةً معلقةً في الهواء. وما كان لها، أصلاً، أن تصمد. لم يعلِّقْ منصورٌ على تلك الدولةِ آمالاً عراضًا، فقد كان عارفًا بعللها الهيكليةِ المدغمةِ في بنيتِها. ولذلك، انتبذ لنفسه، من أهله، منذ البدايةِ، مكانًا شرقيًا، كما تقول العبارةُ القرآنية. ولقد أخذ نفاذُ رؤيةِ منصور خالد المبكرِ يتضحُ لنا، بعد أن انقشعت غشاواتُ الإيديولوجيا، بانهيار الشيوعية، عقبَ تفكّكِ الاتحاد السوفيتي، والكتلةِ الشرقية، وعودة الصينِ من شيوعيتها إلى الرأسمالية. يضافُ إلى ذلك، موت إيديولوجيا العروبيين؛ بشقيها البعثي، والقومي الناصري في الفضاء العربي. بل، إن رؤى منصور خالد أضحت أكثر وضوحًا، بعد أن جرّب السودانيون، حكمَ الإيديولوجيين الإسلاميين، وبعد أن بدأ الكوكب الأرضي يدخلُ متاهتَه المبهمةَ الجديدة.
تحدث منصورٌ في "حوارٌ مع الصفوة" عن التخطيطِ الاقتصاديِّ، والتخطيطِ الثقافيِّ، والتخطيطِ لتعليمٍ مثمرٍ، كما تحدث عن مشكلِ الهويةِ، وعن كل القضايا المرتبطة بتحديات بناء الدولة السودانية، في حقبة ما بعد الاستعمار. أيضًا تحدث منصورٌ، في وقتٍ مبكرٍ جدًا عن إشكالي الطائفية والإدارة الأهلية. ورغم أنني من الذين يرون أن فوقيةَ النخبِ وعجلتِها لاستئصالِ الطائفيةِ بالعنف، والإدارةِ الأهليةِ بالإجراءات الفوقية، وهي عجلةٌ حداثيةٌ أوردت البلاد، في تقديري، مواردَ الحتوف، إلا أنَّ المرءَ لا يملكُ إلا أن يُعجبَ بالفرزِ الدقيقِ الذي قدمه منصور خالد، بين طائفية وطائفية، وبين حزبية وحزبية، حيث قال: "الكارثة الكبرى ليست طائفية الأحزاب بقدر ما هي في أن الأحزاب قد أصبحت مسخًا للطوائف. فالحزبية طائفية، بلا أخلاقياتِ الطائفية، والحزبيةُ قبلية، بلا تكاتفِ أو تكافلِ القبلية" .
لم يتجاوب المحيط مع منصور كما ينبغي، شأنَ كل ِّ محيطٍ راكدٍ، مع كلِّ رائدٍ من الرواد. لكنَّ منصورًا، صبرَ وصابرَ ورابطَ، محاولاً التغلُّبَ على الظروفِ غيرِ المواتيةِ بالإنتاج الفكري، تارةً، وبالناشطيةِ السياسيةِ، تارةً أخرى. أصاب الرجل في مجال الإنتاجِ الفكريِّ نجاحاتٍ عريضة، غير أن الناشطيةَ السياسيةَ، قد جلبت عليه، فيما أحسبُ، أكدارًا، ليست باليسيرة. وعمومًا فهذا هو قدرُ من يتحرك ليعملَ لتغييرِ واقعِه، بما هو متاحٌ له، في سياقٍ بالغِ التعقيدِ، بالغِ التنافرِ، وعدمِ الانسجام. وما من شكٍّ أن من يعمل ليس كمن يختارُ الوقوفَ على السياج.
منصور والنفورُ من الإيديولوجيا المنغلقة لقد شكّل منصور خالد، عبر مسيرتِه الطويلةِ، مستودعًا للتفكير، (Think Tank)، قائمًا بذاتِه. وأكثرُ ما يُدهشُني في سيرةِ منصور خالد استقلاليته الفكرية، مضافًا إليها، ما ظل يتمتعُ به من مناعةٍ طبيعيةٍ، حصنته، على الدوام، من الوقوع في قبضةِ القطيع، رغم أن الوقوعَ في قبضةِ القطيعِ، أمرٌ ذائعُ الشيوعِ وسطَ نخبِ السودان. وقد يبلغُ الخضوعُ لسلطةِ القطيعِ، وسطَ بعضِ المثقفين السودانيين، حدَّ أن يرتدَ، من كان ليبراليًا، أو ماركسيَّا، على عقبيه، في خريفِ العمرِ، فيعودَ مسلمًا سُنيًّا، شديدَ المحافظةِ، أو متطرقًا على شيخٍ صوفيٍّ، في حين لا يملك ذلك الشيخُ الصوفيُّ، شروى نقيرٍ من معارفِ ذلك النخبويِّ المُهطعِ الآيبِ إلى حظيرةِ القطيعِ وقبضتها. أميزُ ما يميزُ منصور خالد، هو أنه سبقنا جميعًا بلا استثناء؛ من كانوا من جيله، ومن أتوا بعده من الأجيال الأكثرِ قربًا من جيله، في النظر النقدي إلى الإيديولوجيا، في وقت كانت فيه شمسُ الإيديولوجيا في رابعةِ نهارها. قال جمال محمد أحمد، حين قدَّم لمنصور كتابه "حوار مع الصفوة": "لولا خوفي عليه من أن يلجَّ في ذعرٍ، لقلتُ إنه يرفض المذهبيةَ رفضي إياها، ويؤمن بقدرة الإنسان، مهما بنى الطامحون أسوارَهم حوله". ثم واصل جمال موردًا، من نفس كتاب "حوار مع الصفوة"، الذي قام بالتقديم له، قولاً لمنصور، مستشهدًا به على ما قاله عنه. ويقرأ نص منصور كالآتي: "في الاشتراكيةِ، كما في الديمقراطيةِ ليست هناك قدريةٌ، وليست هناك حلولٌ جاهزةٌ، وليست هناك قوالبُ معدةٌ نصبُّ فيها الواقعَ لنصوغَه وفقَ هوانا". قال منصورٌ هذا، حين كان قطاعٌ كبيرٌ من النخبِ، في حقبةِ الحرب الباردة، عكوفًا على الشربِ من دنِّ الإيديولوجيا، غارقينَ في اغتباقٍ واصطباحٍ، لا صحوَ بينهما. لقد كان منصور خالد صاحيًا، في ذلك الزمان المبكر، بصورةٍ تبعثُ على الإعجاب. ولقد كان صحوه ذاك تأكيدًا على أن له يدًا ظلت ملامسةً لشطِّ المستقبل. كتب منصور خالد، في عام 2010 وهو يقدم للطبعة الثانية، من حوار مع الصفوة: "تقود المذهبية إلى آفتين: الأولى هي احتكارُ الحقيقةِ، والثانيةُ هي تحوُّلها من أداةٍ لتفسير الظواهر إلى وسيلةٍ للهيمنة السياسية والروحية. احتكارُ الحقيقةِ لا يُفقد من يلازمه رهافةَ الحسِّ التاريخيِّ فحسب، بل يرمي به في النهايةِ خارجَ إطار التاريخ. أما تحوُّلُ المذهبيةِ إلى أداةٍ لتكريس السلطانِ والاستيلاءِ غيرِ المشروعِ عليه، فهو وصفةٌ للصراعِ والتمزق".
ديناميكية منصور: قال عنه جمال محمد أحمد: "يخيفُ الواحدَ بنشاطه الجسديِّ والذهنيِّ، تأتيك رسائلُه من أطرافِ الأرض يبث فيها مشاعرَه وأفكارَه، ويحدثك عن الذي قرأ من سياسةٍ وأدب، لا تدري متى وجد الفراغَ. وعن الذين لقى من أئمةِ الفكرِ والسياسة، لا يمس واحدٌ منهمُ استقلالَه الفكري". أما من ناحيتي، فحين بدأ منصورٌ ينشرُ كُتُبَه الاستقصائيةَ الكبيرةَ، تباعًا، في عقدِ التسعيناتِ، من القرنِ الماضي، خطر بذهني ما خطر بذهنِ جمال محمد أحمد، وهو: أين يجدُ هذا الرجلُ المِسفارُ، المنخرطُ، في كل آنٍ، في مختلفِ الشؤون، كل هذا الوقت، وكل هذه الطاقة، لينتج هذا الإنتاجَ الضخمَ المتتابع. لقد أقام منصور خالد القسمَ الأكبرَ من العقودِ الأربعةِ الأخيرة من عمره، خارج السودان، ولقد كان كثير التنقل في إقامته تلك. ولكن، رغم ذلك، تجِدُه ملمًّا بكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ مما يجري في السودان، سواءً كان ما يجري هو أحداثُه السياسية، أو اندياحاتُ أواسطه الثقافية والفنية، أو حتى أحاديثِ المدينة التي تتداولها المجالس، انتهاءً بقصاصاتِ الصحف. لذلك، يمكن القولُ، بلا مراءٍ، إن منصور خالد، مؤسسةٌ بكامِلها، تلبستْ جرمَ رجلٍ واحد.
الفعل السياسي في السياق غير المتسق: بوصفه فاعلاً سياسيًا، لم يتوقف منصور خالد عن الفعلِ السياسيِّ لحظةً من لحظاتِ حياته. فقد ظل دائمًا يفكر ويكتب. غير أن أهم ما يميزه هو أنه لم يكتفِ بالكتابة، وحسب، وإنما ظل منخرطًا، في نفسِ الوقت، في الفعل السياسي. وما من شكٍّ أن انخراطَه في الفعلِ السياسي وخياراتِه التي اختارها كفاعلٍ سياسي، تجعل الحديثَ عنه مهمةً لا تخلو من تعقيداتٍ. وهي تعقيداتٌ تستوجبُ لدى من يتناول خياراتَه، حضورًا تامًّا لعنصريْ الحيدةِ والحذر. كما تستوجب، أيضًا، توفُّرَ القدرةِ على النظرِ المدرِك المنصف. وكل هذه أمورٌ لا أدعي أني أمتلكها، لكنني أرجو أن يكونَ لي فيها أجرُ المحاولة. فمعالجةُ مسيرةَ منصورٍ السياسيةَ تحتاج، دون شكٍ، فكرًا ثاقبًا. وهذا النوعُ من الفكرِ الثاقبِ هو الذي وصفه الأستاذ محمود محمد طه، في عبارةٍ سمعتها من فمه مباشرةً، يقول فيها: "فكرْ يغطِّس الزانةْ، ويطفِّحْ المسحانةْ".
غيّرَ منصور خالد، بوصفه فاعلاً سياسيًّا، مواضعَه، بضعَ مرات، حتى بدا وكأنه يناقض نفسه، أو ربما بدا للبعض، كمن ينقضُ غزلَه أنكاثا. بل، ولربما بدا لآخرين، وكأنه يتحرشُ عمدًا بالأكثريةِ المستسلمةِ للقناعات الجاهزة البسيطة، التي لا تكلف محتضنيها ومعتنقيها جهدًا عقليًا. ومن الملاحظ أن الصفوة السودانية انقسمت تجاه منصورٍ، إلى فئتين: قلةٌّ ترمقه بعينٍ ملؤُها الإعجابُ، وأكثرية ترمقه بعينٍ ملؤُها الارتياب. غير أن جملةَ الأمر، فيما أرى، في ناشطيةِ منصور خالد السياسية، هو بخلافِ ما فشا وسط الكثيرين. فأنا لا أخفي إعجابي بخيارات الرجل السياسية، وإن خالفتُه في بعضها. كما لا أُخفي إعجابيَ وإكباريَ الشديدينِ بشجاعته الفذة، وبالطريقة التي أدار بها أنشطته، في مجالي الفكر، والناشطية السياسية، باستقلالية تامة. إضافةً إلى تقديمِ نموذجٍ بالغِ الفرادة في الاعتداد بالذات، والحرص على إسماع الصوت الشخصي، والسباحة ضد تيار العقل الجمعي، واقتلاع الحق الفردي، في التفكيرِ والتعبيرِ الحر، وفي الموقفِ، في محيطٍ يزخر بتغوِّلِ الجماعة على ذاتيةِ الأفراد، وعلى فردياتِهم. (يتواصل)
|
Post: #64
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-03-2020, 11:49 PM
Parent: #63
في أربعينية رحيله:
منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل
الحلقة الأخيرة النور حمد
يرى محمود ممداني، أن القوى المدافعةَ عن الحداثةِ في السودان؛ بشقيها "العلماني" و"الإسلامي"، وهي قوىً تستند على طبقاتٍ وتكويناتٍ اجتماعيةٍ حضرية، خاصةً تلك التي تنتمي إلى الإنتليجنسيا من المهنيين، وضباط الجيش، والطلاب، أيقنت منذ بدايةِ الاستقلال، أنها لا تمثل سوى جزيرةٍ "حداثية"ٍ صغيرةٍ جدًا، في خضمٍّ شاسعٍ جدًا من القوى "التقليدية". فهم لم يكن في وسعِهم، أن يحصلوا على أغلبيةٍ من الناخبين، تأتي بهم إلى الحكم. ولذلك فقد عنت "الديموقراطية" بالنسبة لهم حراكًا ثوريًا يختصر لهم الطريق إلى الحكم. كانت رؤيتهم، والحديث هنا لممداني، ألا يتم تفريغَ الديموقراطيةِ من دورها الإنمائي النهضوي، لتصبح مجرد وسيلةً يستخدمها "التقليديون" في الجلوس الدائم على كراسي الحكم . ويستطرد ممداني فيقول، إن العداءَ بين المدافعين عن "التقليدية"، والمدافعين عن "الحداثة"، هو الذي جعل أنظمةَ الحكمِ في السودان تتأرجح بين أنظمةٍ ديموقراطيةٍ برلمانيةٍ، وبين سلسلةٍ من الانقلاباتِ العسكرية. فالتنافسُ الحزبيُّ على صناديقِ الاقتراعِ بين الحزبيْن "التقليديين"؛ حزب الأمة، والحزب الاتحادي الديموقراطي، لم يكن السبب في ذلك التأرجح، واستمرار تلك الحلقةِ المفرغةِ، وإنما السببُ هو الصراعُ بين معسكر "الحداثيين"، ومعسكر "التقليديين" . غير أن وجهة نظر ممداني هذه قابلة، بطبيعة الحال، للأخذ والرد بشأنها. ولكن المهم هنا أن ما أورده ممداني يوضح حالةَ اللا اتساق، التي تميّزَ بها السياقُ السودانيُّ، الذي تحول بفعلِ الثاراتِ المتبادلةِ المتتاليةِ، إلى رمالٍ متحركة. لقد مارست القوى الحديثة ممثلة في اليساريين وفي الإسلاميين الفعل الانقلابي، كما مارست القوى التقليدية التي تتمسك بشكلية الديمقراطية جنوحًا إلى تفريغِ الديمقراطيةِ من محتواها وإلى تهميشِ القوى الحديثةِ والتضييق على المساحاتِ التي يمكن أن تتحرك فيها. لقد تشاركت كلٌّ من القوى التقليدية السودانية، والقوى الحديثة، الأخطاء الفادحة، سواءً بسواء. والشاهدُ، في كل ما تقدم، أن السياقَ السودانيَّ كان ولا يزال لا يسمِحُ بمواقفَ متسقة. والذي يحاكمون الآخرين استنادًا على اتساقٍ متوهمٍ، إنما يستخدمون، في حقيقة الأمرِ، مرجعيةً متخيَّلةً، لا تتماهي مع أيٍّ من جزئيات الواقع الذي عشناه جميعًا على مدى ستةِ عقودٍ من الزمانِ، عبر حقبةِ ما بعدِ الاستقلال.
المفكرُ المدركُ لحقيقةِ الشقةِ القائمةِ بين التنظيرِ وبين الواقعِ، لا يقف على السياجَ، وإنما ينخرط، وفقَ تقديرٍ ذاتيٍّ، في أتون المعترك السياسي، بما يتوفر له من فرصٍ عمليةٍ للانخراطِ في الحراكِ الجاري في الواقع القائم. وهذا ما فعله منصور خالد، حين آزر نميري، ضمن كثيرٍ من التكنوقراط، وهو عينُ ما فعله، مرةً ثانيةً، حين أصبحَ مستشارًا لجون قرن، وهو يراهن على قيامِ سودانٍ جديدٍ موحَّدٍ قائمٍ على مبادئِ المواطنةِ والتساوي في الفرص. نكص حكم جعفر نميري على عقبيه، عقبَ المصالحةِ الوطنيةِ، التي جرت عام 1977، واختار منصورٌ الخروجَ من ساحةِ الفعلِ السياسي، فغادرَ البلادَ، وتحوّل إلى مدفعٍ كبيرٍ، مصوَّبٍ على ما تبقي من نظام جعفر نميري.
أما تجربة منصور مع جون قرن فقد كادت أن تثمر انفراجًا في المعضلةِ السودانية المزمنة، خاصة بعد توقيع اتفاق نيفاشا. غير أن موتَ جون قرنق المفاجئ، وعملَ الإسلاميين الدؤوبَ على ملءِ نفوسِ الجنوبيين باليأسِ، من وحدةٍ مع الشمال، يمكن أن تنصفَهم، وتعتبرُ كينونتَهم المغايرة، وترد ظلاماتِهم، أدى، في نهاية المطاف إلى انفصال الجنوب، وإلى أن ينتهي النضال الجنوبي الطويل إلى هذا المآل الكئيب من الحرب الجنوبية/الجنوبية، الشرسة التي نشاهدها اليوم. كما انتهت فسالة الإسلاميين، وقصر نظرهم بالشمال السوداني نفسه، إلى هذا الحفرة من الفقر المدقع، والعزلة، التي ابتعلت القطر، وقادت إلى اليأس وخبوِّ كل بارقاتِ الأمل، ودفقًا من هجرةٍ ملحميةٍ إلى خارج القطر، قوامها الشباب. حين أحاولُ أن أُجليَ ما يراه البعضُ التباساتٍ في خياراتِ منصورِ السياسية، لا أفعل ذلك بغيةَ الدفاعِ عنه، فهو أقدرُ على الدفاعِ عن نفسه مني، وقد فعل ذلك في مئاتِ الصفحاتِ، إن لم يكن في الآلافِ منها مما كتبه. كما أن منصورًا لم يستنكف أن ينقدَ نفسه نقدا ذاتيًا. محاولتي هنا هي أن أجلي حقيقةَ أن خياراتَه كانت خياراتٍ واعية. فهي، من وجهة نظري، حفرٌ في المنطقةِ الرماديةِ الواقعةِ بين الأبيضِ والأسودِ، وهي منطقةٌ لا تقدر الأكثريةُ على التفريقِ بين درجاتِها الرماديةِ. فالأمورُ، لدى الأذهانِ المتوقدةِ التي تفرق بين منطق النظرياتِ، وضبابيةِ لغةِ الخطابِ، وسيطرة مثاليةِ المبدأِ، من جهة، وبين منطقِ دينامياتِ الواقعِ من الجهة الأخرى، ليست بسيطةً. كما أنها ليست بيضاءَ أو سوداء.
تحدث منصور خالد عن نفسِه، مرةً، قائلا إن سلاحَه، الذي صحبه طيلةَ رحلتِه الطويلةِ من المعاناةِ الفكريةِ والنفسية، قلمٌ ظلَّ ينحتُ به في الصخرِ الصلد. ولا غرابة، فظروفُ السودان، لم تكن مواتيةً، في يومٍ من الأيام، لأيٍّ ممن حلموا الأحلامَ الكبارَ. ولذلك، فهي لم تترك للمحاربين من أجلِ المستقبلِ، من أهلِ القلوبِ الكبيرةِ، سلاحًا في أيديهم، سوى أقلامِهم. ولستُ بحاجةٍ إلى القولِ إن أرضَ السودانِ قد بقيت، حتى يومنا هذا، مقبرةً لأحلامِ الكبار. كما بقيت، في ذات الوقت، مشتلاً خصبًا، وفيرَ الإنباتِ، لتفاهاتِ الصغارِ، من صغار الأحلام، عيِّي العقولِ، جديبي الوجدان.
منصور الفنان يتميز منصور خالد بكونه السودانيُّ الأكثر تحضرًا في مظهره، وفي أسلوب عيشه. ويظن البعض أن تلك السمات دلالةً على استلابٍ غربيٍّ، وما هي بذلك أبدًا. إن سمات منصور خالد التمدنية جزءٌ من بنيةِ وعيه، وجزءٌ مما ظل يتمناه لبلده، ولقومه، وجزءٌ من ذائقتِه الجماليةِ الرفيعةِ المتقدمة. اختيارُ الزيِّ الإفرنجي أو الزي البلدي، لا يعينان شيئًا في هذه الحقبة التاريخية التي تقاربت فيها الشعوب، واختلطت فيها أزياؤها. وأن تكون أنيقًا ومتمدنًا وصاحبَ أسلوبٍ في نمط حياتك، ليس له بالضرورة ارتباطٌ بنوعِ الزي أو نوع المسكن، أو نوع المأكل والمشرب. يمكن أن يكونَ المرءُ جلفًا، وهو يتقلّب في أجدِّ الأطر الحضارية. والعكس صحيح، يمكن أن يعيش الرجلُ دون خطِّ الفقرِ، ويكونُ متمدِّنًا صاحبَ أسلوبٍ راقٍ في العيش. لقد عشتُ في كنفِ الأستاذ محمود محمد طه، ثلاثةَ عشر عامًا، رأيته فيها في جميع متقلَّباتِ حياته اليومية، فلم أرَ رجلاً متمدِّنا مثلَه، رغم بساطةِ عيشهِ، الذي يقعُ دون متوسطِ عيشِ سوادِ السودانيين. التحضرُ والتمدنُ لا يأتيان اتفاقًا، وإنما يأتيان نتاجًا لفكرٍ، ولتدبرٍ، ولرؤية. كما أنهما لا يأتيانِ بمجرد الارتفاق بمنتجاتِ الحضارة. فهما تعبيرٌ عن حضورٍ ذهنيٍّ، ووعيٍّ باللحظةِ، وبالذاتِ، وبالمحيط، وبالدورِ، وبالرسالةِ، في آنٍ معًا. فأسلوُب العيشِ المتمدنِ انعكاسٌ لفلسفةٍ حياتية. فالمظهرُ والمخبرُ إنما يحملان رسالةً تعليميةً متعدية. السلوكُ المهذبُ، والمظهرُ الأنيقُ، والحديث الهامس الخفيض، وتنغيمُ حركةِ الجسدِ، وضبطُ إيقاعه، وتهذيبُ تعبيراتِه، وجعْلُ كلِّ ذلك متّسمًا بالرزانةِ وبالاقتصادِ، وبالجمال، لا تكون بغير فكرٍ وحضورٍ ذهنيٍّ طاغ.
اختار منصورٌ رغدَ العيشِ، وأحاطَ نفسه بمظاهر التمدن، فكانت حياته كلها تعبيرًا عن طقسٍ جمالي متصلِ الحلقات. وكل تلك، أمورٌ يسرتها له إمكانياتُه، وتجاربُه الكوكبيةُ الثرة، وقد كان بها حقيقا. واختار الأستاذ محمود محمد طه بساطةَ العيش، وهو أمر كانت إمكاناته كافيةً لتوفرَ له رغدَ العيش. والتقى الاثنان في حمل رسالة الفكر، وفي بث رسالة التمدين، فيما كتباه، وفيما ظهرا به في سمتيهِما وأسلوبيهِما، على اختلافهما. وليس بين الأمرينِ مفاضلةٌ، في نظري، وإنما مجّردَ تجلٍ آخرَ من تجلياتِ التنوع، الذي لا تنقضي عجائبه. وكما يقولُ المتصوفةُ: "الطرائقُ إلى اللهِ بِعَدِّ أنفاسِ الخلائق". الشاهدُ، أنّ منصور خالد شخصٌ يُعمل فكرَه في شؤونِه كلِّها. فهو مثلما حاولَ تنغيمَ بيئتِنا السياسيةِ المرتبكةِ، بفكرِه وبناشطيتِه السياسة، حاول أيضًا أن يقدّمَ نموذجًا لما ينبغي أن يكونَ عليه المثقفُ السوداني، والفردُ السوداني، من حيث التمدينُ، ومن حيث الحضورُ الذهني، المعين على الحفاظِ على السمتِ المتمدين، وحراستِه من الترهُّلِ والتراجع، والسقوطِ في مستنقع الغفلة والجلافة.
كنت شاهدًا، وأنا طالبٌ في كليةِ الفنونِ الجميلةِ والتطبيقيةِ، في الخرطوم، في النصفِ الأولِ من السبعيناتِ، على الحضورِ الثابتِ للوزير منصور خالد، في معرضِ التخرج السنوي لطلاب وطالباتِ كليةِ الفنون الجميلة. فلربما كان الوحيدُ من المسؤولين، ومن المثقفين، الذي يحرص على اقتناءِ أعمال الطلاب الفنية. فما أن تتخرج دفعةٌ وتقيمُ معارضَها يأتي منصورٌ ويتجول ويشتري ما يروق له. كما أذكر أيضًا، أنه حين كان وزيرًا للخارجية، استدعى أستاذتَنا، الفنانة القديرة، كمالا إبراهيم اسحق، لتجمِّلَ جدرانَ وزارةِ الخارجية، بأعمالِها المميزة. وهذه مجردُ جزئياتٍ من تجلياتِ شخصيةِ منصورٍ الفنان، وأعلمُ أن ما لا أعرفه في هذا المنحى أكثرُ بكثيرٍ مما أعرف. الشاهد، أن منصورًا ظل حاضرَ الذهنِ على الدوام، وظل واعيًا، ومستحضرًا أن له دورًا ورسالة، وأنه في مكانِ القدوةِ والأنموذج.
خاتمة جعلت عنوان هذه المساهمة "منصور خالد: جسرٌ سودانيٌّ إلى المستقبل"، وأرجو أن أكونَ قد أبنتُ فيها ما عنيته. فنحن الآن نعيش في أسفلِ دركِ الفشل السوداني، الذي شرّحه هو، وأبان سائر تجلياته، بما لا مزيد عليه. حاول منصورٌ أن يقرأ الواقعَ السودانيَ بعيدًا عن أيِّ أُطرٍ مسبقةٍ، وعن أيِّ قوالبَ جاهزةٍ مٍتوهمة، فانخرط في الفعل السياسي، حافزه في ذلك فعلُ الممكنِ بما يسمحُ به الظرفُ المتاح. عمل في الناشطيةِ السياسيةِ حينًا، واعتزل العملَ فيها حينًا آخر، لكنه لم يكفَّ عنِ الكتابةِ وعن الحديث. حلم أحلامًا كبيرةً، وعظيمةً، رسمها بعقلٍ متوقدٍ، وبجنان فنانٍ، وبنفسٍ حيةٍ تواقةٍ للجمالِ، وبروحٍ متعلقةٍ بأن يعُمَّ الخيرُ الجميع. غير أن الواقعَ والسياقَ كانا أبعد ما يكونان عن تحقيق الأحلام الكبيرة، وهما لا يزالان كذلك. ولربما سيبقى على المرهفينَ التواقين للرفعة العامة، أن يستمروا في النحتِ في الصخرِ، وربما أن يبقوا مرددين مع محمد الماغوط قوله: "أريد كفنًا واسعًا لأحلامي".
جسَّد منصور خالد، أطال اللهُ عمرَه، وأسبغ عليه نعمةَ العافيةِ، في حياتِه العامرةِ المنتجةِ الكثيرَ من القيم التي تربطُ بين حاضِرنا هذا المضطرب، وبين مستقبلِنا البهيِّ، الذي نرجوه ونتوق إليه. لقد قدم منصور خالد للسودانيين، زادًا بحثيًا مرقومًا في سلسة من المؤلفات، لم يقدم مثلَه أحدٌ من السودانيين. وقدّم بأسلوبِ حياتِه، وبمهنيته، وانضباطه، وتفانيه في الإنجاز، وحرصه على التجويد، قيمًا أظن أن السودانيين هم أحوجُ شعوبِ الأرض إلى تمثلِها. وأهمُ ما قدمه منصور، في تقديري، ليس الكتابةَ، وليس الفعلَ السياسي، وإنما الشجاعةَ منقطعةَ النظير، والفرديةَ، والانعتاقَ من قبضةِ القطيع. كذلك قدم الاعتدادَ بالنفسِ، وعدمَ مهادنةِ الخصوم. كما كان ناجحًا، بقدرٍ لا يُصدقُ، في سلبِ سلاحِ الدينِ، وسلاح الذاكرة التاريخية العربية الإسلامية، من أيدي من يستخدمونها بغيةً للباطل. أيضًا، جسد منصورٌ هيبةَ المعرفةِ، وامتلاكَ ناصيةَ الكلمةِ، التي تخرسُ الخصومَ، وتجعلهم يتقاصرون. لم يستطعْ أحدٌ من المشتغلينَ بالاتجارِ بالدين، من السودانيين، أن يرهبَ منصور خالد، على الإطلاق. بل لم يدعهم حتى أن يطمعوا فيه، مجرد طمع. لقد كان الأجهر صوتًا في رفع ذكر الأستاذ محمود محمد طه، رغم شراسة الإرهاب الديني الذي اغتال الرجلَ حسيًا، وسعى إلى استدامةِ اغتياله معنويا. لقد عاش منصور خالد طيلةَ حياتِه وسطَ غابةٍ من الرماحِ المشرعة، لكنه أجبر حامليها بكاريزماه الطاغيةِ على أن ينكِّسوا رؤوسها. إن منصور خالد شخصٌ جديرٌ جدًا بالاحتفاءِ وبالتكريم، وإنه لشرفٌ لي أن أجد الفرصة لأقول شيئًا في تكريمه. وأرجو أن يكون فيما قلتُ ما يرقي إلى قامةِ الرجلِ السامقةِ، وما يليقُ برمزيته في بنيةِ الفكرِ والسياسةِ في السودان.
|
Post: #65
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-04-2020, 12:40 PM
Parent: #64
مذبحة القيادة منعطفٌ تاريخي
النور حمد
صحيفة التيار 4 يونيو 2020
مثلت المذبحة البشعة التي جرت في الثالث من يونيو 2019 لشبان وشابات مسالمين، على مرأى ومسمع من جيش البلاد، قمة التراكم للعنف المؤسسي في الحياة السياسية السودانية. ومع أن العنف قديمٌ في الحياة السياسية السودانية، إلا أن الإنقاذ أوصلته، كمًّا ونوعًا، إلى قمة لا تجارى. لذلك ينبغي أن نعمل على جعل هذه المذبحة البشعة منعطفًا محوريًا في التاريخ السوداني، لتحتل ما احتلته محارق النازيين لليهود في ألمانيا وغيرها من الدول الأخرى التي احتلها النازيون. وما احتلته في التاريخ الإنساني، أيضا، مجازر الخمير الحمر في كمبوديا، والهوتو في رواندا، وغير ذلك من فظاعات العصر الحديث. تقول التقارير الدولية أن 300 ألف قُتلوا في دارفور في بضع سنوات. ولم ينف الرئيس المخلوع، عمر البشير هذه الحقيقة، وإنما خفض الرقم إلى عشرة ألف قتيل معترفا بقتلهم. أما من قتلوا في الجنوب على مدى عقود، وفي جبال النوبة والنيل الأزرق، وغير ذلك من بقاع السودان، فتصل أعدادهم مجتمعين إلى الملايين. لقد غرقنا في نهر من الدم، وينبغي أن تكون مذبحة القيادة نقطة التحول الفاصلة بين عهود الاستبداد والعنف والبربرية، وعهد الحرية والسلام والاستقرار والتنمية وحكم القانون.
اقتلع الشعب السوداني نظام الإنقاذ بالتصميم وبقوة السلمية. واقتلع من بعده في يوم واحد، الفريق عوض ابن عوف. ثم أزاح من اللجنة الأمنية الفريقين صلاح قوش، وعمر زين العابدين، وغيرهم. غير أن العقلية الاستبدادية المسيطرة وسط بعض قادة القوى النظامية أوهمتهم بألا ثورة هناك، ولا شيء هناك اسمه الإرادة الشعبية. ظلوا يشترون الوقت بالمماطلة ليجهزوا خطتهم للقضاء على الثورة، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وقد ورد في عديد الشهادات أن قرار فض الاعتصام لم يصدر من القوات النظامية منفردة. فناك قضاةٌ حضروا الاجتماع الذي قرر الفض. وقيل أن هناك رجال دين وزعماء طوائف وقادة أحزاب وقادة مهنيين جرى إخطارهم وافقوا على الخطة. ونحن الآن في انتظار تقرير لجنة التحقيق كي نعرف بالتفصيل هذا الطيف الواسع الذي شارك في اتخاذ ذلك القرار الكارثي. فنحن نقف الآن على رأس اللحظة التاريخية التي يتوجب علينا فيها فضح نزعة العنف والاستبداد المسيطرة عقول عسكريينا ومدنيينا. ولا ينبغي أن تحجبنا شجرة واحدة عن رؤية الغابة.
هناك الكثير من الالتباس في حادثة مذبحة القيادة. فلربما وافق البعض على فضٍّ رفيقٍ للاعتصام لا يصل درجة القتل، وأنهم لم يعلموا أن الخطة المعدة هي ممارسة أقصى درجات العنف والفظاعة، بغرض كسر الإرادة الشعبية. وكلنا يذكر كيف علَّقت اللجنة الأمنية التفاوض عقب الفض مباشرة، وكأنها أرادت أن تقول: لقد شطبنا ثورتكم من التاريخ، ونحن من سيحكم. وقد أكدوا هذا التوجه بمحوهم كل ما رسمه الثوار على الجدران. لكن، جاءت 30 يونيو وقلبت الطاولة على اللجنة الأمنية، وعلى القوى الخارجية التي كانت تريد مذبحة حاسمة، على قرار مذبحة رابعة العدوية في مصر، تجعل من الثورة نسيًا منسيا. لقد كان الفض خطأ فادحًا، وقد فضح هذه العقلية العنفية الاستبدادية المتغطرسة. ولابد أن يقف مرتكبو هذه الجريمة، بلا استثناء، أمام العدالة. ولن يضيع حقٌ لم ينم عنه أهله. (سأتحدث غدا عن معاني الاعتصام التي أقلقتهم وجعلتهم يقومون بهذا العنف غير المسبوق).
|
Post: #66
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-04-2020, 09:06 PM
Parent: #65
ما وراء الوحشية في فض الاعتصام
النور حمد
صحيفة التيار 5 يونيو 2020
في ساحة الاعتصام خرج السودان الأصيل، ذو العمق التاريخي الذي يعود لسبعة آلاف عام، من الرماد كطائر الفينيق. لقد ظنوا أنهم عبر ثلاثين عامًا من الاستبداد والغطرسة والأكاذيب، أنهم محوه، وأحلوا محلَّه، وإلى الأبد، هذا المسخ المستورد النقيض لكل قيمة أتى بها الدين. استجمع السودانيون في ساحة الاعتصام فضائلهم التاريخية من كرم وشهامة ونخوة وأمانة وتعاون وأخوة صادقة لا تفرق بين غني وفقير، ولا بين وجيهٍ وخاملِ ذكر. قدم السودانيون في ساحة الاعتصام أكبر عرض عرفه التاريخ لفضائل هذه الأمة نادرة الشبيه. في هذا المعرض الرباني السماوي، الذي جرى في الهواء الطلق، تقزَّم التدين الكاذب المستورد، الذي عاش نفاقًا على "هي لله"، وبرز التدين الصوفي السوداني الأصيل. أقيمت في ساحة الاعتصام صلواتٌ جماعية حاشدة، لم يحدث لها شبيه، ولا في الثورة المهدية. وكان الأكثر إيلامًا لهم، إن أبناءهم وبناتهم نفضوا منهم أيديهم، وانضموا بفطرتهم السليمة التي لم تنمسخ، إلى المسيرة القاصدة نحو الحق والعدل والخير والجمال.
بسبب كل ما تقدم، كانت هذه الوحشية التي لم يشهد لها تاريخ السودان مثيلا. لقد أصابتهم تجربة الاعتصام في مقتل. فقد فضحت زيفهم، وزلزلت عرشهم، الذي شيدوه على دعاماتٍ واهية، من الأكاذيب والتضليل. شعروا بأن قيامتهم قد قامت وأن يد القدرة قد أمسكت بتلابيبهم. وبدلاً من أن ينكِّسوا رؤوسهم، ويمضوا في صمتٍ إلى غياهب النسيان، كأسوأ خَبَثٍ، طفح على وجه الحياة السودانية، بيَّتوا النية لممارسة أقسى صنوف الوحشية والفظاعة ضد هذا المارد، الذي طالما استخفوا به، ففاجأهم بما لم يحسبوه. أعلنوا أن الاعتصام لن يجري فضه. ثم ما لبثوا أن غدروا بالمعتصمين بليل. قتلوا الصائمين والصائمات الغافلين النيام، بدمٍ بارد، في شهر الله الحرام. قيدوهم وربطوا أرجلهم بكتل الأسمنت وأغرقوهم في النيل. اغتصبوا النساء على أرضية المسجد، ولم يلقوا بالاً لصرخاتهن وتوسلاتهن، وهن العفيفات الحريصات على شرفهن. استباحوا المدينة لنهارين، فأوسعوا سكانها ضربًا وإهانة، فلم يسلم منها حتى كبار السن، في فقدانٍ للمروءة، أكد تربيتهم المنحرفة. ثم ما لبثوا أن عرَّجوا على آثار الاعتصام من جداريات رسمها الشباب والشابات فمحوها. ظنوا أنهم بكل ذلك، قد كسروا عزيمة الشعب، ومحوا ثورته من سجل التاريخ. فعلقوا التفاوض مع تجمع المهنيين. لكن، بعد سبعة وعشرين يومًا فقط، خرج لهم طائر الفينيق من الرماد، من جديد، فجعل عاليها سافلها، فعادوا إلى التفاوض صاغرين.
في أعوامهم الثلاثين احتقروا الأدب، وحاربوا الفن الرفيع، وأغلقوا دور السينما، وكتموا أنفاس المجال العام. بل حاربوا حتى منظمات الشباب الطوعية التي لا تعمل تحت إمرتهم. أغرقوا البلاد في التدين المظهري الكاذب، الذي يُستخدم لأغراض الدنيا. وزحموا الإعلام بالتفاهات من غناء هابط، ومغنين ومغنيات تابعين لجهاز الأمن، وصحافة "تابلويد"، مشغولةٍ بالإشاعات وتافه الأخبار، وأقلام مأجورة لا تنفك تسبح بحمد مولاها. خلقوا طبقية لم يعرفها السودانيون. تباهوا في أعراسهم بعرض كتل الذهب على أجساد العرائس، وبعرض شيلات العرسان المستوردة، وبالولائم الباذخة في الصلات الفخمة. لقد كانت المعاني التي جسدها الاعتصام نقيضًا لكل هذه الوثنية المقرفة، التي التحفت قداسة الدين. لقد هُزموا أخلاقيًا أسوأ ما تكون الهزيمة. لذلك كانت هذه الوحشية الفظيعة. لكن، للحرية ثمنٌ يُدفع دائما.
|
Post: #67
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-06-2020, 10:05 AM
Parent: #66
"ورجغة" التفريط في السيادة الوطنية
النور حمد
صحيفة التيار 5 يونية 2020
أخيرا قطعت جهيزة قول كل خطيب، وخرج مجلس الأمن بقرارٍ مزدوجٍ، يتضمن إرسال بعثة مدنية تحت الفصل السادس، كما طالب السيد رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، لكن، مصحوبًا بتمديد بقاء قوات يوناميد في السودان لستة أشهر أخرى، تنتهي بنهاية هذا العام. بهذا انغلق الباب على "الورجغة" الفارغة، التي بدأت منذ شهور. وستأتي بعثة أممية من الخبراء لتعين على إنجاح الفترة الانتقالية، دعمًا للتحول الديمقراطي في البلاد. لقد شن كارهو الثورة حربًا غير شريفة على رئيس الوزراء، ذي السند الجماهيري غير المسبوق، بدعاوى التفريط في سيادة البلاد، مع أنهم هم الذين وضعوا البلاد، تحت الفصل السابع، منذ عام 2007. ودخلها بسبب بطشهم بمواطنيهم وممارستهم التطهير العرقي وسياسة الأرض المحروقة، عشرون ألف جندي أممي، لا يزالون هناك حتى هذه اللحظة. لقد أوضح السيد رئيس الوزراء أنه يريد أن ينقل البلاد من الفاصل السابع الذي ورطونا فيه، إلى الفصل السادس، الذي لا يتضمن وفود قوة عسكرية. والغرض، بالتحديد، هو الاستفادة من موارد الأمم المتحدة الضخمة وخبراتها في تثبيت السلام، وإعادة توطين اللاجئين، والإعانة في جهود الاصلاح الإداري، والإعداد للانتخابات، وبناء القدرات والتدريب، وغير ذلك. إلا أن هؤلاء أصروا على "الورجغة". الآن جاء القرار وفقًا للفصل السادس، متضمنًا التمديد للجنود الذي جاءوا في عهدهم. فكل مصيبةٍ نعاني منها الآن هم سببها.
يخسر سدنة النظام المدحور كل صبحٍ جديدٍ واحدة من معاركهم الدونكيشوتية. بدأ عبد الحي يوسف حملةً عارمةً لشيطنة الوزيرة ولاء البوشي، لكن ما أن طفحت فضيحته باستلام 5 ملايين دولار من الرئيس المخلوع، فر خارج البلاد. اشعلوا، أيضًا، حملةً لشيطنة الدكتور عمر القراي، ما لبثت أن خابت، رغم الجهد الضخم الذي بُذل فيها. تلت ذلك حملةٌ لشيطنة وزير الصحة، سرعان ما انفجرت فقاعتها. وبين هذه وتلك، اتجهوا إلى استهداف رئيس الوزراء بسبب مخاطبته الأمم المتحدة، فاتهموه بالتفريط في السيادة الوطنية، فانجلى غبار هذه المعركة عن هزيمة جديدة. لقد أثبت هؤلاء، مرارًا وتكرارًا أنهم لا يريدون لهذه البلاد التعافي مما جرّوه عليها من مآسي. إنهم فقط يريدون أن يعودوا لرفع لافتات التدين الشكلي الكاذب، ليمارسوا، من ورائها، الاستبداد والغطرسة والعنف ونهب المال العام، وحيازة العقارات والأراضي، وتملك الشركات، وإيداع الدولارات في البنوك الأجنبية.
يعلم الجميع أن الجنوب، وحلايب، والفشقة، وأبيي، قد ضاعت جميعها في عهدهم. كما خرجت في عهدهم أجزاء أخرى من البلاد عن السيطرة الحكومية؛ في جنوب كردفان والنيل الأزرق. والآن تقرر أن يبقى جنود بعثة اليوناميد حتى نهاية 2020، ولربما يتمدد وجودهم حتى يثبت أن الخطر على المدنيين قد زال تماما. الآن على المكون العسكري أن يثبت أن عهد البطش بالمدنيين قد ولى. خاصةً أن العديد من جنرالاته شاركوا في حروب الإبادة في دارفور، ونفذوا مجزرة القيادة العامة. وهذا هو ما جعلهم غير موثوقٍ بهم من قبل مجلس الأمن، والمنظمة الأممية، والاتحاد الإفريقي، والدول الكبرى. وسيظل شبح الوصاية الدولية ماثلاً، ما لم توضع الأمور في نصابها، ويرسخ الحكم المدني، وينتهي نهج قتل المدنيين العُزَّل. وفي تجارب الدول الأخرى لنا عبرة.
|
Post: #68
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-07-2020, 11:52 AM
Parent: #67
ضرورة التحرر من المحاور
النور حمد
صحيفة التيار 7 يونيو 2020
للمحاور في منطقتنا قصةٌ طويلة. غير أن المحاور تقزَّمت وانتقلت من القوى الكبرى لتصبح على رأسها دول صغيرة، بلا وزن تاريخي، أوثقافي، أو سياسيٍّ أو عسكري. بعض هذه الدول التي جلست على قمة هرم المحاور الإقليمية الفاعلة الآن، لا يزيد عدد سكان الواحدة منها على مليون نسمة. كانت الناصرية، في حقبة الحرب الباردة، هي وكيلة الشيوعية الدولية في منطقة الشرق الأوسط التي دارت في فلكها الأنظمة الثورية العربية. وكانت السعودية، وإيران الشاه، وتركيا، وكيلة الكتلة الغربية في المنطقة. واصطفت وراء السعودية الأنظمة الملكية العربية، بمسافاتٍ متفاوتة. في حين اصطفَّت وراء الناصرية قوى البعثيين والشيوعيين، وكثيرٌ من الفلسطينيين. وأطلق هذا المعسكر الذي يعد نفسه "تقدميا"، على المعسكر الذي تترأسه السعودية اسم: "الرجعية العربية". ومارس هذان الحلفان ضد بعضهما الكثير من الضرب تحت الحزام. كما خاضا حروب وكالة بطرق مختلفة، وفقًا لأجندة مختلفة مضطربةٍ وملتبسة. شملت تلك الحروب اليمن وإقليم ظفار العماني والصحراء الغربية، وأماكن أخرى، إضافة إلى نزاعات عديدة.
بعد هزيمة يونيو 1967 بدأت الناصرية في التراجع. واكتمل أفول شمس الناصرية بموت جمال عبد الناصر في عام 1970، وجلوس أنور السادات مكانه. في فترة السادات قوي الإسلام السياسي بسبب رغبة السادات في إضعاف اليسار، فزحف الإسلام السياسي وملأ الفراغ الكبير الذي خلفه تراجع اليسار العربي. ثم جاء تفكك الاتحاد السوفيتي فأوصل اليسار العربي إلى مرحلة الموت السريري. صاحبت التغيرات في السياسة الدولية والعربية الطفرة النفطية، التي منحت دول الخليج وزنًا جديدا. ورويدًا، رويدًا، خاصة عقب كامب ديفيد، تحول الوزن السياسي، والسيطرة الإعلامية على المنطقة العربية من مصر الناصرية، إلى دول الخليج. ثم ما لبثت أن غرقت كلٌّ من مصر والعراق وسوريا في مشاكلها الداخلية والخارجية. صعد الإسلاميون إلى الحكم في تركيا وفي السودان ووصلوا إلى السلطة في مصر لمدة عام. كما أصبح لهم وضع مؤثر في تونس وفي المغرب وفي الأردن وفي اليمن وفي ليبيا وفي الكويت. بناءً على حسابات جيواستراتيجية وجيوسياسية خاصة بها، صعدت قطر، بدعمٍ من تركيا، والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، إلى زعامة القطب الراعي لتمدد الإسلام السياسي في المنطقة. وفي رد فعلٍ لزحف الإسلام السياسي إلى دست السلطة، تحركت الإمارات لتجلس مع السعودية ومصر في المعسكر المناوئ لتمدد الإسلاميين. وفي كلا المحورين هناك أجندةٌ متقاطعة تخص كل قطرٍ على حده.
الانجذاب السوداني التاريخي الى المحاور الخارجية، منذ حزب الأشقاء، يمثل في نظري واحدًا من تجليات أزمة الهوية الوطنية في بلادنا. يضاف إلى ذلك، أن التنظيمات المؤدلجة؛ "الإسلاميون والشيوعيون" الذي هيمنوا على مجمل مجريات الصراع السوداني، السوداني، ارتبطوا برؤى سياسية مستوردة، لم يجر اشتغالٌ حصيفٌ لتوطين هذه الرؤى في السياق المحلي. فالتصور الذي يحمله هؤلاء للذات وللآخر، فيما أرى، منبتٌّ عن البنية التاريخية والثقافية والدينية للبلد. ولو عرفت نخبنا السياسية قدر بلادنا وعظمة تاريخها، وسمو سجايا أهلها، وغناها نادر الشبيه، ووطَّنوا مفاهيمهم لبناء الدولة في ثقافة بلادهم، لخرجنا من هذا الاستلاب والاستتباع الطويل، الذي أصابنا بكثيرٍ من الصَّغَار وعطل نمونا. من مهام هذه الثورة الرئيسة، إخراجنا من حفرة الاستتباع هذه، بعصف فكري واسع. فالصدوع الرأسية في الداخل هي ما يجرنا إلى المحاور الخارجية، وهي ما يضع البلاد على مهب الريح.
|
Post: #69
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-08-2020, 06:24 PM
Parent: #68
صحفيون في خدمة الشمولية والاستبداد
النور حمد
صحيفة التيار 8 يونيو 2020
ستبقى تركة الإنقاذ المثقلة بيننا لحينٍ من الوقت. من هذه التركة صحافة التضليل وتعطيل الوعي، بواسطة صحفيين لا يتقيدون بمهنية، ولا يعرفون الحيدة والنزاهة، ولا يهمهم رفع الوعي وخدمة الديموقراطية. هؤلاء جيشٌ جندته الإنقاذ ليشتغل في خلط الأوراق وإغراق الحق الأبلج باللغو الباطل، وتكريس ضبابية الرؤية، خدمةً للمستبدين المفسدين، وتكريسًا للشمولية. في عهد الإنقاذ، تكاثرت الصحف كما يتكاثر الفطر في البرية، وتكاثر الصحفيون الرماديون، وتزايدت القنوات التلفزيونية، ونشأت محطاتٌ إذاعية على موجات إف إم. وتخرجت جيوشٌ من المطربين والمطربات المقلِّدين. وجلس في رئاسة الأندية الرياضية الإنقاذيون. وتبع ذلك انفجارٌ ضخمٌ في الصحافة الرياضية. ظهرت عبر الثلاثين عامًا الماضية أقلامٌ صحفية، ومعدو برامج ومقدمو برامج، مهمتهم حشر اللغو في كل مسألة للتناول العميق بغرض تسطيحها، باستخدام أسلوب تشتيت الكرات المعروف في كرة القدم.
بدأ نهج الحملات المنظمة لتضليل الرأي العام وقلب الباطل حقًا، والحق باطلاً، في الديمقراطية الثالثة (1985 - 1989). وقتها نشأت البنوك الإسلامية، وشركات استثمار الأموال، وبرزت معها صحافة الشيطنة، التي دشنها الأستاذ، حسين خوجلي. اختار حسين طاقمًا من الطائشين منتجي الفكاهة الحامضة، وبعضًا من شعراء حلمنتيش، فصوبوا على مدى سنوات، أقلامهم المسمومة على النظام الديمقراطي تمهيدًا لانقلابهم العسكري الذي أعدّوا له. عملوا على ضرب ثقافة الاحترام والتوقير في المجتمع، وشرعوا يخاطبون الزعماء الدينيين بساقط القول، ويطلقون عليهم سفيه الألقاب. (راجعوا صحيفة ألوان 1987 - 1989). صاحبت ذلك التخريب الأخلاقي الممنهج، تجارة الفحم والعيش، وإخفاء السلع الضرورية لضرب الثقة في الديموقراطية. بهذا الأسلوب وصلوا إلى الحكم، فوجد هذا النهج الإعلامي المدمر فرصته ليتمدد، وهو مرعيٌّ ومحروس.
سبب هذا العمود جملةٌ ختم بها الصحفي بكري المدني مقالًا عالج فيه قضية البعثة الدولية وفقًا للبند السادس، والتمديد لقوات يوناميد. خاطب بكري المدني الفريق البرهان ومجلس السيادة، بعد أن تباكى على فقدان البلاد استقلالها، فقال: "إننا نستودع المجلس السيادي ورئيسه الفريق أول، عبد الفتاح البرهان سيادة بلادنا واستقلالها وعزتها في ظل هذا الوضع الغريب والمريب!". شمل بكري المدني، في مناشدته، المجلس السيادي، لا ثقةً في مكوِّنه المدني، وإنما للتعمية، لكيلا تصبح مناشدته طلبًا صريحًا لانقلابٍ عسكري. لكن، كم مرةً، يا ترى، كرر المجلس السيادي ومجلس الوزراء، انهم يعملون في تناغم؟ وهل خرج من مجلس السيادة، حتى هذه اللحظة، ما يعارض القرارين الأمميين كلية؟
لفضح خطط كارهي الثورة، دعونا نقارن ما ختم به بكري المدني مقاله هذا، بما جرى في المسيرة الهزيلة التي وصلت إلى القيادة العامة وهتفت: "عسكرية... ما دايرين مدنية"، وهتفت، أيضًا: "الكاب ولا الأحزاب". وجميعنا نذكر الشخص الذي خاطب ضابطًا كبيرًا كان في تلك المسيرة، بقوله: "ما قلتوا لينا تعالوا.. تخذلونا؟". أمنيتهم، جميعًا، أن يقوم الجيش بانقلاب يمحو هذه الثورة، التي ذهبت بريحهم. مناشدة بكري المدني للبرهان ليست حرصًا على البلاد وأهلها، وإنما حنينٌ لعهد العصبة الذي ولّى؟ لو كان في ضمير بكري المدني ذرةً من احترامٍ لهذا الشعب وثورته، لما استمر بوقًا لحسين خوجلي، بعد أن تجاسر على الثوار، بتلك السماجة، وهم يُقنصون بالبنادق في الشوارع.
|
Post: #70
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-09-2020, 04:29 AM
Parent: #69
لا سيادة وطنية مع الفاشية
النور حمد
صحيفة التيار 9 يونيو 2020
للفاشية، في تقديري صورتان: هناك فاشية علمانية، مثَّلتها ألمانيا النازية، وإيطاليا، تحت قيادتي موسوليني وهتلر. وهناك فاشية دينية، تمثلها جماعات الإسلام السياسي. والجامع بين الفاشيتين الشعور بالحق في السيطرة على الحكم، وكبت الخصوم وقهرهم، بل وقتلهم. بعد أن بث هتلر الروح القومي الصارخ والشعور بالتفوق العرقي وسط شعبه، خلق أقوى آلة عسكرية عرفتها أوروبا، وزحف ليبتلع القارة قطرًا، بعد الآخر. لم يكن أمام بريطانيا وأمريكا وغرب أوروبا سوى أن تتكاتف لتستأصل شأفته. ودخل مع هؤلاء على الخط، الاتحاد السوفيتي، من جهة الشرق، بعد أن تحرش به هتلر وغزا أراضيه. اندحر هتلر والتقى جيش الكتلتين في برلين وجرى تقسيمها. بسبب عنجهية النازية التي لا ترى حقًا إلا لنفسها، فقدت ألمانيا سيادتها الوطنية. كما فقدتها أيضًا حليفتاها في المحور؛ إيطاليا واليابان.
الفكرة التي حكمت بها الإنقاذ السودان فكرة فاشية. كل الاختلاف أن الإنقاذ استبدلت الشوفينية العرقية، بشوفينية دينية. وقد اشتركت الإنقاذ مع الفاشية في عبادة القائد الفرد، وسيطرة التنظيم الفرد، وشعور الاستحقاق في احتكار الدولة وقهر الآخرين. هذه العقلية الإنقاذية لا تزال سائدة بيننا حتى هذه اللحظة، ولا نتوقع أن تتغير بسهولة. أصحاب هذه العقلية هم من يرفعون الآن، فزاعة، السيادة الوطنية، في وجه القرار الأممي، القاضي بإرسال بعثة إلى السودان ستساعد في استكمال مهام الفترة الانتقالية، مع تمديد لبقاء قوات يوناميد في دارفور، تحت الفصل السابع، لستة أشهر. فهل يظنون أن الصين وروسيا اللتان صوتتا على القرار، تتآمران مع الغرب على السيادة الوطنية للسودان؟ أي فهمٍ سياسيٍّ هذا؟
السيادة الوطنية لا يحفظها الصراخ ولا العنتريات، وإنما تحفظها استقامة شؤون الحكم، وسيادة حكم القانون، وقواعد العدالة، وترسيخ الممارسة الديمقراطية. فالذي أفقد البلاد سيادتها الوطنية منذ عام 2007، هو ما قامت به الإنقاذ من تطهير عرقي في دارفور، مات فيه مئة ألف مواطن. الأمر الذي جعل رئيس البلاد، وبعضًا من زمرته، مطلوبين لدى محكمة الجنايات الدولية. لقد بقيت دارفور تحت البند السابع منذ 13 عامًا، فأين كان هؤلاء الذين يتباكون الآن على السيادة الوطنية؟ لقد أرغى البشير وأزبد حين وضعت دارفور تحت الفصل السابع، وقال لن تدخل القوات الأممية إلا فوق جثته. لكنه، ما لبث أن رضخ للأمر. وأرجو من كل قلبي ألا يتكرر هذا.
باختصارٍ شديد، الجيوش التي تنصرف عن واجبها في حماية البلاد ويصبح عملها التفتك بالمواطنين، سواءً في السودان، أو في أي بلد آخر، لن يصدقها أحد حين تتحدث عن السيادة الوطنية. هذا النوع من الجيوش يحتاج أن يراجع رؤيته ويعيد تعريف رسالته، لينال احترام شعبه، واحترام المجتمع الدولي، وهذا ما نرجو أن يحدث. الديموقراطية وسيادة حكم القانون هما ما يبعدان شبح فقدان السيادة الوطنية. ومن يحاولون الآن المراوغة والالتفاف على القرارين الأمميين الأخيرين اللذين أجيزا بالإجماع، يرتكبون خطأً قاتلا. ودونهم من تبنوا قبلنا نهج الفاشية والغطرسة في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان واليمن. لقد دمَّروا بلدانهم، وعادوا بها عقودًا إلى الوراء. هل الغرب برئ تمامًا في كل ما يفعل؟ لا، وألف لا. فقط، يدخل الغرب من الثغرات القاتلة، التي يحدثها الحكام الفاشيون المتغطرسون.
|
Post: #71
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-10-2020, 05:32 AM
Parent: #70
الإعلام ثغرةٌ غير محروسة
النور حمد
صحيفة التيار 10 يونيو 2020
رغم أن تحسنًا طرأ على الأداء الإعلامي للمرحلة الانتقالية، إلا أننا لن نمل الطرق والتنبيه إلى أن الإعلام لا يزال دون مستوى الثورة ومهامها، وتطلعات ثائريها. لا يمكن لأي ثورة أن تنجح بلا ذراع إعلامي؛ يكشف عورات المرحلة السابقة، ويجلي دخان التشويش الذي لا ينفك كارهو الثورة ينفثونه لتكريس ضبابية الرؤية. فالثورة، أي ثورة، يحرسها، في المقام الأول، الوعي الشعبي وليس نخبها المتنفذة. لذلك يصبح من الضروري أن يقوم الإعلام بتذكير الشعب لماذا ثار أصلاً، وما مدى الاستبداد والظلم الذي وقع عليه، وكم من مقدَّراته نُهبت. وأيضًا، ما هي الفرص التي أتاحتها له الثورة لإعادة بناء الدولة وتثبيت حكم القانون والحريات العامة، واستعادة كرامة البلاد، وتحسين معيشة الناس، والانطلاق نحو النهضة لشاملة. العاطفة والحماسة اللتان تقفان وراء أي ثورة معرضتان للوهن والتلاشي. والإعلام هو الرافعة التي تحفظ الوعي والحماسة، وتستبقي الأعين مصوبةً على أهداف الثورة. فالأذرع الإعلامية التي يملكها الكارهون للثورة، العاكفون على مخططات تصفيتها، أكبر وبما لا يقاس مما تملكه الثورة. ولا يبدو، حتى بعد مرور عامٍ من أداء حكومة رئيس الوزراء حمدوك القسم، أن تقدمًا جوهريًا قد حدث في ملف الإعلام.
أدركت الإنقاذ، قبل أن تصل إلى الحكم بسنوات، أهمية الإعلام في تثبيت نظامها. فأنشأت الصحف التي نخرت جذع شجرة الديموقراطية الثالثة. وبعد سطوها على السلطة بالانقلابات العسكري، أنشأت عددًا من القنوات التلفزيونية وعددًا من المحطات الإذاعية؛ (إف إم). كما موّلت عبر جهاز الأمن وبمال التنظيم عددًا من الصحف؛ الورقية والإلكترونية، والمواقع الإخبارية. وملأت كل هذه الأقنية بمنسوبيها. كما أنشأ جهاز الأمن جيشًا من الذباب الإلكتروني. وقد بلغ الطموح الإعلامي للإنقاذ درجة دفع مبالغ لينشئ قناة الشروق التي تبث من دبي. لكن، بسبب ذهاب النفط مع الجنوب أعيدت "الشروق" لتبث سموم المؤتمر الوطني للشعب من داخل البلاد.
الشاهد، أن إنشاء إعلامٍ مقتدر؛ من حيث الرؤية، والكوادر، والبنية التحتية، ليس ترفًا. أي، ليس أمرًا ثانويًا يُوضع في نهاية سلم الأولويات. الإعلام ضرورةٌ استراتيجية تتصل بالبقاء، لأن الثورة، في ذاتها، يمكن أن تُجتاح من ثغرة الضعف الإعلامي. غير مقبولٍ أن يتحجج المسؤولون عن الإعلام بقوانين الإنقاذ المكبلة، وبضعف الميزانيات. واجب الحكومة وهي ذات سند شعبي غير مسبوق، أن تغير التشريعات، وأن توفر المال المطلوب. فالإعلام لا يقل عن أي شيء آخر تضعه في سلم أولوياتها، إن لم يكن فوقها. إضافة إلى ذلك، فإن من مهام المسؤول القيادي في أي مرفق العمل على زيادة الموارد. لماذا، مثلاً، لا يجري إطلاق نداء إلى المغتربين والرأسمالية الوطنية، وعامة الشعب، لدعم الذراع الإعلامي؟ وهل من الممكن تلمُّس سبل العون لدى الدول الصديقة المقتدرة؟
غض النظر عن كل ما تقدم، فإن العلة ليست منحصرةً في شح الامكانات، وحسب، وإنما أيضًا في ضعف القدرة على استخدام ما هو موجودٌ منها أصلا بصورةٍ أفضل. تملك الحكومة القناة السودانية الرئيسية، وأصبحت تملك قناة الشروق. كما لها أسهم مقدَّرة في قناة النيل الأزرق. يضاف إلى ذلك، قناة الخرطوم الولائية، وغيرها من القنوات الولائية الضعيفة التي تشوه صورة البلد. فمتى سنجري إصلاحًا للتشريعات، به نستعيد كل هذا المال العام المهدر، ونوجهه لبناء ذراعٍ إعلامي مقتدر؟
|
Post: #72
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-11-2020, 08:14 AM
Parent: #71
20 مليون دولار شهريًا للمخلوع!!
النور حمد
صحيفة التيار 11 يونيو 2020
يا ألطاف الله! كم مرَّةً يا ترى رأينا الرئيس المخلوع يمارس زعيقه المعتاد، "بحسِّه المقروش"، دومًا، في اللقاءات الجماهيرية؟ وكم مرة شاهدنا وهو ينهي رقصاته على إيقاعات الحماسة، وهو يلوح بعصاه مرددًا: "ما لدنيا قد عملنا"؟ لقد كانت عروضًا تصيب كل من له غيرةٌ على صورة البلاد بالغثيان. ولو لم تفعل هذه الثورة شيئا سوى أن أراحتنا من ذلك التهريج المقزز لكفاها. لقد كنا في سبعينات القرن الماضي نسخر من بوكاسا رئيس إفريقيا الوسطى، الذي نصَّب نفسه امبراطورا. ولم نكن ندري أن صروف الدهر سوف تبتلينا بمن هو أسوأ منه. لم يحدث في تاريخ هذا البلد أن تواطأت نخبٌ متنفِّذةٌ على الباطل مثلما فعلت نخب الإنقاذ. لم يكونوا يستحون من الوقوف خلفه على المنصة، مرددين: "هي لله"، و"ما لدنيا قد عملنا"، وهم يعلمون حقيقة "البير وغطاها".
كتبت مرات عديدة عما يسمى في العلوم السياسية بالنظام الكليبتوقراطي، أي، حكم اللصوص، وقلت إنه ينطبق على نظام الإنقاذ. ورغم علمي أن بلادنا محكومةٌ بعصابةٍ شغلها النهب، لكنني، فوجئت بما أوردته لجنة تفكيك التمكين، مساء أمس الأول. لم أكن أتصور قط أن يصل موت الضمير وانعدام الحس الأخلاقي، بالرئيس المخلوع حدَّ أن يأخذ 20 مليون دولار، شهريًا من المال العام لنثرياته. كيف يأخذ رئيسٌ، مبلغًا كهذا، بضميرٍ مرتاح، في بلد تعجز فيه الأمهات عن شراء الحليب لأطفالهن، والمرضى عن شراء الدواء للملاريا؟ كما يموت فيه مرضى الكلى بسبب قلة ماكينات الغسيل. وحتى بعد أن ذهب ريع البترول واصل المخلوع أخذ ذلك المبلغ الخرافي الذي انخفض تدريجيًا حتى بلغ، قبل سقوطه، 3 مليون دولار. حدث كل هذا النهب تحت ستار التضليل والتخدير الإعلامي للبسطاء باسم الدين. وهو ما أكّد أن النظام الديكتاتوري هو أسوأ أنظمة الحكم. وأن أسوأ الأنظمة الديكتاتورية لهي تلك التي تلتحف قداسة الدين. لقد مر على حكم البلاد الفريق إبراهيم عبود، والمشير جعفر نميري، لكننا لم نشهد فسادًا، كفساد الإنقاذ.
لكل دكتاتورٍ بطانةٌ تزيِّن له الباطل، وتغريه بالتغول على المال العام. يدفعها لذلك علمها أن إفساد الرأس يفتح لها الباب لتحقيق الثراء الشخصي. تدرس بطانة السوء بعناية شديدة من تتعامل معهم من المسؤولين؛ سواءً كان هذا المسؤول هو الرئيس، أو الوزير، أو مدير المؤسسة. وما أن تستشعر البطانة في المسؤول ضعفًا أمام المال، تأتيه بمقترحات شيطانية بزيادة وتنويع مخصصاته. ولقد وجدوا ذلك في المخلوع، فأشعروه بأنه يستحق 20 مليون دولار في الشهر. هذا، في حين أن مرتَّب الرئيس الأمريكي ونثرياته، في بلدٍ موازنتها بالترليونات، لا تصل إلى مليون دولار في العام كله. أيضًا حين تكون الدولة دولةً أمنية، يصبح جهاز الأمن مسيطرًا على الرئيس عن طريق تخويفه وإشعاره دومًا بالحاجة للحماية. بذريعة التأمين والحماية، تأتي كل الخطط الشيطانية، من جهاز الأمن ومن الحزب الواحد الحاكم، لشفط المال العام ووضعه في حسابات خاصة تحت مسمياتٍ مختلفة، لأغراضٍ مختلفة. والآن، انكشف المستور، وبان أن رئيسنا المخلوع كان ناهبًا شرِهًا للمال العام، بل ومتاجرًا بالعملة. فمتى يا ترى ستتوارى عن أعيننا هذه البطانة الفاسدة التي تثير اللغط حاليًا؟ ألم يئن الأوان لتلوذ بالصمت؟ أم أن "الاستحوا ماتوا"؟
|
Post: #73
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-11-2020, 10:12 PM
Parent: #72
إثيوبيا منشغلةٌ بالتنمية ونحن بالصراع
النور حمد
التيار 12 يونيو 2020
جاء في الأخبار في اليومين الماضيين أن بنك التنمية الأفريقي قد قدم منحةً للحكومة الإثيوبية تبلغ مليون ومئتي ألف دولار كجزء من كلفة إجراء دراسة جدوى لإنشاء خط حديدي يربط بين العاصمة الإثيوبية أديس أبابا والعاصمة السودانية الخرطوم. وتمثل هذه المنحة 30٪ من جملة كلفة دراسة الجدوى البالغة 3 مليون دولار. تتفرع من هذا الخط الحديدي شعبة تربط أديس أبابا بميناء بورتسودان على ساحل البحر الأحمر. المفرح في الأمر، بالإضافة إلى أهمية المشروع، أن المسافة بين القضيبين في هذا الخط ستكون أوسع مما هي عليه في خطنا القديم الذي جرى إنشاؤه ضمن حملة كيتشنر على السودان، في نهاية القرن التاسع عشر. كان ذلك الخط مناسبًا لقطارات البخار البطيئة. لكننا مع تطور صناعة القطارات أبقينا على القضيب القديم ولم نبذل أي جهد لتطوير السكك الحديدية، بل دمرناها. وما جرى لها من تأهيل مؤخرًا، ليس سوى ألاعيب إنقاذية، الغرض منها شفط المال العام إلى الجيوب الخاصة. والحمد لله الذي أنهض الإثيوبيين لهذا المشروع الحيوي. وأحسب أن ثورة ديسمبر المجيدة وذهاب البشير وزمرته الفاسدة، ومجيء حمدوك، هو ما شجع الإخوة الإثيوبيين للمبادرة بهذه الخطوة الجبارة.
عبر الربط بين الخرطوم وأديس أبابا تتكامل السكك الحديدية السودانية بمنظومة السكك الحديدية لمنطقة القرن الإفريقي. وكانت إثيوبيا قد قامت، قبل بضعة سنوات، بتحديث الخط الرابط بينها وبين جيبوتي، بل وجعلته مزدوجًا، وجلبت له قطارات كهربائية، بدلا عن قطارات الديزل. السبب أن ميناء جيبوتي أصبح الميناء الرئيس لإثيوبيا، بعد أن فقدت منفذها إلى البحر الأحمر باستقلال إريتريا. ولأن حراك التنمية وحجم التجارة في أثيوبيا قد تضاعف مرات في العقود الثلاثة الأخيرة، أصبحت إثيوبيا بحاجة إلى ميناء إضافي. فكان بصرهم دومًا مصوبًا على السودان. لقد بلغت إثيوبيا بفضل قادتها النابهين واستقرارها السياسي النسبي، ووضعها للتنمية الاقتصادية على رأس سلم الأولويات، نقطة الانطلاق الكبير. وهي نقطة تتسارع التنمية بعدها بمتوالية هندسية. لقد احتلت إثيوبيا بجدارة موقع القيادة في جهود التنمية في منطقة القرن الإفريقي. فهي الآن، بلا منازع، مصدر كهرباء القرن الإفريقي. وهي قائدة الربط بالسكك الحديدية بين أقطاره. وهي صاحبة أكبر أسطول جوي ناقل في إفريقيا، والشرق الأوسط. بل وصاحبة أكبر أسطول بحري، رغم أنها لا تملك ساحلاً بحريًا. وكما هو واضح فإن إثيوبيا تسعى عبر توصيل الخط الحديدي إلى بورتسودان ليصبح ميناء بورتسودان ميناءً ثانيا لها، وربما إنشاء ميناء خاص بها في إطار التعاون المشترك.
تؤكد هذه الخطوات الرائدة أن المخاوف التي يثيرها البعض عن أطماع إثيوبية في بلادنا في غير محلها. من يطمع فيك لا يستأجر منك ميناء لتخنقه به، ولا يبيعك كهرباء بسعر تفضيلي، ولا يبادر بالربط معك بالسكك الحديدية. ولا يتوسط ليحل السلم في بلدك. تسعى إثيوبيا بهدوء وبلا ضوضاء لتكامل القرن الإفريقي ولاستقراره، وإنشاء سوق مشتركة للسلع والسياحة والثقافة. ولقد سبق أن ناقشت أهمية علاقتنا بإثيوبيا، بتوسع في كتابي، "لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل". والسؤال الآن: متى ستترك نخبنا السياسية الجدل الشكلي العقيم، وأساليب لي الأذرع للتكسب الشخصي والجهوي على حساب الصالح العام؟ ومتى سننصرف بكليتنا لرسم وتنفيذ السياسات المفضية إلى النهضة والتقدم والرفعة.
|
Post: #74
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-12-2020, 09:50 PM
Parent: #73
الطيب زين العابدين: سموق المبدئية
النور حمد
صحيفة التيار 13 يونيو 2020
بسبب غيابي ثمانية عشر عامًا متصلة من البلاد، لم يسعدني الحظ بالتعرف على البروفيسور الراحل، الطيب زين العابدين، إلا في السنوات الثمان الأخيرة من حياته العامرة. التقيته في هذه المدة بضع مرات، في مؤتمرات ولقاءات تفاكرية؛ في الدوحة ونيروبي والخرطوم. عرفت من لقاءاتي به، أن للإسلاميين وجهًا آخر غير الذي أعرف. فمفاهيم الرجل ومنهجه في الحوار تضبطه أكاديميته. لذلك حين تناقشه يطالعك انفتاح الذهن، والحياد الأكاديمي، وغياب الإيديولوج. وأهم من ذلك دماثة الخلق. لا أعتقد أن أكاديميته هي سبب ما لفت نظري فيه، وإنما تدينه الصادق العميق، وسلامة طويته، ونبله، وعفة نفسه. أرسل لي الصديق، بروفيسور عطا البطحاني مقالاً للفقيد كتبه في أخريات أيامه، عنوانه: "دعوة للتعايش الحسن بين أهل السودان"، حذَّر فيه من أن تنتهي ثورة ديسمبر إلى نفس مصير سابقتيها.
مما جاء في هذا المقال قوله: "أحسب أن ما وقع من استقطاب سياسي حاد، عقب ثورتي أكتوبر وأبريل كان له تأثيره الكبير في التمهيد لانقلابي كلٍّ من النميري في مايو 1969 والبشير في يونيو1989، بحجة فشل الديمقراطية الثانية والثالثة .... هذا السيناريو البغيض قابل للتكرار مرة بعد أخرى .... الأحزاب لا تكف عن المجاذبة الخشنة حول اقتسام كراسي السلطة. كما أنها لا تصبر على البعد عن تلك الكراسي، ولديها مقدرةٌ فذَّةٌ في المشاركة بالحكومة والتمتع بسلطاتها ومخصصاتها، ومعارضتها ..... في ذات الوقت! لذلك كان أحد مقترحاتي في زمن متأخرٍ لحل إشكالية الجمع بين الديمقراطية التعددية والثقافة الأبوية السودانية هو الأخذ (بالديمقراطية التوافقية) التي تعمل بنجاح في كل من سويسرا وبلجيكا وهولندا وغيرها". وسبب ذلك بأن السودان يشبه هذه البلدان في الانقسامات القومية والدينية الحادة." ذكر بروفيسور الطيب أنه دعا الأستاذ محمد إبراهيم نقد في عام 1986، لحوار مطول بمنزله. فاستجاب نقد للدعوة، وتحاورا لثلاث ساعات. روى أنه قال لنقد في ذلك اللقاء: "إن هذه الديمقراطية الوليدة لن تستمر طويلاً، وإن الخطر يأتيها منكم ومنا، (اليساريين والإسلاميين). ولدرء ذلك الخطر نحتاج كتابة ميثاق شرف مشترك بيننا حول بعض القضايا السياسية الهامة والحساسة نلتزم به معا".
كونه أستاذا في العلوم السياسية، كان واضحًا لديه أن الاستقطاب الحاد، في البنية السياسية، لأي بلد سيكون معوِّقا. والآن، ها هي ذات الاستقطابات تعود من جديد، وبنفس الروح القديم. لذلك، كي نخرج من نهج شطب الآخر، لابد لنا من وعي جماهيري وإرادة جماهيرية فاعلة، تلجم تجاوزات اليمين واليسار معا. لكن، في هذا المنعطف الحرج، يقع العبء الأكبر في خفض حدة الاستقطاب على الإسلاميين. فالنظام المقتلع هو نظامهم وعليهم جميعًا تحمل وزره. لذلك، يصبح ابتعاد تيارات الإسلاميين عن المؤتمر الوطني، والكف عن مغازلة البنية الإنقاذية؛ بشقيها العسكري والمدني فرضًا عليهم أداؤه. فمحاولات خلق جبهة من قوى اليمين؛ المدنية والعسكرية، من كارهي الثورة، المنكرين لشرعيتها، أمر ضار بمستقبل الاستقرار في البلاد. بل لربما كلفت هذه السياسة الإسلاميين، المستقبل كله، مرة وإلى الأبد. البلاد الآن، بحاجة إلى إسلاميين بنزاهة ومبدئية الطيب زين العابدين. على نموذجه ينبغي أن يقيسوا قاماتهم. لقد كان الإسلامي الوحيد الذي لم يقف مع انقلاب الترابي/البشير، وانحاز بصرامة لمبدأ الديمقراطية. ألا رحم الله البروفيسور الطيب زين العابدين، وأحسن إليه، وبوأه مقعد صدقٍ بين الطاهرين الخيِّرين الأبرار.
|
Post: #75
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-13-2020, 10:46 PM
Parent: #74
فقر الخيال التنموي
النور حمد
صحيفة التيار 14 يونيو 2020
تحتاج التنمية إلى قادة يملكون خيالاً وقدرةً على تفجير طاقات الجماهير وحشد الجهود وخلق الموجهات والنظم الإدارية، التي تجعل الجهد الشعبي ساندًا للجهد الحكومي. لكن في سياقنا السوداني الذي تحكمه روافع أخرى للوصول للوظائف القيادية، ليس من بينها الكفاءة، يصل إلى مواقع القيادة لدينا أفرادٌ تعوزهم القدرات القيادية، ويعوزهم الخيال التنموي. وصل في عهد الإنقاذ أشخاص بغير تعليمٍ يذكر إلى مناصب وزراء، بل، ومستشارين في رئاسة الجمهورية، لمجرد أنهم حملوا البندقية ضد الدولة. والبشير نفسه الذي أرهق البلاد والعباد وأضاع منها ثلاثين عامًا عزيزة، وأفقدها ثلثها، لم تجئ به كفاءته إلى الموقع، وإنما جاء به طمع الدكتور حسن الترابي وجماعته في الحكم. قبل ذلك، وضعت الطائفية مراتٍ كثيرة أشخاصًا في مناصب لا تؤهلهم لها قدراتهم. كل ما في الأمر أنهم من الطائفة أو من العشائر الساندة للطائفة.
السودان كنزٌ نفيس من حيث الموارد. وهو أرض كوش التي تجري من تحتها الأنهار ويعمر فضاءها حفيف الأجنحة، كما وصفتها التوراة. هي بلاد الريح المرسلة الناعمة والتنوع الحيوي الذي جعلها مرتعًا خصبًا للثدييات وللزواحف والطيور. هي مؤهلة بكنوزها الظاهرة والباطنة لتصبح جنة الله في أرضه. لكنها ابتُليت بسياسيين كَزِّي النفوس فقيري الخيال.
دُهشنا عندما كنا طلابًا في كلية الفنون الجميلة في رحلاتنا التعليمية السنوية لأقاليم البلاد حين رأينا قيسان في جنوب النيل الأزرق، وأشجار المنقة النابتة في الشوارع. كما زرنا جبال النوبة، وجبل مرة، ورأينا كم هي خصبة هذه البلاد، وكم هي متنوعةٌ، وجميلةٌ، جمالا يبلغ حد السحر. من يتأمل هذه البلاد وإمكاناتها، لا يجد سببا واحدًا لكي يجوع أهلها، سوى فقر الخيال وضعف القدرات وانحراف الفكر، والانشغال بـ "الفارغة والمقدودة"، وسط سياسييها. ماذا كان سيكلف سلطات الأراضي وإدارات المحليات لو أنها فرضت، بالقانون، على كل صاحب منزل زراعة أشجار مثمرة أمام منزله أو داخله، كجزء من شروط منح الأرض؟ وهل من الصعب، تطبيق ذلك على كل صاحب منزل في كل قرية؟ يؤكد العراك السياسي الدائر الآن، أن سياسيينا لا يزالون يرزحون تحت وطأة أمراضهم القديمة. أورد موقع بي بي سي الإخباري قبل سبعة أشهر تقريبا أن إثيوبيا زرعت أربعة بلايين شجرة، (بلايين وليست ملايين). وقد تحققت بي بي سي من إنجاز هذا الوعد في موعده. وذكرت أن السياسيين في مختلف أرجاء العالم، بما في ذلك المملكة المتحدة، قد آلوا على أنفسهم أن يحذوا حذو إثيوبيا، في برامجهم الانتخابية. فقد وعدوا بالقيام بجهود لإعادة الغطاء الغابي الذي تضرر بالزراعة وبتأثيرات التغير المناخي. لقد استطاع أبي أحمد أن يستنهض همم الإثيوبيين في كافة أرجاء إثيوبيا لينجزوا هذه المهمة الضخمة، فاشترك الجميع، بما فيهم الأطفال. ثم انصرف الإثيوبيون، بعد ذلك، إلى رعاية هذه العدد المهول من الشتول.
المورد البشري موجودٌ في كل بلد، لكنه يصبح موردًا خاملاً، بل وأحيانًا معوِّقًا، عندما لا يجد القادة الذين يعرفون كيف يفجرون طاقاته ويضعونه على درب النهضة. أسعدني جدًا ما قدمه رئيس الوزراء حمدوك في لقائه الأخير من تقسيم لنطاقات الجغرافيا السودانية، وكيفية استثمارها. وقد أشاد بذلك الشرح عدد من الكتاب المرموقين. فالرجل، فيما هو واضح، من طينة أبي أحمد، فهلا تركتموه يعمل أيها المخربون؟
|
Post: #76
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-14-2020, 11:13 PM
Parent: #75
العالم يرتج فهل نحن مستعدون؟
النور حمد
صحيفة التيار 15 يونيو 2020
لربما أضحت كلمة "ديموقراطية" كلمةً طنانةً، واحتلت في أذهان الكثيرين الطلقة الفضية التي لا تخطئ الهدف. لكن الواقع العملي، عبر القرنين المنصرمين، أكَّد أن التجربة الديمقراطية التي اقترنت اقترانًا عضويًا بتوسع الرأسمال وسيطرته، ونهمه، تسير بخطى حثيثةٍ لأن تتحول إلى شمولية عامة تصل إلى كل متر على ظهر الأرض. لقد أتاحت الطفرات المدهشة، في تكنولوجيا المعلومات للرأسمالية المتوحشة ذراعًا جديدًا باطشًا لم يعرف له التاريخ مثيلا. ولقد كشفت جائحة كورونا، والطريقة التي تعاملت بها معها أمريكا، أن الرأسمالية المتوحشة سادرةٌ في غيها القديم. انفضحت أكذوبة أن ميزة النظام الرأسمالي تتمثل في قدرته على تحقيق رفاه الناس وحريتهم. لكن، ما ظل يجري، عبر القرون القليلة الماضية، يدل على أن النظام الرأسمالي لا يفكِّر في رفاه الناس، بقدر ما يفكر في بسط سيطرته المطلقة لتستديم قلةٌ قليلةٌ نهج العبودية والسخرة على الأكثرية الغالبة. كل ما في الأمر تحول نظام العبودية والسخرة من صورته القديمة الظاهرة إلى صورة جديدة مستترة، تقتل في صمت، كما يقتل الورم الخبيث. لم تغير كفالة الحريات العامة، وممارسة الديمقراطية التمثيلية، وكتابة الدساتير الحديثة، والميثاق الأممي لحقوق الإنسان، ومجمل وعود الرفاه والأمن، شيئًا في نظام السخرة والعبودية. بقي استبداد النخب الممسكة بمفاصل السلطة والثروة كما هو. الآن تصحو أمريكا، التي بقيت مخدرة إعلاميًا لما يزيد عن القرن، على هذه الحقيقة المذهلة البشعة. فالذي يجري الآن، ليس ردة فعل لمقتل جورج فلويد المأساوي الفظيع، وإنما استيقاظ صادم على انكشاف الكذبة الكبيرة التي استمرت لقرون. وسوف تُظهر السنوات القليلة القادمة أزمة النظام الرأسمالي بصورة غير مسبوقة.
مثلما سقطت الشيوعية لافتقارها إلى البعد الروحاني، وإلى الوعي الكوني والانساني المتكامل، وإلى المنظومة القيمية الساندة، سيسقط النموذج الديموقراطي الغربي. المنحى الرأسمالي المؤسس على سيادة قلة قليلة على الكثرة الغالبة، ليس منحىً تجاريًا بحتًا، وإنما هو منحى ذو أساسٍ فلسفيٍّ له جذوره المنغرسة في تربة الداروينية الاجتماعية، التي منحت العنصرية سندًا علميًا زائفا. يقول أهل نظرية المؤامرة، وهم ليسوا مخطئين على الدوام، كما يروِّج من يتآمرون: إن القلة القليلة المسيطرة تسعى سعيًا حثيثًا لإنقاص أعداد سكان العالم لتعيش البقية حياة الرفاه. يستند هذا النوع من التفكير على الدارونية الاجتماعية المؤمنة بمقولة "البقاء للأصلح". وعلى غرار هذه المقولة جاءت عبارة هوبز الشهيرة: "الإنسان ذئب الإنسان". فكما تنقرض الأحياء الضعيفة بسبب افتراس الحيوانات القوية وغيرها من العوامل الطبيعية، أيضًا، يقضي البشر الأقوياء على الضعاف. أي أن هذا السحق جزءٌ من قوانين الطبيعة. وقد نحت النازية هذا المنحى، بصورةٍ فجَّة مكشوفة.
تواجهنا الآن أخطر التحولات والتحديات في التاريخ الإنساني. لكننا غائبون فكريًا، ونعيش تخلفًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وتكنولوجيًا وتعليميا، مريعا. يضاف إلى ذلك لم يعد هناك نموذج نتبناه. وليس هناك ما يحول بيننا وبين أن يفترسنا أقوياء العالم الذين كشروا عن أنيابهم. ينبغي، فيما أرى أن نتجه بثورتنا في وجهة تأسيس منصات للحوار الفكري العميق الشامل، الذي يفضي إلى إنتاج نموذجنا المعرفي الذي يقوم عليه نموذجنا التنموي. الصراع الجاري الآن والانشغال بالكسب الحزبي والغوغائية السائدة ستبقينا مكشوفين في عالمٍ متوحش شرسٍ، يرى سحق الضعاف أمرًا طبيعيا.
|
Post: #77
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-15-2020, 10:35 PM
Parent: #76
"والحال ياهو نفس الحال"
النور حمد صحيفة التيار 16 يونيو 2020
لن أتعب من إعادة رفع الآذان في مالطا، في مسار محاولاتي المستمرة للتنبيه إلى ضرورة وضع أمورنا الملتبسة في نصابها، وإعادة الدولة السودانية إلى منصة التأسيس. تقتضي هذه الإعادة التخلي عن النهج المضر الذي ظللنا نمارس به السياسة في هذا البلد المحزون. جوهر هذا النهج المضر هو استخدام ديمقراطية ويستمينيستر القائمة على تمثيل النائب لأهل دائرته الانتخابية، في سياق لا يملك الاستعداد التاريخي ليجعل من تلك الممارسة ممارسة منتجة. فالسياق السوداني غير مستعد لديموقراطية التمثيل بهذه الصورة؛ لا من حيث البنى التحتية، ولا من حيث التعليم، ولا من حيث الاقتصاد. أيضًا لم يمتلك سياقنا الضوابط الدقيقة المُنظِّمة، التي تجعل الممارسة الديموقراطية فاعلةً ومثمرة. لقد بدأنا ممارسة ديمقراطية ويستمينيستر والطائفية في أوج سيطرتها على العقول. وبعد تجارب قصيرة متعثرة، ثار الحداثيون في اليمين واليسار عليها، فاخترقوا الجيش، ودفعوا به إلى الانقلابات. انتدب الحداثيون أنفسهم لينوبوا عن الشعب رغم أنفه. بسبب ذلك، أضاع منا العسكر 52 عامًا من عمر استقلالنا البالغ 64 عاما. وكما هو واضح الآن، فإن شهيتهم لا تزال مفتوحة لإضاعة المزيد.
لو تأملنا الديموقراطية التمثيلية كما مارسناها، والمقولة المركزية للإسلام السياسي القائلة: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، لوجدناهما شيئًا واحدًا تقريبا. وقد يستغرب كثيرون هذا الحديث، لكن، ما يجمع بين النهجين، باختصارٍ شديدٍ، هو الانحصار في العمل على الوصول إلى مركز السلطة أولا، بلا اهتمام بتمليك الشعب سلطة القرار، والمعرفة، وأدوات التغيير، وجعل عملية التصعيد إلى البرلمان أو إلى الوزارة نابعًا بصورة عضوية من الجذور. نخبنا لا تشتغل مع القواعد الشعبية، مباشرةً، لإحداث التغيير، وإنما تشتغل على الآليات التي توصلها هي إلى الكراسي، لتمارس التغيير من أعلى إلى أسفل. جرب الإسلاميون هذا النهج على مدى ثلاثين عامًا، فأوصلونا إلى هذه النتائج الكارثية. والحمد لله أن الشيوعيين لم يجدوا أكثر من ثلاثة أيام، إذا استبعدنا شراكتهم لنميري. وعموما، فإن كامل الطيف المصطف وراء الديموقراطية لا يملك مفهومًا للسلطة مختلفا عن مفهوم: "إن الله ليزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن". بعبارة أخرى: اجلسوني على كرسي السلطة، وسيكون كل شيء على ما يرام.
ما نراه حاليًا من انشقاقات داخل (قحت)، ومن" شربكة" وتعثر في محادثات السلام، ومن غلبة لمزاج" الشلة" على المعايير الموضوعية لاختيار الأفراد للمناصب الرفيعة، إنما هو دلالة على أن هذه العقلية التي تحيل كل قصدٍ سامٍ إلى رماد. عطفا على ما قلته في عمود الأمس 15 يونيو 2020، نحن بحاجة إلى مستودعات تفكير تفكك هذه التركة المثقلة من المناهج السياسية والممارسات السياسية الخاطئة. فهي لم تتعرض لنقد جدي، سوى من أقلام قليلة، يقرأ لها قليلون. نحن بحاجة إلى ثورة فكرية وثورة ثقافية تعيد تعريف الديموقراطية في سياقنا المحلي وترسم شخصيتنا الحضارية، وتستلهم تراثنا، وتجعل حراك التغيير لدينا، يبدأ من الجذور. أي أن يسير تغيير الواقع العيني، نحو الحرية والمساواة والعدل وتصعيد النخب إلى مراكز القرار، في وقت واحد. وفي هذا تفاصيل كثيرة. كل من قادونا منذ الاستقلال، إلى اليوم، لم يكونوا يمثلوننا حقيقة. ومن يتصرفون الآن باسم الثورة، لا يبدو أنهم فهموا روح الثورة ورسالتها كما ينبغي. نحن بحاجة إلى ملء فجوة كبيرة يحتاج ملؤها فكرًا جديدًا، وأليات جديدة.
|
Post: #78
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-17-2020, 05:16 AM
Parent: #77
دعونا نَصْدِق لكي نعبر
النور حمد
صحيفة التيار 17 يونيو 2020
إذا كنا مؤمنين حقَّا بضرورة التحول الديمقراطي، فينبغي علينا أن نعمل بصدق وبشفافية أكبر مما نفعل الآن. ما يجري الآن أغلبه "مكاجراتٌ" ومحاصصاتٌ، وضربٌ تحت الحزام، ودفنٌ للمحافير. كل قبيل يظن أنه سوف يكسب الصيال بهذه الأساليب الملتوية. وفي هذا فصور خيال وضعف تصور لهشاشة الوضع الذي نعيشه وتعقيداته. الوثيقة الدستورية المعيبة، جاءت نتيجة لأن الطرفين؛ الثوار والعسكريين، لم يملكوا القوة الحاسمة. لا نود أن نكرر بعد هذه الثورة فشل تجاربنا الديمقراطية التي أدارتها نخبنا السياسية بتلك الصورة السيئة، التي فتحت الباب للعسكريين لكي ينخرطوا في العمل السياسي. وانخراط العسكريين في العمل السياسي هو أكثر ما يُقعد البلدان عن النهوض، بل ويدمرها. ودعونا نتأمل، على سبيل المثال، تجربة ضياء الحق في باكستان، وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي، في مصر، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وآل الأسد في سوريا، والبشير ونميري في السودان. لحظة أن يخرج الجيش عن دوره في حفظ أمن البلاد من الاعتداءات الخارجية، والالتزام بالدستور في حماية الديموقراطية، ويتحول إلى فاعل سياسي، يفقد احترامه، ويتحول إلى أكبر عائق للنهضة.
اعتمدت الإنقاذ على مدى ثلاثين عامًا، نهج كسر إرادة خصومها، فقضت على الأخضر واليابس. ورغم المماطلة، اضطرت، في نهاية الشوط، لأن تخلي المسرح مكرهةً. عقب ثور ديسمبر، انتهجت اللجنة الأمنية، بعد أخذ موافقة بعض المدنيين، نفس نهج البشير، وأرادت كسر إرادة الشعب، عن طريق فض الاعتصام بفظاعة مقصودة، كان الغرض منها أن تحدث أكبر صدمة نفسية ممكنة لكسر الإرادة. لكن جاءت النتيجة على عكس ما جرى التخطيط له. فقد عدَّلت مليونية 30 يونيو 2019، ميزان القوة، من جديد. لقد كان فض الاعتصام خطأً فادحًا، ليته لم يحدث. فنحن الآن نعاني من تبعاته العديدة، ولربما تستمر معاناتنا منه لبعض الوقت، بسبب التعقيدات التي أحدثها. تتسم معظم النخب الحاكمة في العالم بالصلف، والغطرسة، والاستهانة بأمر الشعوب. يحدث هذا لدينا، كما يحدث في بعضٍ من أعرق الديموقراطيات، وأرسخها. فالإنسان، أينما كان، لم يتخلص، بعد من الوحش الرابض في داخله. هذه الوحش يلبس أحيانًا زي مُدَّعِي الغيرة على الدين، وأحيانًا بزةً العسكر، وأحيانًا أخرى بدلةً وربطة عنق.
على من لا يزالون يظنون؛ من العسكريين بمختلف فئاتهم، ومن السياسيين، أن الأساليب المتوارثة لترويض الشعوب والسيطرة عليها لا تزال فاعلة وحاسمة، أن يعيدوا التفكير. العالم يتغير الآن بصورةٍ غير مسبوقة. وها هي نخب الولايات المتحدة، التي طالما ظنت أنها محصنة من خطر الثورات، تقف اليوم مذهولة أمام ما يجري في شوارعها. لقد أخذ عصر الشعوب يقوض بنية عصر النخب. فلتجعل النخب؛ عسكرية كانت أو مدنية من هذه الحقيقة نجمًا هاديًا لخياراتها. تعقيدات ظرفنا الراهن في السودان تحتاج شجاعة استثنائية، ومرونة عالية، ونكرانًا للذات. فدعونا جميعًا نضع جميع الأوراق على الطاولة، لنجري حوارًا جديًا صادقًا شفافا. لأنه في نهاية الأمر لن يصح إلا الصحيح. حاول البشير أن يجعل من شعبه وبلده "درقة"ً تحميه، واشترى بذلك الأسلوب الوضيع لنفسه ولبطانته بضع سنوات بئيسات، ثم وقع، في نهاية الأمر، فيما كان يخشاه. القادة العظام، الذين يخلدهم التاريخ، هم من يفدون بلدهم وشعبهم، لا من يجعلونهما "درقةً" لوقاية أنفسهم، ويفشلون في نهاية المطاف.
|
Post: #79
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-17-2020, 10:02 PM
Parent: #78
أنظمة العسكر المَلَكِيِّة الجديدة
النور حمد
صحيفة التيار 18 يونيو 2020
انبثق فجر الحداثة وانداح ضوءُه في سماوات الكوكب، بعد نضالاتٍ مريرةٍ خاضتها أوروبا لقرون طويلة، خرجت بها من قبضة تحالف الملكية والكنيسة والاقطاع. فتحت تلك النضالات الجسورة الباب للتقدم المعرفي والعلمي والصناعي والتنموي. أهلَّ فجر الحداثة، وما لبث أن انتشر، عبر الاستعمار، إلى جميع بقاع الأرض. عبر بضعة قرون تقلصت الأنظمة الملكية وتحول بعضها إلى ملكيات دستورية، يملك فيها الملك، ولا يحكم. ولم يبق الآن من الأنظمة الملكية القُحَّة في العالم الآن إلا ما نراه في الدول العربية.
شهد العقد الثاني من القرن العشرين الثورة الشيوعية، التي انداحت لاحقًا لتشمل الصين وكوبا. وشهدت ثلاثيناته صعود النازية والفاشية، في كل من ألمانيا وإيطاليا. أما النصف الثاني منه، فقد شهد انقلابات عسكرية في كثير من دول العالم النامي، بعد خروج الاستعمار. كشف انهيار الشيوعية أن قيادة الحزب الشيوعي لم تكن سوى هيئة ملكية حاكمة، فاشلة. أما الصين، فقد حولت الحزب الشيوعي إلى ملك هي الأخرى. لكنها حققت نجاحًا اقتصاديًا واجتماعيًا وتقنيًا، غير مسبوق في تاريخ العالم. ومعلومٌ أن لكل بلدٍ ظروفه الخاصة التي تفرض عليه نموذجه. وليس كل نظامٍ ديكتاتوري أو ملكي تقليدي، هو بالضرورة نظامٌ فاشل. وليس كل نظام ديموقراطي هو بالضرورة نظامٌ ناجح. وينبغي أن نحاكم كل نظامٍ في السياق الخاص به. لكن، تبقى الديمقراطية هي النهاية التي لا مفر منها.
النقطة المركزية لهذا المقال هي أن الأنظمة العسكرية العربية تحوَّلت إلى ما يشبه الأنظمة الملكية، وإن كانت بلا ملكٍ متوَّج. تجلس على رأس هذه الأنظمة القيادات العسكرية التي أصبحت المالك للموارد، بصورةٍ شبيهةٍ للأنظمة الملكيَّة الخليجية. أصبحت المؤسسات العسكرية، كما في مصر والسودان، تايكونات اقتصادية، تمنح الشعب مكرمات لتكسب رضا الشعب وتسليمه، مثلما يفعل الملوك، وإن أبى، فهي تعرف كيف تهدد أمنه و"تسوِّد عيشته". وتسعى الأنظمة الملكية الخليجية، حاليًا، لنشر نموذجها عبر الجيوش فتصبح أسرًا مالكةً بصيغة جديدة. فحيث الدولة غنية والشعب مطيع، كما في الخليج، يستمر النظام ملكيًا قحًّا. وحيث يكون الفقر وروح التمرد الشعبي، يصبح النظام مَلَكِيَّةً عسكرية.
بعد نجاح الثورة دعم الفريق أول حميدتي الاقتصاد المنهك بحوالي مليار دولار. وأعقب ذلك بفترة تصريح لوزير المالية قال إن منظومة الصناعات الدفاعية وافقت على رفد الاقتصاد بـ 2 مليار دولار، من عائد صادرات مسلخ الكدرو. فهل يمكن لدولة تتلقى من مؤسستها العسكرية 3 مليار دولار تستطيع أن تكون شيئًا بإزاء تلك المؤسسة العسكرية؟ ألا يُحوِّل ذلك المؤسسة العسكرية إلى مَلِكٍ متوج، والحكومة المدنية إلى خيال مآتة، والشعب صاحب السلطة إلى مجرد رعايا؟ لقد أحدث نظام البشير خللا هيكليًا فادحًا في نظام الدولة السودانية. ولكي نضع البلاد على الصراط المستقيم، لابد من وضع جميع أوراق اللعب على الطاولة. ثم نتحاور بناءً عليها، حول مستقبل بلادنا، بوطنيةٍ صادقةٍ وبتجرد وبعقلانية. يمكن للجيش أن يكون له ذراعٌ اقتصادي، لكن تحت رقابة المال العام. فالوضع الذي صنعه البشير، لشيءٍ في نفس يعقوب، معوجٌّ بكل المقاييس. أما محاولة الخليجيين نقل نمطهم إلى السودان فلن تنجح، لأن طبيعة السودان التاريخية والبشرية والثقافية والمزاجية، لا تسمح بهذا النمط. وهو، على كل حالٍ، نمطٌ غارب.
|
Post: #80
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-19-2020, 04:48 AM
Parent: #79
حالٌ لا يشبهه حالٌ آخر
النور حمد
صحيفة التيار 19 يونيو 2020
تمر الأمم بمنعطفات في تاريخها تفقد فيها البوصلة تمامًا؛ فتنطفئ فيها وقدة الحكمة، وتضعف حاسة العدل والانصاف، وتنعدم الحيدة العقلية، وتطغى الذاتية على الموضوعية. في هذه الأحوال يختلط الحق بالباطل وتسود الغوغائية وتختل جميع الموازين، فينكمش العقلاء ويميلون إلى الاعتزال. فيتمدد الجهلاء، وأصحاب الأغراض الفجة، في الفضاء العام، ويحتلونه. هذه الدورات المتعاقبة جزءٌ من التطور الطبيعي للمجتمعات. ولقد كانت الأمم تخرج من هذه الأحوال بفضل الرواد الرؤيويين الهداة؛ كالأنبياء والفلاسفة، والمصلحين الاجتماعيين، والروائيين والشعراء والفنانين والموسيقيين. وكلنا يعرف ما قام بها الأنبياء والفلاسفة والمصلحون الاجتماعيون، وما قامت به الآداب والفنون في جهود انتشال البشرية من الأوحال وتوجيهها نحو ذرا الحق والعدل والمرحمة. فالتغيير في مثل هذه السقطات الكبري يقتضي انتشال الوجدان، أولا.
لو تأملنا، مجمل النهضة الأوروبية لوجدنا أن الإصلاح الديني والفكر والفنون هي التي أخرجت أوروبا، ومن ورائها العالم، من ظلمات العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة. ولعل الحالة المستعصية التي نمر بها الآن في السودان تستدعي أن نخرج من حالة الانحصار في انتظار المخرج من السياسيين وحدهم. وعمومًا، فإن السياسيين والعسكريين الذي عرفناهم عبر الستين سنة الماضية، هم العامل الرئيس في هذه الأزمة. هم منتوجها الذي لن يخرج على قالبها، مهما فعل، إلا بثورة فكرية وأخلاقية تجعل الشعب واقفًا على أمشاط أصابعه لحراسة حقوقه. لقد وجد أغلبية هؤلاء في الأزمة المستحكمة المتطاولة البيئة الصالحة لعيشهم. لقد أحبوها كما تحب الضفادع المستنقع. ينبغي أن ننتبه إلى أن مظاهر أزمتنا لا مثيل لها في أي بلد آخر، فهي أزمة استثنائية، تقتضي حلولا استثنائية. نحن أصحاب أطول حرب أهلية في التاريخ المعاصر، إن لم تكن الأطول في التاريخ الإنساني كله. ونحن أصحاب الأزمات المعيشية المتطاولة منذ السبعينات وإلى يوم الناس هذا. ونحن الأكثر فشلا في تطوير الاقتصاد والبنى التحتية. ونحن الأكثر قدرة بين الشعوب على تهريب ضرورياتنا إلى دول الجوار، من أجل الكسب الشخصي. وعمومًا فإن حالة عدم الاستقرار التي لدينا، لا شبيه لها في أي بلد آخر. ولو نظرنا إلى كل جوارنا الإقليمي فإننا لن نجد بلدًا يعيش أزمات مستمرة في السلع الضرورية مثلنا؛ لا في إثيوبيا، ولا في كينيا، ولا في يوغندا، ولا في تشاد، ولا في إريتريا، ولا في مصر، ولا حتى في إفريقيا الوسطى، التي مزقتها الحرب. اعتقادي الراسخ أننا نعاني من خواء فكري، وفقر روحاني أحدثا أزمة أخلاقية فظيعة، نكابر في الاعتراف بها، وتعجز عقولنا التي ألفت الزيغ عن طريق الحق، عن مواجهتها بصدق. لا يمكن لدولة أن تقوم وتصبح فاعلة ما لم تنتصر "الأنت"، وسط أهلها، على "الأنا". نحن نتشدق بالدين، ونغالي في الحماس له، ولا ننتبه إلى أننا نظهره في أبشع الصور، وأبعدها عن مقاصده. إن أزمتنا أزمة تفكير مستقيم يضع يده على العلل، بشجاعة، ويعمل بجد على إبرائها. ما نمر به حاليًا، كأمة، حالةٌ من حالات الانحطاط العام، التي لم تسلم أي أمة من المرور بها، في زمن ما. بداية مخرجنا أن نعرف أننا نعيش أزمة كلية عميقة، وليس صعوبات عابرة. من هنا ينبغي أن ينطلق المفكرون والسياسيون والأدباء والفنانون.
|
Post: #81
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-20-2020, 02:26 AM
Parent: #80
تعقيب للدكتور وجدي كامل
صحيفة التيار 20 يونيو 2020
عزيزي الدكتور النور حمد طابت أوقاتك وبعد: اطلعت على كلمتكم المهمة بالأمس في تحليل واقع الأزمة السودانية الشاخصة المتفاقمة. دعني أتفق معك فيما أوردت من أعراض، وعرضت من نتائج ودعوت اليه من يمكن تسميتهم "الكتلة الطليعية القائدة للرأي العام" للقيام بدورها التاريخي لإحداث الإصلاح والنهضة أسوة بغيرها في الجغرافيا والتاريخ البشريين. ولأني مدرك تمامًا لعمق البحوث والحفريات في المبحث النقدي للـ (الكتلة)، فقد كنت أرى أن مجرد دعوتها في نهاية الكلمة، ربما احتاج إضافةً تتصل، بنقدها بوصفها تمثل الوجه الآخر للأزمة، وحاملةً لذات أمراضها المزمنة.
عندي أن فرص التفكير النقدي الحر لأزمة كأزمتنا تتوفر أكثر بقراءتها كبنيةٍ واحدة تعبر عن حقيقتها في طبيعة، وخصائص وآليات الكوابح والمضادات التي يضج بها المعمار الداخلي لسلطة الدولة التاريخية. وهي ذات السلطة المنسجمة منذ المملكة الزرقاء 1504م، الى الدولة السودانية الحالية. فالخيبة التي أنتجتها مؤسسة السياسة التاريخية السودانية منذ بداياتها، مرورًا بتقاطعاتها المعاصرة مع المؤسسة العسكرية، قد سجلت للانتلجنسيا، وللمشتغلين بالفكر، والأدب علاقة تامة مكتملة بتلك المؤسسة. ولكم في كتابكم المتميز (مهارب المبدعين) قدحٌ مُعلَّى في التحليل للمرض العام الذي اجتاح سوسيولوجية السياسي والمثقف والأديب. من المؤسف أن هذه الكتلة المناط بها قيادة الوعي والمساهمة في إحداث التخطيط، والتوجيه، والتوصيف لحركة ومحتوى التنمية، تنكبت طريقها على مر دورات السياسة المعاصرة، وخاصة ما بعد الاستقلال. وسوف تظل تواجه العقبات، الواحدة تلو الأخرى، في سباق تكوين استقلاليتها الموازية (ما لم تواجه نفسها)؛ سواء كان لأسباب تتعلق بالتورط في المؤسسة السياسية القائمة، أو أخذ مواقف معارضة من المؤسسة، من دون أن تحمي بنيتها الخاصة واستقلاليتها. وفقا للنقد المثبت، المثار أجد أن على هذه الشريحة إجراء واجبها المنزلي الداخلي بهدم مكونها العقلي، وبناء مرتكزاتها الفكرية الجديدة الخالية من الاسطورة والمتخيل الرمزي للواقع المُنتِج للتاريخ، بوصفه صناعة ذهنية، وأحيانا أيديولوجية كتبتها رغبات الحكام، ومؤسسة الحاكمية السياسية الاقتصادية الاجتماعية التاريخية.
نشدان الانطلاق يعني الاضطلاع مباشرة بهندسة الوعي على نحوٍ جديد يستوعب الديناميكية وخصائصها في الهويات التاريخية والمعاصرة، على قاعدةٍ بيانيةٍ واقعيةٍ تُحسِّن العلاقة بالواقع كمادة أساسية للوعي المختطف في سردية الخطاب السياسي والثقافي الذائع. يعني هذا تشييد وإنشاء المضمار الخاص بتلك الكتلة على نحو تحكمه قوانين ومنطلقات بحثية إبداعية تعي وتعمل بنظم التفكير النقدي العلمي، بغرض إبطال مفعول ثقافة المجتمع السياسي المتوارث والمسيطر. واستبداله بتصميم ثقافة سياسية ومفاهيم جديدة للتنمية، وأخرى مُتجاوزة للتنمية، وفي مقدمتها التنمية الثقافية والبشرية؛ تنميةٌ تتوغل وتنفذ الى معالجة مكونات عقلية (الخواء، كما وصفتها) بتحويلها الى عقلية العمل على أحدث التطبيقات الحضارية المواكبة جنبًا الى جنب مع واجبات فصل الدين عن السياسية، والغاء التابوهات المتسيِّدة، كما بتحرير القوانيين من العقوبات والجزاءات المسلطة في وجه التفكير الحر الجديد.
الفكر، والفن، والأدب، وخطابات العقل البديل سوف لن يكون بمقدورها اجراء الثورة على الواقع المادي ما لم تغير ما بنفسها، وتثور على مكونها الذهني والنفسي "الأفندوي" التاريخي، والانتقال من تابع الدولة الى مالك لها ومُغذٍّ لها بالأفكار الواقعية السياسية البناءة الخلاقة دون إهدار للوقت، وإضاعة للفرص. ودمت.
|
Post: #82
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-20-2020, 09:50 PM
Parent: #81
مداخلة للأستاذ ممادو التجاني
صحيفة التيار 21 يونيو 2020
الاخ الدكتور النور حمد، تحية واحتراما طالعت عمودك في صحيفة التيار ومداخلة الدكتور وجدي كامل في عدد الأمس، وأمس الأول، على التوالي. وأريد هنا أن أنضم إليكما، محاورًا، لا رادًا على الدكتور وجدي. أولاً، أجدني متفقًا معكما في تحليلكما ووصفكما للصفوة وكتلتها التي تولت إدارة الدولة السودانية. فأمر صفوتنا، حقًا عجيب، فهي لا تنفك تعيد تدوير الفشل، دائرةً أثر دائرة، منذ أربعة وستين عامًا، هي عمر حكمنا الوطني. وهي، ف ذلك، خليقةٌ بأن يجري عليها وصف آل بوربون، الذين لا ينسون شيئًا ولا يتعلمون شيئا. لكن، أرجو أن يسمح لي الدكتور وجدي، بالاختلاف معه في مسألة جزئية، أراها مهمة، لجهة نجاعة التحليل وصوابه. وأرى أن إبراز اختلافي معه فيها من شأنه أن يفتح أفقًا حول وجهة البلاد الحضارية. تلك الوجهة التي حسمها آباء الاستقلال، (استعرابًا وأسلمة)، بطريقةٍ مبتسرةٍ، جاهلةٍ، ظالمة.
الخلاف ينبع من قول د. وجدي أن هذه الطبقة هي امتداد لدولة سنار وأفقها الحضاري. أي، أنها امتداد لسرديتها وعقلها. هذا ما بدا لي. لكن المتتبع لمسيرة هذه الطبقة، أو الكتلة الحديثة، وتمظهرها الأبرز في الحركة الوطنية عقب الاستعمار الانجليزي المصري السودان، يجدها تكونت برعاية الاستعمار التركي المصري. صحيح أن كتلة الفونج رعت الأيدولوجيا الاسلاموعروبية، لكن بدون أن تتقاطع مع السودنة، والأفرقة. فقد كان حكام الممالك الثلاثة؛ (الفونج والفور وتقلي)، من المكون الافريقي الأصيل في السودان، لا في تجليه السلالي وحسب، وإنما أيضًا في تراثه وتقاليد حكمه. هذا، إلى جانب تديُّنٍ ينماز بسودانيته القحة، المفارقة لأنماط التدين الاسلامي التقليدي في حواضر العالم الاسلامي. لذا أرى أننا ما لم نراجع نقديًا، الصلة مع مصر (ثقافة وحضارة)، فإننا لن ننجز كتلةً سودانيةً مبنىً ومعنىً، غير مغتربةٍ عن الواقع السوداني وأسئلته. لقد انتقلت كل أمراض مصر في إدارة الدولة ومناهج تفكيرها إلى البنية السياسية والإدارية والثقافية للدولة السودانية. ودعونا ننظر إلى الأدلوجة الاستعرابية تجاه سكان صعيد مصر الاصليين؛ (بجا ونوبة وبعض شعوب الليبو _ الهواوير، أو الهوارة الذين سيصبحون عربًا، ومن ثم، حسانية).
دعونا ننظر إلى تهميش كل ما هو غير عربي، باستثناء التماثيل والآثار الحضارية الفرعونية، التي تجلب الدولار، ولم تجد الاهتمام إلا بسببه. لننظر، أيضا، إلى فساد الطبقة السياسية المصرية وبؤس برامجها وضعفها، وسيطرة الجيش المصري على مفاصل الحياة، ولعقلية الخواء و"الاستهبال" والبؤس المعرفي. وأيضًا، عقلية التلقين وضعف الحس النقدي، عدا قلة كان حظ بعضها القتل والتكفير والإبعاد. فنحن نسخةٌ مشوَّهٌة ورديئة من مصر، وما لم نقطع مع هذه النسخة، فلن نتخلص من أمراضنا المقيمة. لدي شعورٌ بأن استعراب قبائل الشمال النيلي تم برعايةٍ مصرية، على الرغم من وجود جذر فونجي، كما ذكر الأستاذ، جاي سبولدنق في كتابه الأميز "عصر البطولة في سنار". فالاستعراب جرى عبر أمر مكوكي لدرء خطر المماليك حينها. الخلاصة، أن هذه الكتلة ونخبتها تشربت النموذج الاجتماعي والسياسي المصري الشائه، وهذا ما ينبغي أن نلتفت إليه. هذا لا يعني أن ليس لمصر مميزات إيجابية. كلا، فهي مليئة بالإيجابيات، لكن أثرها السالب أكثر وأمضى في ماضينا وحاضرنا. ولا ينبغي أن نتركه يتمدد أكثر مما فعل، فيصبغ مستقبلنا، أيضا. ولك ودي الذي تعلم.
|
Post: #83
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-21-2020, 10:20 PM
Parent: #82
تضليل الرأي العام بخطاب الكراهية صحيفة التيار 22 يونيو 2020
النور حمد
ما أكثر ما بنى السياسيون على مر العصور، أمجادهم على تضليل الرأي العام. وقد كان أمضى سلاحين في تضليل الرأي هما الخطاب الديني والخطاب العرقي. استخدم الحكام المسلمون، بحكم تخلف وسائط الاتصال في العالم القديم، الفقهاء وأئمة المساجد كذراع إعلامي. فهم من يجتمع الناس لديهم في المساجد لأداء الصلوات، خمس مرات في اليوم، إضافة إلى يوم الجمعة. ولقد رُمي كبار المفكرين المسلمين بالزندقة عن طريق التضليل. فما أن يفكر مفكرٌ على غير مألوف ما هو سائد، ويحس الحاكم أن في ذلك ما يهدد عرشه، ولو بعد حين، يجري رميه بالكفر والإلحاد والزندقة. ولربما لا يعرف كثيرون أن أشهر الفلاسفة المسلمين الذين نباهي بهم الأمم اليوم، قد رُموا بالزندقة. من هؤلاء، على سبيل المثال: ابن رشد، والكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الهيثم، وابن المقفع، وأبو العلاء المعري. في مسرحيته الشهيرة "مأساة الحلاج" صوَّر الشاعر صلاح عبد الصبور جوقةً من العوام وهي تردد: "صفونا صفًّا صفًّا/ الأجهر صوتًا والأطول، وضعوه في الصف الأول/ ذو الصوت الخافت والمتواني، وضعوه في الصف الثاني/ أعطوا كلًّا منا دينارًا من ذهبٍ قاني، براقًا لم تمسسه كف/ قالوا: صيحوا زنديقٌ كافر، صحنا: زنديق كافر/ قالوا صيحوا: فليُقتل إنا نحمل دمه في رقبتنا، صحنا: فليُقتل إنا نحمل دمه في رقبتنا/ قالوا امضوا فمضينا" ... إلخ.
في القرن العشرين شيطن الشيوعيون السوفييت خصومهم فقتلوهم، وأرسلوا الملايين منهم إلى معسكرات الاعتقال في سيبيريا. وشيطن النازيون والفاشيون خصومهم في أجهزة الإعلام قبل أن ينقضوا عليهم. وفي رواندا استخدم متطرفو إثنية الهوتو الخطاب العرقي الملتهب للتحريض على قتل أقلية التوتسي. وقد كان لبضع مذيعين من الهوتو الدور الأكبر في التحريض، الذي أدى إلى مقتل ما يقارب المليون شخص، فيما لا يزيد عن مئة يوم. لقد كانوا يذيعون شفرات تقول: " اذهبوا إلى العمل"، و: "المقابر لم تمتلئ بعد"، وأحيانا يقولون بوضوح: "اقتلوا صراصير التوتسي". وقد جرى تقديم هؤلاء إلى محكمة الجنايات الدولية، وحُوكم فرديناند ناهيمانا مؤسس لقناة راديو وتلفزيون في رواندا، بالسجن مدى الحياة. كما حوكم، أيضًا بالسجن مدى الحياة، حسن نقيز، مالك ومحرر صحيفة "كانقورا" الهوتية المتطرفة.
استخدمت الإنقاذ خطاب التضليل بكثافة أثناء التصعيد غير المسبوق في الجنوب، بمنحها طابعًا دينيًا. وقد أنتج الإعلام الإنقاذي سيلا من البرامج في تلك الوجهة. وحتى بعد أن انتصرت ثورة ديسمبر المجيدة أنتجت هذه العقليات البرنامج الأسوأ في تاريخ الإعلام السوداني، الذي حمل عنوان "خفافيش الظلام". أنتجوا هذا البرنامج في وقتٍ أخذ فيه هذا النوع من الاستخدام الخبيث للإعلام في التراجع والانكماش، على مستوى العالم. خلاصة القول، إن العالم قد أخذ يبتعد عن أساليب التضليل والتحريض وبث الكراهية الدينية والعرقية، بل وشرع في تجريمها، بحزم. ولا منجىً لنا إلا بالسير في هذه الوجهة. فقيم الحق والعدل وتكاملية الضمير الإنساني لا تنفصل. وقد أسعدني جدًا، أن أستمع في برنامج الأستاذ لقمان أحمد، "حوار البناء الوطني"، أن هناك اتجاهًا لإصدار تشريعات تجرم خطاب الكراهية العرقية، وتحاكم عليه. وأرجو أن يشمل ذلك خطاب الكراهية الدينية، أيضًا، فهو الأسوأ، على الاطلاق، في نسف الاستقرار وتقويض السلم الاجتماعي.
|
Post: #84
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-23-2020, 01:59 AM
Parent: #83
النموذج التنموي الإثيوبي
النور حمد
صحيفة التيار 23 يونيو 2020
لكي نعرف مدى قصورنا الذاتي كأمة، ينبغي علينا أن ننظر إلى إنجازات جيراننا ممن تماثل تجربتهم وأحوالهم الاقتصادية أحوالنا. لقد اتيحت لي في السنوات العشر الماضية زيارات عديدة لأربعة من أقطار الجوار، هي: إثيوبيا، وكينيا، وتنزانيا، ويوغندا. في كل مرة كنت أزور فيها إثيوبيا وكينيا، على سبيل المثال، أرى تطورًا واضحًا في البنى التحتية، شمل المطارات، والطرق السريعة، والسكك الحديدية. وهذا لا يتعدى ما تلتقطه عينُ زائرٍ عابر، لكنه، دون شك، يدل على تطورات على جبهاتٍ اقتصادية عديدة. أيضًا، أول ما تشاهده العين في هذه البلدان هو نظافة عواصمها، وقد كنا قبل أربعة عقود من الزمان أفضل منهم حالاً في ذلك. لقد ورثنا انضباطًا إداريًا من البريطانيين، لكنا لم نحافظ عليه، فتراجعت أحوالنا، تدريجيًا، حتى وصلنا، في عهد الإنقاذ الكالح، مرحلة الانهيار الخدمي الشامل. وتكمن المشكلة في منظومة قيمنا المتنافرة، غير المتسقة داخل بنيتها، وغير المتناغمة مع مقتضيات الحداثة.
شاهدت في اليومين الماضيين تقارير تلفزيونية قصيرة، مبهرة، أعدتها مؤسسة غربية،، عن النهضة الصناعية في إثيوبيا، تصور القفزات التنموية الكبيرة التي جرت هناك. أنشأت إثيوبيا بمعاونة الصينيين، في العقد الأخير إثني عشر مجمَّعًا صناعيًا ضخمًا، صديقًا للبيئة، على أحدث المواصفات. بدأت هذه المجمعات في توظيف اليد العاملة الإثيوبية بما يقدر بمئات الآلاف. وقد جرى توزيع هذه المجمعات على ست مدن إثيوبية رئيسة، في مختلف أقاليم إثيوبيا. يدل هذا النهج أن إثيوبيا بدأت تسلك نفس الطريق الذي سلكته دول النمور الآسيوية، قبل بضع عقود، وأحدثت به اختراقًا لافتًا في نقل التكنولوجيا والخبرة الصناعية. الآن أخذت شركات كبرى أمريكية، وصينية، وهندية، وبلجيكية، وفرنسية، وغيرها، في نقل أعمالها في صناعة الأقمشة والملبوسات، من شرق آسيا إلى المجمع الصناعي الضخم في مدينة أواسا الإثيوبية. يقول التقرير إن السبب وراء ذلك هو قلة التعقيدات البيروقراطية في إثيوبيا، والأيدي العاملة المدربة، والخدمات المتكاملة في هذه المجمعات؛ كالبنوك، وتصل هذه الخدمات داخل هذه المجمعات حد منح تأشيرات الدخول والإقامات. ذكر مستثمر هندي، جرت مقابلته في التقرير، أن إثيوبيا أقرب مسافةً إلى السوق الأمريكية، وبطبيعة الحال، إلى السوق الأفريقية. يتوقع أن تدر هذه النهضة الصناعية الكبيرة على إثيوبيا، بلايين الدولارات، سنويا.
عرض أحد التقارير صناعة الأحذية والألبسة الجلدية التي ازدهرت بشدة في إثيوبيا، التي تملك حوالي 52 مليون رأس من الماشية. ورغم أن أعداد الماشية في السودان لا تقل عن ذلك، إلا أن الإثيوبيين انتبهوا منذ البداية إلى القيمة المضافة فاتجهوا إلى تصنيع الجلود. هذا في حين بقينا نحن نصدر ها لعشرات العقود، مُتَّبعين سياسة تصدير الخام الاستعمارية. الآن غزت الأحذية والألبسة الجلدية الإثيوبية الفاخرة، الأسواق الأمريكية، وسوف تتبعها الألبسة الأخرى. هذا بخلاف المنتجات الأخرى كالبن. أما نحن فلم نحقق، على مدى قرن كامل، نجاحًا يذكر في صناعة النسيج والملبوسات، رغم أننا من منتجي أجود أنواع القطن. العقدة الرئيسة التي ستعطل انطلاقنا الآن، هي سيطرة العسكريين على مفاصل الاقتصاد، وعلى السياسية الخارجية. فالعالم لن يفتح لنا أي فرصة لنهضة كبيرة ما لم يتراجع العسكريون إلى موقعهم الطبيعي في بنية الدولة، كغيرهم من المؤسسات العسكرية. بغير ذلك، لن يرى العالم في نظام حكمنا سوى امتداد للإنقاذ. وسيكون كل عملٍ نعمله مجرد حرثٍ في البحر.
|
Post: #85
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-23-2020, 09:38 PM
Parent: #84
انبلاجُ فجرِ الشعوب وانجلاءُ ليلِ النخب
النور حمد
صحيفة التيار 24 يونيو 2020
ظلت البشرية تكافح منذ أن عرفت السلطة والتسلط، لكي ترفع عن رقبتها نَيْر القهر. عانى الفرد البشري ما عانى، منذ أقدم العصور، وهو يحاول نيل حريته وكرامته. فذاق في هذا الطريق الشاق، الطويل، مرارة الاستعباد، وقهر الملوك والأباطرة، وتسلط رجال الدين، وظلم الاقطاعيين الذين جعلوا من الضعفاء عبيدَ أرض. وبعد أن اشتعلت ثورات الشعوب على الملوك في أوج عصر التنوير، لم ينته القهر والظلم، وإنما أُعيد انتاجهما في صيغٍ جديدة. جرَّبت البشرية في القرن العشرين الاشتراكية على يد النظام الماركسي اللينيني في الجمهوريات السوفيتية والصين وكوبا، وغيرها. صادرت الماركسية اللينينية الحرية من أجل أن تحقق الاشتراكية، ففشلت في تحقيق كليهما. وجربت البشرية، قبل ظهور الشيوعية، النظام الديمقراطي الرأسمالي، الليبرالي، فأوصلت أزمته، رغم التعليم والرفاه النسبي الذي تحقق، إلى حالة الاختناق التي نشهدها عليه حاليًا في نموذجه الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية. تبخرت وعود التحرير التي طرحها عصر التنوير والثورات التي أعقبته. وتبخرت وعود الاشتراكية التي طرحها النموذج الشيوعي. وأبقت النخب ظلم الإنسان لأخيه الإنسان متخفِّيًا في أثواب جديدة.
احتلت النخب السياسية والاقتصادية الحديثة مقاعد الأباطرة والملوك الذين سادوا حقب الماضي. وعملت بدأبٍ لكي ينحصر الثراء وسط قلِّةٍ قليلة، ويعم الفقر الكثرة الغالبة. أكثر من ذلك استتبعت هذه النخب المثقفين، الذين أغرتهم بالثراء والوجاهة، فابتعدوا عن دور المثقف الثوري، وتحولوا إلى خبراء ومستشارين لها. هذا الحلف النخبوي الذي يضم رجال الاقتصاد، ورجال السياسة، ورجال الدين المتماهين مع السلطة، هو الإمبراطور الجديد، المسيطر اليوم. وفقًا لهذه التوليفة أمكن لشخص يفتقر إلى أبسط مقومات القيادة من المعرفة والخبرة والمسلك المتزن والانضباط الأخلاقي، أن يصبح رئيسًا لأكبر قوة في الأرض. هذه هي خلاصة الخلاصات في طفح حقبة النخب التي أخذت شمسها في الأفول. ولو نظرنا إلى حالنا في السودان عبر تقلباته منذ مؤتمر الخريجين وإلى صراعاتنا الجارية في هذه اللحظة، لوجدنا أننا نمثل نموذجًا مصغَّرًا لهذا المخاض الذي سينبثق به فجر عصر الشعوب، ولأول مرة في التاريخ.
من جوامع الكلم، وجوامع المعني، وجوامع المعرفة بمجريات التاريخ، في هذا الصدد، ما سطره قلم الأستاذ محمود محمد طه، منذ ستينات القرن الماضي، حين كتب: "إن عصرنا الحاضر يمكن أن يوصف بأنه عصر الذرة. ويمكن أن يوصف بأنه عصر استكشاف الفضاء الخارجي. ولكن ينطبق عليه أكثر، كونه عصر رجل الشارع؛ عصرُ الرجل العادي المغمور، الذي استحرَّت على مضجعه شمس الحياة الحديثة. فنهض وحمل عصاه على عاتقه، وانطلق يسير في الشعاب، يبحث عن حياته، وعن حريته، وعن نفسه، بعد أن أُذهل عن كل أولئك طوال الحقب السوالف من تاريخه المكتوب وغير المكتوب. ذلك التاريخ الذي أخذ يُراجع اليوم، ويُكتب على هدى قيمٍ جديدة. وهذه القيم الجديدة هي التي ستوجه المدنية الغربية الآلية الحاضرة وجهتها الجديدة". نحن، حاليًا، لا نزال داخل سيرورة ثورة ديسمبر العظيمة. وهذا يحول بيننا وبين رؤيتها كما ينبغي. هذه الثورة التي كان قوامها الشباب من أبنائنا وبناتنا، والتي تقاوم الآن التفاف حبال النخب حول جيدها الأغيد، لهي ضوعةٌ من ورود رياض عهد الشعوب المقبل، الذي آذن فجره بانبلاج وشيك على مستوى الكوكب كله.
|
Post: #86
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-25-2020, 04:21 AM
Parent: #85
العالم يحب أن يرى المدنيين يحكمون
صحيفة التيار 25 يونيو 2020
النور حمد
تابعت بالأمس قناة "الغد" وهي تقدم برنامجًا حواريًا عن المفكر الراحل، محمد أركون. قبل نهاية البرنامج بدقائق، قطعت القناة الإرسال وانتقلت إلى وزارة الخارجية السودانية لتنقل المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الري السوداني، حول آخر تطورات المفاوضات المتعلقة بسد النهضة. وقد واصلت القناة النقل المباشر لذلك المؤتمر حتى نهايته. كان من الممكن أن تصور القناة المؤتمر الصحفي وتورد خبره ضمن أول نشرة إخبارية تأتي عقبه، مصحوبًا بلقطات منه. لكنها بدلا عن ذلك نقلته كاملاً، من ألفه إلى يائه. لقد كانت هناك أكثر من عشرة محطات تلفزة ما بين عربية وناطقة بالعربية، حاضرةً في المؤتمر. ولا أدري كم منها نقل المؤتمر نقلاً مباشرا. المهم أن نقل المؤتمر كاملاً، وقت حدوثه، من قبل قناة الغد، كان لافتا. عقب نهاية النقل المباشر للمؤتمر اتصلت القناة بمراسلها في الخرطوم ووجهت اليه مجموعة من الأسئلة أجاب عليها. وفي أول نشرة أخبار أعقبت المؤتمر، أوردت القناة خبر المؤتمر مرة أخرى، واتصلت بمراسلها في الخرطوم طالبةً المزيد من الايضاحات.
أورد القناة في نشرتها، أيضًا، خبر المحادثة التي جرت بين السيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ووزير الخزانة الأمريكي ستيفن مونشين. وقد أشاد مونشين بجهود السودان، وسعيه لحث أطراف النزاع حول سد النهضة للوصول إلى اتفاق عبر التفاوض. وما من شك أن قنوات كثيرة قد اهتمت بهذا المؤتمر وبمبادرة السيد رئيس الوزراء، وبما قدمه السيد وزير الري في هذا المؤتمر، الذي عكس موقفا متزنًا متسمًا بالحكمة، وباستقلالية القرار. شعرت من كل ذلك، أن صورة بلادنا وصورة مسؤولينا قد بدأت تتغير. وأن العالم قد بدأ ينظر إلى بلادنا باحترام. ولقد كان اللافت في كل هذه المادة الخبرية غياب المكوِّن العسكري في الشراكة الجارية حاليًا. وأحب أن أضيف إلى علامات التحول التي عكسها نقل قناة الغد، الذي كان أمينًا ومحايدًا، ما سيجري اليوم من في مؤتمر شركاء السودان في برلين، عبر تقنية الفيديوكونفرس، لمناقشة سبل دعم الفترة الانتقالية والتحول الديموقراطي في السودان. فاشتراك الأمين العام للأمم المتحدة، وممثل الاتحاد الأوروبي، وغيرهم فهذا أيضًا حدثٌ كبيرٌ يدل على تبلور الصورة الجديدة، التي بدأت تتشكل في العالم عن السودان.
ما من شكٍّ، أن عهد إمساك العسكريين بمقاليد الأمور في دول العالم النامي قد انقضى. لذلك، لا ينبغي أن يفكر أيٌّ عسكري، الآن، في أن يكون واجهةً لبلاده. فلعالم لم يعد يستسيغ التعامل مع العسكريين الذين يحكمون. بل، إن الحكومات الغربية التي كانت تدعم في الماضي الأنظمة العسكرية، وتتدخل مخابراتها، أحيانًا، لتغيير الأنظمة بالانقلابات العسكرية، كفَّت عن ذلك. فالشعوب في كل العالم أصبحت أكثر وعيًا، وأكثر إحكاما للرقابة على حكامها. لقد جربنا الواجهة العسكرية في الحكم في السودان ثلاث مرات، امتدت لاثنتين وخمسين عامًا، اتسمت بحروب مستمرة، إلى اليوم، وبفقدان البلاد ثلث مساحتها، وأكثر من 50% من مواردها الطبيعية. ولم تعد في أقطار العالم النامي، اليوم، أنظمةٌ عسكرية، سوى في بلدانٍ قليلةٍ جدا. لقد تساقط أغلبها، ولن يلبث المتبقي منها أن يسقط. هذا هو تيار التاريخ، ومن يسبح ضده في أوج فيضانه، سيغرق حتما.
|
Post: #87
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-25-2020, 11:53 PM
Parent: #86
لا تدسُّوا المحافير من فضلكم
النور حمد
صحيفة التيار 26 يونيو 2020
تداعى العالم بأسره مساء أمس الخميس 26 يونيو 2020، في مؤتمرٍ غير مسبوقٍ لدعم الفترة الانتقالية ومواجهة تحدياتها الاقتصادية الضاغطة، ومن ثم، إنجاح عملية التحول الديموقراطي المرتقبة في السودان. أشاد عددٌ من المتحدثين بثورة السودان مبدين إعجابهم الكبير بشجاعة الشباب السوداني، ووقوفه بصلابة، وبسلمية، في وجه نظامٍ ديكتاتوريٍ باطشٍ متجبِّر. لقد أعاد شباب وشابات احترام الأسرة الدولية للسودان، من جديد، بعد أن فقده لعقود. وقد كان باديًا في حديث جميع المتحدثين الصدق والجدية والحرص على أن يعبر السودان من مربع اللااستقرار والفقر والعزلة الذي طال مكوثه فيه، إلى مربع الاستقرار والتنمية والازدهار. شاركت في هذا المؤتمر، أكثر من أربعين جهة؛ مثلت بلدانًاٍ، واتحادات بلدان، ومؤسسات مالية وتنموية مختلفة. وقد قدمت أرقامًا مالية محددة.
إن أول انطباع يمكن أن يخرج به المرء من هذا المؤتمر التاريخي، هو أن اختيار الدكتور عبد الله حمدوك لرئاسة وزارة الفترة الانتقالية، قد كان موفَّقًا، بكل المقاييس. فلقد تجلَّت خبرته المهنية ومعرفته اللصيقة ببيئة العلاقات الدولية، والاحترام الدولي الذي يتمتع به، في فكرة عقد هذا المؤتمر وفي نجاحه اللافت. ولو تركنا العون الاقتصادي الذي أسفر عنه هذا المؤتمر، جانبًا، فإن الدعم المعنوي الذي جلبه للسودان، لا يقل أهمية. ولو أضفنا، إلى هذا المؤتمر، الاختراق الكبير المتمثل في استقدام البعثة الأممية (يونيتامس)، والموافقة على نقل السودان من الفصل السابع الذي ورط فيه حكم الانقاذ البلاد، إلى الفصل السادس، ثم العون الأممي المتنوع الذي سيصاحب عمل البعثة، فإن انجازات حمدوك النوعية، تصبح واضحةً وضوح الشمس. أيضًا، ترددت أنباءٌ قبيل انعقاد هذا المؤتمر، منسوبةٌ إلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، قال فيها إن الأسابيع القادمة ربما تشهد رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وقد كان لافتًا للنظر في أحاديث الذين شاركوا في هذا المؤتمر، خاصة الغربيين، إشاراتهم المتكررة إلى ضرورة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإعادة دمجه في المجتمع الدولي.
أما الخلاصة الأهم في تقديري، فهي أن هذا المؤتمر، وغيره من الاختراقات الأخرى التي أشرت إليها، قد قلبت الطاولة على كل الحالمين بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من كارهي الثورة، وفلول النظام المدحور؛ من مدنيين وعسكريين. لقد أصبحت الفترة الانتقالية الآن مراقبةً بعيون المجتمع الدولي. وأصبحت بالإضافة إلى حراسة الشارع السوداني الواقف على أمشاط أصابع قدميه لها، محروسة، أيضًا، بهذا الاهتمام الدولي الواسع، المتنوع. لقد عزف المجتمع الدولي نغمةً أساسيةً لن تملك القوى الإقليمية خيارًا سوى العزف على إيقاعها وسلمها.
لكن، مع كل ما تقدم، لابد من القول إن المكون الرئيس لحل مشاكل السودان يأتي من داخل السودان، وليس من خارجه. ما ظل يجري في جوبا من مباحثات سلحفائية، لا تصلنا منها سوى روائح المحاصصات الكريهة، نغمةٌ نشازٌ، غير متوافقة مع لحن التغيير. و"ورجغة" كارهي الثورة، في الصحف المأجورة، وفي وسائط التواصل الاجتماعي، نغمةٌ نشازٌ هي الأخرى. وتعطيل المرافق واختلاق الأزمات، نغمةٌ ثالثةٌ نشاز. واشرئباب عنق المكون العسكري، ليطغى على المكون المدني في الصورة، نغمةٌ رابعةٌ نشازٌ. فيا هؤلاء، وأولئك، لقد جاء العالم ليعيننا على دفن جثة فشلنا المُزمن النتنة، فلا تدسوا المحافير من فضلكم.
|
Post: #88
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-27-2020, 02:56 AM
Parent: #87
"تاباها مملَّحة تاكلها بي موية"
النور حمد
صحيفة التيار 27 يونيو 2020
طالب الجنوبيون عقب الاستقلال بحكم فيدرالي، في إطار الدولة السودانية الموحدة، لكن ووجه الطلب بتظاهرات حاشدة معادية للفدرالية، بلا فهم. ونشطت أقلام غوغائية في شيطنة الفيدرالية 7وجرى اتهام دعاتها بنوايا التفتيت والعمالة للاستعمار. بعد عامين من الاستقلال قوَّض انقلاب الفريق عبود الديموقراطية الأولى وانخرط في حرب إبادة في الجنوب، لكنها لم تفلح في إخضاعهم. سقط نظام عبود بثورة أكتوبر 1964، وبدأت الديموقراطية الثانية، وسار الساسة المدنيون على خطى العسكريين في الحل الأمني. استمرت الحرب، إلى أن حدث انقلاب جعفر نميري في مايو 1969. فجرى في 1972 توقيع اتفاقية أديس أبابا وتوقفت الحرب، تمامًا، لأول مرة.
عقب الاتفاقية، مارس الجنوبيون ما سُمي "الحكم الذاتي الإقليمي"، لعشر سنوات، اتسمت بالاستقرار. غير أن نميري شرع في حفر قناة جونقلي، التي تخدم مصر. أثار ذلك حفيظة الجنوبين. فقد خشوا أن يقود حفر القناة إلى تجفيف المستنقعات الشاسعة التي يعتمد عليها الرعاة الجنوبيون وهم غالبية السكان. في ذلك الجو الموتر تلاعب نميري، ببعض بنود اتفاقية أديس أبابا. فثار الجنوبين ووُلدت الحركة الشعبية بقيادة قرنق. اشتعلت الحرب من جديد، وأعلن نميري في عام 1983 ما أسماه "تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية" فزاد النار اشتعالا.
سقط نظام نميري بثورة أبريل 1985، وعادت الديموقراطية، واستمرت الحرب إلى أن وقع العقيد جون قرنق والسيد محمد عثمان الميرغني ما سُميت "اتفاقية الميرغني/ قرنق". لم ترق الاتفاقية للسيد الصادق المهدي وللإسلاميين، الذين استثمروا في استمالة الجيش تمهيدًا لانقلابهم المُعَد، الذي نفذوه بالفعل في يونيو 1989، مطيحين بحكومة السيد الصادق المهدي. ثم، ما لبثوا أن شنوا أعنف الحروب على الجنوبيين، باسم الدين. استمرت الحرب 15 عامًا ولم يتحقق للإسلاميين فيها نصرٌ حاسمٌ. فاضطروا، عبر مفاوضات نيفاشا إلى توقيع ما سميت "اتفاقية السلام الشامل"، في 2005، تضمنت حق الجنوبيين في تقرير المصير. شارك الجنوبيون الإنقاذيين الحكم لخمس سنوات، توفي في بدايتها جون قرنق في حادث طائرة غامض. في نهاية الفترة الانتقالية في 2011، جرى التصويت على تقرير المصير. وبسبب تعطيل الإنقاذيين إنفاذ العديد من بنود الاتفاق، اختار الجنوبيون، بأغلبيةٍ ساحقة، إنشاء دولتهم المستقلة.
رفضت نخبنا السياسية منح الجنوب حكمًا فيدراليًا عقب الاستقلال، واضطرت مُرغمةً، بعد أن أضاعت خمسة عقودٍ، في إهدار الأرواح والأموال والموارد، قبول انفصال الجنوب. في شهور، تحول القطر، إلى دولتين فاشلتين. والآن تمارس النخب الشمالية نفس ألاعيبها القديمة، بلا استفادةٍ من دروس الستين عامًا ونيف التي أضاعتها هدرًا. لا يزال نفس العجز البنيوي في القدرة على اتخاذ القرارات الشجاعة، وتقديم التنازلات، التي تخدم الوحدة الوطنية، هو سيد الموقف إلى الآن. فمؤشر درجتنا في مقياس زيادة النضج السياسي، لا يختلف في 2020 عنه في 1956! اعتقدنا بجهالة، عقب الاستقلال أن الفيدرالية خط أحمر، فخسرنا الجنوب، مرَّةً وإلى البد. والآن تعتقد بعض نخبنا المتنفذة ألا تنازل عن تسمية السودان "دولة إسلامية". وهي، في حقيقة الأمر، مجرد تسمية لا تأثير لها على الواقع العملي للدولة. لا تزال بعض نخبنا المتنفذة، تستخدم، بدافع المصالح الضيقة، نفس عراقيل الشعارات القديمة، الخاوية، الضارة بالوحدة الوطنية. وكما حدث من قبل، فإنهم سيضطرون، في نهاية الأمر، إلى التراجع، لكن، بعد ضياع الوقت والجهد، و"خراب سوبا".
|
Post: #89
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-28-2020, 01:29 AM
Parent: #88
احتفاءً بذكرى 30 يونيو العظيمة
النور حمد
صحيفة التيار 28 يونيو 2020
ما من شك أن يوم 30 يونيو سيبقى معلمًا بارزًا في تاريخ السودان الحديث، بل، وفي مجمل تاريخ السودان. فهو يوم انتصار قوة السلم على آلة الحرب، وقوة الإجماع الشعبي على الاستئساد النذل على العُزَّل بقوة السلاح. هو اليوم الذي به بدأ مشروع إعادة وضع السودان في خريطة العالم الحر، من جديد. لقد ظن الذين نفَّذوا مجزرة القيادة العامة أنهم قد قضوا على الثورة وحطموا إرادة الثوار. لقد نفَّذوا حرفيًا خطة البشير البئيسة بالإسراف في القتل. تلك الخطة التي مهَّد لها البشير باستصدار فتوى من تاجر دينٍ عديم الضمير، أحل له قتل ثلث الشعب، ليستمر في الحكم. وكلنا يذكر زيارة البشير لمقر الشرطة وحثه لضباطها على قتل المواطنين، تحت ذريعة ما أسماه زورًا وبهتانًا، قصاصًا. وهو افتئات على كتاب الله، لم يسبقه عليه أحدٌ من العالمين، استنادا على تلك الفتوى النذلة. وحين رأى عدم التجاوب والاستنكار في عيون ضباط الشرطة، ابتلع ريقه ارتعابًا، وأيقن أن أيامه في الحكم قد غدت معدودة. وجاء أبريل وبدأ الاعتصام المليوني أمام بوابات القيادة، ولم تمض أيام، حتى سقط البشير. نظامٌ مثل نظام البشير لا يسقط جملةً واحدةً، وإنما على أقساط، لأن وراءه بنية عقلية ونفسية مختلة. والعقول والنفوس لا تتغير بين يوم وليلة. ظنَّ الذين أزاحوا البشير أن الشعب سيفرح ويرضى بمجرد إزاحته، ويصبح في وسعهم، من ثم، الجلوس مكانه. أثبت تلك النية لديهم، ارتكابهم بعد ثمانية أسابيع، جريمة مجزرة القيادة العامة التي ظنوا أنها قد قضت على الثورة. فاحتفلوا وقاموا عقب فض الاعتصام مباشرة بحملة إرهابية على المواطنين، بالهراوات، في مختلف الأحياء. وأكملوا احتفالهم بتعليق المفاوضات مع قوى الحرية والتغيير، معلنين الانفراد بإدارة الفترة الانتقالية على هواهم. لكن، جاءت المفاجأة الكبرى بموكب 30 يونيو الذي أذهل العالم، وهز عرش الطغيان، وحوَّله في يومٍ واحدٍ إلى ركام. قلب الشعب الطاولة على اللجنة الأمنية وعلى القوى الإقليمية التي كانت تحلم بهزيمة الثورة باتباع نموذج مجزرة ميدان رابعة العدوية، في مصر.
هذا اليوم هو غرة أيامنا في مضمار الكفاح الوطني نحو الحرية والسلام والعدالة. فحبذا لو أقمنا له قوس نصر شبيهًا بقوس النصر القائم في قلب باريس. فالأمم العزيزة تخلد تاريخها في مجسمات. وأقترح أن تطرح الشراكة القائمة؛ بمكونيها المدني والعسكري، مسابقة للمعماريين والتشكيليين، لتقديم تصميمات لهذا القوس. وأقترح أن يكون القوس رابطًا بين حافتي الشارع حيث جرت مذبحة القيادة. واقترح أن تسهم الدولة، ومعها المواطنون، خاصة المغتربين، إضافةً للرأسمالية الوطنية في تكاليف تشييده. أيضًا ينبغي أن نجعل من هذا اليوم عطلةً رسميةً، سنوية.
لكن، لكي يكون احتفالنا بهذا اليوم متماشيًا مع روح الثورة المتمثلة في الانضباط والمسؤولية، في هذا الظرف الصحي بالغ الحرج، أقترح أن يأخذ الاحتفال، هذه المرة، صورةً خلافًا لصورة المسيرة المركزية الحاشدة. ويمكن على سبيل المثال أن يكون اصطفافًا على طول مئات الكيلومترات بمسافات محسوبة بين الأفراد المصطفين، في كل الشوارع الرئيسية في العاصمة وفي المدن الإقليمية. وأن يجري الاصطفاف في توقيت محدد ببداية ونهاية. على أن نعود جميعًا للمليونيات الحاشدة عقب انقضاء هذه الجائحة بإذن الله، متى ما استدعى الأمر ذلك. وليكن هذا عمل عبقريٌّ آخر، نضيفه إلى الأعمال العبقرية، التي اتسمت بها هذه الثورة العظيمة.
|
Post: #90
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-29-2020, 11:49 AM
Parent: #89
الانقلابيون وقيد العقل المستبد
النور حمد
صحيفة التيار 29 يونيو 2020
ظللنا نقرأ فيما تتناقله بعض الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي، في الفترة الماضية عن مغازلاتٍ مكشوفةٍ يقوم بها كارهو الثورة للمكون العسكري أملا في أن ينقض على الفترة الانتقالية. ضمن هذا السناريو، يخرج من حينٍ لآخر أئمةٌ من المنتفعين من النظام المدحور، من على منابر المساجد، حالفين بإيمانٍ مغلَّظةٍ أن حكومة الثورة لن تكمل عامها الأول. وهو ما يشير إلى أن لديهم معلوماتٌ من نظراءٍ لهم، داخل الأجهزة العسكرية، تبشرهم وتمنِّيهم بالعودة إلى الحكم. وقد فضح هذا النوع من محبي الإنقلابات العسكرية، ، قبل فترة، متظاهرٌ ذهب إلى القيادة العامة ضمن تظاهرة طالبت بعودة الحكمٍ العسكري، مرددةً، دونما حياء: (الكاب ولا الأحزاب). قال هذا المتظاهر للضابط الكبير، حين طلب من المتظاهرين الانصراف: (ما قلتوا لينا تعالوا؟ ليه تخذلونا؟). يضاف إلى هؤلاء وأولئك، مجموعة الصحفيين الذين ترعرعوا في عالم الصحافة على يد الانقاذ، فصاغت منهم مخاتلين بلا ضمائر، أصبحوا يعملون الآن، من داخل البلاد ومن خارجها، في تهيئة الجو انتظارًا لانقلابٍ عسكري.
اهتمامي في هذه المقالة القصيرة ينصب في تسليط الضوء على هذه العقلية التي لا تتوب من الانقلابات. في انتخابات 1986، التي أعقبت انتفاضة أبريل 1985، أحرزت الجبهة القومية الإسلامية، بقيادة الدكتور حسن الترابي، ولأول مرة في تاريخها، أكثر من خمسين مقعدًا في البرلمان. وبدلاً من أن تسير في وجهة تثبيت النظام الديمقراطي، وتوسيع قاعدتها الجماهيرية، لتدخل عددًا أكبر من النواب إلى البرلمان، في الانتخابات التي تلي، اتجهت إلى اختراق الجيش تمهيدًا للانقلاب على النظام الديمقراطي. نفذ الإسلاميون انقلابهم في يونيو 1989، وحكموا ثلاثين عاما لخص خلاصة حكمهم في نهاياتها الرئيس المخلوع، قائلا في اعترافٍ متلفزًا، إن بنك السودان ليس فيه أكثر من مئة ألف دولار، وأن مخزون المواد البترولية يكفي ليومين. أما مخزون الدقيق فيكفي لأسبوع واحد. عاشت البلاد على أيديهم في حالة حرب دائمة، إلى أن انفصل الجنوب ونشأ جنوب محارب جديد. تدمر الاقتصاد تماما، وانعزلت البلاد من المجتمع الدولي. وحدثت أنماط من الفساد لا مثيل لها على ظهر الكوكب. ورغم كل ذلك، لا يزالون يريدون انقلابًا عسكريًا يعيدهم إلى السلطة، التي مارسوها لثلاثين عاما وانتهت بهذا الانهيار الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ الشامل.
هذا العقل، عقلٌ مأزوم. ولن يبلغ به أصحابه أي طائلٍ، ما لم يعترفوا بأزمته أولا، ثم يعملوا على معالجتها. جوهر أزمة هذا العقل هو الامتلاء الأرعن، والأجوف، بالشعور بالاستحقاق المطلق في السلطة. فحوى هذا الشعور: "لا أحد أفضل منا، ولا أولى منا بالحكم". هذا النمط من الرعونة يمنع صاحبه من رؤية الأخطاء التي يرتكبها. ولقد شهدنا كيف خرجوا علينا بفقه التحلل حين سرقوا المال العام. لذلك، من الصعب الوصول مع هذا النمط من العقول إلى اتفاقات حدٍّ أدنى. لا يمكن للشخص السوي أن يصل مع هذا العقل، إلى ثوابت مشتركة.
الآن يسرف علينا أهل هذا العقل الاستبدادي، وعلى أنفسهم، أيما إسراف، بالمحاولات الدؤوبة لخلق حالة اختناق عامة. بل، وافتعال انفلاتاتٍ أمنيةٍ ليجد العسكر ذريعةً لنقض الوثيقة الدستورية واستلام زمام الأمور، وشطب ثورة ديسمبر. لكن، من قال لهم إن العسكر سوف يعيدون إليهم السلطة؟ عليهم فقط أن يتذكروا ماذا فعل البشير بالدكتور حسن لترابي، الذي أتى به من ثكنات الجيش وجعل منه رئيسًا للجمهورية. تقول الحكمة الخالدة: "كل تجربةٍ لا تُوْرِث حكمةً تكرر نفسها". فلا مستقبل، إطلاقا، لأي فاعل سياسي إلا في الديموقراطية. فليستثمروا فيها، وليصحوا من هذه الأوهام.
.
|
Post: #91
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 06-29-2020, 11:49 PM
Parent: #90
السلام الغامض المُبَشَّر به
النور حمد
صحيفة التيار 30 يونيو 2020
بعد أن انتصرت الثورة ظن كثيرون، وشخصي واحدٌ منهم، أن قيادات الحركات المسلحة سوف تهرع إلى الخرطوم، لتسهم في تثبيت الثورة واحلال السلام محل الحرب، وإنهاء حالة النزوح واللااستقرار التي استمرت سنواتٍ طويلة، ذاق فيها المواطنون في مناطق النزاع المسلح الأمرَّين. أعلنت الحركات المسلحة مع انتصار الثورة أنها شريكٌ أصيلٌ فيها. لكن الذي جرى عبر الأشهر السبعة المنصرمة عكس خلاف ذلك. فقد بدا وكأن المفاوضات تجري بين طرفين متحاربين، وليس بين شركاء في ثورة واحدةٍ، كما قيل. انتقد كثيرون تأخير إنشاء مفوضية السلام، التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، يضاف إلى ذلك تأخير إنشاء بقية المفوضيات وتعيين الولادة المدنيين. بل إن تأخير تشكيل المجلس التشريعي كان نتيجةً لحرص الحركات على معرفة نصيبها فيه على ضوء المفاوضات. وقد جعل تأخير المجلس التشريعي حق إصدار التشريعات المؤقتة في يد المجلس السيادي الذي يسيطر عليه الشق العسكري. وقد سلب ذلك المكون المدني، الممثل الحقيقي للثورة، فرصته في استخدام قوة التشريع لهدم النظام القانوني والإداري القديم، الذي تأسس على اختلالات بنيوية أنتجت فسادًا مؤسسيًا شاملاً. وحال، من ثم، دون بناء نظامٍ جديدٍ متوازنٍ شفاف. كما انتقد كثيرون أيضًا خطة المسارات المتشعبة، وسيطرة العسكريين على الملف. بما أن العسكريين كانوا بطبيعة وضعهم جزءًا لا يتجزأ من بنية النظام المدحور، فإن من الطبيعي أن تسود الهواجس والتخوفات بينهم وبين الحركات المسلحة. وهذا في حد ذاته عنصرٌ جعل المفاوضات متسمةً بالعُسر وبالبطء. فالثقة المتبادلة، هي التي تضمن اليسر والسرعة، والعكس صحيح. وعمومًا فإن رجحان كفة المكون العسكري في الشراكة الانتقالية على المكون المدني، قد وسم الفترة الانتقالية، بحالة الغموض والهشاشة، التي يصف بها الجميع الأوضاع، الآن. أيضًا، دلت الزيارة الأخيرة التي قام بها الإخوة الجنوبيون الراعين للمفاوضات إلى الخرطوم، مؤخرًا، أن من يمثلون الحكم الانتقالي فيها، ليسوا مفوضين بالقدر الكافي. ولقد حرصت على متابعة اللقاء الذي أجرته قناة السودان مع ممثلي الجبهة الثورية، ولم أخرج منه بشيء واضح، يتعدى التبشير والتطمينات التي تعقب اللقاءات الدبلوماسية عادة. جاءت هذه الزيارة المفاجئة للوفد الجنوبي الشمالي المشترك، بعد مرور التوقيت الذي أُعلن قبل فترة للتوقيع على الاتفاق، دون نتيجة. والآن أُعلن عن توقيتٍ تقريبيٍّ جديدٍ لتوقيع الاتفاق، نأمل ألا يسفر عن تأجيلٍ جديد.
ما رشح في الأنباء عن مطالبة قوى الكفاح المسلح بـ 140 مقعدًا في المجلس التشريعي، و9 وزراء اتحاديين و4 أعضاء في مجلس السيادة، وأن يكون غالبية ولاة ولايات دارفور من الحركات المسلحة، أثار الشكوك، مرة أخرى، حول نهج المحاصصة، الذي اتهم به الرأي العام هذه المحادثات قبل شهور. فهذه الفترة فترة انتقالية، المهم فيها العناية بالتفاصيل الدقيقة المحكمة للاتفاق، التي تضمن سلامًا عادلاً مستدامًا على الأرض، وليس الاهتمام بمن تُملأ المقاعد، وكم عددها. في تقديري أن نخبنا السياسية لا تزال لا تملك القدرة على الخروج من الطبيعة التي تربَّت عليها. أيضًا لم نسمع في الزيارة الأخيرة، وما قبلها، شيئًا واضحًا عن وضع حركتي عبد العزيز الحلو، وعبد الواحد نور. ولا أدري ما السبب وراء التعتيم بشأنهما. فهل سيكون هذا السلام شاملاً أم جزئيًا. نحن، فيما يبدو، بحاجةٍ لثورةٍ في العقول، لن تحدث بغيرها ثورةٌ في واقعنا السياسي المعتل.
|
Post: #92
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-01-2020, 00:55 AM
Parent: #91
30 يونيو: الاستفتاء الشعبي الثاني
النور حمد
صحيفة التيار 1 يوليو 2020
أرسلت التظاهرات التي جرت نهار أمس، في مدن العاصمة القومية الثلاث، وفي عديد المدن الإقليمية، والقرى، رسالةً بالغة القوة، مفادها، أن أوار ثورة ديسمبر العظيمة لا يزال متقدًا. ولا مشاحة البتة، في أن أداء منظومة الحكم الانتقالي المكونة من المجلس السيادي؛ بشقيه المدني والعسكري، ومجلس الوزراء، قد كانت أقل بكثير من دفق هذه الثورة، وروحها، وتطلعات ثائريها. ويعود التلكؤ وضعف الأداء، إلى عاملين رئيسين: الأول أن الشريك العسكري لم يكن مؤمنًا بالثورة أصلاً، وقد نزل إلى الشراكة معها مكرها. لقد كانت خطته الأصلية، أن يدير الفترة الانتقالية منفردًا ويصنع ديمقراطيةً زائفة، تخرج على الصورة التي يودها، وفقًا لتصوراته، ولتأثره بالنظام المدحور في النظرة الدونية إلى الجماهير.
لقد أرادت ما سميت باللجنة الأمنية العسكرية أن تحول الثورة إلى مسخ، لا يغير شيئًا في بنية النظام القديم، وشبكة المصالح الفردية والجهوية التي سادت فيه؛ بما في ذلك دولته الموازية، التي أفقرت الجميع. وقد كان التوجه لخدمة أجندة المحور السعودي الإماراتي المصري، ظاهرًا جدًا في البداية. من أقوى الدلائل على عدم الإيمان بالثورة، القيام بمذبحة القيادة العامة، ورفض تسليم البشير ومرتكبي جرائم الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية. يضاف إلى ذلك، التراخي المريب، في محاكمة رموز النظام المدحور، وغض النظر عن منسوبيه، الذين ما انفكوا يتحرشون بالثورة والثوار، بل ويهددون بقتل المسؤولين. كانت خطة العسكريين، فيما يبدو، اللعب على عنصر الزمن، بزعم أن عقد الثوار سينفرط، تلقائيا. وأن خلق الأزمات، وخلق سيولة أمنيةٍ عامة، سوف يجعل الثوار ينقلبون على حكومة حمدوك، فتصبح الأحوال العامة مضطربة بقدر يمنحهم فرصة السيطرة الكاملة.
أما العامل الآخر، فهو ضعف إيمان المكون المدني في أقسام الشراكة، بالثورة والثوار. ولا غرابة فهذه هي بنية عقول النخب السياسية السودانية، التي لا ترى في الجمهور سوى مركبٍ إلى الكراسي والوجاهة. أدت سلحفائية الأداء وضعف الكاريزما القيادية وسط المكون المدني إلى سيطرة المكون العسكري على المشهد، خاصةً، أن حظ المكون المدني في الشراكة قد جاء مبخوسًا، منذ البداية، بسبب العوار الذي شاب بعض جوانب الوثيقة الدستورية. لقد كانت مسيرات الأمس الحاشدة، استفتاء شعبيًا جديدًا، بعث برسائل بالغة القوة والوضوح إلى منظومة الحكم، بكل مكوناتها. وقد أظهرت المقابلات التي أجراها تلفزيون السودان مستوى عاليًا من الوعي وسط القوى الشبابية التي أكدت على الإسراع بقيام المجلس التشريعي، والقصاص من مرتكبي الجرائم، وكذلك، استكمال هياكل الحكم، حتى يتسنى إصلاح القوانين وفك قبضة النظام المدحور من مفاصل الدولة.
هناك مؤشرات إيجابية تدل على تغييرات مهمة. منها: ضبط تفلتات منسوبي النظام المدحور، وخطاب حمدوك الأخير، الذي وعد فيه بقرارات حاسمة، يُتوقع أن يكون من بينها تشكيل المجلس التشريعي، وتعيين الولاة المدنيين، وقيام المفوضيات، وتسريع العمل في الملفات المتعثرة. باختصار، هناك الآن ما يشير إلى أن المكون العسكري قد بدأ يتخلى عن استراتيجيته القديمة، وفي هذا فألٌ حسن. أيضًا، في المقابل، عرفت قوى الحرية والتغيير، وحكومتها أن الشعب قادرٌ على قلب الطاولة عليها. إذن، فليفهم الجميع الرسالة على النحو الصحيح. وليستخدم حمدوك هذا التفويض الشعبي الكاسح، ويعمل على انفاذ الإرادة الشعبية بلا وجلٍ أو مواربة. فلقد برهن الشارع، بالفعل، أنه واقف على أمشاط أصابعه لحماية ثورته. وما ضاع حقٌّ وقف وراءه مطالب.
|
Post: #93
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-02-2020, 07:44 AM
Parent: #92
حول النغمة الشبابية الرافضة للأحزاب
النور حمد
صحيفة التيار 2 يوليو 2020
ما من شك أن الأحزاب السودانية تعاني من مشاكل بنيوية تعود في بعضها لضعف المؤسسية ولمجافاتها القواعد الديموقراطية، التي أدت إلى أن يبقى رؤساؤها في مواقعهم لما يصل، إلى نصف قرن، أو يزيد. ولكي نكون منصفين فإن الأنظمة العسكرية التي تسلطت على الحكم في البلاد ثلاث مرات وبلغت جملة مدتها 54 عامًا، أضعفت هذه الاحزاب. فقد أفقرتها، وقسمتها، وسجنت وطاردت، قياداتها العليا والوسيطة، لعشرات السنين. أما عللها البنيوية، فتختلف في الأحزاب التقليدية عنها في الأخرى الحديثة. فقد انخرطت الأحزاب ذات الإيديولوجيا القابضة؛ يسارها ويمينها، في الانقلابات العسكرية. ولم يسلم من ذلك لا الشيوعيين، ولا الإسلاميين، ولا البعثيين. أما الأحزاب التقليدية المرتكزة على قواعد طائفية، فقد شاركت في محاولات التغيير المسلحة، مثلما جرى في الجزيرة أبا، وفيما سمي بالغزو الليبي في عام 1976. يضاف إلى ذلك أن الحزبين الكبيرين، لحرصهما على مصالحهما الاقتصادية، لم يتأخروا قط من المشاركة بعضويتهم في كل البرلمانات الزائفة، التي أقامتها الأنظمة العسكرية، وفي الوزارات، وغيرها. وقد استمر ذلك النهج حتى قيام ثورة ديسمبر 2018، المجيدة.
الأجيال الجديدة من الشابات والشبان، الذين أنجزوا هذه الثورة العظيمة، أحدثوا نقلةً غير مسبوقة في الساحة السياسية السودانية. فقد صمدت سلميتهم أمام كل اختبارات العنف المفرط من جانب سلطة الإنقاذ الغاشمة. مع أن عنف السلطة المفرط يقود عادةً إلى رد فعلٍ عنيفٍ من جانب الثوار. هزمت هذه الثورة السلمية نهج التغيير العنفي؛ كالذي جرى من الأحزاب في 1976، وجرى من حركة خليل إبراهيم في 2008. يضاف إلى ذلك، ما سُمِّى: "الانتفاضة المحمية بالسلاح". جاء التغيير، في ديسمبر 2018، من حيث لم يحتسب أحد. وجاء بقوة إجماعٍ شعبي، أعجزت العنف المفرط وهزمته. ولا أحد يستطيع من كامل الطيف السياسي أن يدعي بأنه كان وراء هذا الذي جرى، على هذا النحو المدهش.
قلب شباب الثورة الطاولة على البنية المفاهيمية، التي حكمت مسلك مختلف القوى الحزبية، عبر الستين سنةً الماضية. ولقد أظهر هؤلاء الشباب روحًا جديدةً، وطاقةً جديدةً، وسمتًا أخلاقيًا جديدًا، وتوثُّبًا وشغفًا بالتغيير الجذري، لا أرى أن القيادات الحزبية الراهنة مؤهلة، معرفيًا وأخلاقيا، للتفاعل معه، والاستجابة له في مستواه. ولا غرابة إذن، أن سادت وسط هؤلاء الشباب نغمة رفض الأحزاب، جملةً وتفصيلا. فقد رأوا كيف كان البشير يلعب بهذه الأحزاب بسبب لامبدئيتها، وتهافتها على الحطام. لقد نقل هؤلاء الشباب، ولأول مرة، في فترة ما بعد الاستقلال، الصراع من أرض معركة المعادلة الصفرية، غير المنتجة، بين اليمين واليسار، إلى أرض معركةٍ جديدة. طرفاها هذه المرة: هذه القوة الشبابية الجديدة، وجملة المفاهيم الرثة التي حكمت سلوك اليمين واليسار.
لكن، لابد من قول ما هو بديهي، وهو: لا توجد ديمقراطية بلا أحزاب. هذه القوة الشبابية يمكن أن تحرس هذه الفترة الانتقالية إلى نهاياتها، وقد أثبتت قدرتها على ذلك. لكن التحدي الأكبر للثورة ليس الفترة الانتقالية، وإنما ما بعدها. فإن لم ينظم الشباب أنفسهم ويتحولوا من ثوار يعبئون الشوارع، إلى قوة حزبيةٍ منظمةٍ تعبئ صناديق الاقتراع، فإن القوى القديمة التي بدأوا في إخراجها عبر الباب، ستعود عبر الشباك، وسيكون في يدها، حينها، صكٌّ مستندٌ على الشرعيةٍ الدستورية. (لهذا الحديث بقية).
|
Post: #94
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-02-2020, 10:06 PM
Parent: #93
نسف معادلة اليمين واليسار الصفرية
النور حمد
صحيفة التيار 3 يوليو 2020
إيفاء بوعدي الذي قطعته بالأمس، بأن للحديث بقية، أواصل اليوم لإجلاء بعض الأمور التي كنت أرى أنها تحتاج مزيدًا من الإجلاء. من هذه الأمور أن الحزبين التقليديين الكبيرين (تاريخيًا، حتى الآن) يضمَّان في عضويتيهما عددًا مقدرًا من الشباب. من بين هؤلاء الشباب من شارك بفعالية في حراك التغيير واعتصام القيادة وسيق إلى المعتقلات. ولا يزال هؤلاء ضمن من يعبئون الشوارع، كل حين، ملتحمين مع الطيف الشبابي العريض. من الجانب الآخر هناك أحزاب اليسار التي ثار فيها الشباب على الأيديولوجيا المتكلِّسة، فخرجت حركة حق من الحزب الشيوعي وأرسلت صيحةَ تمرُّدٍ خافتة، ما لبث صداها أن تلاشى. ولقد انقسم حزب البعث أيضًا، واعتزل قطاعٌ معتبر من شباب اليسار العريض، الانتماء الحزبي جملة وتفصيلا. أما شباب الإسلاميين، الذين كانوا وقودًا لمحارق الحروب العبثية، فقد انجلى عن ناظرهم غبار زيف الشعار الإسلاموي، فتفرقوا طرائق قددا. غير أنهم، في مجملهم، لم يغادروا متاهة أحلام وأشواق الدولة الدينية، والتعلق بسرابها الخلب. هذا الطيف العريض من القوى الشبابية بالغة الحيوية؛ من لا يزال منهم منضويًا تحت راية واحدٍ من كل هذه الأحزاب، ومن هو خارجها، بحاجة الآن، فيما أرى، إلى أن يفكروا بصورةٍ جديدة.
هناك ثلاثة سيناريوهات لحلحلة هذه الخيوط المتشابهة، الأول: أن يحدث تطور في الحزبين الكبيرين، فتسود فيهما المؤسسية والنهج الديمقراطي في كيفية تصعيد القيادات، بصورة توصل الشباب إلى مواقع القيادة، وفي هذا الحالة يمكن أن ينضم إليها قطاع معتبر من الشباب المستقل. غير أني، أستبعد حدوث هذا في ظل القبضة المحكمة لأسرتي المهدي والميرغني على هذين الحزبين.
أما السيناريو الثاني فهو: أن ينشأ حزب جديد، بقيادةٍ جديدةٍ لم تتلوث بأوحال مستنقع السياسة السودانية، وأن يجتذب هذا الحزب برؤيته وبرامجه طيف الشباب المتململ داخل الأحزاب؛ التقليدي منها والحديث، بكامل طيفها الممتد من أقصى اليمن إلى أقصى اليسار. لو نجح هذا السيناريو، على صعوبته، في خلق كتلة انتخابية جديدة، فإنه هو الذي سيحقق النقلة البرادايمية المطلوبة التي سوف تقضي على الذهنية السياسية القديمة، وتفتح أبوابًا مشرعة لهواءٍ طازجٍ جديد.
أما في حالة تعذُّر نشوء حزبٍ جديدٍ مستقطبٍ للقوى الشبابية، فلن تكون هناك فرصة لاستمرارية الثورة نحو أهدافها، سوى بتشكيل تحالف يساري عريض لا سيطرة عليه من أهل الإيديولوجيات المتكلسة. وأمام هذا الخيار عقبة مفهومية كؤود. ولابد من الإشارة هنا الى أن الذي يجمع بين حزب الأمة، والاتحادي الأصل، وطيف الإسلاميين، هو فكرة الدولة الدينية. وهي فكرةٌ الغرض منها تعطيل وعي الجماهير من أجل حماية المصالح، لا أكثر. ولقد أثبتت التجربة العملية أن هذه القوى الثلاث تتحالف كلما رأت أن اليسار قد هيمن. وفي تحليلي، أن الزيارة التي قام بها كلٌّ من السيد أحمد عبد الرحمن، والمرحوم عثمان خالد مضوي، للسيد الصادق المهدي، مؤخرَا، هي ضربة البداية لتحالفٍ جديدٍ لهذا الظرف الجديد. لا فرصة أمام اليمين التاريخي، سوى أن يخلق تكتلاً عقب الفترة الانتقالية، إما بخوض الانتخابات بقائمة موحدة، أو بتشكيل ائتلاف عريض، عقب ظهور نتائج الانتخابات. وإذا لم تشكِّل قوى اليسار المختلفة، في الأحزاب اليسارية، وبعض الحركات المسلحة، مع المستقلين جبهةً موحدةً فإن اليمين، بهيئته القديمة، سيصبح المتحكم في مجريات ما بعد الفترة الانتقالية. ويمكن أن نقول حينها: على أهداف الثورة السلام. (للحديث بقية تتعلق بتحرير مفهوم اليسار من قبضة الإيديولوجيا المغلقة)
|
Post: #95
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-03-2020, 11:56 PM
Parent: #94
من اليسار الأيديولوجي إلى اليسار البرامجي
النور حمد
صحيفة التيار 4 يوليو 2020
ظلت الساحة السياسية السودانية، على ما يزيد عن نصف قرن، نهبًا لصراع اليمين واليسار، الذي لم يكن صراعًا مشتركًا ضد التخلف، وإنما صراع طرف لاستئصال الآخر. في هذه الحرب العَوَان اصطفت مختلف القوى، بقدر من المقادير، وراء لافتتي اليمين واليسار. الاستثناء ربما انحصر هنا، في حزب المؤتمر السوداني، والحزب الجمهوري، والحزب الليبرالي، الذي نشأ متأخرًا، مقارنة بالآخريْن. وبطبيعة الحال هناك العديد من الأحزاب الصغيرة التي لا يتسع المجال لذكرها. ورغم اتخاذ الحركات المسلحة طريق الكفاح المسلح، فهي الأخرى تصطف وراء لافتتي اليمين واليسار المؤدلجين، اللذين مثلَّا قطب الرحى في تلك الحرب الطويلة، غير المنتجة.
خاض حزب المؤتمر السوداني نضالاً شرسًا ضد الأنظمة الدكتاتورية، ولعب دورًا بارزًا في مجمل مسيرة الحراك، الذي اقتلع نظام الإنقاذ. بدأ هذا الحزب مستقلاً منذ تخلُّقه الأول في الحركة الطلابية، تحت اسم "مؤتمر الطلاب المستقلين". لكن لسببٍ ما، لا يزال استقطابه لفئة الشباب النافرين من الأحزاب التقليدية والأحزاب المؤدلجة محدودًا. بناءً على السيناريوهات الثلاثة التي رسمتها بالأمس، فإن خيار التحالف لخوض الانتخابات القادمة، هو الخيار الأكثر عملية، حاليًا، للحفاظ على الثورة وأهدافها. بناء عليه، فسوف أحاول هنا تقديم شرح موجز لتصوري لهذا الحلف اليساري العريض، مع تعريفٍ موجزٍ لمفهوم "اليسار البرامجي"، المتحرر من قبضة الأيديولوجيا الكلية الحاكمة.
لقد عفا الزمن، على اليسار الماركسي اللينيني. وكذلك على اليسار العروبي، الذي كان محاولةً لأقلمة التجربة الشيوعية السوفيتية في السياق العربي،. أصاب نجاححا جزئيٍا في مصر، وفشلا ظاهرٍا في كلٍّ من سوريا والجزائر والعراق وليبيا واليمن والسودان والصومال. لقد انهزمت تجربتا اليسار الماركسي والعروبي في التطبيق العملي، غير أن مفهوم اليسار بمعنى اعتناق النهج الديمقراطي، وخلق برامج اقتصادية واجتماعية مناهضة للنيوليبرالية وللعولمة، ورفض التبعية المطلقة للمركزية الرأسمالية الغربية، سيظل باقيا. بل، أصبح مطلوبًا بإلحاح، الآن.
لهذا التوجه البرامجي اليساري، فيما ألمس، وجودٌ بصورة ما، في كل التكوينات السياسية السودانية. خاصة، وسط القطاع الشبابي المنتمي إلى كل هذه التكوينات. ويشمل ذلك شباب أحزاب الأمة والاتحادي، والإسلاميين. فلو لأننا استطعنا التحرر من قبضة الأيديولوجيا الكلية الحاكمة، ومن التصاقنا العاطفي المفرط بتواريخنا الحزبية، وذكريات نضالاتنا الشخصية، فإنه يصبح من الممكن، مستقبلاً بلورة كتلة جديدة تضم كامل طيف اليسار. فكثرة الأحزاب، كما هي لدينا الآن، ما هي إلا علامة على تخلف الوعي السياسي. فأغلب الديموقراطيات الكبيرة في العالم، تقوم على حزبين كبيرين، يمثلان اليمين واليسار. فاليمين يقف مع حرية السوق، والخصخصة، التي تشمل حتى الخدمات الطبية والتعليمية. أما اليسار فيقف مع دورٍ أكبر للقطاع العام في تقديم الرعاية للجميع عن طريق لجم شره الرأسمال، ومنعه من الهيمنة الشاملة.
وفقًا لما طرحته من سيناريوهات في مقال الأمس، فإن الأقرب إلى التحقق، من الناحية العملية، في المرحلة الراهنة، هو خلق جبهةٍ يساريةٍ عريضةٍ، يحتفظ فيها كل حزب يساري التوجه بالمعنى الذي أشرت إليه، بكيانه الخاص، عند خوض الانتخابات القادمة. على أن يجري الائتلاف لتشكيل كتلة متحدة في البرلمان عقب ظهور النتائج. فالانتخابات القادمة هي التي سوف تحسم مصير الثور؛ تقدمًا أو تراجعا. لكن، على المدى الأطول، ينبغي أن يجري تطوير الخطاب والبرامج بحيث يتخلق حزبٌ كبير موحد، يجسد اليسار البرامجي، ويصبح القوة المعادلة في الوزن لكتلة اليمين.
|
Post: #96
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-05-2020, 06:38 PM
Parent: #95
حمدوك وتفويض 30 يونيو الجديد
النور حمد
صحيفة التيار 5 يوليو 2020
لم أفاجأ البتة بما اعترى جسد ما سميت الحاضنة السياسية للفترة الانتقالية، من شروخ في شقيها الحزبي والنقابي. فكل من قرأ تاريخ العمل السياسي السوداني بدقة، وتتبع مسار الاخفاقات المتتالية، التي أحاطت به منذ الاستقلال، لا يتوقع أن تبرأ علله في يوم وليلة. ما يسيطر على عقول ساستنا هو التفكير النخبوي، الفوقي، الإملائي. أي، لم يتبلور بيننا، بعد، إيمانٌ راسخٌ بالديموقراطية، وبأن وعي الجماهير هو ما به تترسخ وترتقي. الذي ظل يجري، هو نهج اهتبال الفرص، والخطف، والتسلق على أكتاف الأحداث المفصلية، كالانتفاضات والثورات، بغرض "التكويش" على مواقع صناعة القرار، بواسطة فصيلٍ سياسي ما، ليستمر، من ثم، نهج التغيير من أعلى إلى أسفل. وهذه ممارسة مستترةٌ للشمولية وسمت كل فترة انتقالية.
من الخطأ، في تقديري، أن نتصور أن كل الذين تكونت منهم الحاضنة السياسية للفترة الانتقالية، يختلفون اختلافًا بائنًا عن سياسي الإنقاذ. فلقد تربوا جميعًا في ذات البيئة السياسية المريضة؛ منذ أن كانوا طلابا. وأساتذتهم هم أولئك الذين كانوا يديرون المجال السياسي العام، من سياسيي الأحزاب الأيديولوجية. لقد تناسلت هذه البنية السياسية المليئة بالعلل، لتنجب هذا القطاع القيادي الذي يشكل القشرة الفوقية الرقيقة، الطافية على سطح الفعل السياسي في السودان الآن.
عبر العام الذي تصرَّم منذ يونيو 2019، انفصمت عرى التناغم بين ما سميت "الحاضنة السياسية"، وجمهور الثوار. ففي حين كانت لجان المقاومة، في الأحياء، تسأل عن تطبيق شعارات الثورة، وعن تفكيك نظام الانقاذ، والاقتصاص من مجرميه، ومعالجة الضوائق المعيشية، انشغلت الحاضنة السياسية بمصارعة بعضها؛ في شقيها الحزبي والنقابي. لم تبرهن مكونات هذه الحاضنة، وهي أصلاً حاضنة متضاربة الأهداف، مخترقة؛ داخليًا وخارجيًا، أن لها رؤية تضامنية، لما سيعقب الفترة الانتقالية. فقد حصرت جهدها في مناورات وتكتيكات توهم كل فريق منها أنه حين يسيطر عبرها على بعض المواقع والتشكيلات، فإنه يستطيع أن يرسم الخطط، التي تمكنه من السيطرة على مآلات الأمور في السودان، بمفرده، عقب الفترة الانتقالية. أيضًا، انخرطت الحركات المسلحة في نهج مشابه، انحصر به هم غالبيتها في المقاعد التي ستحصل عليها في المجلس السيادي، وفي حقائب الوزارة، وفي مقاعد المجلس التشريعي، وفي قائمة الولاة.
أما جمهور الثورة العريض، فهو منفصلٌ عن هذه الأجندة. فهي لا تخصه ولا تخص ثورته، التي دفع ثمن استحقاقاتها دمًا وعرقًا ودموعًا ومآسي. والآن، في هذا الوضع من الخطوط المتباعدة، وسط ترويكا الفترة الانتقالية، ينبغي أن يستثمر حمدوك التفويض الشعبي غير المسبوق، الذي منحته له 30 يونيو الثانية. بداية ذلك، أن يعرف أن داعمه وحاميه هو الشعب، وليس أي جهة أخرى. وأن الوثيقة الدستورية، رغمًا عن ثقوبها، هي أصلاً من صنع الشعب، الذي نابت عنه في صياغتها مجاميع أتت بها إكراهات مختلفة تحكمت في الكيفية التي انبثق بها التفاوض وسارت بها مجرياته. بعبارةٍ أخرى، لا ينبغي أن يخضع حمدوك لأي ابتزاز، من أي جانب، من جوانب الترويكا. وأن يتحلى بالكاريزما القيادية، فهي مطلوب هذه المرحلة. ونحن في انتظار قراراته التي وعد بها. ولابد من ملاحظةٍ في الختام، تأسست على قراءتي للمشهد في الشارع العريض، وهي أن هذه الثورة، فيما يبدو، قادرة على كنس كل من لم يفهم طبيعتها. ومن بين هؤلاء كثيرون توهموا أنهم صانعوها وقادتها المتحكمون في مجرياتها.
|
Post: #97
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-06-2020, 04:07 AM
Parent: #96
طرفٌ من تخلف بنياتنا التحتية
النور حمد
صحيفة التيار 6 يوليو 2020
البنيات التحتية لها تقسيمات شتى، لأن لكل جانب من جوانب ركائز الدولة الحديثة بنيته التحتية. لكني، أود أن أركز في هذا العمود، على الطرق والجسور والسكك الحديدية. فهي عظم الظهر الذي بغيره لن يستطيع أي اقتصاد حديث أن يقف على قدميه. تُعد بلادنا، مقارنةً ببعض دول الإقليم، الأكثر تخلفًا فيما يتعلق بالطرق والجسور والسكك الحديدية، رغم أنها كانت سابقةً في هذه المجالات. لكن تلكأت حكوماتنا، بلا استثناء، في تطوير البنية التحتية المتعلقة بالمواصلات البرية، وفي تطوير شرايين التنقل داخل المدن، خاصة العاصمة القومية. وتزداد أهمية البنية التحتية وكفاءتها، كلما كان القطر شاسع المساحة كالسودان، وكلما كانت المدينة مكتظة كالخرطوم.
لا تعود سلحفائية الإنشاء، وتدني النوعية، في تشييد الطرق السريعة لضعف الامكانيات، وإنما إلى عياء عقول الساسة، وضمور خيالهم العمراني، وقلة شغفهم بالبناء، وانشغالهم المفرط، بالصراع العقيم. تمثلت أكبر إنجازات حكومة عبود، في مجال المواصلات في إنشاء طريق الخرطوم مدني، وتمديد الخط الحديدي من الرهد إلى بابنوسة، ثم إلى نيالا وواو في جنوب السودان. وكذلك، تمديد الخط الحديدي من سنار إلى الدمازين. أما حقبة نميري، فقد كان أكبر إنجازاتها طريق مدني، القضارف، الذي امتد إلى كسلا وبورتسودان، وكذلك، طريق الخرطوم كوستي. وتُعدُّ الإنقاذ الأقل إنجازًا في هذا المجال، لكونها قد أُتحيت لها موارد البترول الضخمة، فأهدرتها. ويُعاب عليها، علاوةً على الإهدار الذي جاوز حد السفه، مواصلتها إنشاء الطرق الضيقة، ذات المسارين، غير المفصولين، بل، وبمواصفاتٍ متدنيةٍ جدًا. لقد حصد هذا النوع من الطرق أرواح المواطنين، بأكثر مما فعلته أعتى الأمراض. أما هدر الأرواح فقد عولج بإجراءات رجعيةٍ، عقيمة، هي خفض السرعة، ونظام الأفواج. وهي اجراءات تسير عكس الأهداف التي من أجلها تُشَيَّد الطرق السريعة.
لكل طريقٍ برِّيٍّ عنق زجاجة، يكون في الجزء اللصيق بالمدن الكبرى. وهناك ثلاث مناطق أرى أن تأخذ أولوية في التطوير. أولاها: المسافة بين مدني والخرطوم في الطريق الواقع غرب النيل الأزرق. وثانيتها: المسافة بين الخرطوم وشندي. وثالثتها المسافة الواقعة بين الخرطوم والقطينة، وربما إلى أبو حبيرة، قبالة الدويم، في اتجاه كوستي. ثم، يُعمم هذا النموذج في مخارج المدن الكبرى الأخرى، لمسافات كافية لفك اختناق عنق الزجاجة. لقد أكمل طريق الخرطوم مدني الآن 55 عامًا، ولم يشهد أي تطوير، رغم تضاعف حركة المرور عليه مراتٍ عديدة. يمثل هذا الطريق عنق الزجاجة الأكثر اكتظاظًا في كل القطر. يضاف إلى ما تقدم، فإن ضعف صيانته، وزحف الأسواق والمباني على جانبيه، أفقدته كفاءته. فأصبحت سرعة الانتقال فيه شبيهة بالحال الذي كانت عليه قبل إنشائه أصلا. فقيمة الطريق البري ليست في مجرد وجوده، وإنما في كفاءته التشغيلية. ولربما اقتضى الأمر أن يجري تغيير مسار هذا الطريق إلى خارج بعض القرى التي يخترقها، خاصةً في المنطقة الواقعة بين الخرطوم والمسيد. ختامًا، البنية التحتية الكفؤة هي ما يجلب الاستثمار الأجنبي، وهي ما يشجع على الإنتاج الزراعي والحيواني في بلد لن تتحسن أحواله الاقتصادية بغير ذلك. كما أن المواصلات السريعة تشجع الهجرة العكسية من عاصمتنا المكتظة، إلى الريف الذي كاد أن يصبح خاويًا على عروشه. فدعونا نرتب أولوياتنا بصورة أفضل.
|
Post: #98
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-07-2020, 01:53 AM
Parent: #97
نيرتتي والسيولة الأمنية المريبة
النور حمد
التيار 7 يوليو 2020
أن يتنادى أهالي منطقة نيرتتي، من جميع قراهم ويتجمعوا معتصمين في العراء لأسبوعٍ كامل، يدل على أن حياتهم قد غدت مستحيلة، أو تكاد. تقول كل الشواهد التاريخية منذ أن أنشأ البشر ما سُمى بالدولة، سواءً كانت في صورة مشيخات قبلية، أو ممالك وإمبراطوريات، أو دولة حديثة: أنه لا وجود للدولة إن لم يكن هناك أمن. فالأمن هو القاعدة، التي ليس دونها إلا الفوضى. منذ أن عرف الناس التجارة وسيروا القوافل عبر الفلوات، حرصوا على أن تضم حراسًا مسلحين. ولقد كانت أولوية الدولة، منذ أقدم العصور، هي استئصال شأفة قطاع الطرق. فالحد الفاصل بين الحضارة والتمدن، وما يسمى "البربرية"، أو التوحش، والفوضى الشاملة، هو استتاب الأمن. فإذا انفرط عقد الأمن انفرط عقد كل شيء. فالدولة التي تفقد القدرة على فرض سلطتها وقوانينها على أي جزءٍ من أراضيها، تدخل، تلقائيًا، في عداد الدول الفاشلة. هذا هو ما أكده، منذ أكثر من ثلاثة قرون، توماس هوبز، أحد أبرز فلاسفة علم السياسة.
يعلم الجميع أن عقوبة قطع الطريق واحدةٌ من أقسى العقوبات في الإسلام، إذ تصل حد القطع من خلاف والصلب، وما ذاك الا أن الأمن العام، هو القاعدة التي ليس دونها قاعدة. من علامات التمدن أن تنعدم الحاجة وسط الناس إلى حمل السلاح، ثقةً في قدرة الدولة على حمايتهم. وأذكر أننا عندما كنا صبية، في قرى الجزيرة، كنا نشاهد الكبار يلبسون السكاكين في أذرعهم. وفي عقود قليلة اختفت هذه الظاهرة، وأوشكت الآن على التلاشي تماما. وفي فترة الإدارة البريطانية كان السلطات تصادر السكاكين ممن يلبسها من القادمين عند مداخل مدينة الخرطوم. فامتلاك سلاح شخصي دلالة على نقص التمدن، وعلى نقص الثقة في الدولة. لقد بلغ الأمر بأهل نيرتتي أن وجدوا أنفسهم غير قادرين على فلاحة أرضهم، خوف أن يُقتلوا في الحقول. وأصبحت النساء رهينات البيوت والحي خشية الاغتصاب، رغم ضرورات العمل في المحيط الخارجي في البيئة الريفية. هذا الوضع الذي تعيشه نيرتتي، هو الجحيم بعينه. وإذا لم تقم الدولة بواجبها سوف يضطر السكان إلى تسليح أنفسهم، وسيرتد نسق الحياة ردَّةً كبيرة. يدل اعتصام أهل نيرتتي أنهم يئسوا من السلطات المحلية، ولم يبق لهم سوى أن يرسلوا صيحة استغاثة إلى المركز، عسى ولعل.
ختامًا، للمرء يتساءل: أين السلطات المحلية؟ أين جهاز الأمن؟ أين الشرطة؟ أين الجيش؟ وأين الدعم السريع؟ وكيف تركوا الأمر يتفاقم إلى الدرجة التي أضطر فيها المواطنون إلى إرسال صرخة استغاثة إلى مركز الدولة؟ وهل يا ترى ستكون هناك مساءلة ومحاسبة للسلطات المحلية حول هذا الأمر. أيضا لفت نظري أن الوفد الذي أرسلته الحكومة غلب عليه المدنيون. فأين وزير الداخلية؟ وأين ممثل المكون العسكري في مجلس السيادة، الذي يتصدر المشهد السياسي بحجة حماية الأمن؟ في تقديري، أن السيولة الأمنية التي تسود البلاد، الآن، تبعث على الريبة. ولا نملك إلا أن نقول: "اصح يا ترس"، فالبلاد كلها توشك أن تصبح نيرتتي. أي دولة هذه التي تتجول في عاصمتها عصاباتٌ تحمل السواطير في وضح النهار، فتعتدي على المواطنين العزل، وتسلب الهواتف من النساء. ثم حين يُلقى القبض عليهم، نكتشف أن من ألقى القبض عليهم هم لجان المقاومة؟
|
Post: #99
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-07-2020, 10:58 PM
Parent: #98
الحكم الإقليمي و(إف بي آي) سوداني
النور حمد
صحيفة التيار 8 يوليو 2020
خطوتان إيجابيتان بارزتان ظهرتا في لقاء وفد الحكومة المركزية الذي زار المعتصمين في نيرتتي في الأيام القليلة الماضية. الخطوة الأولى هي التوجه نحو العودة، مرة أخرى، الى الحكم الإقليمي، بحيث تعود دارفور الكبرى، إقليمًا واحدا. والحق يقال، فقد خلقت التقسيمات الكثيرة، التي جرت في كردفان ودار فور، تحت مسمى "ولايات"، إشكالاتٍ عديدة. ولم تكن دوافع الإنقاذ، بحكم طبيعة النظام ذاتها، تتجاوز مجرد خلق وظائف لإرضاء منتسبيه الباحثين، أصلاً، عن السلطة والوجاهة والثروة، الذين لا تهمهم المصلحة العامة، وإنما مصالحهم الشخصية. فهناك اتفاق ضمني غير معلن، بين هؤلاء، وبين مركز النظام، فحواه: "مكن لنا من السلطة والثروة والوجاهة، وسنمكن لك البقاء المستدام في السلطة".
لقد جرى تقسيم كلٍّ من كردفان ودارفور إلى عدة ولايات، في حين أن ما أصبحت تسمى ولايات حاليًا، كانت مجالس ريفية. وكانت تُدار بكفاءةٍ أفضل، بواسطة طاقم إداري قليل. لقد أحدث الإنقاذ بسبب نهجها لاسترضاء القبائل ووجهائها، تفتيتًا اجتماعيا، كان خصمًا على الوحدة الوطنية، المعتلة أصلا. كما خلقت جيشًا جرارًا من الدستوريين والتنفيذيين، وغيرهم، من مختلف الوظائف، أصبحوا، عبئا ثقيلاً على ميزانيات بالغة الشح. لقد حال تقسيم الإقليم إلى ولايات كثيرة دون انتهاج سياسة موحدة وهي ما يحتاجها إقليم كدارفور، ظل مضطربا لعقود. تتسم دارفور وكردفان، عمومًا، بوحدة عضوية منذ مئات السنين. ومن الأفضل لمواطني هذين الإقليمين أن يدارا من مركز إقليمي واحد، مثلما كان جاريًا منذ الحقبة الاستعمارية وإلى مجيء نظام نميري. بل من المهم جدًا مراجعة كل التقسيمات غير الضرورية، بل والضارة، التي قامت بها الإنقاذ في بقية أقاليم السودان. من أهداف ثورة ديسمبر المجيدة تحقيق العدالة الاجتماعية. ولا يمكن أن تتحقق فوائض مالية تسمح للثروات أن تتدفق فتؤثر على حياة عموم الشعب فترتفع أحواله المعيشية وهناك جهاز حكومي ضخم مترهل يستهلك الميزانية يذهب نصيب الأسد منها إلى البند الأول المتعلق بالمرتبات. وتتبع ذلك عادة صنوفٌ من الامتيازات لأهل الوظائف العليا. والأهم من ذلك، أن ضخامة الجهاز البيروقراطي لا ترهق الميزانية وحسب، وإنما تخلق، بطبيعتها، تعقيدات إدارية تبطئ من حركة دولاب العمل. كما ترهق المواطنين بالتعقيدات غير الضرورية. ولقد أتاحت لنا ثورة المعلومات، فرصة الأخذ بأنموذج الحوكمة الإلكترونية، الذي يقلص الترهل في الوظائف ويسمح بقيام حكومة رشيقة وجهازٍ إداري فعال.
أما الخطوة الإيجابية الأخرى فتتمثل فيما أعلنه السيد وزير العدل، نصر الدين عبد الباري، عن الاتجاه إلى إنشاء جهاز أمن يتبع للنيابة. وهذا، فيما يبدو، شبيهٌ بجهازي (إف بي آي) في الولايات المتحدة و(إم آي 5)، في المملكة المتحدة. وهما جهازان مختصان بالاستخبارات الداخلية، وبالتحقيقات في الأمور المتعلقة بقضايا الأمن الداخلي المختلفة. ميزة هذا الجهاز أنه يصبح عينًا للنظام العدلي. فهو يراقب ويضبط ويضع الأجهزة الحكومية تحت طائلة المحاسبة، بما في ذلك الشرطة نفسها، إن اقتضى الأمر. هذا الجهاز المرتبط بالنيابة يقف حائلاً دون خروقات القوانين والتجاوزات في أجهزة الدولة المختلفة. ولقد رأينا كيف استجوب جهاز (إف بي آي) كبار المسؤولين الأمريكيين في مختلف العهود. ونحن كلنا تطلع الآن لدولةٍ لا أحد فيها فوق القانون.
|
Post: #100
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-09-2020, 03:52 AM
Parent: #99
من الذي يعبث بالفترة الانتقالية؟
النور حمد
صحيفة التيار 10 يوليو 2020
يبدو لي أن هذه الفترة الانتقالية هي أكثر الفترات الانتقالية الثلاث، التي مررنا بها، تعثرًا، وغموضا. لم تصمد الفترة الانتقالية الأولى، التي أدارتها جبهة الهيئات، عقب ثورة أكتوبر، وترأس وزارتها الراحل سر الختم الخليفة، سوى ثلاثة أشهر ونصف. إذ قامت جماهير حزب الأمة المجلوبة من الريف على ظهر شاحنات باستعراضٍ للقوة في شوارع الخرطوم ممارسةً ضغطًا على الحكومة لإجبارها على الاستقالة. فاستجاب سر الختم الخليفة واستقال، ربما ليجنب العاصمة حرب شوارع. ولعله عاد بذاكرته لأحداث مارس 1954 الدامية، التي صحبت زيارة محمد نجيب للبلاد حين استدعى حزب الأمة جماهيره من الريف، وحدثت مواجهات مات فيها ضابطان؛ بريطاني وسوداني، و34 من الشرطة والأنصار. أما الفترة الانتقالية الثانية التي أعقبت ثورة أبريل 1985 فقد سارت، بلا إشكاليات تذكر. ولعل السبب هو أن حكومتها كانت واثقةً من قدرتها على تصفية الثورة، وقد فعلت.
الآن، توشك الفترة الانتقالية الثالثة على إكمال سنتها الأولى، ولم يحدث تقدم ملموس في مفاوضات السلام. أيضًا، لم يجر تشكيل المجلس التشريعي، ولا تعيين الولاة، ولا إنشاء المفوضيات. وفي كل ذلك مخالفةٌ صريحةٌ للوثيقة الدستورية، وللمصفوفة، التي تبخرت عقب إعلانها. هذا في جانب السياسة، أما في جانب المعيشة، فالأمر أعجب. فقد عاشت البلاد أزمة خبز ووقود مستدامة. ويبرز الاخفاق أكثر، حين نصطحب حقيقة أننا أمضينا الشهور الثلاثة الماضية في البيوت، بسبب الحظر. فتناقصت حركة النقل داخل العاصمة وخارجها بما يزيد، في تقديري عن 60٪. لم تستغل الحكومة هذه الفرصة في خلق مخزونٍ به تنهي الأزمة. ففي أول يوم عقب الرفع الجزئي للحظر، كانت صفوف السيارات أمام محطة الوقود أطول من المعتاد. وكانت هناك أزمة مواصلات حادة، وزيادة في أسعار النقل. صاحب ذلك، تكدُّسٌ أكبر للجمهور أمام المخابز. بل، بشرتنا الصحف بأن أزمته ستستفحل أكثر.
وسط هذه الأجواء جرى اكتشاف 30 ألف جوال دقيق في مخزن في ولاية النيل الأبيض. ما يجعل المرء يتساءل: كم يا ترى كمية الدقيق المخزنة في كل ولايات السودان؟ كما ورد في الأنباء، أيضًا، إلقاء القبض على شاحنات صهاريج ولم نعرف ما إذا كانت للبيع في السوق الأسود أم للتهريب إلى دول الجوار. والسؤال هنا: كيف يحصل هؤلاء على حمولة شاحنة كاملة من وقودٍ، خرج بأوراق رسمية ليصل إلى قنوات توزيعٍ بعينها؟ اللافت أن لجنة تفكيك التمكين كانت قد زارت مصفاة الجيلي قبل ما يزيد على الأسبوع، وطمأنتنا أن الإشكالات عولجت. لكن مرت الأيام دون أي تغيير، بل أصبحت الأزمة في أول يوم لفك الحظر أسوأ مما كانت عليه. لقد ظللنا نسمع تطميناتٍ متكررةٍ من منظومة الحكم، بشقيها، ونرى الواقع يزداد قتامةً كل يوم، حتى فقدنا الثقة في تصريحات المسؤولين. فهل لا توجد أموالٌ أصلاً، أم أن هناك عفونةٌ تشي بعملٍ منظمٍ لخنق حياة المواطنين، بغرض إفشال الفترة الانتقالية؟ ما أصبحت أشعر به، هو أن هناك من يحاول أن يقول لنا: أيها البهائم إما أن تنسوا ثورتكم هذه، وترضخوا وإلا فلن تحصلوا على العلف؟ على حكومة حمدوك أن تقلع عن عادة إرسال التطمينات، وتضع الواقع الحقيقي للشراكة، أيًّا كان، أمام الشعب، "على بلاطة".
|
Post: #101
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-10-2020, 03:27 AM
Parent: #100
up
|
Post: #102
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-10-2020, 10:07 PM
Parent: #101
تعقيب من د عبد العظيم حسن
المحترم د. النور حمد
صحيفة التيار 11 يوليو 2020
لست بالقامة التي تملك أن تعقب على ما تكتب، ولكنني استسمحك التعليق على مقالك الرصين بعنوان: "من الذي يعبث بالفترة الانتقالية؟"، وأقول، بكل تواضع، أنك طرحت أبعاد المشكلة بكل شفافية. غير أنك ذهبت، فيما يبدو، إلى تعليق أسباب العبث، بالدولة العميقة، والشريك العسكري. في حين أنني أرى أن الإشكال الحقيقي في المكون المدني، وليس خارجه. الأزمة باختصار تكمن في ضعف الكفاءة المهنية ونهج المحاصصات والصراعات التي تغلغلت في أجسام المكونات المدنية، فأغرت بسلوكها آخرين، فانجروا إلى التكالب والخوض مع الخائضين. يتضح هذا من تجربة تجمع المهنيين السودانيين الذي تشكّل منه المجلس المركزي للحرية والتغيير، ومن قبضة الأحزاب السياسية التي أخذت تسيطر عبر هذين الجسمين.
من الواضح أن هناك عجزًا في إدارة الدولة. يتضح هذا للعيان من زاويتين: الزاوية الأولى: هذه الأحزاب لا تملك الكوادر المؤهلة التي تستطيع أن تدير بها دولة. وكما تعلم، هناك فرق شاسع بين الثائر ورجل الدولة. فثلاثين عامًا من التشظي، أفقرت الأحزاب من المورد البشري المؤهل الذي يدير العمل بكفاءة. ما تملكه هذه الأحزاب، بالكاد، عددٌ محدودٌ من الثوار، الذين يتعاملون مع إدارة الدولة بقدرات الهواة وليس المحترفين. الزاوية الثانية: الفترة الانتقالية هذه المرة تختلف في تحدياتها عن السابقات. فإذا كانت في المرات الماضية أتت عقب أنظمة عسكرية لا تقف وراءها أيديولوجيات، فإن النظام البائد كان أيدولوجيا متشددًا ومتجذرًا بعمق، ومتحكماً بكل مفاصل الدولة. فهو لم يترك مجالاً إلا وسيطر عليه.
مواجهة وضعٍ معقدٍ كهذا لا يكون بواسطة هواة مكنتهم أحزابهم من السلطة دون تأهيل، فأصبحوا غير قادرين على تحقيق مصالحهم، من جانب، وإدارة المصالح العامة من الجانب الآخر. لقد نسوا دورهم الأساسي، وتنكروا لتعهدهم بأنهم لن يتولوا مناصب دستورية في الفترة الانتقالية. فلا هم أوفوا بما عاهدوا الشعب عليه، ولا هم كانوا في مستوى المسؤوليات التي تصدوا لها. ولقد وضح جليا أنهم أقل قامة من حجمها. لذلك، كانت النتيجة الكارثية المتمثلة في خمود الحماس تجاههم من قبل الجماهير.
لا أرى أن نعلق الأسباب حصراً على مشجب الدولة العميقة، ولا الثورة المضادة، لأن مناهضتهما للثورة معلومة بالضرورة، ومتوقعة. الواجب أن يتصدى للمسؤولية من هو في مستوى التحدي. إلى جانب ذلك، لا يكفي أن تكون هناك لجنة تفكيك دون قيام لجان للبناء. فمن المتفق عليه، أستاذي الكريم، أن البناء دومًا هو الأصعب، وليس الهدم. على سبيل المثال لا الحصر، جرت في بعض الوزارات مواجهات غير مدروسة، أسفرت عن إنهاء خدمات قياديين، ما قاد إلى استقالات عديدة، أربكت دولاب العمل. وهؤلاء لم يستقيلوا لأنهم ثورة مضادة، وإنما بسبب السياسات المتعجلة، والإعفاءات دون تحضير بديلٍ جاهز. لم يجر سلوك طريق الإدارة العلمية المؤسسية، بقدر ما جرى هدمٌ لأوضاع غاية في التعقيد، بلا جاهزية. عمومًا، ما أراه عن قرب، ينم عن فساد إداري ومغامراتٍ غير محسوبة العواقب. فالفساد لا ينحصر في سرقة قوت وأموال الشعب، وحسب. فالفساد قد يصبح أكثر فداحة عندما يجري إسناد المسؤولية لمن هم ليسوا أهلا لها. مودتي واحترامي د. عبد العظيم حسن المحامي - الخرطوم
|
Post: #103
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-12-2020, 08:47 AM
Parent: #102
هل ستغير واشنطن نهجها؟
النور حمد
صحيفة التيار 12 يوليو 2020
السفير ألبرتو فيرناندز دبلوماسي أمريكي عاش في السودان لعامين تقلده أثناءهما منصب القائم بالأعمال الأمريكي في السفارة الأمريكية بالخرطوم، بين عامي 2007 و2009، في الفترة التي أعقبت اتفاقية نيفاشا. اشتهر فيرناندز بعلاقاته الواسعة بالمجتمع السوداني وتغلغله وسط مختلف فئاته، خاصة السياسيين. وقد تمكن ببساطته وعفويته وحضوره المناسبات الاجتماعية، من خلق شعبية كبيرة في مجتمع الخرطوم. ولقد ساعدته كثيرًا قدرته على التحدث باللغة العربية. نشر فيرناندز أمس الأول تحليلاً سياسيًا، على موقع معهد واشنطن المتخصص في السياسات الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط. نشر فيرناندز تحليله السياسي تحت عنوان: "السودان على الحافة: أسقوطٌ حتميٌّ أم أمامه طريق أفضل؟". أبدى فيرناندز بحكم معرفته بالسودان وأحوال السياسية تعاطفًا كبيرًا مع الفترة الانتقالية وحرصًا على اكتمال التحول الديموقراطي. وحث الإدارة الأمريكية لكي تغير سياستها الحالية وأن تتحرك بإيقاع أسرع.
ما يهمني إيراده في هذا الحيز المحدود عرض موجز للتوصيات التي ذيل بها فيرناندز. وقد بدأها بقوله: كما هي عادتهم دائمًا، نصح المانحون الدوليون الحكومة السودانية أن تتخذ خطواتٍ في الإصلاح الاقتصادي. وهي خطواتٌ من شأنها أن تضعف شعبية الحكومة أكثر، وتجعل منها، هدفًا سهلاً للشخصيات العسكرية والإسلامية، المهيأة للانقضاض عليها. ففي الوقت الذي يغالب فيه سواد السودانيين عناء البحث عن الخبز والوقود والدواء، يصبح من الجنون أن نتوقع من إدارة حمدوك أن تعلن على المواطنين الذين عانوا طويلاً، أن عليهم أن يرضوا بأقل القليل، وأن يرسلوا الأموال إلى ضحايا الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة. ومن ثم، ينتظرون، ببساطة، قدوم الأيام الزاهية المقبلة.
يقول فيرناندز أيضًا: إن السياسة الأمريكية الراهنة المتعلقة بالسودان تبدو واضحة. وتتلخص في معالجة العلاقات الثنائية مع السودان بصورة منهجية، مع إبقاء الأمل في الانفراج النهائي بعيدًا، هناك، عند نهاية النفق. ويتضمن هذا تعليق الوعد بإزاحة اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب حتى اقتراب انتخابات 2022، أو بعدها. أما السياسة التي سيجري اتباعها، حتى ذلك الموعد، فهي إصلاح القطاع العسكري وحماية الحكومة المدنية من أن يُطاح بها، وذلك بإبقاء المكون العسكري على الخط المفضي إلى التحول الديمقراطي. بعبارة أخرى، إن ما جرى، حقيقةً، هو أن السودان تلقى وعودًا من واشنطن، أكثر مما تلقى مساعدات.
يقول فيرناندز: مشكلة هذه السياسة أنها مبنيةٌ على أن الوقت سيكون في صالح أمريكا. لكن، لو أن الاقتصاد العالمي كان مزدهرًا والسودان ضمن هذه الحالة فعلا، حتى باقتصادٍ متواضع، لأمكن لمثل هذه السياسة أن تنجح. إن واشنطن تغامر بإهمالها تصور ما يمكن أن يأتي عكس توقعاتها المرتجاة من هذه السياسة، لأنها تترك الحكومة الحالية تفقد سندها الشعبي. على واشنطن أن تتحرك في الملف السوداني بسرعة شديدة، وليس ببطء. ولابد من تقديم أكبر قدرٍ من العون حتى يشعر المواطن السوداني بأن أملاً قد أصبح مجسدًا على أرض الواقع. كما يجب أن يكون هناك حديث واضح لحلفاء واشنطن في المنطقة؛ ممثلين في السعودية والإمارات، حول الكيفية التي تجعل منهم داعمين مخلصين لحكومة حمدوك. على واشنطن أن تحذر السعودية والإمارات، وكذلك أعداءها؛ تركيا وقطر، أن السودان أولويةٌ بالنسبة لواشنطن، وليس ملعبًا لصراعهما. وليت واشنطن تسمع لخبيرها السابق في السودان.
|
Post: #104
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-13-2020, 07:17 AM
Parent: #103
الإصلاح القانوني ولغو الجهلاء
النور حمد
صحيفة التيار 13 يوليو 2020
في البدء، لابد لي أن أعرب عن الشعور بالغبطة الذي غمرني، وأنا أتابع مجريات اللقاء مع الدكتور، نصر الدين عبد الباري، وزير العدل، وهو يجيب بمعرفةٍ، ومهنيةٍ، ورزانةٍ، على أسئلة الأستاذ لقمان أحمد، في برنامجه التوعوي، "حوار البناء". لقد بدا أن وزارة العدل قد أخذت تعود، بعد طول غياب إلى المهنيين الأكفاء، أهل المعرفة الأكاديمية، والحس العدلي السليم، والإلمام بمبادئ حقوق الإنسان، وبمجمل ثقافة العصر. وافقت مشاهدتي لهذه الحلقة المتميزة، قراءتي هذه الأيام لكتاب كليف تومسون "يوميات ثورة أكتوبر 1964"، الذي قام بترجمته الصديق، بروفيسور بدرالدين الهاشمي، وقدم له بروفيسور عبد الله علي إبراهيم. وكليف تومبسون أستاذ قانون أمريكي، بدأ حياته المهنية في جامعة الخرطوم في الستينات. وقد كتب مشاهداته ومتابعاته اليومية لمجريات ثورة أكتوبر؛ منذ الندوة التي استشهد فيها القرشي، إلى سقوط نظام الفريق عبود، وتشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة سر الختم الخليفة. شفع تومسون تلك اليوميات، في السنوات اللاحقة، بمقابلات مُعمَّقة، أجراها مع طيفٍ واسعٍ ممن أداروا تلك الأحداث. فجاء كتابه سجلاً تاريخيًا فريدًا لأسبوعٍ عظيمٍ في التاريخ السوداني المعاصر. نشرت الكتاب، دار المصورات بالخرطوم، وهو كتابٌ جديرٌ بالقراءة وبالاقتناء.
جاء ذكري كتاب تومسون هذا لارتباط موضوعه، بالصورة المشرفة التي ظهر به وزير العدل في هذه المقابلة. فقد أورد الكتاب مواقف مضيئة ومشرفة لشخصيات عملت في النظام العدلي؛ كالقاضي أبورنات، والقاضي بابكر عوض الله، والقاضي عبد المجيد إمام، والمحاميين، محمد أحمد محجوب ومبارك زروق. من يقرأ الكتاب يعرف مستوى المهنية الرفيع، والاعتداد بالنفس وبشرف المهنة، والحرص على سلامتها من التلوث بدنس السلطة والسياسة لدى كل هؤلاء. لذلك، فإن ظهور وزير العدل بهذه الصورة المشرفة، بعد عقودٍ من تدنيس القضاء، ووزارة العدل، والنيابة العامة، في عهود الحكم الديكتاتوري، خاصة في عهد الانقاذ، بعث في نفسي الأمل أن ماضينا المشرق الذي كدنا أن نيأس من استنقاذه، قد أخذ الآن يبشر بعودةٍ أكثر إشراقا. ولا غرابة، فوزير العدل حاصلٌ على دكتوراه القانون من جامعة هارفارد، المشهود لها في كل العالم؛ شرقه وغربه، بأنها لا يرتادها ولا يتخرج منها سوى المميزين.
إذا أردنا نهضة يقودوها مهنيون، مجودون لمهنهم، ذوو أخلاقٍ مهنية رفيعة، فعلينا بالتعليم العصري الجيد. ولنذكر الآن الجهلاء الذين حاولوا الطعن في هذا الوزير المتقن لمهنته، المالك لمقتضيات سمتها أيام ترشيحة للوزارة. ولنقارنهم، هم الذين تعلموا وفقًا لمناهج القرون الوسطى بهذا الوزير. إنهم يدافعون عن جهالاتٍ وسخائم نفوسٍ متسخة، أسموها قوانين. من يقرأ صيغ قوانين الانقاذ لا يملك إلا أن يضحك ملء شدقيه، من غرابتها، وركتها، وحرصها اللئيم، على التجريم بغير حق. لا يمكن لدولة تحترم نفسها أن تسمح بوجود قانون ردة ضمن قوانينها. أو تمنح رجالها حق السيطرة المطلقة على حرية تنقل النساء الراشدات، لمجرد أنهم أصبحن زوجاتٍ لهم. كما لا ينبغي أن يسمح أي قانون يتوخى العدل، لبعض الرجال منعدمي الضمير، ممارسة الكيد لزوجاتهم المطلقات، ومنعهن اصطحاب فلذات أكابدهن، إلى الخارج، ولو كانوا في حضانتهن، وقس على ذلك من العسف والفجور الذكوري. فليعلم الذين لا يزالون يتاجرون بدغدغة الفج من العواطف الدينية، أن حكم الوقت قد أسدل عليهم الستار، مرَّةً، وإلى الأبد، فليكفوا عن اللغو الفارغ وليتركوا الحياة ترقى مراقي الرفعة والإنسانية.
|
Post: #105
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-14-2020, 06:46 AM
Parent: #104
هل جاءت التعديلات بغير سند دستوري؟
النور حمد
صحيفة التيار 14 يوليو
في إشادتي بوزير العدل، في مقال الأمس، ركزت على قضيتين: هما إبطال مادة الردة، وإبطال حق الرجل منع الزوجة المسافرة، أو المطلقة، اصطحاب أطفالها، الذين هم في حضانتها. فهذان انجازان باهران لا مراء فيهما، رغم ما يثيره البعض من اعتراضٍ، بقولهم: إن ذلك ما كان ينبغي أن يجري دون وجود مجلس تشريعي. وأن الدستور وتشريع القوانين أو إصلاحها تقتضي مشاركةً واسعةً، وتفويضًا شعبيًا، ولا ينبغي أن تقوم بها النخب. لكن، هذه النخب لم تأت إلى الحكم بانقلاب عسكري، وإنما أتت بها ثورة شعبية، أهم شعاراتها الحرية والسلام والعدالة. ينطوي هذا النوع الشكلي الإجرائي من الاعتراضات، على رفضٍ دفينٍ مبطَّنٍ للثورة ولشرعيتها. بل، على عدم اعترافٍ بها، لا يفصح عن نفسه بوضوح. الوثيقة الدستورية، التي توافقت عليها كل قوى الثورة، ممثلةً في جماهير الثورة، وفي قوى الحرية والتغيير، وفي الحكومة الانتقالية بقسميها، هي دستور الفترة الانتقالية الذي شهدت عليه القوى الإقليمية والدولية.
كأني بالمعترضين يقولون: ليس من حق الثوار تغيير أي شيء تركته الإنقاذ، حتى يأتي المجلس التشريعي المنتخب، لاحقًا، أو المتوافق على تعيينه في الفترة الانتقالية. ينطوي هذا المنحى، في تقديري، على رغبةٍ دفينةٍ في إلغاء الثورة، إلغاءً تاما. رغم أن الثورة، هي في الأصل، قلبٌ للطاولة على النظام القديم، برمته، رأسًا على عقب. وأول ما تجري إزالته من تركة الإنقاذ المثقلة، إنما هو القوانين غير الدستورية، التي حرس بها النظام المدحور شموليته، واتكأ عليها لينكل بالمعارضين السياسيين، وليبسط بها هيمنة الذكور المطلقة على الإناث. من أوجب واجبات وزير العدل، بناءً على الوثيقة الدستورية، وعلى الأمانة التي وضعها الثوار على عاتق الحكومة الانتقالية، أن يصلح عوار قوانين الانقاذ. لا أن يربع يديه وينتظر هؤلاء المتباكين المشفقين مما يسمونه: "فوقية النخب". وهم قومٌ لم نر لهم دموعًا ولا إشفاقًا على أحد، حين كان النظام المدحور يقتل ويعذب ويقهر، بلا رقيب أو حسيب. وحين كانت بعض النساء ينتحرن من وطأة الانسحاق بالقهر، من عنت الأزواج وتسلطهم. لكن، يبدو أن الضمائر الميتة لا يحركها الظلم، بقدر ما تحركها الشكليات.
حق الحياة وحق الحرية ليسا حقين نسبيين، يمكن أن تؤمن بهما جماعة من الناس وتكفر بهما جماعة أخرى، ثم تكون الجماعتان على صواب. حق الحياة وحق الحرية حقان أصيلان لا ينبغي أن يتركا ليسلبهما الجهل الديني والعلماء والانقياد الطائفي. هذان الحرقان هما بذرة أي دستور وبغير كفالتهما، لا يكون هناك دستور. وأي وثيقة تجهض هذين الحقين لا يمكن أن تسمى دستورا.. لا ينبغي أن نعيد اختراع العجلة، وإنما نسير فيما يتعلق بحقي الحياة والحرية، فيما سار فيه العالم كله، قبلنا. كفالة حق الحياة وحق الحرية أمران في حكم البداهة، فقط، الاستبداد هو الذي شوَّه فهمهما، ولعب بعقول كثيرين بشأنهما. نحن لا نواجه قضايا الحقوق لأول مرة، وكأننا في نقطة فجر الخليقة. نحن نجلس على تراثٍ ضخم من الأدبيات الدستورية. ولا أعتقد أن ثورة قامت ضد القهر والاستبداد والاتجار بالدين، تحتاج لمن يصوت لها على إلغاء حد الردة، أو رفع حيف الرجال على النساء بمنعهن حقهن في اصطحاب أطفالهن خارج البلاد، متى ما أردن. (في اليومين القادمين أعرض تحفظاتي على التعديلات المتعلقة بشرب المواد الكحولية والدعارة).
|
Post: #106
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-16-2020, 04:40 AM
Parent: #105
الخمور بين التربية والقانون (1)
النور حمد
صحيفة التيار 16 يوليو 2020
عاش السودان منذ انهيار الدولة المهدوية في عام 1898 وإلى سبتمبر 1983 حالة من الاستقرار النسبي. ولم يكن هناك أي جدل حول مسألة تعاطي المشروبات الكحولية. لم تحظ هذه القضية بأي اهتمام، لا من المؤسسة الدينية الرسمية، التي كانت تقف على الدوام إلى جانب مختلف السلطات، ولا من الطرق الصوفية، ولا من عامة المواطنين. باختصار، لم تكن قضية تعاطي المشروبات الكحولية تحتل أي أولوية فيما تجري مناقشته من قضايا في المجال العام. فالبيئات السودانية، المختلفة، منذ الممالك الكوشية القديمة، وإلى يوم الناس هذا، عرفت صناعة الخمر في البيوت، بصورةٍ من الصور. بل ظل تناول المشروبات الكحولية ممارسًا بلا انقطاع، عبر التاريخ الإسلامي، بل وفي بلاط الخلفاء أنفسهم. (راجع كتب شوقي ضيف عن العصر الأموي والعصر العباسي). كما أوردت كتب الأحاديث، بأدلةٍ متواترةٍ، وبوضوح لا لبس فيه، أن النبيذ كان يُشرب حتى في صدر الإسلام. فموضوع شرب الخمر في الإسلام موضوعٌ جدليٌّ مختلفٌ عليه.
تطبيق الشريعة ومنع الخمور قضية جرها إلى دائرة الجدل السياسي، في السودان، تنظيم الإخوان المسلمين. فهي تمثل في نظرهم وسيلةً سهلة الامتطاء، سريعة الإفضاء إلى كرسي السلطة. لكن، بعد أن وصلوا إلى السلطة، وجلسوا في كراسيها ثلاثين عامًا، لم يطبقوا، ولا حكمًا شرعيًا واحدا. لم نر أيادٍ تُقطع، رغم السرقات التي تحدث كل يوم، ولا زانٍ أو زانيةً رُجما، ولا قاطع طريق جرى قطعه من خلافٍ، وصلبه. حين كان نميري حاكمًا، وقفوا وراءه بشدة في تطبيق العقوبات الحدية على الفقراء، ليحتمل هو وزرها، من سبتمبر 1983، وحتى سقوط نظامه في أبريل 1985. كان الهم هو الوصول إلى كرسي السلطة، وما أن وصلوه تركوا الشحن الديني الذي شحنوا به البسطاء، حول تطبيق الشريعة، يتبخر في الهواء. وهاهم الآن، بعد أن أُبعدوا عن السلطة، يعودون، كرَّةً أخرى، إلى عادتهم القديمة في إثارة البلبلة. لا يختلف جَرُّ موضوع الخمر إلى دائرة الجدل السياسي، عن الحملة المفتعلة الخسيسة، التي أدت إلى حل الحزب الشيوعي عام 1965، وطرد نوابه المنتخبين من البرلمان، ومحاكمة الأستاذ محمود بالردة عام 1968. أسلوب الحملتين واحد، وهو إثارة العاطفة الدينية لدى البسطاء، حتى يعموا عن رؤية واقعهم المجتمعي الحقيقي الذي يعيشونه. وهو واقعٌ ظل قائمًا دون أي تغيير، لآلاف السنين، ولم تستطع ولا الدولة المهدية، بكل نزعتها الطهرانية المفرطة، وحشرها أنفها في خصوصيات الناس، أن تغيره. على سبيل المثال، كان القائد المهدوي، النور عنقرة، يشرب خمره في بيته، الذي لا يبعد ميلاً من بيت الخليفة عبد الله. (راجع: مذكرات يوسف ميخائيل).
يقول الواقع التاريخي للشعوب السودانية، أن الناس ظلوا يصنعون، في كل أقاليم السودان، "الشربوت" و"الدكاي" و"المريسة" و" العسلية" وغيرها من المسميات، في المنازل، خاصةً في المناسبات. كما لم تخلُ، عبر التاريخ، قريةٌ أو مجموعة قرى متجاورة من أماكن لصنع وبيع الخمور البلدية. هذا واقع بالغ القدم، ولن تغيره القوانين المتعسفة، وجهالات المتشددين الدينيين، الذين لا يعرفون حرف الإسلام ولا روحه. هذا الواقع، يغيره الوعي، والتعليم، والتربية الدينية الصحيحة الحكيمة الموزونة، التي تتجه إلى ترفيع الشعور بالمسؤولية الفردية، وبالالتزام الداخلي بصحيح القيم. محاولة منع شرب الخمور بالقوانين لا تختلف في فشلها من محاولة خفض سعر الدولار بالقبضة الأمنية. فالضائع في هذا اللغو الباطل هو الحكمة. (يتواصل).
|
Post: #107
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-17-2020, 07:29 AM
Parent: #106
الخمور بين القانون والأخلاق، (2)
النور حمد
صحيفة التيار 17 يوليو 2020
من الملاحظات اللافتة للكاتب الكبير الطيب صالح قوله: رغم أننا قطر هامشي في منظومة الأقطار العربية والإسلامية، وليست لنا آدابٌ مكتوبةٌ، ولا آثارٌ يُعتد بها في بنية الحضارة الإسلامية، إلا أنا، رغم ذلك، حاولنا مرتين، ادعاء أن لنا دورًا مركزيًا في العالم الإسلامي، بل وفي العالم أجمع. قام الإمام محمد أحمد المهدي بثورته العظيمة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وحقق إنجازين عظيمين على المستوى الداخلي، هما: تحرير القطر من المستعمر المصري، التركي، ومنح السودان حدوده الجغرافية الشاسعة. غير أن المهدي توهّم أن دعوته ودولته تحتلان موقعًا محوريًا ينبغي أن يلف حوله جميع العالم. ألغت المهدية العمل بالمذاهب، كما ألغت الطرق الصوفية، وكفَّرت كل من لا يؤمن بمهدية المهدي، وجعلت من منشورات المهدي وراتبه مرتكزا جديدًا للعقيدة، يَجِبُّ كل ما قبله. وبناءً على تصور أن المهدية رسالةٌ إلهيةٌ إلى الناس أجمعين، سيرت المهدية الجيوش لفتح مصر والحبشة. ووثب في الربع الأخير من القرن العشرين، الدكتور حسن الترابي وجماعته إلى السلطة بانقلاب عسكري. جاعلين من فكرتهم ودولتهم منصة ينطلق منها البعث الاسلامي ليعم مشارق الأرض ومغاربها. ولم يتعظ الدكتور الترابي ورهطه من التجربة المهدوية. فانتهت تجربتهم إلى كوارث متلاحقة ودمارٍ فظيعٍ فاق كل ما جرى في الحقبة المهدوية.
مصر هي موطن الأزهر، أعرق الجامعات الإسلامية. وتركيا هي مركز الخلافة الإسلامية العثمانية، حتى الربع الأول من القرن العشرين. غير أن هذين القطرين لا يحرمان صناعة الخمور، ولا الاتجار فيها، ولا تعاطيها. أما جمهورية باكستان الإسلامية فتمنع تعاطي المسلمين لها، ولا تمنع أن يتعاطاها غيرهم من أهل الديانات، وبها مصنع للخمور. أما ماليزيا وإندونيسيا فتسيران على نهج تركيا ومصر والمغرب وتونس والجزائر ولبنان والعراق وسوريا والأردن، أي نهج السماح بلا قيد. وتختلف درجة السماح قليلًا في دول الخليج. فسلطنة عمان والإمارات وقطر والبحرين، تسمح باستيراد الخمور وتقديمها في الفنادق، وبعض المطاعم. وفي هذه الدول منافذ لشراء المواد الكحولية، لكنها لا تبيع إلا لمن يحمل تصريحًا حكوميًا. لذا يستغرب المرء في تحريض عبد الحي يوسف للجيش للإطاحة بالحكومة المدنية، بدعوى أنها تهدم الدين. لماذا يا ترى يصمت عبد الحي، عن تقديم نفس الطلب للجيش التركي ليطيح بأردوغان؟
أرجو ألا يظنن أحدٌ أن سبب عدم تشدد هذا العدد الكبير من الدول الإسلامية، يعود لقلَّةٍ في المعرفة بالدين، أو تنكُّرٍ لأحكامه. في كل هذه البلدان علماء أجلاء. بل إن علماءنا تتلمذوا، عبر التاريخ، على علماء الأزهر منذ أيام السلطنة الزرقاء. السبب في تقديري، هو المعرفة بمقاصد الدين، وتوخي الحكمة في التشريع، وفهم الواقع العملي القائم. يضاف إلى ذلك، أن الأحاديث والوقائع المروية في أمر الخمر ورد في بعضها ما يؤكد أن العقوبة تنصب على السُّكْر، وليس على مجرد الشرب. وكما هو معلوم، فإن روايات الأحاديث وروايات الوقائع التاريخية، وردت بصورٍ مختلفة، تصل حد التعارض، أحيانًا. فالفقهاء المتشددون يعتمدون منها ما هو أكثر تشدُّدًا فيجعلوا منه تشريعًا عاما. أما المعتدلون فيميلون إلى النصوص والوقائع التاريخية التي تبتعد عن التشدد والغلواء. وسوف أورد نماذج من هذه الروايات المختلفة في عمود الغد، ومع ذلك، تبقى للحديث بقية. (يتواصل).
|
Post: #108
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-17-2020, 09:48 PM
Parent: #107
الخمور بين القانون والأخلاق (3)
النور حمد
صحيفة التيار 18 يوليو 2020
ذكرت في العمود السابق، أن الفقهاء صنفان: صنف متشدِّد وآخرٌ معتدل. يميل الصنف المتشدد إلى العنت، والمعتدل إلى اليسر. يضاف إلى ذلك، أن روايات الأحاديث النبوية والوقائع التاريخية الإسلامية، يقع فيها الاختلاف. وقد يجد المرء حديثًا مرويًا بعدة صيغ، أو رواية لحادثة بعدة صيغ، تخلق اقدرًا من الاختلاف في المضمون. وسوف أورد نماذج لهذا في ذيل هذا المكتوب. أيضًا، من المعروف تاريخيًا والموثق، أن جمع الأحاديث جرى بعد أكثر من قرنٍ من بداية التاريخ الهجري. لذلك، فإن درجة الموثوقية العالية التي يمنحها المشتغلون بالفقه للأحاديث، ليست بالتماسك كما يظنون، ويظن كثيرون. وقد كثرت في الفترة الأخيرة الآراء الداعية إلى أخذ روايات الأحاديث بحذرٍ شديد، خاصة حين تتعارض مع نصوص القرآن، ومع المعقولية اللائقة بدينٍ رباني. وقد ذهب البعض إلى ضرورة الاستناد إلى القرآن بوصفه النص الأوثق، الذي ينبغي أن يكون المرتكز النهائي، حين تستشكل الأمور. وعمومًا، فإن العصر الذي جرى فيه تدوين الأحاديث لم يكن عصر تقوى، كصدر الإسلام، وإنما كان عصر ملك عضوض، أصبحت أهواء السياسة حاضرةٌ فيه بشدة.
أكثر من ذلك، يورد بعض الباحثين أن هناك أحاديث صحيحةً تنهى عن كتابة أحاديث النبيّ، مطلقًا. فقد روى أحمد، ومسلم، والدارِميّ، والترمذيّ، والنسائيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عنّي شيئاً إلاّ القرآن، فمَنْ كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه". الشاهد، أن الظن بأن الأحكام المستنبطة من جانب الفقهاء هي أحكامٌ نهائية غير قابلة للمراجعة، أبدًا، ظنٌّ غير صحيح.
من أمثلة الروايات المختلفة للأمر الواحد، ما رواه أبو موسى الأشعري من أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه هو ومعاذًا إلى اليمن. قال أبو موسى: قلنا يا رسول الله إن بها (أي اليمن)، شرابين يُصنعان من البر والشعير، أحدهما يقال له المزر والآخر يقال له البتع، فما نشرب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشربا ولا تسكرا". أما الرواية المغايرة فقد ورد فيها أن النبي قال لهما: "اشربا، ولا تشربا مُسكرا". فرواية "اشربا ولا تسكرا"، أباحت لهما الشرب بشرط ألا يسكرا. أما الرواية الثانية فتقول: اشربا ولا تشربا مسكرا" وفي هذه غرابة. لأن السائلين ما سألا إلا لأنهما يعلمان أن هذين الشرابين مسكرين. ولذلك، كان رد النبي الكريم، "اشربا ولا تسكرا". فهذه الرواية أكثر تماسكًا من الأخرى التي قالت: "اشربا ولا تشربا مسكرا". فهما لم يسألا عن مطلق شراب، وإنما سألا تحديدًا عن شرابين، مسكرين، باسميهما.
أيضًا، من الأدلة على أن العقوبة إنما تنصب على السكر، ما جاء في سنن البيهقي من: "أن رجلا أتى سطيحةً لعمر، فشرب منها فسكر، فأتي به عمر فاعتذر إليه، وقال: "إنما شربت من سطيحتك"، (أي من نفس وعائك). فقال عمر: "إنما أضربك على السكر"، وضربه عمر." حاول هذا الرجل أن يُعفى من العقوبة لكونه قد شرب من نفس الشراب الذي يشرب منه عمر. فرد عليه عمر بأن السبب في معاقبته ليس مجرد الشرب، وإنما السكر. وهذا واضح جدًا في قول عمر: "إنما أضربك على السكر". واجبنا اليوم أن نجتهد، لا أن نستسلم كليًّا للأقدمين. (يتواصل)
|
Post: #109
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-19-2020, 04:42 AM
Parent: #108
الخمور بين القانون والأخلاق (4)
النور حمد صحيفة التيار 19 يوليو 2020
إن غرض الدين من إنزال القرآن وإرساء قواعد الشريعة، أن يمتلك البشر القدرة على التفكُّر وأن يصبح التفكُّر طبيعة ثابتة فيهم ومستدامة. فالجمود العقلي والوقوف عند عتبة الدين والنكوص عن الإيغال في عميق معانيه، علامتان من علامات قلة الانتفاع من منهجه. فالدين في الأصل منهج لترقية الفكر وترقية النفس. يقول تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". ولذلك، يمكن القول، كلما كان المؤمن ميالاً للعنت والتشدد، كلما دلَّ ذلك على عياء فكره، وانطفاء نور الفرقان لديه. فالأصل في الأشياء هو الحل، وهذا متفق عليه. وما المنع والتحريم إلا نتيجة لعجز البشر عن التصرف بمسؤولية، في الحرية الممنوحة لهم. لقد منح الله اليهود سعةً في الحِل، بادئ الأمر. لكنهم أساءوا استخدامها، فصودرت منهم، وأُدخلوا دائرة المنع والتحريم. يقول تعالى: "فبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا". وقد حدث هذا للأصحاب رضوان الله عليهم. فتحريم الخمر لم يحدث، إلا بعد أن أساءوا التصرف في السعة، فأُحيلوا إلى الضيق.
أمضى النبي في مكة، بعد أن بُعث للناس، ثلاث عشرة سنة، لم تكن الخمر فيها محرمة. بل، بقيت غير محرمة لثمان سنوات، بعد أن هاجر إلى المدينة. وهناك روايتان عن العام الذي جرى فيه تحريم الخمر. فبعضهم يقول: في السنة الثالثة للهجرة، عقب معركة أحد، وبعضهم يقول: في السنة الثامنة للهجرة، ومن بين هؤلاء من المحدثين، الدكتور محمد عابد الجابري. فالأرجح هو السنة الثامنة، لأن الآيات التي تدرجت بالناس نحو النهي، أخذت وقتًا طويلا. فالخمر جرى تحريمها قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بثلاث سنين فقط.
هناك حادثتان بارزتان في إساءة استخدام الأصحاب لإباحة الخمر. أولاهما ما حدث منهم من أخطاء في قراءة القرآن في الصلاة، بسبب السكر، فنزلت الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ". أما ثانيتهما فقد كانت أفدح من سابقتها. فقد جاء في شرح النووي على مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سيدنا علي بن أبي طالب ناقتين من نوق الغنائم. فأناخهما عند باب رجلٍ من الأنصار. وكان حمزة بن عبد المطلب يشرب الخمر ومعه قَيْنَةٌ (جارية) تغنِّي له. ولعل الجارية أرادت أن يكون لهما مع الشرب شواء. فأثارت حمزة بشيء من الشعر، فنهض، وهو سكرانٌ، واتجه بسيفه إلى نوق علي بن أبي طالب. فقطع أسنمتها (جمع سنام)، وبقر خاصراتها، وأخذ من أكبادها. فشكاه سيدنا علي إلى النبي. فذهب إليه النبي يجرجر أثوابه من الغضب، ومعه زيد بن حارثة، وأنكر النبي الكريم على حمزة فعلته. لكن حمزة كان في حالة سكر شديد، جاء في وصفه أن عيونه كانت محمرة. صوب حمزة بصره إلى النبي في ازدراء، وقال: "هل أنتم إلا عبيدًا لآبائي". فانصرف عنه النبي غاضبا. ونزلت عقب ذلك الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ". (يتواصل).
|
Post: #110
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-20-2020, 06:54 AM
Parent: #109
الخمور بين القانون والأخلاق (5)
النور حمد
صحيفة التيار 20 يوليو 2020
يعتقد كثيرٌ من المسلمين أن الإسلام قصد منذ البداية تحريم الخمر، وأن الإسلام ترفق وتلطف بمجتمع القرن السابع الميلادي، الذي اعتاد الخمر، فتدرج في التحريم على مراحل. هذا الاعتقاد ليس صائبًا تمامًا، رغم ذيوعه. فالإسلام يقر الأصل في البداية، وهو الإباحة، أما المنع فاستثناء. فكما أقر القرآن في البداية، في مكة، مبدأ الحرية والمسؤولية الفردية، على غرار: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، فقد أقر أيضًا الإباحة في الخمر بالسكوت عنها. فالإنسان، في الإسلام، حرٌّ، حتى يسيء التصرف في الحرية، فتجري مصادرتها. ولا تكون المصادرة حين تحدث، إلا بقانون دستوري. والقانون الدستوري هو القانون الذي يوفق توفقًا دقيقًا بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية، وبين حاجة الجماعة إلى الأمن؛ فلا يتغول على حقوق الفرد لمصلحة الجماعة ولا على حقوق الجماعة لمصلحة الفرد.
لو تأملنا الآية 67 من سورة النحل، المتعلقة بالخمر، فإننا نلاحظ أنها تتحدث بحيادٍ عن صناعة الخمر، كونها ممارسة عرفتها المجتمعات البشرية منذ القدم. تقول الآية: "وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ". لا يوجد في هذه الآية أي ذمٍّ لصناعة الخمر. وقد مارست مجتمعات الشرق الأوسط، على مدى التاريخ، عصر الزيتون والسمسم للزيت، وكذلك، عصر العنب وتخمير الحبوب والتمور وغيرها، لصناعة النبيذ. وقد جاءت الإشارة إلى هذه الصناعة، بلا ذمٍّ، أيضًا، في تأويل سيدنا يوسف للرؤيا، في الآية 49 من سورة يوسف، التي تقول: "َثُمَّ يأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ". من أجل تثبيت الأصل الأصيل، المتمثل في كفالة الحرية وإقرار مبدأ المسؤولية، وحث الناس على التحلي بها، لم يحرم القرآن الخمر على مدى 20 عامًا، مع العلم أن كامل مدة البعثة النبوية المشرفة، كانت 23 عامًا فقط.
جاء التضييق بعد أن بدأ أصحاب النبي، عليهم الرضوان، يتذمرون مما يأتونه من أفعال وهم سكارى. فقد طفقوا يسألون النبي عن الخمر، فجاء رد الله تعالى عليهم، على هذا النحو: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا". ومن يتأمل هذا الخطاب بذهنٍ مفتوح، يرى بوضوحٍ شديد، نهج القرآن في التأكيد على المسؤولية الفردية. فقد أثبت للخمر والميسر منافع. لكنه، أكد أن إثمهما أكبر من نفعهما. وهنا، أيضًا، استمر القرآن يضع المسؤولية على عاتق المؤمن. غير أن أهل تلك الفترة تفاقمت هفواتهم بسبب السكر، فجاءت الآية: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ". وحتى هذه اللحظة، أيضًا، لم ينه القرآن عن الشرب، واستمر يدعو إلى التحلي بالمسؤولية. فطالبهم، فقط، بألا يأتوا إلى الصلاة وهم سكارى. ولا بد أن حوادث عديدة مثل حادثة حمزة التي أغضبت النبي، قد حدثت. إلى ثبت أن ذلك المجتمع دون مستوى المسؤولية الفردية، فصودرت حريته. ومع ذلك لاحظ فقهاء وباحثون، أن آية سورة المائدة، التي أغلقت باب شرب الخمر، جاءت في صيغة ملطَّفة، فدعت إلى "الاجتناب"، وليس إلى التحريم، بصريح العبارة. بل إن خاتمة الآية التي تلتها، جاءت في صيغة استفهام يشبه الالتماس اللطيف، فقالت: "فهل أنتم منتهون؟". (يتواصل).
|
Post: #111
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-21-2020, 05:15 AM
Parent: #110
الخمور بين القانون والأخلاق (6)
النور حمد
صحيفة التيار 21 يوليو 2020
قلت في المقالة السابقة، إن الأصل في الأشياء هو الحل. والحرمة ليست سوى حكم شرعي سببه العجز عن القيام بواجب المسؤولية، الذي هو شرط التمتع بالحرية. جاء في تحديد المحرمات قول الله تعالى: " قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". على عموم الأمر، كل ما يمر عبر فم الإنسان، من مطعمٍ أو مشربٍ حلال، باستثناء هذه الأعيان الأربعة. وحتى هذه الأربعة سُمح للمضطر، المستوفي لشروط الاضطرار، أن يطعمها. وجاء أيضًا: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". وهذه من أكثر الآيات وضوحًا في أن التقوى والإحسان تضعان الإنسان في براح الحرية المسؤولة.
لا يعني ما تقدم، أن معاقرة الخمر تليق بالمتقين المحسنين، فهؤلاء لا حاجة بهم إلى الخمر، أصلا. والقول بأن الحل هو الأصل، ليس دعوةً لمعاقرة الخمر، وإنما لتثبيت مبدأ المسؤولية الفردية. ففي عهد الوصاية، وهو العهد الماضي، جرى سد للذريعة، فكان التضييق. أما في عهد الحرية والمسؤولية والاسماح، فإن التحريم والعقوبة ينبغي أن تنصبَّا على السكر، وليس على مجرد الشرب. وقد قال بذلك، فيما يخص الأنبذة، فقهاء أقدمون، مثال: إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وأبو حنيفة، من فقهاء الكوفة، وكذلك أكثرية من علماء البصرة؛ أي، أن المحرم هو السكر نفسه، وليس عين ما يُشرب. (بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ص 912). فالأصل هو الإباحة، وجاء المنع بسبب سوء التصرف، وقد كان الوقت وقت وصاية. أما التشريع اليوم، فينبغي أن يضع الناس في موضع المسؤولية، وذلك بحصر المساءلة والعقاب في حالة السكر، في المجال العام، وليس لمجرد الشرب. فالقانون أصلاً لا يملك عينًا تراقب له ما يقع خارج المجال العام. خاصةً وأن تتبع الناس داخل بيوتهم ممنوعٌ شرعًا.
واجبنا هو تبيين ضرر الخمر على الفرد وعلى الأسرة وعلى المجتمع، عبر منابر المساجد، ومناهج المدارس، والرسائل الإعلامية، والصحية. وأن نبتعد من جعل المنع المطلق والعقوبة بديلين للضمير وللأخلاق وللمسؤولية الفردية. نهج العقوبة المتَّبع منذ سبتمبر 1983، وإلى اليوم لم يغيِّر شيئًا. بل تسبب في اتساع دائرة تعاطي أنواع الكحول بالغة الضرر. هذا النهج لن يغير شيئًا، لأنه شبيه بتصور النعامة حين تدفن رأسها في الرمال، وتظن أن ذلك يخفي جثتها الضخمة، عن عين عدوها. لقد أصبح الإقرار بأن الحرية الفردية هي الأصلٌ في الإسلام أوضح من أي وقتٍ مضى. قال زعيم حركة النهضة في تونس، راشد الغنوشي، في مقابلة في قناة الجزيرة: "ليس من مهمة الدولة أن تفرض الإسلام. ليس من مهمة الدولة أن تفرض أي نمطٍ معيِّنٍ على المجتمع. مهمة الدولة أن تحفظ الأمن العام، تحفظ العدل، تقدم الخدمات للناس. أما الناس: تصلِّي ما تصلِّيش، تتحجب ما تتحجبْشْ، تسكر ما تسكرْشْ، هذا متروكٌ للناس". لقد أبقى تعديل وزير العدل الأخير، فيما يتعلق بالخمور قوانين سبتمبر الشوهاء في مكانها. والاستثناء الذي مُنح لغير المسلمين، إجراءٌ غير موفق. (يتواصل)
|
Post: #112
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-22-2020, 04:13 AM
Parent: #111
الخمور بين القانون والأخلاق (7)
النور حمد
صحيفة التيار 22 يوليو 2020
إن من أرفع آيات الذكر الحكيم قوله تعالى: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". ومنها أيضًا: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ". الحكمة غير الكتاب، فالقرآن لا يستخدم لفظين مختلفين بمعنى واحد. وتعلُّم الحكمة أعلى من تعلُّم الكتاب. وقوله تعالى "ويعلمهم الكتاب والحكمة" يعني أن معرفة الكتاب هي الباب إلى رفرف الحكمة المنفسح. والفكر المدقق هو الذي يمنح القدرة على التفريق بين مظهر الحكم الشرعي، وجوهر المقصد الرباني.
فقه المقاصد، ابتداءً بالشاطبي ومرورًا بابن عاشور، وحتى علال الفاسي، يسير في وجهة إعمال الفكر في أمور التشريع. يرى هؤلاء أن علم الأصول وقواعده، وإن كان ضروريًا للفقيه، إلا أنه لا يغنيه عن معرفة مقاصد الشارع الحكيم. فالمقصود من كل حكم أن يجلب الأمن والطمأنينة والخير للناس، وأن يدفع عنهم الضرر. وعلى الرغم من أن فقه المقاصد قد مثل خطوةً متقدمة، مقارنًا بالفقه التقليدي، إلا أنه لا يفي تمامًا بمتطلبات تجديد الخطاب الديني لعصرنا الراهن. لكن، مع ذلك، يبقى منهجه أكثر حكمةً وفائدةً من الفقه التقليدي، المنغلق، المنشغل بالمظاهر، المنصرف عن المقاصد الجوهرية.
المنع والعقوبة ليسا أمرين مقصودين لذاتهما، وإنما هما وسيلة لحمل الناس، في مرحلة القصور، على الاستقامة، بالإكراه. أما مقصد الدين في الأصل فهو أن يقوِي الضمير والرادع الداخلي، فيبتعد الفرد طواعيةً عن الأفعال غير اللائقة مستعينًا بالصبر والصلاة. المطلوب هو معرفة الحق والتزامه انطلاقًا من الشعور بالمسؤولية، لا لمجرد الخوف من العقوبة. وما من شكٍّ، أن خوف العقوبة شيءٌ حسن، وهو عتبةٌ في سلم التَّرقِّي، لكنها في أوله. الأكمل من ذلك أن يكون الإنسان مسؤولاً، وأن تنطلق قيمه من داخله، لا من خارجه. فالإكراه في الماضي أولد النفاق. ولا تحدث الاستقامة الصادقة المتنامية دومًا، إلا إذا مُنح الفرد حرية الاختيار. وهذا ما من أجله قال النبي الكريم: " لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم".
يتعلم الناس عبر التأرجح بين الخطأ والصواب، فيرتفعون في مضمار التهذيب. مقصد الشرع الأعلى أن يبني في داخل الفرد ميزان القيم ويشعل في داخله أنوار المعرفة التي تقوي عزيمته لفعل الصواب، وتجعله يندم بشدة حين يخطئ. والناس ليسوا سواسية في هذا: "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"؟ وحديث: "لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم"... إلخ، ليس دعوة إلى المعصية وإنما هو تبصير للناس بطبيعتهم الترابية، وحثهم لتحويلها إلى طبيعة نورانية. لقد عرف السادة المتصوفة نهج الحكمة هذا، فلم ينشغلوا بالمنع المباشر وبالتقريع وبالخطب المجلجلة الفارغة، كما يفعل الفقهاء. انشغل المتصوفة بالتربية فقبلوا الناس على علَّاتهم، وأخذوا يحثونهم على أداء الصلوات، وحضور الأذكار، والمحافظة على الأوراد، وأهم من ذلك، خدمة الناس، وقد انصلح سواد الناس بهذا النهج التربوي. جاء في قصيدة "الهبرو مَلُوا"، في وصف ما أنجزه المتصوفة: "كم وسخانين ليهم غسلوا". وجاء فيها، أيضًا: "جابوا الهمبات حردان جملو". (يتواصل).
|
Post: #113
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-23-2020, 08:41 AM
Parent: #112
الخمور بين القانون والأخلاق (8)
النور حمد
صحيفة التيار 23 يوليو 2020
لقد كان للاستعمارين التركي/المصري، والبريطاني، تأثيرٌ سالبٌ على المزاج الديني المتوارث في السودان، خاصة في البيئات الإسلامية. فقد حارب الخديويون والبريطانيون التصوف ومكَّنا للفقه، الذي ظل عبر التاريخ الإسلامي ذراعًا للسلاطين، يسيطر به الحكام المستبدون على الناس. بسبب تمكين الفقه ابتعد كثيرون من سعة التصوف وأدبه وحكمته، وانجرُّوا إلى ضيق الفقه وشكلانيته المظهرية. في جوهر الدين، لا قيمة للقيد الخارجي إن لم يتحول إلى قيد داخلي ينبع من الذات. "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ"؛ أي، لا تنال رضا اللهِ، القرابينُ ولا الشعائر التي تؤدونها، وإنما تناله ثمرتُها، وهي: "التقوى منكم". لا حكمة في فرض قيودٍ لا يمكن تطبيقها عمليًا. الحكمة هي جعل الناس يقيدون أنفسهم بأنفسهم. وهناك وسائل كثيرة لتحقيق هذا الغرض، سبقتنا إليها أممٌ كثيرة. من هذه الوسائل الترشيد، عبر الخطاب الديني الحكيم، وعبر التعليم العام، وعبر الإعلام، إضافة إلى إنفاذ القانون الدستوري، الذي يعاقب على السكر في المجال العام. تدور في وسائط التواصل الاجتماعي هذه الأيام مقاطع فيديو، يتحدث فيها عن ضرورة ألا تكون الدولة "دينية"، وإنما "مدنية"، كلٌّ من الشيخ يوسف القرضاوي، والداعية طارق سويدان، والرئيس المصري الراحل محمد مرسي، وبعض شيوخ الوهابية السعوديين، أحدهم سلمان العودة. ولقد سبق أن أوردت ما قاله الدكتور حسن الترابي، أنه لا يجوز اقتحام خلوات الناس، لأن هذا يقع في دائرة التجسس والتحسس، وهو أمرٌ منهيٌّ عنه شرعا. كما سبق أن أوردت حديث راشد الغنوشي الذي قال فيه: إن مهمة الدولة تنحصر في تحقيق الأمن وإقامة العدل وتقديم الخدمات، وليس من مهامها أن تراقب: صلَّى الناس أو لم يصلّوا، تحجَّبوا أو لم يتحجَّبوا، سكروا أو لم يسكروا. إلى جانب هذا الميل المتزايد إلى مفهوم الدولة المدنية، من جانب جماعات الإسلام السياسي، بدأت المملكة العربية السعودية تتراجع عن خطها الوهابي الحنبلي المتشدد، الذي انتهجته منذ أن كانت إمارةً صغيرةً في الدرعية، في القرن الثامن عشر، يتقاسم سلطتيها الدنيوية والدينية، الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب. ما قام به نميري في سبتمبر 1983، لم يكن تحكيمًا للشريعة، وإنما مجرد نزوةٍ حاكمٍ مستبدٍ استنفد كل أوراق اللعب التي تبقيه في السلطة، فاتجه إلى استغلال الدين، وقد آزره في ذلك الشيخ حسن الترابي وقبيله. ولربما لا يعلم كثيرٌ من أبناء وبنات الأجيال الجديدة، أن قوانين سبتمبر 1983، والتي سُمِّيت زورًا وبهتانا، "قوانين الشريعة الإسلامية" لم تصدر من هيئة تشريعية، وإنما فُرضت بمراسيم جمهورية. ونميري الذي فرضها رجلٌ لم يُعرف عنه أي اهتمام بالإسلام، طيلة حياته، بل ولا حتى معرفة بأبسط قواعده. فإلغاء قوانين سبتمبر، هو العمل الدستوري في حقيقة الأمر، والذين يتباكون كذبًا على ضياع الشريعة، يعلمون أن الشريعة بالمفهوم الذي يعتنقونه، غير قابلة للتطبيق. الدليل، أنهم بقوا في الحكم لثلاثين سنة، وهي مدةٌ أطول من مدة البعثة المحمدية المشرفة، التي لم تتجاوز 23 عامًا، ومع ذلك، لم يطبقوا منها شيئا. بل، عملوا كل ما هو نقيضٌ لها. لقد ولَّى إلى غير رجعة، زمان الصراخ والعواء لفرض مظهرٍ كاذبٍ للدين، وجاء وقت جعل الدين قيمًا حقيقية تعاش. وطريق هذه النقلة البرادايمية، هو الاقناع والاقتناع، والتربية الخلقية. (يتواصل)
|
Post: #114
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-24-2020, 05:32 AM
Parent: #113
الخمور بين القانون والأخلاق (9)
النور حمد
صحيفة التيار 24 يوليو 2020
من الخطأ الشنيع ألا نسترشد في تشريعاتنا بتجارب الغير، وأن نظن أننا محقون في كل شيء وغيرنا من أهل الملل الأخرى، مبطلون في كل شيء. فكل الدول، بغض النظر عن أديانها، حريصةٌ على أمن الناس، وعلى صحتهم البدنية والعقلية. يظن كثيرٌ منا أن الغربيين لا يسائلون من يسيئون التصرف بسبب الخمر، وهذا غير صحيح. الفرق بين الدول الإسلامية القليلة التي تتسم بالتشدد وبينهم، أن الغربيين علمتهم التجربة أن يهتموا بالجانب العملي في الإخلال بالأمن العام. فأصبحوا لا يطاردون مواطنيهم فيما وراء نطاق المجال العام. فإذا رأى الشرطي شخصًا يترنح في الشارع؛ فإنه يوقفه ويبعده عن المجال العام. وإذا شك في أن أحدًا يقود سيارته تحت تأثير الكحول، فإنه يوقفه في الحال ويعرضه لجهاز تحديد نسبة الكحول في الدم. فإذا تجاوزت الحد المسموح به، ينزله الشرطي من السيارة، ويأخذ منه مفتاحها. وسوف يتعرض لعقوبة قد تصل إلى السجن، وربما يجري سحب رخصة القيادة منه لمدة يحددها القاضي. أيضًا لا يُسمح لأي فرد عمره أقل من 21 عامًا بشراء مشروبات كحولية. وأي خصٍ توجد في سيارته قارورة خمر مفتوحة يتعرض لعقوبة قاسية جدا. وتسير أكثر من 80% من الدول الإسلامية المعاصرة على هذا النهج، مع الفارق أن الدول الغربية لها قدرة أكبر على إحكام الرقابة على المجال العام، وعلى إنفاذ القانون.
أوردت صحيفة "وولستريت جورنال" في 17 يناير 2019 أن استهلال المواد الكحولية، في الولايات المتحدة الأمريكية، يتراجع. وأوردت قناة بي بي سي في 15 فبراير 2011 أن استهلاك الكحول في بريطانيا استمر يتناقص، عامًا بعد عام، منذ 2002. هذا التراجع ليس بسبب المنع، وإنما بسبب التوعية والتحسن الطوعي في السلوك. فالمجتمعات هي التي تعلم أفرادها وتهذبهم وليس السلطات. أصبح الغربيون يستهجنون السكر بشدة، رغم أن المشروبات الكحولية متاحة. فالشخص الذي يشرب حتى يسكر في أي مناسبة اجتماعية، يُنظر إليه باحتقار، وقد يُعزل اجتماعيا. فالسلطة الاجتماعية، لها تأثير على تحسين سلوك الأفراد يتجاوز تأثير المنع القانوني. تغيير السلوك بسبب نظرة المجتمع يجري عن قناعة، وعن رغبة وحرص على رضا المجتمع، وقبوله.
لقد انشغلت كل الأمم بالآثار الضارة لاستهلاك الكحول، فجربت الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين، المنع الكامل للمشروبات الكحولية. في عام 1926 قدم أندرو فوروسيث شهادة أمام الكونغرس الأمريكي، ملخصها أنه راقب منطقة بعينها في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون، قبل المنع مباشرة. فرأى أفرادًا في أسوأ صورة يمكن أن يرى بها المرء إنسانًا، بسبب إدمانهم الكحول. وبعد المنع رأى تحسنًا كبيرًا في أحوال الناس في تلك المنطقة. ثم عاد بعد عامين ليرى كيف استمر الحال، فوجد الناس على صورة أسوأ مما كانوا عليها قبل المنع، لأنهم انخرطوا في شرب الخمور غير القانونية، بالغة الرداءة. كما زاد المنع من انتشار الجريمة المنظمة، المرتبطة بالتجارة غير القانونية في الكحول، فتراجع الأمريكيون في عام 1933 عن المنع العام. أيضًا أكد المركز الأمريكي للوقاية والتحكم في الأمراض أن التدخين قد تراجع في عام 2016 بنسبة 14%، رغم أنه لا يوجد قيد مطلق على التدخين. كل ما في الأمر أن الأفراد ارتقوا في وعيهم، وأصبح المجتمع يضيق بالتدخين. فالوعي هو الذي يأتي بالنتائج، وليس المنع. (يتواصل)
|
Post: #115
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-26-2020, 06:05 AM
Parent: #114
الخمور بين القانون والأخلاق (10)
النور حمد
صحيفة التيار 26 يوليو 2020
لا يصح في عصرنا الراهن أن تُصدر دولة ما تشريعين مختلفين لمواطنيها مبنيين على أساس الدين. هذا منزلقٌ أدخلتنا فيه قوانين سبتمبر الشوهاء، التي جبُن مشرعونا عن إلغائها خوفًا من بعض المتشددين الجهلاء، الذين يهتمون بالمظهر الخارجي الكاذب ويتعامون عن حقائق الواقع وجوهر مقاصد الدين. لقد سبق أن ذكرنا، أن المنع الذي جرى في سبتمبر 1983 لم يغير شيئا. فالخمور البلدية ازدهرت صناعتها، وأصبحت منتشرة في مكان. وأصبحت لها شبكات اتجار سرية، بالغة الضخامة. وهي بالإضافة إلى أن تصنيعها لا تحكمه معايير علمية تحدد نسبة الكحول، فقد دخلت في صناعتها المواد الكيميائية الضارة. من يهللون للمنع يتجاهلون المضار الصحية للخمور البلدية، ويتعامون عن عالمها السري، بالغ الضخامة. بعضنا يرضون بغش أنفسهم أن الخمر ممنوعة. يهتمون بمنعها مظهريًا، ويتجاهلون حقيقة أن تعاطيها قائمٌ بل ومتفاقم، وأن أضرارها أصبحت أفدح من أي وقت مضى.
لقد حرم الإسلام السكر وأوقع عليه العقوبة، كما جاء فيما أوردناه عن الخليفة عمر، رضي الله عنه، وعن ذلك الشخص الذي سكر واحتج بأنه شرب من نفس القِرْبة التي يشرب منها عمر. فرد عليه عمر: "إنما أضربك على السكر". تجريم السكر وإنفاذ العقوبة عليه، هو الذي يجعل المسلم وغير المسلم سواء أمام القانون. يضاف إلى ذلك أن السماح لغير المسلمين باستيراد الكحول وصناعتها يخلق إشكالات عملية كثيرة. فلنفرض، مثلاً، أن شخصًا غير مسلم يصنع الكحول في منزله، أو أنه يستوردها، لكنه تعدى حدود السماح له، وشرع في بيعها لغير المسلمين، فهل يملك القانون طريقةً عمليةً فعالةً للسيطرة على ذلك؟ وإذا جرى القبض على مسلمٍ يتناول الكحول، لكنه لكي يتجنب العقوبة ادعى أنه غير مسلم، فماذا سيصنع القانون معه؟ خاصةً أن قانون الردة قد أُلغي. وأنا هنا لا أتباكى على إلغاء قانون الردة، فإلغاؤه إجراءٌ صحيح؛ دينًا وعقلاً، مأ أريد أن أقوله هو أن القضاء سيجد نفسه عاجزًا عن فعل أي شيء لشخصٍ كهذا. ولا ينبغي أن نستبعد ظهور أشخاص من هذا النوع، فهم موجودون الآن، ويتزايدون. وجود قانونين للمواطنين يحوِّل التقاضي إلى مهزلة ويجعل من القانون أضحوكة.
الدولة الراشدة هي التي تطلب من جميع مواطنيها، بغض النظر عن دينهم، أو ثقافتهم مستوى محددًا من السلوك المنضبط في المجال العام. بعبارة أخرى، ينبغي أن يكون السكر جريمةً بالنسبة للمسيحي والوثني واللاديني والمسلم، سواءً بسواء. فتطبيق القانون وتثبيت فعاليته هي جزء من القانون، وهو ما يسمى law enforcement. فالقانون الذي يتعذر تطبيقه عمليًا ليس سوى حبر على ورق. وما دامت سلطات القانون لا تستطيع شرعًا دخول بيوت الناس، فإن منع الشرب يصبح بلا معنى. حين يكون القانون موحدًا تستطيع الدولة أن تبني منظومة قيم موحدة، تشمل جميع مواطنيها بلا استثناء. فالدولة لا دخل لها فيما بين الفرد وربه، ولا ينبغي، إطلاقًا أن نخلط ما بين الفرد وربه وما بين الفرد والمجتمع. أعتقد أننا بسبب حرصنا على التدين المظهري الكاذب، ندخل أنفسنا وديننا في جحرٍ ضيق. نحن بحاجة إلى أن نفهم الإسلام على نحو أفضل، وأن نشرِّع لعصرنا بعقلانية، وأن نوائم بين مقاصد الدين وواقع حياتنا، وأن نسترشد بالمفيد من تجارب الشعوب. (غدًا المقال الأخير من هذه السلسلة)
|
Post: #116
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-27-2020, 08:21 AM
Parent: #115
الخمور بين القانون والأخلاق (11)
النور حمد
صحيفة التيار 27 يوليو 2020
هذه هي خاتمة هذه السلسلة وأود أن أعرض فيها خلاصاتٍ لمجمل المفاهيم الأساسية التي هدفت إلى تبيانها. أولها هناك ضرورة لتجديد الخطاب الديني، إذ لا فرصة للمجتمعات الإسلامية لكي تتطور بدونه. فهي مجتمعات جمَّدها الفقه المدرسي وأمات حيويتها وقدرتها على صنع حياة مزدهرة، آمنة، مستقرة. لقد ظن طلائع مثقفي ما بعد الحقبة الاستعمارية أن الدين مجرد خرافة تعيش أيامها الأخيرة، وسوف تنقرض تلقائيًا بفعل الزمن، وهم ليسوا بحاجة لأن يبذلوا جهدًا في إماتتها. لكن، وضح من التجربة العملية أن هذا غير صحيح، فعدد من كبار المفكرين يرون أن التاريخ دورات متعاقبة، يتبادل فيها الدين واللادين إدارة الحياة في دوراتٍ متعاقبة.
بسبب فتونهم بالنموذج الغربي، أخلى المثقفون المسلمون الساحة لرجال الفقه المدرسي الذين ساعدوا كل ديكتاتور في كبت حرية الفكر، وتحويل الناس إلى قطيع مطيع، لينام الديكتاتور مطمئنًا على كرسيه، وينالوا هم رضاءه وأعطياته. فالدعوة لتطبيق قوانين الشريعة ليست دعوة لبعث روح الدين في المجتمع، وإنما هي مجرد حيلة لتكريس الاستبداد والاسترزاق من وراء ذلك. ولقد رأينا عمليًا نتيجة ما قام به كل من جعفر نميري والدكتور حسن الترابي، اللذيْن أضاعا علينا ستة وأربعين عامًا، لم نر فيها سوى تشويه الدين ووأد الثقافة والتراجع الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والعزلة الدولية.
الأخلاق لا تتحقق بالقانون وإنما بالتربية فالدين إنما جاء أصلاً لإيقاظ الضمائر وجعل الواعز الأخلاقي نابعًا من الداخل، وليس مفروضًا من الخارج. لكن لا يعني هذا أن القانون لا دور له. فللقانون دور كبير، لكن، بشرط أن يكون قانونًا دستوريا. فالأصل هو: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". و "من شاء" هنا تعني مطلق بشر، وليس غير المسلم. ولذلك، لا مسوغ إطلاقًا لمنع الناس من شرب الخمر بالقانون، فهو عمل غير دستوري. الذي ينبغي أن يمنع منعًا باتًا وتجري العقوبة عليه، هو السكر في المجال العام. فالمرء حرٌّ في نفسه ومسؤول مسؤولية فردية أمام ربه، في كل ما يأتي وما يدع. لكنه ليس حرًا في التعدي على المجال العام وتعكير صفوه، ووضع الآخرين في موضع الخطر، أيًا كان نوعه.
قوانين سبتمبر ليست قوانين إسلامية، بل هي قوانين استبدادية قُصد منها تكريس حكم الفرد وقهر الناس وتجميد وعيهم. وما كان ينبغي أن يكون هناك تردُّدٌ في شطبها، جملةً واحدة. لذلك، فإن ما جرى مؤخرًا من سماحٍ للمسيحيين بتناول الخمور، ومنعٍ للمسلمين من تناولها وتجريمهم عليه، عملٌ خاطئٌ لا تسنده فلسفة القانون ولا فلسفة الدستور ولا قواعد الحقوق الأساسية. لا يصح أن يكون في الدولة الواحدة قانونان للجنايات مبنيان على اختلاف العقيدة. لقد منح استثناء غير المسلمين من قانون الخمر قوانين سبتمبر الشوهاء عمرًا جديدا. ولسوف يخلق بلبلةً وربكةً عمليةً في التطبيق، كما سيخلق سوقًا سرية للخمور ويفاقم من الجريمة المنظمة المرتبطة بها.
لن تنهض أي بلاد تعزل نفسها عن العالم وتخلق عوائقًا أمام التقارب القانوني الكوكبي بالإصرار على مصادرة الحرية الشخصية، التي لا تغوُّل فيها على حريات الآخرين. لماذا لا ننظر إلى تجارب الدول الإسلامية مثال: إندونيسيا، وتركيا، ومصر والمغرب وغيرها، ونبتعد عن التشدد المجافي لروح الدين، وعن الانشغال بالتدين المظهري؟ لماذا يعتقد هؤلاء الذين أدخلونا في هذا الجحر الخَرِب، أنهم خلفاء الله على أرضه؟
|
Post: #117
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-28-2020, 07:49 AM
Parent: #116
إمبراطوريات الورق وسياستنا الخارجية (1 من 2)
النور حمد
صحيفة التيار 28 يوليو 2020
تنشط في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي حاليًا ثلاثة نماذج لأنشطة إمبراطورية توسعية. النموذج الأول هو النموذج الإيراني. والثاني هو النموذج السعودي الإماراتي، الذي تتحكم في أغلبه الأجندة الإماراتية. أما النموذج الثالث فيمثله التحالف التركي القطري الداعم لحركات الإسلام السياسي في المنطقة. تقف هذه القوى الثلاث وراء كل الحرائق والاضطرابات الجارية الآن في منطقة الشرق الأوسط. أصبحت إيران عقب الغزو الأمريكي، فاعلةً بقوة في العراق وامتد نشاطها فشمل سوريا، وصولاً إلى لبنان حيث يتحكم حزب الله. كما دخلت، أيضًا، منطقة جنوب البحر الأحمر، مستقطبةً الحوثيين، الذين خلقت منهم قوة رئيسية أضحت شوكةً في خاصرة المملكة العربية السعودية. وتسيطر على العناوين العريضة للأنباء، هذه الأيام، حرب الوكالة الدائرة في ليبيا بين المحور الإماراتي السعودي المصري، الداعم لقوات خليفة حفتر في شرق ليبيا، والمحور التركي القطري الداعم لحكومة السراج في غرب ليبيا. وتنخرط كل من روسيا وفرنسا فيما يجري هناك. ولا يقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بمبعدة من هذا الصراع.
ظهرت هذه النزعة الإمبراطورية في منطقتنا بعد نصف قرن ويزيد من أفول شمس الإمبراطوريات الكبرى. وقد وقفت وراء هذه الأحلام الإمبراطورية ثلاث نزعات: نزعةٌ أيديولوجيةٌ شيعيةٌ، تدفع بإيران إلى تمديد نفوذها، ونزعةٌ سنيةٌ، إخوانيةٌ، تدفع كلاً من تركيا وقطر في لتمديد النفوذ في المنطقة. ثم نزعة ثالثة، تسببت فيها التخمة المالية في دول النفط، تلازمت مع ضمورٍ في الخيال السياسي النهضوي التنموي، وعجزٍ عن استخدام القوة الناعمة، فكان الاعتماد في تمديد النفوذ على القوة الخشنة. ويبدو أن الاعتقاد في أن المال يمكن أن يفعل كل شيء هو ما يقف وراء الفعل السياسي الإماراتي والسعودي والقطري، على مستوي الإقليم. اتجهت الإمارات إلى صناعة جيش من المرتزقة، وظفته لنشر نفوذها في الإقليم وهي تبحث عن الأرض والموانئ فيما حول البحر الأحمر وخليج عدن. وجرَّت الإمارات معها المملكة العربية السعودية، التي انخرطت معها، لكن بحماس أقل. وتفعل كلٌّ من تركيا وقطر نفس الشيء في ليبيا وفي الشام. وقد امتد هذا النشاط إلى الصومال، وسقطرى، إضافةً إلى محاولات، كلا الحلفين من خلف الستار، للتحكم في المشهد السياسي السوداني عقب الثورة. ولو أن الإمارات والسعودية وقطر استخدمت المال والنفوذ السياسي في أقنية القوة الناعمة، لكسبت كثيرًا، ولحدثت في المنطقة نهضةٌ علمية واقتصاديةٌ واجتماعيةٌ شاملة. لكن اختارت هذه الدول الغنية درب القوة الخشنة، التي سوف تفشل في تحقيق أهدافها، بعد أن يحل بالمنطقة مزيدٌ من الدمار والتراجع.
تواجه الولايات المتحدة التي تمثل الإمبراطورية الأكبر في العالم اليوم، صعوباتٍ جمة في رسم الخرائط الجيوسياسية عن طريق القوة الخشنة، فأصبحت توكل هذا الدور إلى من تشعر أن لديهم أحلامًا إمبراطورية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ولسوف لن تفلح هذه الأحلام الإمبراطورية، إلا في تحقيق خطة الشرق الأوسط الكبير، في التشظية، التي تحدثت عنها كوندوليزا رايس قبل أكثر من عقد من الزمان. وسيذهب المال إلى الجيب الغربي والشرقي الذي يصنع السلاح. ستتفكك دول المنطقة وتتراجع جميع أحوالها، وسيكون الرابح والضاحك الأخير، هو الصهيونية العالمية والهيمنة الغربية. والعلة، كل العلة، في هذا العقل العربي، الذي يأبى أن يشب عن الطوق. لكن، لدينا نحن في السودان، الآن، فرصة ذهبية للانفلات من هذا المدار المدمر. (يتواصل)
|
Post: #118
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-29-2020, 06:54 AM
Parent: #117
إمبراطوريات الورق وسياستنا الخارجية
(2 من 2)
النور حمد
صحيفة التيار 29 يوليو 2020
بسبب من التعليم المصري، الإلحاقي، الاستتباعي، الذي جرى تعليم السودانيين وفقه منذ عهد محمد علي باشا واسماعيل باشا، مرورً بالملك فؤاد والملك فاروق، استبطنت طلائع المتعلمين السودانيين مقاصد الخطة المصرية المحكمة لإلحاق السودان بمصر، وتحويله الى هامش ثانوي ملحق بها وبعموم المشرق العربي. مناهج اللغة العربية والتربية الإسلامية والتاريخ الإسلامي التي جرى تدريسها للسودانيين لم تكن لتخرج سوى متعلِّمٍ مُمَصْرنِ الوعي. تحت تأثير الاحتلال العقلي والوجداني أصبح طلائع المتعلمين السودانيين يعون المصالح الوطنية المصرية، ويعملون لخدمتها، بأكثر مما يعون ويخدمون المصالح الوطنية للسودان. وعلى سبيل المثال، ضحت حكومة عبود بالأرض وبآثارنا التاريخية وبملايين من أشجار النخيل، ورضيت أن يجري إغراق ثغرها الشمالي (مدينة وادي حلفا) ومعها عشرات القرى، خدمة لنهضة مصر. أجبرت حكومتنا أهالي حلفا على الهجرة إلى وسط السودان لتخزن مصر مياهها في أراضينا. وعمومًا، قاد الانسحاق أمام المصريين والانجرار وراء سياساتهم وخياراتهم إلى أن ينخرط السودان في كل حروب الشرق الأوسط، التي لا ناقة له فيها ولا جمل. ومؤخرًا، بلغ بنا انمحاق الكرامة الوطنية، حدَّ إرسال مرتزقة ليحاربوا في اليمن خدمة لأجندة غيرنا.
في الأسبوعين الماضيين قدمت لنا إثيوبيا درسًا بليغًا في العزة والكرامة الوطنية. فرغم تعثر مفاوضات سد النهضة وتصاعد الأزمة، واصلت إثيوبيا تنفيذ ما تريد وفقا لجدولها المرسوم. آمنت إثيوبيا بحقها في استغلال مياه النيل الأزرق لإنتاج الكهرباء، ومضت في هذا السبيل، ولم تغير في خطتها، شيئا. والآن، لم تعد المفاوضات بالنسبة لها سوى تقديم بعض التطمينات في بعض الأمورٍ الفنية التشغيلية، التي تحفظ ماء وجه مصر، ولا تمس شيئًا من خطتها الأصلية. أما نحن، الذين احتلت منا مصر إقليم حلايب، واحتلت منا إثيوبيا منطقة الفشقة، فإننا لم نستخدم، في كلتا الحالتين، أيًا من هاتين الورقتين للضغط على مصر أو على إثيوبيا. ويبدو أن سكوت حكوماتنا عن ضم حلايب قد جعل ضم إثيوبيا لمنطقة الفشقة في وعينا أمرًا عاديا.
لم يطمع أي محور عربي، أو غير عربي، في إخضاع إثيوبيا أو جعلها تحيد عن أجندتها الوطنية؛ لا بالترغيب ولا بالترهيب. ومع ذلك بقي العرب، وغير العرب، يخطبون ود إثيوبيا. ويستثمرون فيها بنفس القدر الذي يستثمرون به في بلادنا، بل وأكثر. مع فارق كبير في شروط الاستثمار التي تحرص الحكومات الإثيوبية على أن تكون خادمة لمصلحة بلادها. فنحن نحط من قدر أنفسنا وقدر بلادنا، بصورة جعلت المحاور العربية لا تتوقف عن حشر أنفها في شؤوننا. والآن، فقد وضعت ثورة ديسمبر المجيدة السودان في موقع جديد. وقد حدث شيء من التحسن في سياستنا الخارجية، لكنه لا يزال دون المطلوب بكثير.
خلاصة القول: لكي تنهض بلادنا، لا مناص لنا من تحرير عقولنا من تأثيرات الاستتباع، ومن وضع أجندتنا الوطنية في موقع الأولوية التي لا تعلو عليها أولوية أخرى. نحن بلدٌ غني ماديًا وروحيًا وبشريا ويميزنا نزوعٌ قويٌّ نحو الديموقراطية. هذه ميزات تدفع الأنظمة الشمولية إلى محاولة تكبيلنا وتعويق نهوضنا. باختصار نحن بحاجة إلى وعي هويَّوي جديد، ومنظور جيواستراتيجي وجيوسياسي جديد أيضا. لقد جعلنا الإلحاق والاستتباع نتراجع عن دورنا المحوري في منطقة القرن الإفريقي، وهو دور كنا الأكثر تأهيلاً له. أخليناه، فاحتلته إثيوبيا. غير أن استرجاعه ممكن، إذا حررنا عقولنا من الاحتلال ووعينا إلى إي مدى نحن مستتبعين.
|
Post: #119
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-30-2020, 07:45 AM
Parent: #118
السيولة الأمنية والإعلامية
النور حمد
صحيفة التيار 30 يوليو 2020
نشرتُ قبل اسبوعين تقريبًا عمودًا عن السيولة الأمنية التي تعيشها البلاد. وكان ذلك بسبب اعتصام نيرتتي واحتجاجهم بسبب فقدانهم الأمن الشخصي. ولم تمض أسبوعان حتى فُجعت البلاد بمذبحة بلدة مستري البشعة، التي راح ضحيتها أكثر من ستين قتيلاً وخمسين جريحا. جاء في الأنباء أن المذبحة استمرت لتسع ساعات كاملة. وإذا علمنا أن بلدة مستري لا تبعد أكثر من 40 كيلو متر جنوبي مدينة الجنينية، فإن عددًا من الأسئلة يطرح نفسه بصورة تلقائية. بل إن طابع الأسئلة التي تنشأ سيكون الاستغراب الممزوج بالاستنكار. من هذه الأسئلة، على سبيل المثال: كيف تستمر مذبحةٌ لتسع ساعات في بلدة لا تبعد من مدينة الجنينة 40 كيلومترا، ثم لا تصل إليها نجدة طيلة هذه الساعات التسع؟ فالسيارة تقطع مسافة الـ 40 كيلومتر في نصف ساعة، في حالة الطريق المعبد، وفي ساعة، أو يزيد قليلاً، في حالة الطريق غير المعبد. فكيف يموت أكثر من ستين شخصًا ويُجرح أكثر من خمسين على مدى تسع ساعات ثم لا يكون هناك وجود للسلطات والقوات النظامية، ولو في وقتٍ متأخر؟ أتوقع مع انتشار الهواتف النقالة أن يكون واحدًا أو أكثر من واحد من سكان هذه البلدة المكلومة قد أخبر السلطات في الجنينة. يريد الرأي العام أن يعرف ما جرى بالضبط، ولا أحد يقول ما الذي جرى بالضبط.
في مثل هذه الأحوال ينبغي أن يخرج رئيس الوزراء ووزير الداخلية على الناس ويملكوا الشعب الحقائق المتوفرة، أولاً بأول. كما ينبغي أن يضطلع الإعلام بدوره في محاصرة المسؤولين المحليين والمركزيين واستنطاقهم عما جري، أو ما لا زال يجري. لكنَّ شيئا من هذا لم يحدث. لقد اطلعنا على الأنباء، أول ما اطلعنا عليها، من بيان أطباء غرب دارفور الذي نشروه على فيسبوك، وليس من أي جهة حكومية. فقد أوردوا القصة ومعها قائمة كاملة بأسماء القتلى والجرحى. أما تلفزيون السودان فقد أورد الخبر متأخرًا جدًا وأذاعه وكأن المذبحة قد جرت في بلد آخر. لم يجر التلفزيون مع الخبر أي اتصالات بالميدان. كان من واجب التلفزيون القومي أن يتصل بالمسؤولين في الجنينة، وبوجوه القوم من بلدة مستري، وبمسؤولي الحكومة المركزية ليحدثوا الناس عن حقيقة ما جرى، وما هي أسبابه؟ أيضًا من الأسئلة التي تطرح نفسها، لماذا لم تتوقع الأجهزة الأمنية ما جرى؟ أليس من واجب الأجهزة الأمنية جمع المعلومات لتقديم إنذار مبكر عن الخطر الأمني؟ وإذا كانت لا تفعل ذلك فما هي فائدتها؟
لا نتوقع أن يُشفى الإعلام من أمراض أعوام الإنقاذ الثلاثين الكالحة، في عام واحد. لكن يبقى من الضروري التنبيه الى تغيير المفهوم الذي يجعل من الإعلام خادمًا للحكومة. في النظام الشمولي تستدعي الحكومة الإعلام لتعطيه نسختها للأحداث، وتأمره بإذاعتها في الناس. هذا في حين أن دور الإعلام الحقيقي هو أن يكون مبادرًا وخادمًا للحقيقة، لا للحكومة. وبخدمة ةالحقيقة يخدم الإعلام الشعب. فلنجعل من حادثة مستري منعطفًا لفعل حكومي ديموقراطي مسؤول. وعلامة ذلك أن تخرج السلطات على الناس مع بداية كل حدث لتكشف للناس ما جرى أو ما يجري. وأيضًا، لابد من نهج إعلامي مهني جديد، تحرر القائمون عليه من العبودية للحكومة، ومن عادة تَسَقُّط ماذا تريد الحكومة أن تقول ليجري ترديده والاكتفاء به.
|
Post: #120
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 07-30-2020, 11:45 PM
Parent: #119
السياحة المورد المُهْمَل (1)
النور حمد
صحيفة التيار 31 يوليو 2020
من علامات الجهل بقدر السياحة الاقتصادي والتنموي والثقافي والدبلوماسي، جعلها جزءًا من وزارة، تضم أقسامًا أخرى غيرها، تجد عناية أكبر منها. لقد ظلت الحكومات الوطنية المتعاقبة، منذ الاستقلال، وإلى اليوم، قليلة الاهتمام بالسياحة. رغم أن السياحة موردٌ اقتصاديٌّ لا يقل قيمة عن أي موردٍ اقتصادي آخرٍ، ظلت البلاد تعول على إيراداته بصورة رئيسة. وجميعنا يعلم ما تدره السياحة على مصر في الظروف الطبيعية، كل عام. تتفوق السياحة على بقية الموارد بميزة أن الاستثمار فيها قليل الكلفة، وعوائده بالغة الضخامة. ويتميز السودان بالكثير من عوامل الجذب السياحي وعلى رأسها آثار حضارة مروي حوالي شندي، وآثار حضارة نبتة، في منطقة البركل، وآثار حضارة كرمة في منطقة الدفوفة شمالي دنقلا وفي غير هذه المواقع، مما له صلة بالتاريخ الكوشي القديم. يضاف إلى ذلك المتاحف الموجودة في تلك المواقع الأثرية وفي متحف السودان القومي في الخرطوم.
غطت على هذا التاريخ السوداني العظيم عدة عوامل. من أهمها: إلحاق علماء المصريات الغربيين حضارة كوش بالحضارة المصرية، وعدِّها امتدادًا ثانويًا لها. وهذا أمرٌ جرت مراجعته مؤخرًا، وثبت أن حضارة السودان مستقلةٌ عن الحضارة المصرية، بل وسابقةٌ لها. أما العامل الثاني فهو تبني المصريين لوجهة النظر الغربية الخاطئة هذه، فهي تفيد خطتهم في استتباع السودان وإلحاقه بالقطر المصري. وتجعل، من ثم، الآثار المصرية هي الأصل ومصر هي نقطة الجذب السياحي الأساس، الأمر الذي يُبقى التاريخ الكوشي السوداني في الظل، بحيث لا يمثل أكثر من فرعٍ ثانويٍّ قليل الأهمية. والعامل الثالث الذي عوَّق صناعة السياحة في بلدنا، هو جهلنا بتاريخنا، وانصرافنا عنه إلى التاريخ العربي الإسلامي، وعدَّه التاريخ الوحيد للشعوب السودانية. هذا، في حين أن التاريخ الإسلامي السوداني لا يمثل سوى رافدٍ واحدٍ من عدة روافد، ولا يتعدى عمقه الزمني الخمسة قرون. رغم أهمية التاريخ الكوشي وغناه وكثرة آثاره المنتشرة في السودان، فإنه لا يمثل سوى عاملٍ واحدٍ من عوامل الجذب السياحي. فالسودان قطرٌ بحجم قارة، حتى بعد أن فقد الجنوب. يتمتع السودان بتنوع مناخيٍّ وطبوغرافي وثقافي يجعل السياحة عديدة الصور. وعلى سبيل المثال، للسودان ساحلٌ على البحر الأحمر يصل طوله إلى 750 كيلومترًا، وتعد مياهه من أصفى المياه وأجملها لونًا، وهو من أنسب الأمكنة لممارسة هواية الغطس. أيضًا يمتاز هذا الساحل بحياة بحرية مدهشة. وللسودان، إلى جانب ذلك، صحراء شاسعة يمكن أن تكون مصدرًا لجذب السياحة الصحراوية التي لها هواة في كل بقاع العالم وكذلك لمنافسات راليات السيارات الصحراوية. أيضًا يتمتع السودان بفصل شتاء جاف مشمس هادئ الرياح، يصلح لرياضة المناطيد الحرارية. وهناك أيضًا محمية الدندر بغاباتها وحياتها البرية وجبل مرة وجبال النوبة. وكل هذه المناطق ذات طبيعة ساحرة ولقبائلها تراث غني بالطقوس وفنون الرقص والمصارعة والأعمال اليدوية. وعمومًا يمكن أن يكون موسم الخريف في عديد بقاع السودان نقطة جذب سياحية كبيرة. وليتنا درسنا تجربة مهرجان الخريف في صلالة في سلطنة عمان الذي أصبح جاذبًا لكل موطني دول الخليج وأسرهم. ما نحتاجه هو بنية تحتية جيدة، وقدرات ترويجية فعالة، ومكافحة الانغلاق والتشدد الديني، ونشر الوعي السياحي والمسلك المتمدين وسط الجمهور. (يتواصل)
|
Post: #121
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-01-2020, 04:45 AM
Parent: #120
السياحة المورد المهمل (2)
النور حمد
صحيفة التيار 1 أغسطس 2020
لكي نتصور ازدهار السياحة في الاقتصادات المتقدمة والمتوسطة التقدم، ربما احتجنا أن نلقي نظرة على بعض الأرقام. ودعونا نأخذ بعض الأمثلة القليلة من الدول الصناعية، حيث تتربع فرنسا على عرش السياحة في العالم بعدد سياح سنوي يبلغ 91 مليون سائح تقريبا، بعائد سنوي يبلغ 54 بليون دولار تقريبا. تليها الولايات المتحدة بعدد 76 مليون بعائد يبلغ 206 بليون. ثم إسبانيا بعدد 75 مليون سائح، بعائد 60 بليون دولار. ثم الصين بعدد 59 مليون سائح بعائد يبلغ 44 بليون دولار. ولا يتفاوت العائد بين دولة وأخرى بناءً على كثرة عدد السياح وإنما بمقدار ما يصرفه الفرد الزائر. ففرنسا يزورها91 مليون سائح، بعوائد سنوية تبلغ 54 بليون دولار، في حين يزور الولايات المتحدة 76 مليون سائح، ولكن بعائد يبلغ 206 بليون دولار.
ولنأخذ أمثلة أخرى من الدول ذات الاقتصادات المتوسطة. فتركيا يبلغ عدد زوراها السنويين، 30 مليونا، بعائد سنوي يبلغ 18 بليون دولار. أما تايلاند، فيبلغ عدد زوراها 32 مليونا بعائد يقدر بـ 48 بليون دولار. ويبلغ عدد زوار ماليزيا 26 مليونا بعائد يقدر بـ 18 بليون دولار. وتأتي دول الشرق الأوسط وإفريقيا في أسفل قائمة القارات التي يزورها السياح. والدولة الأكثر استقبالاً للسياح في المنطقة العربية وتعد استثناء هي الإمارات العربية المتحدة، بعدد سياح يبلغ 14 مليون، بعائد سنوي يصل إلى 19 بليون دولار. ثم المغرب بعدد 10 مليون سائح بعائد سنوي يبلغ 6 بليون دولار. وتونس 5 مليون سائح بعائد سنوي يبلغ 1 بليون دولار. ومصر 5 مليون سائح بعائد سنوي يبلغ 2 بليون دولار. أما السودان فيأتي في المرتبة 130 عالميا من حيث عدد السياح، إذ يبلغ عدد من يزورونه 800 ألف سائح، بعائد بليون دولار. (راجع موقع: worldpopulationreview.com).
يعد مورد السياحة في السودان، من حيث الإمكانات موردٌ ثرٌّ، لكنه مهمل. فبعض الأقطار التي تجني عشرات البلايين من الدولارات سنويًا من مورد السياحة، أقل في المقومات السياحية الطبيعية والتاريخية، والتنوع البيئي والثقافي، من السودان، لكنها تتفوق على السودان في البنية التحتية للسياحة، وفي سهولة الاجراءات وفي القدرة على الترويج للسياحة وفي الاندماج في المجتمع الدولي. وكذلك، في قبول السياح على ما هم عليه، دون أي مضايقات تضطرهم إلى تغيير أسلوب حياتهم الذي اعتادوه. كان من الممكن للسودان أن يتفوق على كل من الإمارات والمغرب وتونس ومصر، في الجذب السياحي، لولا الأخطاء السياسية الفادحة. من هذه الأخطاء السياسية الفادحة صدور قوانين سبتمبر عام 1983 في عهد الرئيس الراحل، المخلوع، جعفر نميري. كانت تلك هي اللحظة التي فقد فيها السودان الزوار الأجانب الذين كانوا يقصدونه للسياحة. أما الضربة التي قصمت ظهر مورد السياحة، غير المُطَّور أصلاً، فقد كانت من حكومة الانقاذ، التي أدخلت البلاد في قائمة الدول الراعية للإرهاب. وجعلت من البلاد مزارًا ومقامًا للجماعات الدينية المتطرفة من سائر أنحاء العالم الإسلامي. تسببت العزلة والحروب الأهلية التي انتشرت في سائر أطراف البلاد في جعل السودان دولة مضطربة غير آمنة. كما أن المسؤولين الإنقاذيين المتشرِّبين تزمت الفكر الإخواني التقليدي، أظهروا عداءً للغرب وللغربيين، بل وللحداثة برمتها، فخرج السودان، أو كاد، من دائرة الجذب السياحي. (يتواصل)
|
Post: #122
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-02-2020, 02:17 AM
Parent: #121
السياحة المورد المهمل (3)
النور حمد
صحيفة التيار 2 أغسطس 2020
تخدم البنية التحية المتطورة للدولة السياحة بصورة تلقائية. لكن ربما تضطر الدولة في بعض الأوضاع أن ترفد ما هو قائمٌ من بنية تحتية، بالقيام ببعض الإضافات التي يحتاجها قطاع السياحة على وجه الخصوص، مثال: إيصال الطرق المعبدة إلى المواقع السياحية المهمة. وعمومًا فإن البنية التحتية المتعلقة بالمواصلات داخل السودان لا تزال متخلفة جدا. وقد لا يدانيها في التخلف سوى بنيات أقطار قليلة في إفريقيا جنوب الصحراء. وبما أن السودان بلدٌ شاسعٌ فإن تخلف بنياته التحتية في جانب المواصلات، يصبح أكثر فداحة. لم تستثمر حكوماتنا الوطنية المتعاقبة في قطاع الطرق السريعة استثمارًا يذكر. فبلادنا إلى الآن، خلو من طريق مزدوج واحد. بل، إن أكبر مدينتين رئيسيتين متقاربتين فيه، كالخرطوم ومدني، لا يربط بينهما طريق مزدوج، رغم كثافة حركة التنقل بينهما. فالطرق التي جرى تشييدها سيئة التنفيذ، غير معتنى بها من حيث الصيانة، وما أكثر ما تجرفها الأمطار في فصل الخريف. وما أكثر ما تنهار الجسور على هذه الطرق بفعل السيول. ولعلها تكون من أخطر الطرق على وجه البسيطة. لقد لعب الفساد دورًا رئيسيا في رداءة الطرق. فما يكتب من مواصفاتٍ على الورق شيء، وما يجري تنفيذه على أرض الواقع شيءٌ آخر تماما. ولا نحتاج لذكر ما آلت إليه الخطوط الجوية السودانية في بلد هو من أكثر البلدان حاجةً لشبكة طيران داخلي واسعة، كثيفة الحركة. يضاف إلى ذلك أن الناقل الوطني (سودانير)، الذي تعد نظيراته لدى كثير من الدول أحد أهم وسائل الترويج السياحي، قد أوشك أن يصبح عندنا أثرًا بعد عين. الشاهد أن هناك ارتباطًا عضويًا بين تقدم البنية التحتية للمواصلات في الدولة التي تخدم التنمية الاقتصادية العامة، وبين اتساع فرص الاستثمار في مجال السياحة. فالأخيرة تتسع وتزدهر بناءً على اتساع الأولى، والعكس بالعكس؛ فتخلف الطرق ووسائل المواصلات ينعكس سلبًا على فرص الإفادة من مورد السياحة. يأتي في المرتبة الثانية في البنية التحتية المتعلقة بالسياحة انتشار الفنادق والموتيلات والشقق الفندقية، والاستراحات بصورة متوازنة، وبجودة في تقديم الخدمة في جميع أرجاء القطر، خاصة في مناطق الجذب السياحي. وقد انتشر في العالم، مؤخرًا، نتيجة للقفزة التكنولوجية الهائلة إيجار البيوت الخاصة، أو جزء من البيت الخاص، عن بعد، باستخدام تطبيقات مختصة في هذا المجال، مثال: Airbnb. وهو تطبيق معلوماتي جديد ينبغي رفع وعي المواطنين به. فهو يوسع من جانب البنية الفندقية في القطر، بالجهد الشعبي. ومن جانب آخر فهو وسيلة جيدة لرفع دخول الأسر. وعلى خلاف الفنادق، فإن ضبط الجودة في خدماته تتولاه الجهة صاحبة التطبيق عن طريق إفادات المستأجرين. فهو تطبيق شبيه جدًا بتطبيقات التاكسي مثال: Uber وLift، وترحال وغيرها، ولكن في مجال إيجاد سكن مؤقت.
لقد أضر نظام الإنقاذ بالاقتصاد ضررًا بليغًا، بحكم تسببه في العزلة الدولية للسودان نتيجة لسياساته الخارجية الرعناء. وقد انعكست هذه العزلة سلبًا، وبصورة تلقائية، على فرص السياحة في البلاد. ويمثل تعذر دخول السودان مجال استخدام بطاقات الائتمان للدفع المؤجل، بسبب المقاطعة الأمريكية، واحدةً من الكوارث التي تسببت فيها الإنقاذ. فالناس في جميع أنحاء العالم أصبحوا لا يحملون معهم من النقود، إلا القليل جدًا، ويعتمدون، في الدفع، بصورة رئيسية، على هذه البطاقات الإلكترونية، التي أصبحت مقبولة في جميع أنحاء العالم. لذلك إن إعادة السودان إلى حضن الأسرة الدولية تترتب عليها أمور جوهرية شتى، لن تنهض البلاد اقتصاديا بدونها. (يتواصل).
|
Post: #123
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-04-2020, 01:28 AM
Parent: #122
up
|
Post: #124
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-04-2020, 03:45 AM
Parent: #123
السياحة المورد المهمل (4)
النور حمد
صحيفة التيار 4 أغسطس 2020
لتبيين التأثير الإيجابي لنمو البنية التحتية الاقتصادية للدولة على البنية التحتية للسياحة يمكن أن نضرب مثلاً بالجارة إثيوبيا، التي تخطت دول منطقة شرق إفريقيا في العقدين الأخيرين في السعة الفندقية. فقد أورد موقع hospitalitynet.org أن عدد غرف الفنادق في إثيوبيا بلغ 5717 غرفة، متخطية بذلك كينيا التي يبلغ عدد غرف الفنادق فيها 3444، وتنزانيا التي بلغ عدد غرف الفنادق فيها 1494 ويوغندا التي يبلغ عدد غرف الفنادق فيها 1238، ورواندا التي يبلغ عدد غرف الفنادق فيها 655 غرفة. أيضًا يُعد متوسط سعر الغرفة لليلة الواحدة في إثيوبيا، الأعلى في إفريقيا كلها. ويُعزى زيادة التدفق السياحي على إثيوبيا إلى تسهيل إجراءات الفيزا مقرونةً بتحول إثيوبيا إلى أكبر مركز إقليمي للسفر بالطائرات. فقد أضحت أديس أبابا أكبر مدينة إفريقية في أعداد المسافرين. ففي عام 2018 ازداد معدل السفر من مطار أديس أبابا بنسبة 48.6% لتبلغ عوائده الإجمالية 7.4 بليون دولار.
يعد السفر والسياحة أحد أهم مفاتيح دافعية النمو في اقتصاد القارة الإفريقية. ويقدر إسهامهما بـ 8.5%، وهو ما يعادل 194.2 بليون دولار من الناتج الإجمالي للدول الإفريقية. ويضع معدل النمو هذا إفريقيا في مرتبة أسرع القارات نموًا في قطاعي السفر والسياحة، إذ تأتي في المرتبة الثانية بعد آسيا الباسفيكية. فقد ازداد عدد السياح الواصلين إلى الأقطار الإفريقية في الأعوام الأخيرة، بصورةٍ ملحوظة. فبلغ في عام 2018 ما يقدر بـ 67 مليون سائح، مقارنة بـ 63 مليون سائح في عام 2017، و58 مليون سائح في عام 2016. وتأتي كل من جنوب إفريقيا والمغرب في المرتبتين الأولى والثانية في عدد السياح سنويًا، بـعدد 11 مليون سائح لجنوب إفريقيا و10 مليون سائح للمغرب. وقد أدى النمو في قطاع السياحة بصورة غير مباشرة إلى توظيف 24.3 مليون شخص في القارة. وأعتقد أن نصيبنا من هذا السوق ذي النمو المتسارع، ضئيلٌ جدا مقارنا بأغلبية الأقطار الإفريقية. فنحن لم نلتفت الى هذا المورد الكبير في حين التفتت اليه غالبية أقطار أفريقيا بصورة جدية.
صناعة الضيافة أو الفندقة صناعةٌ عالمية تسيطر عليها شركات دولية كبرى، يقع كثيرٌ منها في الولايات المتحدة الأمريكية. ويعتمد جذب الاستثمارات الدولية في قطاع الفندقة، على تناغم علاقة البلد المعين مع المنظومة الدولية، اقتصاديًا، وكذلك على درجة قبول سياسات البلد والثقة فيه كعضو منسجم مع المجموعة الدولية. وقد فقد السودان هذه الوضعية بسبب دخول اسمه ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، كما سبق أن قلنا. وكذلك بسبب ضعف اقتصاده واضطراب أحواله السياسية والأمنية. فتسارع الاستثمارات العالمية في مجال الفندقة في عديد الأقطار الإفريقية، في العقدين الأخيرين، كان بسبب تسارع نمو اقتصاداتها وسياساتها المنفتحة المرنة، وما تقدمه من تسهيلات.
يثق رواد الفنادق على مستوى العالم في أسماء الشركات الكبيرة المتخصصة في بناء الفنادق وفي إدارتها خاصة الذين يبحثون عن الخدمة الجيدة. فهذه الشركات الكبرى هي ما يجتذب أكثرية الزبائن لأنها تضمن لهم جودة الخدمات، وسائر سبل الراحة والنظافة والضوابط الصحية، والطواقم الإدارية والخدمية المدربة، وتوفير المواقع الإلكترونية المؤمنة، المربوطة بمواقع شركات التسويق الكبرى في العالم. فالقطر الذي تري مقاطعته اقتصاديا، كما حدث لنا في عهد الانقاذ، يفقد اقبال المستثمرين. وعمومًا، يعود تخلف السودان في القدرة على اجتذاب الاستثمار في القطاع السياحي إلى عدة عوامل، سأحاول لمسها في الحلقة القادمة. (يتواصل).
|
Post: #125
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-05-2020, 07:38 AM
Parent: #124
السياحة المورد المهمل (5)
النور حمد
صحيفة التيار 5 أغسطس 2020
سبق أن أشرت، بضع إشارات، لبعض هذه المعوقات التي تعترض صناعة السياحة، ومنها عدم الاستقرار السياسي والأمني، وضعف النمو الاقتصادي وضعف البنية التحتية للمواصلات والفنادق، ومختلف أماكن الإقامة. أضف إلى ذلك أيضًا، ضعف تدريب الكوادر التي تعمل في مختلف مكونات هذا القطاع. غير أنني أشرت بصورةٍ خاصة إلى الانحراف الثقافي الذي أحدثته قوانين سبتمبر، التي سنها الرئيس الأسبق جعفر نميري في عام 1983. وهو ذات الانحراف الذي أغرى الإسلاميين، الذين اشتركوا في سنها مع جعفر نميري، بإكمال مشوراها عبر انقلابهم على النظام الديموقراطي في 1989.
لقد مرت منذ سبتمبر 1983 إلى الآن 37 عامًا وهي المدة التي ابتعد فيها السودان عن طريق النهضة. عكست تلك الأعوام السبعة والثلاثون، اللوثة العقلية التي ارتدت رداء التدين، نتيجةً لإدمان العيش في متون الكتب القديمة، والتعلق بالأحلام الغرة، كحلم إقامة خلافة إسلامية تضم مشارق العالم الإسلامي ومغاربه. انحبست عقول من سعوا في هذا الدرب الزلق في تصوراتٍ منغلقة دافعها الرئيس هو التمرد على سلطة الغرب وسطوته، واستعادة الخلافة الإسلامية، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وهذا مما اشتهرت به حركة الإخوان المسلمين في بدايات القرن العشرين. وهي لم تشب، رغم مرور الوقت، عن طوق أفكار سيد قطب وأبي الأعلى المودودي المتمحورة حول شعار "الحاكمية لله"، ومشروع "الدستور الإسلامي"، مبهم الملامح.
حاولت الحركة الإسلامية السودانية عبر مسمياتها التي اتخذتها في مختلف مراحل ما بعد الاستقلال، الانفلات من قبضة السلف، والظهور بمظهر العصرية. غير أن الأساس الذي تأسست عليه ظل يستعصي على تلك المحاولات. فالمحاولات أصلاً لم تكن صادقة، كما لم تقم على إيمانٍ راسخ بالحرية وبالتنوع. لقد كانت مجرد طلاءٍ خارجيٍّ لا يمس الجوهر. لذلك، رغم محاولات الدكتور الترابي، هنا وهناك، إضفاء صبغةٍ عصريةٍ على حركته ومنحها استقلالية فكرية عن التيار الإخواني العالمي، إلا أن إدارة حركته للمجال العام، عندما أصبحت في السلطة، اتسم بالسلفية السلطوية العنفية، التي هي الطبيعة الأصلية للحركة. لم يظهر منها حين حكمت سوى الوصاية والاستبداد ورفض الحداثة وقمع الحريات الشخصية. بل بلغ فيها الاستبداد حد التعذيب الممنهج، والقتل الفردي والجماعي خارج نطاق القانون، وإحصاء أنفاس الناس. لقد أحدثت تجربة حكم الإسلاميين للسودان في أعوامها الثلاثين، ردَّةَ كبيرة جدًا في الوجدان السوداني. شملت هذه الردة الذوق الجمالي، والمظهر الحضري للمدن، والسلوك المتمدين للناس. ولقد كان لكل ذلك أثره السلبي على صناعة السياحة. لقد خربت الإنقاذ الاقتصاد الريفي ومنظومة الخدمات فيه، ما دفع بالناس إلى الهجرة إلى المدن، بأعدادٍ لم تحدث في تاريخ السودان. فاكتظت المدن بأكبر من طاقتها الاستيعابية، وانهارت فيها، من ثم، مظاهر التمدن. فالسلوك المتمدن لا يقوم في الهواء، وإنما يحتاج روافع تسنده. فالمدن التي تعيش أزماتٍ معيشيةٍ خانقة يتردى فيها السلوك الحضري بصورة تلقائية. ولا أخال سائحًا أجنبيًا يستطيع قيادة سيارة في الخرطوم الآن، أو يستطيع استخدام المواصلات العامة فيها، أو يمكنه قيادة سيارة بنفسه في طريق سريع. أما العنصر الثاني فهو الإعلام الإنقاذي الموجه الذي أعلى من قيم البداوة وحط من قيم التمدن وروَّج للقبلية ولكراهية مظاهر الحداثة الثقافية، وعمل على نشر التزمت والتطرف الديني والضيق بالآخر المختلف. وكل هذه عوامل هادمة للجذب السياحي. (يتواصل)
|
Post: #126
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-07-2020, 03:20 AM
Parent: #125
السياحة المورد المهمل (6)
النور حمد
صحيفة التيار 7 أغسطس 2020
تواجه الفترة الانتقالية الحالية التي يُفترض أن تراجع كل ما أحدثه نظام الانقاذ من تردي، العديد من التحديات، من بينها التراجع المريع، في الجذب السياحي، بسبب سياسات التطرف الديني التي أدخلت البلاد في عزلة مطبقة لثلاث عقود. يضاف إلى ذلك، التخطيط للدفع بصناعة السياحة قدما. لقد حولت الإنقاذ السودان من قطر حر منفتح إلى ثكنة داعشية عبر التأثير الضار على عقول البسطاء. ومن يراقب الحملة الإعلامية المنظمة التي تديرها ذيول النظام المدحور، هذه الأيام من عديد المواقع على الشبكة العنكبوتية، بهدف إرباك الفترة الانتقالية وإفشالها، يلحظ استخدامًا مكثفًا للخطابٍ الدينيٍّ السطحيٍّ المخاتلٍ، المنسوجٍ من قيم البداوة المنقرضة. هذا الخطاب كان هو الرافعة التي أوصلت الحركة الإسلامية إلى دست الحكم عبر مسار طويل امتد منذ ستينات القرن الماضي. ولأن الخطاب الديني الذي استخدم كان غوغائيًا شعبويًا، لم تكن مفاجأةً لي، ولا لكثيرين النهاية المحزنة التي انتهى إليها ما سمي "المشروع الحضاري". فقد عادت الأمور، بعد أن فقدنا ثلاثين عامًا عزيزة، إلى أصلها الأصيل الذي انطلقت منه. وانتهى، كل شيء، إلى "همبتةٍ" بدويةٍ قُحة، وأصبح الدين مجرد أداة استبدادية قمعية لحماية تلك "الهمبتة".
تحاول مواقع ذيول النظام الآن استخدام نفس الخطاب المتخلف الذي سبق أن جاءوا به إلى السلطة. من ذلك، وصم الفترة الانتقالية بالعلمانية، وبالشيوعية والبعثية، وبأنها فتحت الباب على مصراعيه للتفسخ والانحلال. هذا في حين أنهم يعلمون أن التفسخ والانحلال ظواهر عرضية، جانبية، لا يخلو منها مجتمعٌ من المجتمعات؛ مسلمًا كان أو غير مسلم. يستدعي خطاب الفلول النعرات البدوية الانغلاقية المعادية للتحديث، ويستجدي تعاطفها ويستنفرها ضد التقدم ليعيق جهود اللحاق بركب الأمم الناهضة. وآخر النماذج الفجة، مما شهدناه مؤخرًا، في هذه الحملة الرجعية، الاعتراض على اختيار امرأة واليةً للولاية الشمالية، وأخرى لنهر النيل. وقد بلغت السماجة بشاعر نهر النيل أن قال إن قبولهم بأن تحكمهم "إنتاية"، على حد قوله، أشنع في حقهم من أن يصلُّوا الجمعة في "الإنداية". هذا هو نتاج تكريس القيم الذكورية البدوية الجاهلية التي تتدثر بدثار الدين المزيف التي ظل الخطاب الديني الإنقاذي الزائف يروج لها عبر أئمة المساجد والإعلام المأجور. والآن، لكي يعود السودان مزارًا سياحيًا، مثله مثل غيره من دول الجوار، لا مناص من دحر هذا الخطاب المتخلف.
دخل السودان نطاق التحديث بالغزو البريطاني الخديوي في عام 1898. ولقد بقي جزءًا لا يتجزأ من النسيج الكوكبي، حتى صدور قوانين سبتمبر 1983. كانت بنيته السياحية طيلة تلك الفترة، على تخلفها، تستقبل الكثير من السياح الذين يفدون في موسم الشتاء، بصورة متكررة. وقد كانت حظيرة الدندر، وآثار مروي ونبتة، وحوانيت الأناتيك والأشغال اليدوية في سوق أمدرمان مزارات سياحية مرموقة. وكان الشعب يستقبل السياح بحفاوة، دون أدنى انزعاج بزيهم أو أسلوب حياتهم. لقد سمعنا مراتٍ ومرات السياح وهم يتحدثون عن إعجابهم الشديد بالسودان وبالإنسان السوداني، وأنهم لم يروا عبر تجوالهم في إفريقيا شعبًا شبيهًا بشعب السودان؛ في الود والصدق والحفاوة والاستعداد لتقديم العون. الشاهد أن لدينا رأسمال عيني وبشري ممتاز، وبلاد غنية بكل ما يمكن أن يتجذب الأجنبي. لقد جرى تخريبٌ كبيرٌ لهذا الرأسمال الكبير، غير أن استنقاذه ممكن بقليل من الاهتمام والجهد الذي يضع القواعد الصحيحة لدمج البلاد في المجتمع الدولي. (يتواصل).
|
Post: #127
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-08-2020, 08:19 AM
Parent: #126
السياحة المورد المهمل (7)
النور حمد
صحيفة التيار 8 أغسطس 2020
من أهم المهام التي ينبغي علينا الاطلاع بها، ضمن جهود جعل بلادنا جاذبة للسياحة، تغيير مناهج التعليم، بصورة تزيل منها التشوهات التي ألحقها بها نظام الانقاذ التعليمي والإعلامي المتخلف. نحن بحاجة لإعادة عقول الناس إلى حالة سلامة الفطرة والصحة النفسية التي كانوا عليها، بعد أن تأثروا بالدجل باسم الدين الذي مورس عليهم على مدى ثلاثين عاما. وهو دجل طمس الفطرة السوية لدى كثيرين، وأثر سلبًا على روح التسامح وقبول الآخر، وكرَّس التوحش والجلافة والرعونة في الفكر والمسلك. لقد خلقت الإنقاذ هوةً ثقافيةً مهولةً بيننا وبين شعوب العالم، حتى أصبحت حالتنا، في عمومها مشابهةً لتك التي صنعتها طالبان في أفغانستان.
باختصار شديد، يقتضي الجذب السياحي تناغمًا في قيم التحضر بين الزائرين والبلد المزور. ولا يعني هذا أن تدمج ثقافتك في ثقافة الزائرين، أو أن تصبح مستلبًا لقيمهم، وإنما يعني أن تقبل الآخرين على ما هم عليه، من غير أن تتأثر سلبًا بقيمهم. فقبول التنوع لا مناص منه، لأن الله قد خلق الناس مختلفين وسيبقون مختلفين. ومن يظن أن في وسعه إلباس الناس، جميعًا، جلبابًا قيميًا واحدًا، ليس سوى جاهلٍ أو موهوم. يقول تعالي: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً * وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ". ويقول، أيضًا: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ". فاختلاف الألسن والألوان المشار إليه في الآية، ليس مجرد اختلاف سطحي، إنما هو اختلاف في التصورات ومعايير القيم وأنساق السلوك.
عبارة قبول التنوع التي أصبحت تتردد كثيرًا في معرض النقد للأحادية الإنقاذية المنغلقة، لا تعني فقط قبول التنوع داخل بلدك، وإنما تعني أيضًا قبول التنوع فيما يتعلق بالبلدان الأخرى وقيمها. فقد أصبح العالم مترابطًا بصورة غير مسبوقة. ولسوف يزداد ترابطه في السنوات والعقود المقبلة بما لا نستطيع تخيل أبعاده كلها الآن. فشعوب الأرض وثقافات الأرض لم تعد محصورة داخل الحدود السياسية للدولة القطرية. فالبشر بجميع ثقافاتهم أصبحوا يعيشون ويتقلبون في كل جزء من أجزاء العالم، ولسوف تزداد هذه الظاهرة باستمرار، بحيث يصبح لا مناص لأي قطر من قبول التنوع وارتضاء تعايش الثقافات المختلفة في الفضاء العام داخل حدوده. ويكفي أن نشير إلى أن دولاً مثل الإمارات وقطر، على سبيل المثال، أصبح تعيش على أرضها مئات الجنسيات من مختلف شعوب العالم، تتشارك المجال العام بتنوع كبير في المظهر والمسلك. لقد فهمت غالبية الدول الإسلامية، أنه لا مناص من قبول التنوع، فوطنت نفسها ومواطنيها على ذلك. لذلك، بقي فيها المجال العام منفسحًا للأجانب للزيارة والإقامة، دون أن يحس مقيمٌ أو وافد أن هناك مشكلة. ينسى المخاتلون الذين يثيرون نعرات رفض الآخر المختلف، أن عشرات الملايين من المسلمين يعيشون في الدول الغربية، من غير أن يتأذوا من نسق الغربيين في العيش، أو يتأذى من نسق عيشهم الغربيون. لابد أن نغرس في النشء في المدارس قبول الآخر. وأن ندير في منابرنا الإعلامية حوارات معمقة حول التنوع والتعايش. التسامح والقبول هو ما اتسم به إسلام السودان الصوفي، منذ السلطنة الزرقاء. ولم يتغير إلا في الحقبة المهدوية، وفي فترة حكم الإسلاميين التي اتسمت بالغلو السلفي المستورد، المفروض فرضا عن طريق القهر والاستبداد. (يتواصل)
|
Post: #128
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-09-2020, 04:49 AM
Parent: #127
السياحة المورد المُهمَل (8)
النور حمد
صحيفة التيار 9 أغسطس 2020
تحتاج الموارد السياحية إلى التنمية المستمرة. لذلك لا ينبغي أن نكتفي بالمواقع الأثرية وبالمحميات الطبيعية وبالأسواق الشعبية والمتاحف الموجودة التي تنقصها العناية اللازمة. وإنما ينبغي أن نسعى إلى توسيع هذه الموارد كما ونوعا. ولسوف أعرض في هذه المقالة إلى بعض النماذج. وأبدأ بنموذج من مدينة أليكساندريا بولاية فرجينا حيث أصبح مجمع الفنانين التشكيليين مزارا سياحية مرموقا. يحتل مجمع الفنانين هذا مبنى قديما يسمى مصنع الطوربيدات The Torpedo Factory، يقع على الضفة الغربية لنهر البوتاماك المطلة على العاصمة واشنطن دي سي. كان هذا المبنى المكون من طابقين مصنعًا للطوربيدات في فترة الحرب العالمية الثانية. في عام 1974 قام مجلس المدينة بتحويل هذا المبنى إلى محترف للفنانين التشكيليين. ويجري منح المساحة المخصصة لكل فنان بناءً على إيجارٍ مدعوم من مجلس المدينة، بعد أن تستوفي أعمال الفنان ضوابط وشروط استحقاق المساحة. يمارس عشرات الفنانين العمل التشكيلي في هذا المبنى ويعرضون فيه أعمالهم للبيع.
بالإضافة إلى أن هذا المبنى أتاح للفنانين ستوديوهات يمارسون فيها نشاطهم الفني، في موقع مرموق في جزء مدينة أليكساندريا المسمى "المدينة القديمة"، فقد أصبح المبنى مزارًا سياحيًا جاذبًا لعشاق الفن التشكيلي، ولمقتني اللوحات والخوف والتمثيل وغيرها. وقد وصل عدد الزوار السنوي لهذا المبنى 500,000 زائر في العام. وبما أن المبنى مطل على النهر فقد تحولت الساحة الفاصلة بينه وبين كورنيش النهر التي تضم مرسى للقوارب إلى منطقة حية للتنزه والإطلال على النهر، وعلى جسر وودرو ويلسون، وللتصوير. في الخرطوم وغيرها من المدن مئات الفنانين التشكيليين الذين يبحثون عن مكان كهذا المكان. وقد شاهدت على فيسبوك أعملا للفنانين السودانيين بالغة الروعة. يستحق هؤلاء الفنانون من وزارة الثقافة والإعلام ومن ورائها الدولة اهتمام مماثلا للذي أبداه مجلس مدينة أليكساندريا للفنانين المقيمين في المدينة. فالدولة حين تقيم مجمعا كهذا في موقع مرموق فإنها تستثمر على صعيدين: الأول الصعيد الثقافي والثاني الصعيد الاقتصادي. فالفن التشكيلي أصبح ثروة يخزنها هواة اقتناء الأعمال الفنية، كما يخزنون المعادن النفيسة.
أما النموذج الثاني فمكون من شقين ويوجد بدولة قطر. ولقد شاهدت قيام هذين النموذجين أثناء عملي في دولة قطر. ولم يستغرق بناء هذين الصرحين السياحيين الكبيرين سوى بضع سنوات. أحد هذين الصرحين هو سوق واقف والآخر هو مجمع كتارا الثقافي في مدينة الدوحة. جرت إعادة تشييد سوق واقف وهو اسم لسوق قديم في الدوحة بأسلوب العمارة القطرية التقليدية. وأصبح السوق مجمعا للحوانيت الصغيرة التي تبيع مختلف المصنوعات الشعبية، كما يضم غاليري للفنون التشكيلية ومجموعة كبيرة من المطاعم والمقاهي المتنوعة. وفي وقت قياسي أصبح هذا السوق بؤرة جاذبة للسياح ولسكان المدينة الذين يقضون نهاراتهم وأمسياتهم في مطاعمه ومقاهيه المختلفة. ولقد استضافت حفلات سوق واقف الراتبة عددا من المغنين السودانيين أذكر منهم أبوعركي البخيت وطه سليمان.
أما مجمع كتارا الذي جرى تشييده على ضفة الخليج، فهو حي ثقافي متكامل يضم مقرًا للجمعية القطرية للفنون التشكيلية، ومقرًا لجمعية المهندسين القطريين وغيرها من مقرات مجاميع المهنيين. كما يضم العديد من المطاعم والمقاهي، كما يضم دارًا للأوبرا. يقيم هذا المجمع العديد من المسابقات الفنية والأدبية ومعارض الفن التشكيلي المحلية ةوالأجنبية. ليست لدينا إمكانات أليكساندريا في فرجينيا ولا دولة قطر، لكن البداية ممكنة، واستقطاب الجهد الشعبي وجهد القطاع خاص ممكن دائما. (يتواصل)
|
Post: #129
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-10-2020, 03:18 AM
Parent: #128
السياحة المورد المُهمَل (9)
النور حمد
صحيفة التيار 10 أغسطس 2020
تزدهر السياحة بالترويج وتستثمر الدول الكثير من المال في ذلك. فبلدان مثال تركيا وماليزيا، وهما أكثر بلدين إسلاميين استقبالاً للسياح، أصبحتا تعلنان عن السياحة في القنوات الفضائية الأكثر مشاهدة في العالم؛ مثال CNN وBBC، وغيرهما. لقد مكنت عوائد السياحة المالية الضخمة هذين البلدين من أن تعلنا في قنوات تكلف دقيقة الإعلان فيها أموالاً طائلة. ومؤخرًا، أخذت عددٌ من الدول الإفريقية، تروج للسياحة في هذه القنوات العالمية، بعد أن وضح لها حجم مساهمة السياحة في الدخل القومي. لكن، لابد في البداية من أن تهيئ الدولة رأسمال معقول، لتحسين البنيات التحتية للسياحة، ثم تشجيع القطاع الخاص المحلي والمستثمرين الأجانب على الانخراط في أنشطتها. وقبل هذا وذاك، لابد من رؤية طموحة وواضحة يجري تحويلها إلى سياسات وخطط وبرامج عمل تنتظم أقاليم القطر كله. الرؤية الحكومية الواضحة وإيكال أمر السياحة لأشخاص ذوي قدرات قيادية وأطقم مدربة، ثم وضع السياسات المشجعة، هو ما يجتذب رأس المال المحلي ورأس المال العالمي للانخراط في الأنشطة السياحية. ويمكن أن تكون البدايات بسيطة يجري التوسع فيها وفق خطة ممرحلة.
لا يتوقف الترويج للسياحة على الإعلان المباشر في أجهزة الإعلام، وإنما يتعدى ذلك إلى الإعلان غير المباشر، الذي يعني كل ما يظهر للناس عن القطر المعين في وسائطه الإعلامية. لذلك، لابد من إيجاد ضوابط لقنوات التلفزة الفضائية السودانية. وقد سبق أن كتبت أن ترك الحبل على القارب للبث التلفزيوني، بصورة الراهنة، له آثاره الضارة بسمعة البلد. فالبث التلفزيوني من حيث هو مرآة عاكسة لحال البلد من عديد الوجوه. وربما لا يكون بعضٌ أو كثيرٌ ممن يقفون وراء بث الصورة التلفزيونية مدركين لما يمكن أن يحدثه ما يقومون به من أضرار نتيجة للعفوية، والارتجال والإهمال. لذلك لابد أن ينتبه المخرجون التلفزيونيون للرسائل التي تحملها الصورة التلفزيونية. ينطبق ذلك على الصورة التي يقدمونها في التقارير الإخبارية، أو في الدراما، أو في الرياضة، أو في الفنون، أو في الدعاية والإعلان، وغير ذلك من صنوف الصور التي تخرج عبر البث التلفزيوني. بعبارة أخرى، عليهم أن ينتقوا الأحسن، الذي يعكس أوجه التقدم في البلد، ويعكس جمال الطبيعية، وجمال العمران، وتحضر الأفراد. أما هذه الخم العشوائي للصور التلفزيونية من الواقع بلا فرز ولا تفكير على قاعدة (خلِّينا نخلص ياخي)، وهو ما ظل يمارس لدينا منذ فترة طويلة، ولم يتحسن إلا بمقدارٍ ضئيل جدًا، فإن له آثاره المدمرة على سمعة البلد، فهو، ببساطة، ينفر ولا يجذب.
ليصبح كل ذلك ممكنًا أرى أن من الضروري وضع السياحة والآثار تحت مظلة وزارة منفصلة. فالسياحة والآثار موردان اقتصاديان كبيران مرتبطان ارتباطا عضويًا. وهما من الأهمية والضخامة بحيث لا ينبغي أن يكونا جزءًا من وزارة الثقافة والإعلام. فإذا كنا نفرد، على سبيل المثال، وزارة للشباب والرياضة، وهي، على أهميتها الكبيرة جدًا، لا تمثل موردًا اقتصاديًا، مثلما تمثله السياحة والآثار، فلماذا لا نفرد وزارة للسياحة والآثار؟ فالسودان بلد زاخر بالآثار، ولايزال الكثير منها مدفونًا ينتظر الاكتشاف. فلو أصبحت السياحة والآثار تحت مظلة وزارة واحدة فاعلة، فإن مورد السياحة سيتولى تمويل خطط تطوير مورد الآثار، إضافةً إلى حفظها وصيانتها والتوسع في تشييد المتاحف وغيرها من معالم الجذب السياحي. (يتواصل)
|
Post: #130
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-11-2020, 04:04 AM
Parent: #129
السياحة المورد المُهمَل (10)النور حمدصحيفة التيار 11 أغسطس 2020 لا تقل السياحة الداخلية أهمية عن السياحة الخارجية. تنمو السياحة الداخلية عندما تتسع طبقة رجال الأعمال والطبقة الوسطى نتيجة للتقدم العام في الوضع الاقتصادي للبلاد. لكن، مهما كان سوء الظروف الاقتصادية، لابد أن تكون هناك طبقة قادرة على الإنفاق على أنشطة الاسترواح. وتهدف جهود التنمية بصورة عامة إلى أن يكون التنزه والاسترواح حقًا لكل فرد؛ بمعنى امتلاكه القدرة المالية التي تمكنه من أخذ عطلة ما يقضيها بمفرده أو مع أسرته بعيدًا من مكان عمله. ويمكن أن توفر السياحة الداخلية فرصة الاسترواح لذوي الدخول المحدودة الذين لا يستطيعون السفر خارج البلاد، بسبب الكلفة الأكبر لتذاكر الطيران وأجور الفنادق. والسودان قطر متعدد المناخات. ففي حين يكون الطقس بالغ الحرارة في وسط السودان وشماله في أشهر الصيف، يكون الطقس معتدلاً في جبل مرة وفي جبال أركويت وما حولها. أيضًا تسقط الأمطار باكرًا في حزام البلاد الجنوبي الممتد من دارفور وكردفان عبر جنوب النيل الأبيض والنيل الأزرق وصولاً إلى منطقة القضارف في الشرق، فتخضر الأرض ويعتدل الطقس، ما يجعل هذا الحزام منتجعًا جيدًا لأهل الوسط والشمال.أيضًا يمكن أن يكون سهل البطانة مكانًا جاذبًا لأهل العاصمة وما حولها لقربه الشديد. فهو يخضر في يوليو وأغسطس، ما يجعله مكانا مناسبًا للمخيمات. وعلى سبيل المثال، يخرج أهل الجزيرة العربية في فصل الشتاء من المدن إلى الخلاء المحيط بها في نشاط سنوي يسمونه "الخروج إلى البر". تنصب الأسر خيامها في الخلاء بعد أن تأخذ كل مستلزماتها لتمضي أسبوعيا أو أسبوعين بعيدًا عن حياتها المعتادة في المدينة. ولهذا تأثيره الكبير على استعادة الطاقة للعمل، إضافة على تأثيره الجمالي والروحاني على الأطفال. فلو جرى تشجيع القطاع الخاص لإنشاء منتجعات وفقًا لأساليب العمارة الشعبية، في بقاع لا تبعد كثيرًا من المدن مع كل المستلزمات من ماء شرب نظيف ومرافق صحية وحوانيت لبيع الاحتياجات، فإن قرى سياحية كثيرة يمكن أن تنشأ في البلد. ولو قامت الدولة بتوصيل الطرق المسفلتة والكهرباء إليها فسوف يزدهر الاقتصاد الريفي وتنشأ فرص جديدة للعمل . قامت في العقود الأخيرة منتجعات سياحية حول العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وحول غيرها من المدن الإثيوبية. أصبحت هذه المنتجعات مزارا للأسر ولجمعيات الشباب للإقامة، التي تتفاوت بين عطلة نهاية الأسبوع والإجازات القصيرة. وقد أضحت هذه المنتجعات التي تجمع عمارتها بين العمارة التقليدية وحداثة المرافق جاذبة أيضًا للسياحة القادمة من الخارج. يمكن للسودان أن ينشئ مثل هذه المنتجعات حول كل المدن الكبرى. ولتكن البداية بحزام السافنا الجنوبي فتقوم الولايات بتشجيع القطاع الخاص وتقديم الإغراءات والتسهيلات له لإنشائها حول المدن الكبرى مثال: نيالا والأبيض وكادقلي وسائر مدن جبال النوبة الشرقية ثم سنار والدمازين والقضارف وكسلا وغيرها. أما جبل مرة فهو قابل لإنشاء منتجعات تعمل على مدار العام وكذلك جبال البحر الأحمر نسبة للاعتدال المستمر للطقس. يمكن القول باختصار شديد أن السياحة الداخلية سوف تجلب عوائد مالية تسهم في تحسين صناعة السياحة، الأمر الذي سيؤدي إلى جاذبية أكثر وقدرة استيعابية أكبر للسياحة القادمة من الخارج. (يتواصل).
|
Post: #131
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-12-2020, 07:11 AM
Parent: #130
السياحة المورد المُهمَل (11)
النور حمد
صحيفة التيار 12 أغسطس 2020
يفضل كثير من السودانيين المتزوجين حديثًا قضاء شهر العسل بعيدًا عن بيت الأسرة، ومنزل الزوجية. يذهب كثيرٌ من هؤلاء إلى دول الجوار؛ كإريتريا وإثيوبيا ومصر. في حين يذهب من يملكون قدرات مالية أكبر إلى بلدان؛ كماليزيا وتركيا وبعض الدول الأوروبية، وغيرها من دول العالم. لكن تذهب الغالبية إلى مدن سودانية. للك، فإن تقليد شهر العسل الآخذ في التوسع يحتاج إلى دراسة تخرج منه بقواعد بيانات، خاصة أن نشاط شهر العسل يستمر على مدار العام. وجود قاعدة بيانات دقيقة لحجمه تعين ووجود دراسات جدوى مما يغري القطاع الخاص بالانخراط في الاستثمار في هذا المجال. فرأس المال لا يغامر، وإنما يفضل اللعب على المضمون، وإنفاق المال بناءً على دراسات علمية تطمئنه على مردوده الربحي. لذلك، فإن إنشاء وزارة للسياحة والآثار، منفصلة، أمرٌ ضروري للغاية. فهي ستكون الجهة المنوط بها إجراء البحوث والدراسات وتصميم الخطط والبرامج وتقديم دراسات الجدوى والتوقعات العلمية للمردود الربحي للاستثمار في هذا القطاع. يضاف إلى ذلك تطلع هذه الوزارة بإيجاد أمثل السبل لإدارة مورد الآثار وتنميته والحفاظ عليه، واستعادة ما سُرق من كنوزه.
هناك أيضًا ما أضحت تسمى "السياحة العلاجية"، وقد اشتهرت بها تايلاند. كما أضحت المكسيك المجاورة للولايات المتحدة، مزارًا للسياحة العلاجية بالنسبة للأمريكيين، بسبب ارتفاع كلفة العلاج داخل أمريكا. أما في نطاقنا الإقليمي، فتمثل مصر والأردن جهتين جاذبتين للسياحة العلاجية، خاصة بالنسبة لنا نحن السودانيين. ويمكنني أن أجزم أن مصر والأردن لا تملكان كوادر طبية أكثر تأهيلاً مما يملك السودان. غير أن الكوادر السودانية اجتذبتها المهاجر بسبب سوء بيئة العمل في الداخل، وسوء الأوضاع السياسية بصورة عامة. كما أن في الداخل كوادر عالية التأهيل، لكنها لا تجد بيئة العمل المعينة. الشاهد أن تردي المرافق الصحية السودانية على مدى الخمسين سنة الماضية ونيف، أسهم في خلق سمعة مضخمة جدًا وسطنا لتقدم الطب في مصر والأردن.
ضمن كارثة التمكين، اتجه نظام الإنقاذ إلى خصخصة المرافق الطبية، ولم يهتم بالكيف بقدر ما اهتم بتمليك منسوبيه مرافق طبية تجعلهم أثرياء. فأصبحت مراكمة الأرباح تجري على حساب تطوير البنية التحتية وعلى حساب جودة الخدمات كذلك. وعمومًا، لا يمكن لمرافقنا الطبية الخاصة، بصورتها الراهنة، أن تصبح جاذبةً للسياحة العلاجية. بل، ولا حتى قادرةً على أن تجعل السودانيين يوقفون السفر إلى الخارج للعلاج. تستنزف هذه الهجرة المحمومة للعلاج في الخارج، العملة الحرة السودانية، بمقادير مهولة، وهي بحاجة إلى دراسة، فنحن فقط لا نعد ما يضيع منا.
أولى خطوات هذه المراجعة وجود قاعدة بينات تؤشر إلى الأعداد التي تغادر السودان سنويًا للعلاج في الخارج ومقادير الأموال التي تصرفها في الخارج للسكن والمعيشة والعلاج. هذه المعلومات هي ما سيشجع القطاع الخاص على إنشاء المشافي الحديثة خارج المدن، بنظام خدمات متكاملة تشمل فنادق ملحقة للإقامة، ونظام ترحيل من وإلى المطار. يضاف إلى ذلك رواتب منافسة وتسهيلات تغري الكوادر المهاجرة بالعودة. السودان متقدم على محيطه الإقليمي في المجال الطبي، ويمكن أن يصبح قبلة علاجية للطبقات الصاعدة في دول الحزام السوداني الممتد من البحر الأحمر إلى عمق جنوب الصحراء الكبرى غربا. ومعلوم أن السياحة العلاجية تحمل في طياتها سياحة عامة، أيضًا. عمومًا، نحن لا نرى ما بين أيدينا من فرص. (يتواصل في الحلقة الأخيرة).
|
Post: #132
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-13-2020, 07:36 AM
Parent: #131
السياحة المورد المُهمَل(12)الاخيرة
النور حمد
صحيفة التيار 13 أغسطس 2020
يضاف إلى السياحة الداخلية والسياحة العلاجية، هناك أيضا مورد سياحة الصيد. وقد ازداد النشاط في الصيد البري، بصورةٍ لافتة، في العقد الأخير من حكم الإنقاذ. غير أنه أُدير بصورة مرتجلة وبإهمال شديد، شأنه شأن ما درجت الانقاذ على فعله في كل مرفق عبر بنية التمكين. لقد حولت الانقاذ هذا المورد كغيرة من الموارد وسيلة لملء جيوب المنسوبين دون مراعاة للأضرار التي تنجم عن إدارته على ذلك النحو الفوضوي. الصيد ضرورة من ضرورات التوازن البيئي. وقد كان افتراس الحيوانات لبعضها، ولا يزال، واحدًا من آليات الطبيعة لحفظ التوازن الحيوي. وقد أسهم النشاط الواسع للبشر في الماضي في الصيد البري في حفظ التوازن الحيوي والبيئي. لكن مع تقدم الحياة تناقص نشاط الصيد البري الذي كانت المجتمعات البشرية تعتمد عليه كثيرًا في غذائها. وأصبح استهلاك الإنسان للحوم، خاصة بعد أن بدأ تدجين الحيوانات منحصرًا في الحيوانات الأليفة؛ كالأبقار والضأن والماعز والجمال والدواجن وغيرها. أيضًا، قاد تطور الحياة الحديثة إلى تراجع البيئات الطبيعية وابتعادها عن أماكن سكنى الإنسان، التي استمرت في التمدد باضطراد. لكن، لأمرٍ ما تدخل الإنسان وطور هواية الصيد فدخل مرة أخرى في دائرة آليات حفظ التوازن الحيوي.
مورد الصيد البري مورد ضروري، والسودان بلد جاذب لهواة الصيد البري، لكن ينبغي أن يُدار الصيد البري وفقًا لضوابط ورقابة بالغة الصرامة. لأنه بغير ذلك يتحول إلى أداة لتدمير الحياة البرية والبيئة الطبيعية. ولقد رصد بعض الناشطين في العقد الأخير من حكم الإنقاذ إسرافًا في قتل الحيوانات، من قبل هواة الصيد القادمين من الجزيرة العربية. لذلك ينبغي عمل قاعدة بيانات بأعداد الحيوانات ومعدلات تكاثرها ورصد مسارات هجراتها. فذلك يعين على رسم السياسات ووضع الضوابط التي تمنع اساءة استخدام هواية الصيد.
لن تزدهر السياحة ما لم يكن هناك أمن واستقرار، لكن مع حالة عدم الاستقرار ونقص الأمن هناك فرصة للبداية. ولقد دلت التجربة أن السياح يفدون إلى كثير من البلدان المضطربة. لا ينبغي إرجاء التخطيط للسياحة حتى تزدهر البلاد. بل، إن موردها نفسه يمثل أحد آليات ازدهار البلاد. وعموما كما قال الأستاذ محمود محمد طه: "إن آجلاً لا يبدأ عاجله اليوم، ليس بمرجو". ولا يوجد تصورٌ أيًا كان وقد اكتمل جملة واحدة. ولو أن ذلك كان ممكنًا حقا لنشأت الأشياء جميعها كاملة منذ الوهلة الأولى.
لربما رأى البعض أن الحديث عن السياحة في مثل ظروفنا الراهنة ترفًا، وانصرافًا عما هو أكثر أهمية وإلحاحًا. غير أنني أميل إلى الاعتقاد أن هذا من المفاهيم الخاطئة الذي ظللنا ندير بها شؤننا السياسية. لقد كنا منصرفين طيلة العقود الستة ونيف الماضية عن رسم السياسات وتنفيذها ومستغرقين في جدل السياسة. وهو لدينا، في غالبه جدل عقيم. فالسياسة في تجربتنا لحقبة ما بعد الاستقلال أضحت مجالًا غير منتج بفعل صراع المعادلة الصفرية بين القوى الطائفية والأحزاب الأيديولوجية. وأيضًا، بسبب نهج المكاسب الجهوية والفردية الذي ظللنا نمارسه، ولا نزال. وحالة التأخر التي نعيشها تقف شاهدًا على خلل هذا الخلل القاتل في المفاهيم. نحن بحاجة إلى التحول إلى السياسات والبرامج. وكما هو مهم وضع مورد السياحة في إطار السياسات، والبرامج، كذلك مهم وضع موارد الزراعة والحيوان والصناعة والتقنية والمعادن، وغيرها في ذات النسق. (انتهى)
|
Post: #133
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-15-2020, 05:55 AM
Parent: #132
لماذا تستنجد بورتسودان بغيرها؟
النور حمد
صحيفة التيار 15 أغسطس 2020
كتب البعض في وسائط التواصل الاجتماعي يتساءلون في استغراب عن السبب الذي جعل ولاية كالبحر الأحمر بها حاميات عسكرية للقوات الجوية والبحرية والبرية، وقوة شرطة بمختلف فصائلها تستنجد بالخرطوم، بل وبدارفور لتعيد الأمن إلى نصابه في مدينة لا يصل عدد سكانها المليون. فبورتسودان هي الميناء الرئيسي للقطر، وبها وجود أمني مكثف وهو ما يجعل التساؤل عن سبب الاستنجاد بقوات من المركز أو من دارفور، أو من أي مكان آخر، تساؤلٌ في محله تماما. كيف لا تكون القوى الأمنية المحلية قادرة على فرض هيبة الدولة في حوادث استخدم فيها الأهالي الأسلحة النارية وتنتظر لتأتيها النجدة من مكان كالفاشر يبعد ألفي كيلومتر؟ لقد استمرت الاشتباكات بين الأهالي في بورتسودان على مدى ثلاثة أيام سقط فيها العشرات من القتلى والمئات من الجرحى ولم يظهر في مدى هذه الأيام الثلاثة أي رد فعل حاسم من جانب القوى الأمنية الموجودة في المدينة وما حولها.
السؤال الثاني الذي يطرح نفسه: أين جهاز الأمن والمخابرات الوطني؟ لقد تكررت هذه الصدامات الأهلية في المدينة عدة مرات، فأي دور قام به هذا الجهاز هذه المرة في التنبيه إلى أن صدامًا وشيكًا سوف يقع وعلى السلطات أخذ الحيطة والحذر والقيام بالإجراءات التي تمنع حدوثه؟ هل يعقل أن تكون هذه الأحداث قد تفجرت فجأة بلا أي مقدمات؟ ألم تسبقها اجتماعات أو على الأقل سبقها تهامسٌ هنا وهناك؟ هل يعقل ألا يوجد بعض أصحاب "الخشوم الخفيفة" الذين سربوا ما هو معد؟ فإذا لم يقم جهاز الأمن والمخابرات في الولاية بالتغلغل وسط الأهالي فيجمع المعلومات ويقدم تقارير يومية إلى السلطات الحاكمة، لتكون على أهبة الاستعداد، فما هو دوره إذن، بل، ما الداعي لوجوده أصلا؟ خاصة أن هذه الحوادث تكررت عدة مرات في ذات المدينة في عام واحد.
الشاهد أن كل ما جرى في العام المنصرم يشير إلى أن وراء الأكمة ما وراءها. واضح جدًا أن هناك اتجارًا مقصودًا بأمن الناس وبأرواحهم من أجل قلب المعادلة السياسية الراهنة لصالح قوى عاملة ضمن الشراكة القائمة، لا تزال تربطها أواصر شديد القوة بالنظام المدحور. دعونا فقط نحصي عدد الاضطرابات العنيفة والاقتتال بين الأهالي في المدن وبين القبائل في الريف، الذي جرى في العام المنصرم. فقد جرت حوادث مميتة في كل من بورتسودان، وكسلا، وحلفا الجديدة، وكنابي الجزيرة، وكادقلي، ونيرتتي والجنينة. يضاف إلى ذلك المواجهات بين القبائل المختلفة والاعتداءات على الأفراد في مزارعهم. هل يمكن لأي شخص مدرك أن يقول إن كل هذا الذي جرى وبهذه الكثافة وبهذا الانتشار الواسع في عام واحد أمر طبيعي؟ ما هو الشيء الذي استجد فجعل كل هذا العنف واسع النطاق يجري في هذا العام بالذات إن لم يكن هناك مخططٌ يجري تنفيذه بدقة وفق توقيتات بعينها تهدف إلى انهيار الأمن في القطر كله؟
ما جرى من فرض لحظر التجول ومن إرسال لجنود القوات المسلحة والدعم السريع إلى بورتسودان ليس سوى حملة علاقات عامة لا تعدو مهمتها التربيت على الأكتاف. فما كان مخططًا له أن يجري في المدينة كان قد جرى بالفعل وأدى الرسالة المطلوبة منه، وهي إسقاط هيبة السلطة وإيغار صدور أهل الضحايا التي لن تبرأ بسهولة. لقد حدث الاحتقان المطلوب وسط الأهالي ولسوف ينفجر مرة أخرى لحظة ارتخاء القبضة الأمنية، في بورتسودان، ولسوف ترتخي، أو ينتقل إلى مكان جديد.
|
Post: #134
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-16-2020, 07:29 AM
Parent: #133
استعادة الاستبداد بنسف الأمن وخلق الندرة
النور حمد
صحيفة التيار 16 أغسطس 2020
الذي يتأمل السنة التي انصرمت من عمر الفترة الانتقالية يلاحظ أمرين رئيسيين، أولهما: توالي الاضطرابات الأمنية بكثافة وانتشارها على نطاق واسع من البلاد. أما الثاني فهو استعصاء إنهاء حالة الندرة في السلع الاستراتيجية. فطوابير السيارات لا تزال مصطفة أمام محطات الوقود، وغاز الطهي لا يزال معضلة، وطوابير الخبز كما هي. يضاف إلى ذلك هناك تسارع في ارتفاع الأسعار لا يتناسب مع ما حدث لسعر الجنيه السوداني. فلو انخفض سعر الجنيه مقابل الدولار 200٪ في الأشهر القليلة الماضية، فإن بعض السلع والخدمات ارتفعت بمعدل 300٪، بل ويزيد. بدا واضحًا أن هناك عملاً مدروسًا ومنظمًا لإفشال الفترة الانتقالية، عبر زعزعة الأمن وخلق ندرة في السلع. ويبدو أن الجهات التي تقف وراء هذا المخطط اللئيم تريد أن تقول للشعب: إذا أردت أن تكون آمنا على نفسك وعرضك ومالك، وأن تجد ما يسكت جوع بطنك؛ أنت وأهلك، فعليك أن تقبل بعودة نظام الفساد والاستبداد، وإلا سنجعل حياتك تنتقل من جحيم شديد إلى جحيم أشد. وهذا شبيه بقول الأسد وجلاوزته للشعب السوري في بداية ثورته: "يا نحكمكم يا نقتلكم".
إن المرء ليعجب أن يكون هناك أناس بهذا القدر من سوء الطوية وموت الضمير بحيث لا يهمهم أن يصلوا إلى كرسي السلطة سيرًا فوق جثث الضحايا وعبر عدم اكتراث تام بآلام وأنات المحرومين من الجوعى والمرضى والمشردين عن ديارهم. ومن الغريب أن يعتقد هذا النفر في قرارة أنفسهم أنهم حين يصلون إلى السلطة سوف يصلحون. فالوسيلة من جنس الغاية، ولا يمكن أبدًا التوسل للغايات الصحائح بالوسائل المِراض. فالغاية النبيلة لا توصل إليها الوسيلة المنحرفة. لقد سبق أن قلت إن ثورة ديسمبر 2018 ثورة أخلاق في المقام الأول. هي ثورة ضد التدليس باسم الدين وضد إفقار الناس باحتكار القلة للموارد ولسلطة القرار. وهي ثورة ضد الكذب والتضليل وإلباس الباطل ثوب الحق. وهي بهذا المعنى ثورة مكتوب لها النصر مهما طال المسير ووعر الدرب وعظمت التضحيات.
حملة الأقلام الذين لا يستحقون شرف حملها، ممن قرعوا الطبول ونفخوا المزامير في زفة الفساد والاستبداد على مدى ثلاثين عاما لقاء الفتات، لم يتوبوا من ضلالهم القديم. فقد تواترت مقالاتهم تباعًا تحث الجيش على إنهاء الفترة الانتقالية، مدعين حرصًا مخاتلاً على أهداف الثورة. فهم إما أن يكونوا قد عرفوا أن الشعب قد ركلهم بصورة نهائية فلم يبق لديهم أمل سوى أن يأتي مستبدٌ جديد إلى الحكم. وإما أنهم يعيشون حالة إنكار فظيعة من هول الصدمة، وصلت بهم حد التوهم أن الثورة لم تحدث أصلا. هذه الفترة الانتقالية بكل عللها تقوم على وثيقة دستورية، مهما تكن عيوبها فإن الشراكة الحاكمة من مدنيين وعسكريين قد ارتضتها ومن ورائهم الشعب. ومن وراء كل هؤلاء المجتمع الإقليمي والدولي. من يقرأ التغيرات في المشهد السياسي الدولي يرى بوضوح أن الولايات المتحدة قد أخذت تنتبه إلى السودان. كما يمكن أن يرى أن الأحلاف الإقليمية المتصارعة في المنطقة تفقد قوة دفعها. هذا الوضع يتيح للسودان الخروج إلى عهد جديد بذاتية مستقلة. يضاف إلى ذلك، أن الشارع لا يزال يحمي ثورته من عبث الجميع؛ بما في ذلك الشراكة الحاكمة والحاضنة السياسية. فالكلمة ستكون في نهاية المطاف للشعب، ولن تكون هناك كلمة لغيره.
|
Post: #135
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-18-2020, 09:51 PM
Parent: #134
حملة النظافة وتحدي استدامتها(1 - 2)النور حمدصحيفة التيار 18 أغسطس 2020 يحمد لوالي الخرطوم الجديد، الأستاذ أيمن خالد نمر، تدشين ولايته بحملة شاملة لنظافة كل أسواق وأحياء العاصمة القومية. وقد ورد فيما تناقلته وسائط الإعلام أن هذه الحملة سوف تستمر لمدة مدى أسبوعين. ورغم أنني أمقت كلمة "حملة نظافة" أشد المقت لكونها ظلت تستخدم في إطار حملات العلاقات العامة لتجميل وجه السلطات الفاشلة. ولقد اعتدنا منذ حقبة نميري وما تلاها، أن تكون حملة النظافة مجرد فورة، لا يلبث أن يذهب زبدها جفاء. غير أن الحالة المزرية التي وصلت إليها العاصمة القومية لم يكن من الممكن معالجتها إلا بحملة ابتدائية، بها يزال هذا التراكم المزمن، ليتمهد الطريق لوضع نظام ثابت مستدام لنقل النفايات. نعرف جميعًا أن الخرطوم من أكثر عواصم العالم اتساخًا، هذا، إن لم تكن الأكثر اتساخا على الإطلاق. ولقد كنت أعجب للمسؤولين في الولاية وفي المحليات الذين يمرون بأسواقها وشوارعها ومجاري مياهها، كل يوم ولا يحرك فيهم ساكنا ما يرونه من هذه الحالة من الاتساخ الشامل. ولعلي لا أبالغ إن قلت إن الاتساخ قد بلغ درجة أصبح معها من المستحيل أن ترى على الأرض قدمًا مربعًا واحدًا في أي جزء من العاصمة وهو خالٍ تمامًا من شيء جرى إلقاؤه عشوائيا. وقد أوصل العجز وقلة الحيلة بعض المحليات أن تدعو المواطنين لوضع أكياس القمامة في الشوارع الرئيسية. فأصبحت أطراف الشارع والرصيف الواقع في منتصف الشارع مكبًا للنفايات. وأخذت النفايات نتيجة لقلة عربات النقل وللأسلوب غير المدروس في الجمع تفيض عن رصيف المنتصف لتحتل جزءًا من الشارع من الجهتين حول رصيف المنتصف. وهكذا أصبح منظر الأوساخ، في بعض الأماكن، ممتدًا بلا انقطاع، لكيلومترات. يضاف إلى ذلك، أن هذا الإلقاء العشوائي للأكياس على الأرض، وعلى طول الطريق، قد جعلها عرضة لنبش الكلاب والقطط الضالة، ما قاد إلى أن تنشر الريح الأوساخ على نطاق واسع جدا. وأن يصبح هذا الركام الممتد من الأوساخ بيئة لتوالد الذباب ولانبعاث الروائح الكريهة. التحدي الذي يواجه الوالي الجديد، الذي أظهر همة عالية، لم يظهرها من سبقوه، هو النجاح في وضع نظام مؤسسي محكم لنقل النفايات يقوم على استرشاد بتجارب الشعوب الأخرى. فنحن لن نعيد اختراع العجلة في هذا الشأن. فهناك شعوب أفقر منا وأقل تعليمًا من شعبنا، ومع ذلك فإن مدنهم وأحياءهم أنظف من مدننا وأحيائنا. فنقل النفايات فرع من فروع علوم الإدارة، وقد أغرق في العلمية بعد أن شرعت البلديات حول العالم في الأخذ بنهج إعادة تدوير المخلفات. يقتضي النجاح في تحويل نقل النفايات إلى عمل روتيني محكم مستدام لا ارتجال فيه، توفر عدد من العناصر، منها: القوة الميكانيكية الناقلة والآليات الكافية، إضافة إلى الوقوف على صيانتها بصورة مستمرة. فما أكثر ما استوردنا من آليات وما أكثر ما أهدي إلينا منها. لكنها كانت لا تلبث أن تنتهي إلى خردة متراكمة في حيشان المحليات. ولقد رأيت قبل بضعة أيام فيديو جرى تصويره من داخل حوش تابع لمحلية كرري، مليء بآليات وبسيارات معطوبة من سيارات نقل الأوساخ، وهي معبأة بالأوساخ. ويعجب المرء كيف أن هذه السيارات مملوءة بالأوساخ وانتهت إلى حوش المحلية بدلا من أن تنتهي إلى المكب العام النفايات. وأيضًا لماذا تركت في الحوش بهذه الصورة؟(يتواصل)
|
Post: #136
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-19-2020, 07:46 AM
Parent: #135
حملة النظافة واستدامتها (2 – 2) النور حمد
صحيفة التيار 19 أغسطس 2020
لقد غيرت الإنقاذ الدور الرئيس للحكم المحلي، بوصفه أداة لترسيخ العمل الديموقراطي، وتسلُّم الشعب سلطة القرار التخطيطي ورسم السياسات وسلطة القرار التنفيذي على مستوى القواعد، وحولته إلى أداة لسلب الشعب حقه في إدارة شؤونه وتكريس الفوقية الاستبدادية الإملائية. سيَّست الإنقاذ الحكم المحلي وجعلته ذراعًا للحزب الحاكم، به يجري تزييف الانتخابات، كما جعلته عينًا لجهاز الأمن تراقب من خلالها المواطنين. في هذا الإطار جرى تصعيد نهَّازي الفرص إلى مواقع القيادة لكي يقوموا بهذه الأدوار، إضافة إلى توسيع ماعون الجبايات، نظير أن يحصلوا هم على فرص الثراء بامتلاكهم سلطة القرار المحلي والتصرف في موارد وقدرات المحليات. لذلك فإن اتساخ الخرطوم بهذه الصورة المؤسفة إنما هو نتيجة لما أحدثته الإنقاذ من تخريب في أجهزة الحكم المحلي. فقد انصرفت هذه الأجهزة عن دورها في خدمة المواطن لتصبح خادمة لنظامٍ فاسدٍ عمد إلى أن يترك أبواب الفساد مشرعة لمنسوبيه. لذلك، إن على ولاية الخرطوم ولجنة إزالة التمكين أن تسرعا في تفكيك هذا المنظومة بتغيير مفاهيمها، أي تحويل الحكم المحلي من أداة محتكرة للسلطة إلى أداة للشعب يحكم من خلالها نفسه بنفسه. فتغيير الأفراد دون تغيير المفاهيم لن يكون مفيدا في عملية الإصلاح.
من المعيب جدا أن يجري سلب المواطنين سلطة القرار وحرية الإرادة ليصبحوا غير قادرين حتى على تنظيف أحيائهم. والنظافة أصلا فعل تضامني لا تستطيع السلطات الإدارية القيام به دون أن تشرك فيه المواطنين. ولهذه الشراكة عدة أوجه، منها على سبيل المثال: تصعيد قيادات الحكم المحلي من القواعد عبر انتخابات ديموقراطية نزيهة. على أن يكون للشباب والنساء وجود فيها وفقا لصيغة ما. هذا الوضع يمنح القواعد فرصة للمشاركة في رسم السياسات وفي الاطلاع على الميزانيات ومراقبة أوجه صرفها. فالشعب ظل مغيبا عن هذه الأمور تحت حكم الإنقاذ الذي قام على أن الحكم هو حق حصري لفئة بعينها هي منسوبيه وحدهم.
أيضا من أوجه الشراكة المجتمعية قيام قيادات المحلية بإطلاع المواطنين عبر ممثليهم في الحكم المحلي على ما يجري في المحلية بصورة دورية. يضاف إلى ذلك إشراكهم في وضع الخطط الممرحلة للنهوض بالنظافة وترقية مختلف جوانب البيئة الحضرية من رصف وسفلتة وإنارة للطرق وتطوير نظام الصرف الثحي وتصريف المياه وإضاءة الشوارع وتنظيم وضبط العمل التجاري والصناعي وسط الأحياء والأسواق.
لن تكتمل هذه الصورة من دون النظر إلى دور التوعية في ترقية سلوك الأفراد. فإذا لم يرتقِ الحس الحضاري والسلوك المديني المنضبط وسط الأفراد، فإن جهود السلطات سوف يصيبها الوهن بسرعة شديدة. في هذا الباب تستطيع ولاية الخرطوم التي تملك محطة تلفزيونية من إدارة حملة للتوعية عبر الحوارات والبرامج المتخصصة والوثائقيات المتعلقة بإزالة النفايات وكذلك تقديم ما يرتقي بالسلوك الحضري للأفراد. كما لابد من التنسيق مع وزارة التربية والتعليم الولائية لإدخال النظافة العامة وقواعد المسلك المتمدن وترقية بيئة الأحياء السكنية ضمن المنهج المدرسي. إلى جانب ما تقدم، يحتاج نظام الحفاظ على النظافة إلى قوانين وموجهات، إضافةً إلى سلطات رقابية ميدانية تملك سلطة فرض العقاب على المخالفات. عمومًا، إن ثورة ديسمبر التي انطلقت من الشارع من أجل الشارع سوف لن تبلغ أهدافها إلا إذا أصبح هذا الشارع هو صاحب سلطة القرار في إدارة شؤون وهو الرقيب اليقظ لكل ما يجري بخصوص مختلف جوانب حياته.
|
Post: #137
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-20-2020, 08:25 AM
Parent: #136
الثورة وتشكيلة الحكم الراهنة
النور حمد
صحيفة التيار 20 أغسطس 2020
لا يمكن تجاوز قصور الواقع بقفزة عبر الهواء. فالواقع يفرز ما هو ممكن في السياق الظرفي للحالة الكلية القائمة. ولذلك لابد أن نميز تمييزًا دقيقًا بين الثورة كتصورات وتطلعات ظلت تعتمل في أذهان الثوار، وبين تجلياتها وهي تغالب إكراهات الواقع القائم. لهذا السبب كنت أشعر شعورًا قويًا أن ثورة ديسمبر 2018 ستمر بنفس المضائق التي مرت بها سابقتاها في أكتوبر 1964 وأبريل 1985. بل إن مضائق وتحديات ثورة ديسمبر ستكون أفدح وأكثر حرجًا لأن البلاد قد دخلت حالة إنهاكٍ غير مسبوقة. تؤكد ذلك المعرفة العامة بالعلوم السياسية وبالعلل البنيوية التي اتسم بها العمل السياسي في السودان، عبر مرحلة ما بعد الاستقلال. والآن، لو أننا قمنا بجرد لحصاد العام الذي انصرم، منذ توقيع الوثيقة الدستورية، لاتضح لنا أن الثورة، بوصفها تصورات وتطلعات لواقع جديد شيءٌ، وما تقوم به الشراكة العسكرية المدنية من عملٍ مرتبكٍ، شيءٌ آخر. بل إن أي حوار بين الثورة كما هي في أذهان الثوار وبين الشراكة العسكرية المدنية التي تمسك الآن بعجلة القيادة، لن يكون سوى حوار طرشان.
كل واقع سبق أي ثورة يصبح، بالضرورة، جزءًا لا يتجزأ من دينامياتها، أرادت الثورة ذلك، أم لم ترد. ولذلك فإن أي توقع لاتساق الأفعال وازدهار الأحوال العامة وانطلاق الفعل الثوري في الواقع بسلاسة عقب انتصار الثورة مباشرة، لا يكون سوى أحلام بلا سيقان تقف عليها. يصبح هذا أكثر تجسيدا حين يكون الواقع السابق للثورة واقع شكله نظام حكم استبدادي كليبتوقراطي استحواذي كنظام الإنقاذ. فالشراكة بين قيادات الجيش، وهم جزء لا يتجزأ من بنية النظام المقتلع، إضافة إلى أن لهم اليد العليا في تلك الشراكة، لا تسمح بتحولٍ حقيقي. ولا يقف الخلل في بينة الحكم القائمة في الشق الذي يمثله المكون العسكري وحده. وإنما في المكون المدني أيضا. فهو الآخر مؤوف بحمول ثقيلة جرها معه من ماضي السياسة السودانية المعتل. لذلك لا غرابة أن أخذت خطوط الثوار تتباعد عن خطوط ما سميت الحاضنة السياسية الممثلة في قوى الحرية والتغيير، وخطوط قوى الحرية والتغيير فيما بينها، أيضا. سبب كل ذلك يعود إلى التربية السيئة للنخب السياسية بمختلف انتماءاتها. فهي تربية معتلة يحكمها التنافس والكيد والتخندق الجهوي وعبادة صنم المنصب. وقد أخذ كل ذلك يتجلى الآن أمام الأعين حتى بدأت تنشأ منه حالة شبه عامة من الاحباط وال################ وسط مختلف قطاعات الشعب.
عبر العام المنصرم أخذت سوءات الممارسة السياسية المعتلة في السودان تتجلى وسط المكون المدني بكل طيفه الواسع المكون من الأحزاب والقوى المهنية والنقابية والحركات المسلحة والطاقم الحاكم في المجلس السيادي ومجلس الوزراء. كل هذا الجسم السياسي المدني العريض كان أقل بكثير من قامة الثورة. وأكبر الشواهد على انغراس أقدامه في أوحال الماضي طابعه الشللي ونزوعه إلى للمحاصصات وعدم قدرة متنفذيه على التخلي عن المنصب. عدم قدرة السياسي عن التخلي عن المنصب هي ما تجعله ينثني وينحني للضغوط، ويبيع من أتوا به ليبقي على كرسيه. فعدم الشفافية وإخفاء الحقائق عن الثوار أو عرضها بصورة جزئية مما نشاهده الآن، إنما يعود إلى هذه العلل. ولو أنهم ركنوا إلى الشعب وأسندوا ظهورهم إليه، لبقوا في المناصب بأكثر مما يتوقعون. خلاصة القول إن هذه الثورة منتصرة، ولكن عبر موجات متلاحقات سيعمل فيها غربالها في لفظ الشوائب، وما أكثرها. .
|
Post: #138
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-21-2020, 01:14 AM
Parent: #137
الضغطُ ضروريٌّ لكن بحساب
النور حمد
صحيفة التيار 21 أغسطس 2020
لا تسير الثورة في خط مستقيم تصل به في النهاية إلى أهدافها. فالثورة جنينٌ للواقع بكل علله التي دعت الناس إلى الثورة، في المقام الأول. تعتري مسار كل ثورة الكثير من التعرجات ومن حالات الصعود والهبوط. ومن يتصور أن الثورة تسير في خط مستقيم، بقوة دفع ثابتة، وحالة ضغط متزايدة متنامية باستمرار، حتى تبلغ أهدافها يقع في فخ المثالية التي تعمى عن رؤية تعقيدات الواقع وإكراهاته. فما أكثر ما انتكست الثورات في التاريخ نتيجة للحسابات الخاطئة والاندفاع الأعمى. كل تحرك في مسار أي ثورة ينبغي أن يخضع لحسابات دقيقة فيما يتعلق بالربح والخسارة. ويقتضي ذلك قراءة حصيفة لمكونات الواقع السياسي وقواه المختلفة وأجندتها وتكتيكاتها. ولا جدال هنا أن أداء الشراكة الانتقالية بين القوات المسلحة والمكون المدني لم يكن مرضيًا، وهو ما قاد إلى الشعور بأن الثورة يجري خنقها بعمل ممنهج، يبعدها عن أهدافها كل صبح جديد.
من منطلق الاشفاق على مصير الثورة خرجت مواكب 17 أغسطس الجاري بغرض إرسال رسالة إلى من يديرون الفترة الانتقالية، مفادها أن جذوة الثورة لا تزال حية. لكن، دخلت على الخط في دعم هذا التحرك، القوى المعادية للثورة. وهي قوى تشمل كيانات من داخل مؤسسة الحكم الراهنة، وأحزاب متآمرة على الثورة، إضافةً إلى أنصار النظام المدحور. أخذت هذه الكيانات المختلفة في التشجيع على هذه المواكب، بل والانخراط بالمشاركة فيها، لكن بأجندة مختلفة، جوهرها خلق حالة من الاضطراب وتصعيدها لتصل إلى فوضى شاملة تبرر للمؤسسة العسكرية أخذ عنان الحكم في يدها منفردة، بدعوى انفراط عقد الأمن. ولقد رأينا الدعوات المتكررة من سدنة النظام المدحور في داخل البلاد وخارجها للقوات المسلحة لإخراج المدنيين من الشراكة والانفراد بإدارة الفترة الانتقالية. وما ذلك سوى ذرٌّ للرماد في العيون، لأنه لن تكون هناك فترة انتقالية، وإنما تطبيق حرفي للنموذج المصري على السودان.
لا أشك أبدًا أن ما جرى أمام مجلس الوزراء في موكب 17 أغسطس، ومنح الشرطة الفرصة للتدخل العنيف الذي جرى، رغم تعهدات والي الخرطوم، كان عملاً مدبرًا لإيغار صدور الثوار ودفعهم إلى مزيد من التصعيد، وإعادة الأمور كرة أخرى إلى مربع المتاريس وحرب الأحياء مع القوات النظامية. لقد مارست قوى الثورة المضادة طائفة متنوعة من الأعمال الخسيسة، منها على سبيل المثال: خلق الندرة في السلع وإرباك الخدمات، ومضاعفة الأسعار، وإنهاك الجنيه، وإشعال الحرائق في أطراف البلاد. ولما وجدوا أن الشعب قد تحمل كل ذلك بتفهم وجلد كبيرين، التفتوا إلى استغلال المواكب واتخاذها وسيلة لتنويع أعمال الهدم الممنهج التي ظلوا يمارسونها.
خلاصة القول، لابد من قراءة الخريطة السياسية بعين فاحصة وفرز الأجندة المختلفة لمكونات هذه الخريطة شديدة التشابك. من الأفضل أن تستمر الفترة الانتقالية بعللها، مع الضغط المحسوب لإصلاح ما يمكن إصلاحه منها. من ذلك، استكمال مؤسسات الحكم، كقيام المجلس التشريعي والمفوضيات وغير ذلك. فالانتخابات هي الفيصل في نهاية الأمر. صيغة الحكم الجارية، برموزها، وعلى علاتها الكثيرة، هي ما قبله المجتمع الإقليمي والمجتمع الدولي. إن أفضل ما جرى في الحراك الأخير هو الاعتصام أمام مقار المحليات، التي لا تزال بؤرًا للثورة المضادة. وهذا يعكس نموذجا في تنويع المواقع التي ينبغي أن يُمارس عليها الضغط الثوري، كما يعكس أيضا تنويعا للأساليب. فالانطلاق من مجرد الشعور بالإحباط لا يخدم الأهداف، بل ربما يجهضها ويعيد العجلة إلى الوراء.
|
Post: #139
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-22-2020, 04:18 PM
Parent: #138
التصعيد لن يفيد
النور حمد
صحيفة التيار 22 أغسطس 2020
ركبت عدد من القوى السياسية، في الآونة الأخيرة، موجة التصعيد ضد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وهي موجة صنعتها قوى الثورة المضادة بهدف إفشال الفترة الانتقالية. لقد بدأت هذه الموجة قبل أن يضع الدكتور عبد الله حمدوك قدمه في مكتبه. وكان صاحب ضربة البداية فيها، السيد الصادق المهدي، الذي قال لحظة بدء حمدوك عمله: "إذا فشلت حكومة حمدوك سنذهب إلى انتخابات مبكرة". أما إعلاميو الانقاذ، في الصحف الورقية والإلكترونية، الممولة من قبل جهاز أمن البشير، الذين تكاثروا كما الفطر في البرية، فإنهم ما وجدوا فرصة لإثارة البلبلة وبث الشائعات الضارة إلا وانتهزوها. ولا تزال أموال منسوبي النظام المدحور تعبث بمعاش الناس، ولسوف تواصل خبثها المعهود. المدهش، أن الحزب الشيوعي الذي شارك في الثورة وفي كل مراحل التفاوض وصناعة الوثيقة الدستورية، قد أصبح على رأس هذه الموجة.
لست بصدد الدفاع عن حكومة حمدوك، فأداؤها ضعيف دون شك. لكن، الأمانة تقتضي أن نقول إن الضعف الذي اعترى أداء حكومة حمدوك، في عامها الأول، يعود بصورة رئيسة إلى الوثيقة الدستورية المعيبة، وأيضًا، إلى الأخطاء في اختيار قيادات العمل التنفيذي. وهذه أمور شارك فيها الحزب الشيوعي عبر ما لديه من منسوبين داخل قوى الحرية والتغيير، وعبر ممثله في المفاوضات، السيد صديق يوسف. لكن، يبدو أن الحزب الشيوعي يسترشد بمقولة الشيخ الراحل، حسن الترابي الشهيرة، للرئيس المخلوع عمر البشير: "اذهب إلى القصر رئيسًا، وسأذهب إلى السجن حبيسا". فالحزب الشيوعي، فيما هو ظاهر الآن، يريد، من جهة، ألا يغيب عن أروقة سلطة الفترة الانتقالية. لكنه يخشى، من الجهة الأخرى، أن يسقط مع السلطة الانتقالية إن هي سقطت، فبادر بحجز مقعده في المعارضة. وهذا هو عين ما مارسه المؤتمر الشعبي، أثناء الثورة، حين دفع بشبابه إلى الشوارع وإلى ساحة الاعتصام، وبقي هو متشبِّثًا بأردان الرئيس المخلوع، حتى سقط.
تكمن علة السودان، منذ الاستقلال وإلى اليوم في التواءات سياسييه وضمور أفقهم المعرفي. فهم متشابهون، سواءً كانوا في اليمين، أو في اليسار. فالتخندق الجهوي وترشيح الذات لدور البطل الأوحد المنقذ، داءٌ يتملكهم أجمعين؛ من كان منهم زعيمًا لطائفة، ومن كان منهم قياديًا في حزب عقائدي. فالمعدن واحدٌ، في نهاية الأمر. فهل يا ترى يخطط الحزب الشيوعي لإبقاء الصراع حيًّا في الشوارع، حتى ينتهي به إلى حكومة بلشفية، على غرار حكومة لينين، مثلا؟ ولو فرضنا أننا جميعًا؛ عسكرًا ومدنيين، تنازلنا الآن عن السلطة للحزب الشيوعي ليحكم منفردًا، فماذا هو فاعلٌ وحده مع هذه الأوضاع بالغة التعقيد؟ هل سيتمكن من خفض سعر الجنيه مقابل الدولار في التو والحين؟ وهل سيعمل ما يجعل الأسعار تنخفض ثلاث أضعاف، في شهر أو شهرين؟ وهل سيخرج السودان من عزلته الدولية ويقوم بتسديد ديونه البالغة 60 مليارًا في عام أو عامين؟ يقول أهلنا الحكماء: "الفي البَر عوَّام".
لقد قامت هذه الفترة الانتقالية على وثيقة معيبة، منذ البداية، ولذلك فإنها سوف تستمر معيبة حتى تكمل شوطها. لن يستطيع أي دعيِّ أن يدعي أن بوسعه تحسين معاش الناس فيها بصورةٍ لافتة. فلا اختراق إلا بتوافق شامل. فلو عجزنا عن إحداث التوافق الشامل، فلننهي ملف السلام، ولنشكل المجلس التشريعي، ونعد للانتخابات. ولتشتغل أحزابنا بترميم بنياتها وتحديثها، استعدادا لها. ما عدا ذلك فهو تهريجٌ وغش يشبه تهريج وغش الانقاذ.
|
Post: #140
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-23-2020, 01:59 AM
Parent: #139
المقاومة ليست في الشارع وحسب
النور حمد
صحيفة التيار 23 أغسطس 2020
لقد أنجزت لجان المقاومة عملاً تاريخيًا مجيدًا، بالغ العظمة، حين واجهت نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بتاتشراته التي انتهكت حرمة الأحياء السكنية، وداست على أجساد الثوار. لقد كانت ملاحم مواجهة الثوار لنظام البشير على مدى أربعة أشهر، عملاً نضاليًا استثنائيا، مارس فيه الثوار من النضال السلمي ما أبهر العالم. وقد انتهت تلك المواجهات الباسلة، بعد تضحيات جسام، إلى أن يخر نظام الإنقاذ المرذول جاثيا على ركبتيه. لكن، كما هو معلوم من دروس التاريخ، فإن الثورة لا تكتمل في ضربة واحدة، ولا تسير عبر مراحلها على وتيرة واحدة. ومن الخطأ، في تقديري، تصور أن العمل في التغيير سيستمر في الشارع، بذات النسق الذي بدأت به الثورة وأنجزت به الخطوة الأولى من خطوات التغيير، وهي إزاحة قمة النظام. فالواقع السياسي يصبح، نتيجة لتضارب المصالح، والمطامع الفردية، والجهوية ونزعة الاستحواذ، أكثر تركيبًا وتعقيدًا في المرحلة التي تلي إسقاط النظام. فالحراك المستمر في الشارع، بلا حسابات دقيقة، ربما يصبح سلاحًا فتاكًا في أيدي مناهضي الثورة وكارهيها. أكثر من ذلك، أن الحراك غير المدروس، غير المُجمع عليه تمامًا، يقود إلى إحداث انقسامات وسط الثوار أنفسهم، ويضعف حالة الإجماع العام، التي كانت السبب الرئيس وراء نجاح الثورة. علينا أن نتذكر أن تجربة الثورة المصرية، وكيف أن المصريين قد ضاقوا في مرحلة من مراحل الثورة المصرية، بإغلاق الشوارع وتعطيل معايش الناس وإرباك وتيرة الحياة اليومية. وقد أعقب ذلك الإرباك لإيقاع الحياة اليومية المصرية عامٌ من حكم الإسلاميين جعل قطاعا كبيرا من الثوار المصريين، خاصة وسط المثقفين اليساريين والليبراليين، يخشون من تكرار تجربة التمكين السودانية في مصر. هذا التراكم خلق الثغرة التي كان يبحث عنها العسكر للوثوب إلى السلطة لحماية مصالح مؤسستهم العسكرية، التي استولت على الاقتصاد في عهد مبارك، وحولتهم من جنرالات إلى أرباب أعمال بل وملوكٍ في بزز عسكرية.
تضار الثورة كثيرًا حين ينحصر نظر الثوار في المساحة الممتدة أمام أقدامهم، لا أكثر. فالنظر الحصيف يقول إن الفترة الانتقالية فترة قصيرة جدًا، وليست هي التي تحدد مآلات الأمور في السودان، مهما صنعنا فيها. ما سيحدد مآلات السودان هو الانتخابات التي تعقب الفترة الانتقالية. ولأن أحزابنا المؤدلجة لا يزال وعيها ملفوفا في أوهام تحقيق الأهداف، عبر الشرعية الثورية، فإنها لا تزال تظن أنه يمكنها قلب كافة الأوضاع، جملةً واحدةً، وإلى الأبد، عبر المرحلة الانتقالية. هذا في حين أن المطلوب هو استغلال فرصة الفترة الانتقالية للعمل على تعديل الأوزان الانتخابية المتوارثة ليصبح جمهور الثورة وأنصارها هم الذين يأتون بأكبر عدد من النواب إلى البرلمان. إذا لم يحدث هذا، وفق صيغة ما، فإن كل ما شكونا منه في الماضي سوف يصبح هو المسيطر على الأوضاع من جديد، عقب الفترة الانتقالية، بل ومسنودا بشرعية صندوق الاقتراع. من يتابع المشهد السياسي السوداني يلاحظ أن أكثرية الفاعلين السياسيين منشغلون بتحقيق المكاسب السياسية في الفترة الانتقالية، بلا اكتراث لما سيحدث عقبها. ولا غرابة، لأن الانشغال بالآني هو طبيعة القوى السياسية لدينا. ولو حصرت قوى الثورة وخاصة لجان المقاومة نظرها في الفترة الانتقالية فإنها تكون قد منحت القوى السياسية المنظمة، وهي قوى معطوبة بنيويًا، فرصة العمر التي تريدها. باختصار شديد، تحويل لجان المقاومة إلى قوةٍ انتخابيةٍ هو الواجب المباشر، وليس العراك في الشوارع وحسب.
|
Post: #141
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-25-2020, 01:26 PM
Parent: #140
هل ستفكك الدولة الموازية نفسها؟
(1 من 2)
النور حمد
صحيفة التيار 24 أغسطس 2020
قرأت بالأمس تقريرًا صدر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، كتبه جان بابتيست قالوبين. حمل التقرير عنوان: "الرفقة السيئة: كيف يهدد المال الأسود الفترة الانتقالية في السودان". والتقرير ليس جديدًا جدًا، فقد صدر في يونيو؛ أي قبل شهرين من الآن. وسوف أقوم بترجمة فحوى الملخص الذي وضعه معدوه على صدره، فهو كاف جدًا ليرسم وصورة واضحة للوضع المأزوم في بلادنا. يقول التلخيص: انتقال السودان إلى حكم دستوري يواجه الفشل. فإصلاح المؤسسات الدستورية لم يبدأ، في حين يواجه القطر أزمة اقتصادية متصاعدة، وتدهورًا حادًا في أحوال الناس المعيشية، مع اشتعال للعنف الموضعي في مختلف أرجاء القطر. فالجناح المدني من الدولة السودانية مفلسٌ، ولكنه لا يود مجابهة الجنرالات الأقوياء الذي يتحكمون في شبكة واسعة من الشركات، ويعملون على الإبقاء على البنك المركزي ووزارة المالية في وضع شبيه بوضع مريض في غرفة الإنعاش في المستشفى، بغرض امتلاك وتكريس السلطة السياسية في أيديهم.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية فيقول ملخص التقرير عنهما، أنهما فيما يبدو يهيئان قائد مليشيا، يُعرف باسم حميدتي ليصبح القائد الجديد للسودان، غير أن الجيش يناصبه العداء بشدة. ويقول ملخص التقرير أيضًا: أما الدول الغربية والمؤسسات الدولية فقد خذلت الجناح المدني في الحكومة السودانية. فهم قد فشلوا في توفير الدعم المالي والسياسي الذي يمكِّن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك من الوقوف في وجه الجنرالات. والفرصة الوحيدة لنجاح الفترة الانتقالية تتمثل في قدرة الحكومة الانتقالية على تثبيت الاقتصاد. وكذلك إذا عمل المدنيون بقوة شديدة لكي يعدلوا ميزان القوة بعيدًا عن الجيش ليصبح في صالحهم. وينتهي التلخيص بالقول: على الأوربيين أن يستخدموا علاقتهم بحمدوك، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية لتأسيس سيطرة للمدنيين على شبكة الشركات الواقعة في يد الجنرالات.
لقد انفصلت الدولة الموازية عن الدولة السودانية الأم منذ عقود. وقد أخذت الدولة الموازية منذ ذاك الحين في القضاء على الدولة الأم وتحويلها إلى قوقعة فارغة. في عام 2011 أوردت صحيفة الراكوبة نقلا عن ويكيليكس أن رجال أعمال ومسئولين حكوميين ومستشارين أمريكيين قالوا، استنادًا على إفادات لمسؤول سوداني سابق، تعود إلى عامين أو ثلاثة قبل ذلك التاريخ، أي (2009)، إن الاقتصاد السوداني مهيمَنٌ عليه من قبل الشركات شبه الحكومية ذات الصلة بالنخبة الشمالية الحاكمة. وأن هناك أكثر من 400 شركة سودانية شبه حكومية، "ستُمكِّن بقدرتها المالية وأنشطتها، المؤتمر الوطني من الفوز بانتخابات 2009. وقال المسؤول الحكومي: حتى إذا تمت إزاحتهم عن السلطة فسيظلون مهيمنين على الاقتصاد". فدعونا نتصور الآن مدى السيطرة والهيمنة التي وصلت إليها هذه الشركات في الفترة الممتدة من 2009، إلى 2020. وإذا قرنا هذا بمار ورد في تقرير مجلس العلاقات الدولية الأوروبي وتركيزه على ضرورة أن يستعيد المدنيون السيطرة على الموارد الضخمة التي أصبحت حكرا لهذه الشركات الأخطبوطية، فلسوف يتضح لنا جليا أن معركة العبور نحو نظام دستوري مستقر نتنحصر بصورة رئيسية في معالجة هذا الملف، وليس غيره.
كل حوامة خجولة مرتبكة حول هذا الملف، تتنكب مقاربته بالشجاعة والوضوح الكافي لن تجدي نفعا ولسوف ننتهي إلى اندحار للثورة وضياع كامل لشعاراتها وأهدافها. بعبارة أخرى، توقيع اتفاقية سلام مع القوى المسلحة، وإقامة مجلس تشريعي، واستكمال المفوضيات لا تعنى كلها شيئا إن لم نصل، بتوافق حكيم بين جميع الأطراف، إلى حل لهذه العقدة. (يتواصل)
|
Post: #142
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-25-2020, 01:30 PM
Parent: #141
هل تفكك الدولة الموازية نفسها؟ (2 من 3)
النور حمد
صحيفة التيار 25 أغسطس 2020
ظاهرة تحوُّل الجيوش من مهامها التي يحددها لها الدستور، لتصبح كيانًا منفصلاً عن الدولة الأم له مؤسسات اقتصادية لها أذرع تتكون من عديد الشركات ظاهرة قديمة. غير أنها أخذت أبعادًا جديدة في ظل الأنظمة العسكرية المعاصرة، خاصة في دول العالم النامي. وللدول العربية التي حكمها العسكر لعقود طويلة، نصيب وافر في ممارسة هذا النموذج ولكن بنهج مدمر. ولقد اهتمت مراكز الأبحاث العالمية المشتغلة في مجال السياسة والسياسات بهذه الظاهرة، فأخرجت فيها العديد من التقارير والدراسات والكتب. لقد استطاعت بعض النخب العسكرية عبر هذه الفكرة الشيطانية من السطو على الدول ومن وضع الشعوب تحت السيطرة بإحكام القبضة على الموارد ومن ثم السيطرة على حركة دولاب الحياة اليومية المتعلق بمعاش الناس. وكما هي الحالة القائمة الآن في السودان، فهناك الدولة المدنية المفلسة التي لا تتحكم إلا في 18٪ فقط من الموارد وهناك المؤسسة العسكرية بفصائلها المختلفة ومن يدور في فلكها من الرأسماليين المنتفعين من ورائها الذين يسيطرون على 82٪ من الموارد، ويديرونها بمعزل عن أعين الشعب وحكومته الشرعية.
يمثل ما تقوم به هذه الجيوش استعادة ذكية للنظام الملكي، عن طريق خلقه من جديد داخل نظام الدولة ذات السمات الجمهورية الجزئية، كما هو الحال الآن في مصر والسودان. فالقوى المسلحة بمختلف فصائلها تتحكم في مفاصل الاقتصاد تحكمًا كاملاً، بلا رقابة من أحد خارج المنظومة العسكرية. والذي تغير الآن، هو أن هذا النظام الملكي الجديد لم تعد تجلس على رأسه أسرة مالكة يترأسها كبيرها، الحامل للقب "ملك" . وإنما تجلس على رأسها مجموعة من الجنرالات الذين خلقوا لأنفسهم نظامًا ملكيًا يعمل لصالح قبيلة جديدة، هي القبيلة المسلحة. وفي هذا استعادةٌ للتاريخ تماثل التطور الذي تحولت به القبائل القوية في التاريخ إلى أُسر مالكة، كما جرى في الجزيرة العربية.
يرى كثيرون أن شعوب الدول النامية لم تصبح مؤهلة بعد لممارسة الديموقراطية، خاصة نمط ويستمينيستر، وفي هذا قدر من الصحة في تقديري، لكن ليس هذا محل نقاشه. المهم أن حكام الخليج أصحاب الثروات الطائلة والقدرة على شراء السلاح وتوزيعه لتغيير الأنظمة في مختلف الدول، يعتنقون هذا الرأي. فهم يريدون تعميم نموذجهم على المنطقة العربية. وقد كان دورهم واضحًا في إعادة مصر بعد الثورة إلى الحكم العسكري وفق صيغة تشبه صيغة أنظمتهم الملكية. الاختلاف فقط هو وجود جنرال مكان الملك. تقوم معادلة الخليج، بحكم الثراء، على تقديم العيش الرغد مقابل صمت الشعب واستكانته. أما في مصر، حيث الموارد محدودة والقدرة المالية ضعيفة، وحيث عدد السكان بالغ الضخامة، فقد أصبحت المعادلة: البطش والاستقرار المعيشي مقابل الصمت الشعبي.
لقد مثلت عملية فض الاعتصام بتلك الطريقة البشعة هي ضربة البداية في محاولة تطبيق نموذج السيسي في السودان. غير أن مليونية 3 يونيو 2019 أفشلت تلك الخطة. من ثم، تحول التكنيك من كسر إرادة الثوار، إلى خنق الحكومة المدنية وإفشالها بغرض إبعاد التأييد الشعبي عنها، ووضع الشعب تحت رحمة هذه القوة المستترة الغامضة التي تحاول سوقه إلى الخضوع والاستسلام عن طريق التقتير عليه في معاشه وجعل حياته اليومية جحيمًا لا يطاق. فهل يا ترى ستنجح المعادلة الخليجية في صورتها المصرية المعدلة، القائمة على البطش وشراء صمت الشعب واستكانته لقاء الأمن الشخصي واستقرار الأوضاع المعيشية؟ وهل هناك مخرج آمن يتسم بالحكمة، من هذا المطب الزلِق بالغ الخطورة؟ (يتواصل)
|
Post: #143
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-27-2020, 11:17 PM
Parent: #142
هل تفكك الدولة الموازية نفسها؟
(3 من 3)
النور حمد
صحيفة التيار
الدولة الموازية خطة نفذها نظام الرئيس البشير، ضمن نهجه اللاأخلاقي الذي هدف إلى ترسيخ أركان النظام الكليبتوقراطي اللصوصي الذي استهدف سرقة الموارد بصورة ممنهجة بعيدًا، عن عين أجهزة الدولة الأم. وقد نبه الأكاديمي والباحث الاقتصادي الدكتور خالد التجاني النور، في السنوات الأخيرة من عمر نظام الإنقاذ إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع الكتلة النقدية في البلاد تدور خارج الجهاز المصرفي. ورثت البلاد هذه الدولة الموازية عقب الثورة المجيدة وأصبحت بحكم طبيعتها، وغرضها الذي تأسست من أجله، آليةً مجهضة لأهداف الثورة. هي مجهضة لأهداف الثورة ومعوقة لمجريات الفترة الانتقالية، سواءً قصد القائمون على أمرها ذلك، أم لم يقصدوا. يضاف إلى ذلك، تمارس قوى الثورة المضادة في ظل هذا الوضع، اصطفافاتها المخاتلة وصيدها في الماء العكر. والثورة المضادة، فيما أرى، تشمل جزءًا من المكون العسكري، وجزءًا من الأحزاب التي تدعي أنها مع الثورة، إضافة إلى منتسبي النظام المدحور بجميع فئاتهم.
لكن لا يمثل كلُّ ما تقدم رصده، كلَّ شيء. فهناك قوى وتوجهات أخرى لا تقل أفعالها إضرارًا بمسار التعافي المؤسسي، وجهود تصحيح وضع الدولة الموازية. من ذلك، اللاشفافية التي اتسم بها أداء قوى الحرية والتغيير، وابتعادها المتنامي عن نبض الشارع. يضاف إلى ذلك، ضعف أداء حكومتها التي أتت بها وحالة الغياب التي غرقوا فيها. إلى جانب كل ذلك، هناك أيضًا الحركات المسلحة التي أسهمت في أن يسيطر الضجر على نفوس الجماهير وأن تدب فيهم روح اليأس، بسبب استطالة أمد المفاوضات وتعثرها. إلى جانب ذلك، انحصار هم المتفاوضين في المحاصصات وفي مغانم الفترة الانتقالية، خصمًا على بث روح الأمل في الناس، والسعي إلى تحقيق أهداف الثورة الكبرى في التحول الديموقراطي. لقد تعطل تعيين الولاة المدنيين بهذا السبب وتأخر إنشاء المفوضيات أيضًا. كما عطلت قوى الحرية والتغيير قيام المجلس التشريعي بسبب سيطرة عقلية المحاصصات هذه، وبسبب تراخي قوة الحرية والتغيير في حسم هذه النقطة.
هذه هي صورة المشهد المتشظي الذي يسهم بالضرورة في ترسيخ عقيدة العسكريين القديمة التي وقفت وراء كل الانقلابات العسكرية التي أكلت 52 عامًا من عمر استقلال البلاد، وانتهت بالبلاد إلى حالة الفشل والضعة التي نراها بها اليوم. تتلخص عقيدة العسكر الراسخة في أن المدنيين لا يصلحون للحكم. وللأسف فإن سلوك المدنيين يقدم للعسكر مزيدًا من الشواهد لكي يظلوا على عقيدتهم تلك. فالمدنيون بأنانيتهم وتمركزهم حول مصالحهم الذاتية والجهوية الضيقة، يؤكدون باستمرار للعسكريين بأنهم ليسوا أهلا للحكم. هذا الوضع المعقد والشائك يحتاج نقاشًا شفافًا في الهواء الطلق. ولا بد أن يكون نقاشًا في الفضاء العام. فنخبنا المدنية والعسكرية لا تزال أسيرة لاتخاذ القرارات خلف الأبواب المغلقة. وفي تقديري أن الجنوح إلى الإخفاء، من قبل العسكريين والمدنيين، على السواء، أمرٌ يقف وراءه شعور بالإثم. وكما قيل قديما: "يكاد المريب أن يقول خذوني". حالة التوازي والتباعد الراهنة التي ظهرت في خطاب حمدوك وهو يخاطب عامة الشعب من جهة، وفي خطاب البرهان وهو يخاطب القوات المسلحة من الجهة الأخرى، وضعٌ يتحتاج إلى تفكيك عبر وساطة تذلل حالة التوازي القائمة هذه. فهذه حالة بالغة الخطورة على مستقبل الثورة ومستقبل البلاد أيضًا. فهل نحلم بأن يضع الجميع بطاقات اللعب، جميعها، فوق الطاولة ليصبح الحوار الشفاف نهجًا لمقاربة إشكالاتنا؟
|
Post: #144
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-29-2020, 02:32 AM
Parent: #143
شركات الجيش ما لها وما عليها
النور حمد
صحيفة التيار 28 أغسطس 2020
يستغرب المرء ألا يزال هناك من العسكريين من لا يزالون يريدون مواصلة الإمساك بمقاليد السلطة، والانفراد بها، رغم التجربة الفاشلة للرئيس المخلوع ورهطه على مدى ثلاثين عاما. والأغرب أن بعضًا من هؤلاء كانوا ضمن الحاشية العسكرية للرئيس المخلوع. يعرف هؤلاء أن حكم المخلوع ورهطه هو ما قاد إلى عزلة البلاد الدولية وإلى وضعها ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب وعطل تدفق الاستثمارات إليها. كما أدى إلى حرمانها من التكنولوجيا ومن القروض والمعونات الدولية التي تتلقاها الاقتصادات المتعثرة. كما أوقف، في جملة الحال، عجلة البلاد الاقتصادية، حتى أصبح مظهرها العام بائسًا، كئيبًا، لا يعكس سوى الفقر المدقع وقلة الحيلة. لقد استهزأ الرئيس المخلوع ورهطه بالشعب، وقالوا إنهم لن يسلموا الحكم إلا لعيسى. كما حاولوا الالتفاف على إجراءات الخنق التي مارسها، بالتوجه إلى دول شرق آسيا وبخلق قنوات أخرى ملتوية تخفي أنشطتهم عن أعين المجتمع الدولي. غير أن ذلك لم ينجح وأتت حالة الخنق الدولية أكلها، وقد ساعد في ذلك، الفساد العام الذي سيطر. ثار عليهم الشعب، وخرَّ بنيانهم وهم قيام ينظرون غير مصدقين. فهل يريد جنرالات الجيش أن يعيدوا علينا هذه التجربة الفاشلة بكل تفاصيلها، مرةً ثانية؟
المرحلة الراهنة مرحلة مرتبكة، وما كان من الممكن أن تكون بخلاف ذلك. بل، من كان يتوقع أن تكون بخلاف ذلك، شخصٌ حالم. القوى السياسية الممسكة بمقاليد الأمور الآن، كانت غائبة عن العمل التشريعي والتنفيذي لثلاثين عاما. يضاف إلى ذلك أنها أتت إلى السلطة وهي تئن من ثقل رزايا التمركز حول الذات الحزبية والأيديولوجية واختطاف مفهوم الشرعية الثورية. فهم الآن يمارسون تمكينا عكسيًا، أشبه بتمكين الإنقاذ. كل الفرق أن التمكين الحالي تقاسمته جهات حزبية عدة، وليس جهة واحدة، كما في عهد الإنقاذ. لكن، فإن المحصلة النهائية واحدة، وهي إقصاء الكفاءات واحتكار سلطة القرار.
هذا الوضع وضع مأزوم ولا يملك أن يخرج من أزمته هذه إلا قليلا. لذلك، تقتضي الحكمة ألا نسهم في تعقيده أكثر بالشد الحاد والتشاكس ونهج المعادلات الصفرية التي تنتهي بسحق الخصم وتذريته في الهواء. المطلوب في هذا الوضع المأزوم أن نترك الفترة الانتقالية تكمل شوطها على علاتها. وأن ننتظر صندوق الاقتراع ليكون الأداة الحاسمة في قطع الألسن فيما يتعلق بالأوزان الانتخابية. مع أن نسعى بأسرع ما يكون في تكوين المجلس التشريعي بصورة متوازنة وفي إنشاء المفوضيات، وعلى رأسها مفوضية الدستور ومفوضية الانتخابات. وعلى القوات المسلحة وقوات الدعم السريع أن تشرف على ضمان أن يصل هذا المسار إلى غايته، وألا تستخدم قوتها الاقتصادية التي اكتسبتها في فترة حكم الرئيس البشير في زيادة تأزيم هذا الوضع لخدمة أجندتها.
هناك لغطٌ كثير حول شركات الجيش. وهو لغط فيه الكثير من الخلط بين الحق والباطل. لا ضير أبدًا أن تكون للجيش صناعات عسكرية، بل، ينبغي أن تكون له صناعات عسكرية. أما أن تشتغل القوات النظامية من جيش ودعم وسريع وأمن وشرطة في الاتجار بالموارد، وأن تكون حصائل اتجارها مخفية عن جهاز الدولة، بما في ذلك المراجع العام، فهذا وضع مرفوض. بل، لا يوجد شبيه له في العالم، إلا في دول استبدادية قليلة، يديرها حكام لصوص يستديمون الاستبداد العسكري عن طريق مساومة الشعب عبر خنقه في معاشه وتهديد أمنه.
|
Post: #145
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-30-2020, 09:01 PM
Parent: #144
الإنقاذ لا تزال تعيش بيننا
النور حمد
صحيفة التيار 30 أغسطس 2020
واهمٌ من يظن أن نظام الإنقاذ قد ذهب مع ذهاب الرؤوس المدبرة التي كانت تديره. فنظام الإنقاذ أسس قواعده على عللٍ في بنية عقلنا الديني الجمعي، الذي قلبته الخديوية منذ مائتي سنة رأسًا على عقب وحولته من عقل صوفي إلى عقل فقهي. كل ما في الأمر، أننا أصبحنا، منذ دخول الخديوية إلى بلادنا، نتمسح بتراثنا الأخلاقي الأرواحي والصوفي الإسلامي والمسيحي شكلاً، في حين أن بناءنا الأخلاقي اخترقته نزعة نفعية، أساسها حيازة الدنيا باسم الدين. عملت الإنقاذ على التكوين الأخلاقي الروحاني الذي يجمع السودانيين بمختلف عقائدهم، فأنفقت على مدى ثلاثين عامًا جهدًا كبيرًا وأموالاً طائلة في تحويله، فتشوه وغامت الرؤية أمام ناظريه. وحتى الذين لم يتأثروا منا بالخطاب الإعلامي الإنقاذي، كانوا أصلاً متأثرين بالثقافة الخديوية وفقهها السلطاني وأخلاقياته التي ورثتها الإنقاذ وأقامت عليها أبنيتها.
من الخطأ أن نظن أن تأثير الإنقاذ قاصرٌ على منتسبيها وحدهم. فالتردي الأخلاقي السائد الآن والذي يطالعنا في كل مجريات حياتنا اليومية، ليس قاصرًا على منسوبي الإنقاذ من قيادات ومن قواعد، وإنما هو حالة أشبه ما تكون بالحالة العامة. فهناك القطاع العريض من السلبيين المكتفين بالفرجة على ما يجري، مع انخراط كلي في ممارسة كل الرذائل في مجريات الحياة اليومية؛ من بيع وشراء وغير ذلك من معاملات طابعها المكر والغش. فهؤلاء إنقاذيون حتى مشاش العظم. كما أن كثيرًا ممن يظنون أنهم ثوار، ممن جعلهم يُتْمُ الثورة الممسكين بمقودها، زاعمين أنهم نقيضٌ حقيقيٌّ للإنقاذ، لا يحملون، في حقيقة الأمر، من هذا الزعم سوى الادعاء.
الإنقاذ تعيش الآن بيننا في كل شيء. فهي لم تأت أصلاً إلا لأن في واقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي ما استدعاها. من يملك حصيلةً متوسطةً من العلوم الإنسانية، وبخاصة العلوم الاجتماعية، يعرف أن الصراع السياسي المرير الجاري الآن لا يعكس في حقيقة الأمر معسكرات متباينة، وإنما يعكس صراعًا داخل معسكر واحد سماته الأساسية التآكل الأخلاقي، والتمركز حول الذات وسيطرة النزعة النفعية. بدأ هذا التآكل الأخلاقي في سردية التاريخ الإسلامي يوم أن نصرت الغوغاء المتسلحة بالنزعة النفعية، معاوية بن أبي سفيان على علي بن أبي طالب. بل، قال أكابرهم: "الصلاة خلف عليٍّ أقوم والطعام عند معاوية أدسم". منذ تلك اللحظة الفارقة، تحولت الدعوة الإسلامية الأخلاقية المتعففة المتنسكة، إلى ملكٍ عضوض. وكل فقه جرى إنتاجه منذ تلك اللحظة، وإلى يومنا هذا كان فقًا سلطانيًا، دوره الرئيس هضم حقوق الأكثرية المضللة باسم الدين، لصالح الأقلية الممسكة بمفاصل السلطة والثروة. هذا ما رسخته الإنقاذ وقدمت فيه نموذجًا بشعا.
لو راقبنا مسلك المكون العسكري والأمني في المشهد الحاضر منذ فض الاعتصام وحتى خطاب البرهان الأخير، ولو راقبنا سلوك الحركات المسلحة وتعطيلها لمجريات الثورة لتحجز مقاعدها في السلطة، ولو راقبنا مسلك حزب الأمة وتذبذباته، وكذلك، ازدواجية الموقف لدى الحزب الشيوعي وتهافت البعثيين على الظهور الحزبي، لاتضحت لنا البنية الأخلاقية المهترئة التي تجمع كل هذا الشتات. ما جرى، في نيرتتي وكادقلي والجنينة وبورتسودان، ومؤخرًا في كسلا يدل على أن الانقاذ هي كل أجهزة الدولة المختلفة، وهي أيضًا هذا الجمهور النزق القابل للشحن من قبل المغرضين، والانجراف بلا وعي في وجهة تسبيب الانفلاتات الأمنية المتسلسلة. كل ما نراه الآن هو الماضي المعلول بلحمه ودمه. فإذا لم تتحول هذه الثورة إلى ثورة ثقافية تستهدف إصلاح البناء العقلي والنفسي ووقف هذا التآكل الأخلاقي الشامل، فإن مشوارنا نحو التعافي سوف يطول، ولسوف تكتنفه تضحيات جسام.
|
Post: #146
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 08-31-2020, 12:56 PM
Parent: #145
نحو عقدٍ وطنيٍّ جديدٍ مع الجيش
النور حمد
صحيفة التيار 31 أغسطس 2020
تقتضي ثورة ديسمبر العظيمة بأهدافها السامية المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة، ضمن ما تقتضي، كتابة عقدٍ جديد بين الشعب السوداني وجيشه. فقد ظللنا نتطلع إلى أن تخرج بلادنا من حالة التكبيل التعيسة التي عاشتها على مدى 64 عامًا، وأصبحت بها الأسوأ في كل شيء، حتى بالمقارنة إلى أقرب جيراننا الذين لا يملكون مواردنا كالتي نملكها. ولكي نبدأ البداية الصحيحة في هذه الوجهة المهمة ينبغي أن نعترف، نحن المدنيين، أننا نحن الذين جررنا الجيش إلى حلبة السياسة، ثم عجزنا أن نخرجه منها. ضربة البداية في هذه الوجهة المهلكة قام بها حزب الأمة، عبر رئيس وزرائه عبد الله خليل، الذي قام بتسليم السلطة للفريق إبراهيم عبود، في نوفمبر 1958، مقوضًا بذلك حكومةً منتخبةً، كان هو رئيس وزرائها. ثم توالى عقب ذلك انهيار قطع الدومينو نتيجةً طبيعية لسقوط القطعة الأولى.
بسبب تآمر الأحزاب التقليدية الأمة والاتحادي، إضافة إلى الإسلاميين، في فترة الديمقراطية الثانية (1964 -1969)، على أحزاب القوى الحديثة ومن ذلك تعديلهم الدستور ليتسنى لهم حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين ديموقراطيا من البرلمان في عام 1956، مضيفين ذلك إلى ما سبق أن قاموا به من في إجهاض ثورة أكتوبر وإنهاء الفترة الانتقالية في بضع أشهر، جاءت مايو لتثأر لليسار مما لحق به، مدعيةً أنها إعادة إحياء، من جديد، لثورة أكتوبر التي أغتيلت في مهدها. فوقفت أحزاب اليسار مع مايو بقوة. هكذا انفلت زمام الأمور وتسلست الانقلابات، واستمر تبادل الثأرات إلى يومنا هذا. عبر الانقلابات سيطر الجيش على السياسة في السودان. وكان نصيبه في الحكم 52 عامًا من جملة 64 عامًا هي مجمل عمر الاستقلال. أما النتيجة النهائية، لهذا الخلل القاتل فإنها تحدث عن نفسها الآن في جميع أحوالنا، بأفصح لسان.
لا أعتقد أن هناك مواطنًا مدركًا يريد أن ينال من جيش البلاد أو يقلل من شأنه أو أهميته. لكن هناك وضع مختل تسببنا فيه نحن المدنيين واستغلته المؤسسة العسكرية لتخرج من حدود مهامها التي يحددها لها الدستور، فتحتكر السلطة السياسية على مدى 52 عامًا. هذا الوضع خاطئ وينبغي أن يجري تصحيحه وفق عقد وطني جديد شفاف بين الشعب وجيشه. ومما يعين على تصحيح الوضع القائم تجنُّب اللغة الحادة وإرسال الاتهامات وإعادة تدوير اللغة القديمة. فوصف كل من ينادي لإصلاح هذا الوضع بالعمالة والخيانة لن يعين على تصحيح الاختلال. بل سيزيد الأمور تعقيدًا ويقود في نهاية الأمر إلى اعتناق نهج المعادلات الصفرية التي سوف تقود البلاد إلى الانهيار التام، وهي تقف أصلا على الحافة. من الجانب الآخر يمكن للمدنيين مناقشة خلل انخراط الجيش السوداني في السياسة وأن يبينوا وجهة نظرهم بموضوعية، بلا هزؤ وسخرية وإهانات.
ورد في الأنباء بالأمس حديث للمستشار الإعلامي للفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي العميد الطاهر أبو هاجة، قال فيه: «في ظل وجود المهددات الأمنية المتكررة وعدم ارتكاز القرار السياسي على البعد الأمني بأبعاده الوطنية ستستمر معاناة الشعب خلال الفترة الانتقالية وستتعثر الفترة الانتقالية في الوصول لأهدافها المنشودة». كما ورد أيضًا قوله: «مخطط تقسيم السودان وإضعاف قواته المسلحة هو الأساس الذي يعتمد عليه هذا المخطط والتجارب أمامنا ماثلة وكثيرة». ما قاله العميد أبو هاجة يبعث على الانزعاج ويحتاج إلى مناقشة موضوعية. وسيكون ذلك في عمود الغد.
|
Post: #147
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-01-2020, 10:29 AM
Parent: #146
في حالة الاحتقان الراهنة
النور حمد
صحيفة التيار .الاول من سبتمبر 2020
كتبت في عمودي ليوم أمس أننا بحاجة إلى عقد وطني جديد مع الجيش. وقلت إنني سوف أناقش ما ورد على لسان السيد المستشار الإعلامي لرئيس المجلس السيادي الفريق أول، عبد الفتاح البرهان، العميد الطاهر أبو هاجة، الذي قال فيه: «في ظل وجود المهددات الأمنية المتكررة وعدم ارتكاز القرار السياسي على البعد الأمني بأبعاده الوطنية ستستمر معاناة الشعب خلال الفترة الانتقالية، وستتعثر الفترة الانتقالية في الوصول لأهدافها المنشودة». تساءلت في نفسي أول ما قرأت هذه الجمل: كيف يكون: «عدم ارتكاز القرار السياسي على البعد الأمني بأبعاده الوطنية»، سببًا للنتيجة التي صورها العميد أبو هاجة، بقوله: «ستستمر معاناة الشعب خلال الفترة الانتقالية». ما هي العلاقة الشرطية بين الإثنين؟ هل يعني هذا: عليكم أن تتركونا ندير الدولة بمفردنا بنهج أمني صرف، فإن لم ترضوا بذلك، فأبشروا بالمعاناة في معيشتكم اليومية؟ وقد قال العميد أبو هاجة إضافةً إلى ذلك: «وستتعثر الفترة الانتقالية في الوصول لأهدافها المنشودة». يعني ذلك، باختصار، إذا لم نسلم نحن المدنيين بأن يدير الجيش الفترة الانتقالية بمفرده، وفق نهج أمني صرف، فلا ينبغي أن نحلم بعيش بلا عسر، أو إكمال للفترة الانتقالية، وفقًا لما جاء في الوثيقة الدستورية وما جاء، أيضًا، في اتفاق جوبا الذي جرى توقيعه بالأمس مع الحركات المسلحة.
دعونا نقرأ المشهد الراهن في كليته، مصطحبين معنا ما قاله حمدوك، من أن الدولة لا تتحكم سوى في 18% من جملة المداخيل العامة، ودعونا نقرن ذلك بخطاب الفريق البرهان الغاضب الذي أظهر فيه عدم استعداد الجيش للتفاوض حول إعادة ولاية كل المال العام إلى إشراف الدولة، ورفضه بالتالي خضوعه للمراجعة من جانب المراجع العام. ودعونا نضيف إلى ذلك، دفاع البرهان المستميت عن قوات الدفاع الشعبي، التي لم تكن في حقيقتها سوى مليشيا حزبية عملت على تثبيت أركان النظام السابق المستبد الفاسد. ودعونا نضيف إلى ذلك، أيضًا، محاولة حزب الأمة والمؤتمر الشعبي تكوين حاضنة جديدة للحكومة. ألا يبدو أن هناك رابطًا عضويًا بين جميع هذه التململات، وأن وراء الأكمة ما وراءها؟
ينشأ مما تقدم سؤال وهو: أين سيكون موضع الدكتور عبد الله حمدوك في هذا البساط الأحمدي؟ هل سيبقى مع أجندة الثورة ومع جمهور الثورة، أم أنه أصيب بالقرف من حاضنته السياسية ومن شلة مزرعته، كما أُصبنا، وربما وجد نفسه مضطرًا ليركن للحاضنة الجديدة التي هي قيد التكوين ليضمن للفترة الانتقالية فرصة إكمال مدتها؟ وهناك سؤال آخر: ماذا ستصنع الأحزاب الأيديولوجية الصغيرة التي اختطفت مقود الثورة في لحظة غفلة من الثوار وانفردت بإصدار القرارات الهلامية التي لا تأثير لها على أرض الواقع ففقدت بذلك جمهور الثورة أو تكاد؟ فلا التمكين جرى تفكيكه كما ينبغي ولا معاش الناس أصبح ميسورًا، ولا أمنٌ جرى استتبابه. بل سارت الأمور في كل أولئك، عكس ما كان الناس يينتظرونه، وبصورةٍ بالغة الفظاعة.
ظللت باستمرار أرى ألا فرق بين نخبنا السياسية، سواءً أن كانت في اليمين، أو في اليسار. فالعقلية المعلولة واحدة، فهي يسيطر عليها العُجب بالذات ونزعة الانفراد، إضافة إلى الانغماس في نهج المكر وتبادل الثأرات. رغم توقيع اتفاق السلام بالأحرف الأولى في جوبا، الذي يبعث في ظاهره على الأمل في أن تستقر الفترة الانتقالية، ونرجو أن يحدث ذلك، إلا أن هناك من الشقاق والتدابر ومن فوحان روائح المكر ما قد لا يترك الأمور تسير على ما يرام. وستتواصل قراءة ما يجري.
|
Post: #148
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-03-2020, 01:42 AM
Parent: #147
هلا خرجنا من حفرة "حبر على ورق"؟
النور حمد
صحيفة التيار 3 سبتمبر 2020
لا أعد نفسي شخصًا متشائما. بل على العكس منذ ذلك، أعد نفسي شخصًا متفائلاً، لا ينفك يتمسك بأهداب الأمل، مهما ضؤل ويتعلق بحلم بوطن مستقر، مزدهر، متوثب. فقد قيل قديما: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"٠ وقد ورد أيضًا في القرآن الكريم: "وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ". يطول بنا زمان التيه ويستعصي الخروج من نفق العجز وقلة الحيلة، ولكن رغمًا عن ذلك تبقى راية الأمل فينا منغرسة الصاري في تربة هذه البلاد، ترفرف وضيئةً في الفضاء، مُنْبِئةً ببشريات تبدل الأحوال الحتمي الذي ينتظرنا عند منعرج الطريق الذي وصفه محمد المكي إبراهيم بقوله البهي: "البوق يصدح والطريق مقوسٌ نضرٌ وألحان السماء ترقرق". لقد تفتحت أعين جيلنا على ثورة 21 أكتوبر، ونحن لم نزل بعد صبية. ومنذ ذلك التاريخ بقينا نحلم بتبدل الأحوال رغم مسلسل الخيبات المتعاقبات، التي يأخذ بعضها برقاب بعض. عبر هذه المسيرة الطويلة المتعثرة، أيقنا شيئًا واحدًا، هو: أن بلادنا بلا قادة وبلا خطة وبلا خارطة للتغيير. أي، نحن شعب بلا قادةٍ قلوبهم مملوءة شغًفا بالتغيير. قادة ذوو ضمائر يقظة وحسٍّ أخلاقيٍّ سليم، وشعورٍ حيِّ يألم لآلام الضعاف الحزانى المحرومين.
لو تأملنا تاريخ الصراع السياسي الذي شهد نقلةً نوعيةً في الاحتدام والتعقيد، في حقبة حكم الرئيس الراحل جعفر نميري، واستمر إلى يومنا هذا، وتتبعنا مسار ما جرى من اتفاقيات، لهالنا كمها وتنوعها. ودعونا نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر: اتفاقية كوكادام واتفاقية شُقْدُم واتفاقية جيبوتي واتفاقية أسمرا واتفاقية الميرغني قرنق واتفاقية أبوجا واتفاقية نيفاشا وأخيرا اتفاقية جوبا. لم ينتج من كل هذه الاتفاقات أي تأثير إيجابي على مجريات واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فقد لبثنا: "نخرج من حفرة لنقع في دحديرة"، كما يقول المثل السوداني. لقد كانت اتفاقياتنا، على كثرتها اللافتة، مجرد حبر على ورق. كانت مجرد بنودٍ من النوايا الطيبة مرقومة على الورق. فهي لا تعكس أي عمارٍ في عقول وقلوب الذين عكفوا على مداولاتها المضنية، وقاموا بوضعها على الورق. والدليل على ذلك، هذا التراجع المستمر في أحوال البلاد والعباد، على مدى عقود طويلة، سِمَتُها الرئيسة: العجز والفشل وتدهور الأحوال، على كل صعيد.
خلاصة القول، العبرة ليست فيما يحويه الورق، وإنما فيما تحويه العقول والقلوب، التي وقفت وراء ما جرى خطُّه على الورق. لقد ظلت نخبنا السياسية تتعاطي مع التغيير بوصفه فعلاً إجرائيا محضا. لذلك هي تنفق الجهد والوقت في تدبيج الخطاب السياسي وفي صياغة بنود الاتفاقيات التي ليست في حقيقتها سوى لغة مرقومة على الورق. ولا غرابة أن بقيت على الدوام بلا تأثير على الواقع. فقد استمر رغما عن كثرة الاتفاقيات تقهقر أحوال الواقع التي تتحكم فيها ديناميات معلولة، شبه ثابتة. فنخبنا السياسية، في مجملها فارغة العقول، معلولة الوجدان. ولأن هذه النخب متضخمة الذوات فإن ما تصيغه في الاتفاقات ينحصر احتفاؤها به في المحاصصات في المناصب وفي تضمين ما يؤمن المصالح الضيقة من الغوائل. لقد ظلوا يختزلون شرط التغيير في مجرد تَسَنُّمهم للمناصب. لم نر منهم انشغالاً بإحداث ثورة فكرية وثقافية وتعليمية واقتصادية واجتماعية، وإنما انشغالا بالمصلحة الفئوية. يتماثل في ذلك العسكر والمدنيون. نسأل الله أن يخالفوا رأينا فيهم هذه المرة.
|
Post: #149
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-03-2020, 09:00 PM
Parent: #148
هل يُحدث اتفاق السلام توازنًا عسكريا؟
النور حمد
صحيفة التيار 4 سبتمبر 2020
على الرغم مما أحاط باتفاق سلام جوبا بين الجبهة الثورية والحكومة الانتقالية من تحفظاتٍ وتوجسٍ من قبل البعض واحتفاءٍ عارمٍ من قبل آخرين، تبقى لهذا الاتفاق، على المستوى النظري على الأقل، مزايا لا تخطئها العين. فهو يوجد قدرًا من التوازن العسكري بين القوى الفاعلة في المشهد السياسي الحالي المتسم بالهشاشة. لقد أوجد الرئيس المخلوع قوات الدعم السريع، وفقا لما جرى الترويج له حين نشأتها، بأنها ستكون الذراع العسكري الأخف حركة لنظام الانقاذ العسكري الذي تقمه به الحركات المسلحة الناشطة في مختلف أقاليم البلاد. كما أن لها غرضًا آخر غير مذاع وهو أن تكون رادعًا للجيش، لكيلا ينقلب على البشير ودائرته الصغيرة التي احتكرت السلطة وأقصت الجميع . وأصبح حتى الإسلاميون أنفسهم، مجرد ديكور يزيِّن أطراف بنية النظام، على تفاوتٍ بين فصائلهم. بطبعه لا يأمن الديكتاتور الفاسد أحدًا على كرسيه. لذلك فهو يضحي بحلفائه، متى ما أحس أنهم أضحوا خطرًا عليه. يفعل ذلك مهما كانت الروابط التي ربطته بهؤلاء الحلفاء. لقد سارت الأمور على خلاف ما خطط له الرئيس المخلوع. فقوات الدعم السريع أُنشئت أصلًا لتصبح أداةً لإضعاف الحركات المسلحة، ولتصبح، في نفس الوقت، رادعًا استباقيًا للجيش ولمن يقف وراءه من الإسلاميين المتململين. لكنها تحوَّلت عبر تسارع مجريات أحداث الثورة، فكانت هي قطعة المعضلة التي أدى استقلالها بقرارها إلى الانهيار السريع للنظام. فالأمور لم تجر وفقًا لما خطط له الرئيس المخلوع، ولما سعى إليه الإسلاميون عبر جهودهم المنسقة التي تسببت في حالة الانكشاف الاقتصادية والأمنية الخطيرة الشاملة التي حدثت مع بداية الثورة. والآن يأتي اتفاق جوبا ليخلق ترتيبًا جديدًا للمشهد. ففي الوقت الذي أخذت تخرج فيه من أفواه العسكريين تصريحات تشي بالتفكير في القيام بانقلاب عسكري على الفترة الانتقالية، جرى التوقيع على اتفاق جوبا الذي سيدمج قوات الحركات المسلحة في بنية الجيش. أو على الأقل، يشرعن وجودها ضمن المنظومة العسكرية القائمة.
المشهد الراهن مليء بالشقوق. فحركة العدل والمساواة كانت منخرطة على نحو ما في صراع الإسلاميين فيما بينهم، وربما لا تزال لها صلة ببعضهم. أما الحركة الشعبية قطاع الشمال، فقد انشقت على نفسها وانفصل فيها النيل الأزرق عن جبال النوبة. كما برز من شظيتها الأصغر حجمًا هذه والأقل قوةً، طرفٌ أخر يمثله التوم هجو، الذي وقع في اتفاق جوبا عن الوسط النيلي، بلا تفويض من أهل الوسط النيلي، بل، وبلا قواتٍ عسكريةٍ أصلا. جملة القول، لربما تكون إحدى مزايا اتفاق جوبا أنه، رغم الحديث عن إدماج كل قوات الحركات المسلحة في بنية الجيش، فإنه قد خلق، بطريقةً ما، أقطابًا عسكريةً جديدة، ربما تقطع الطريق على التفكير في القيام بانقلاب عسكري على الفترة الانتقالية. ويقدم ما جرى من اعتداء على شرائح غرفة الأخبار في تلفزيون السودان في الليلة السابقة لتوقيع اتفاق السلام، دليلا على كره قطاعٍ من الإسلاميين لهذا الاتفاق، بل وحالة يأس من جملة الأوضاع. فدافع سرقة الشرائح وتخريب الأجهزة يدل على الشعور بأن هذا الاتفاق قد أبعد احتمال حدوث الانقلاب العسكري. بهذا الاتفاق تعددت الروادع العسكرية الاستباقية، كما اقترب أوان استكتمال أجهزة الحكم الانتقالي وملء الشواغر في السلطة التنفيذية. هذا فيما يتعلق بالتوازن العسكري، أما التوازن العسكري المدني، فله دينامياته المختلفة.
|
Post: #150
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-05-2020, 01:40 AM
Parent: #149
الصادق المهدي في "العين الأخبارية"
النور حمد
صحيفة التيار 5 سبتمبر 2020
صدرت يوم أمس 4/9/2020 تصريحات لافتة للسيد الصادق المهدي، في المنصة الرقمية المسماة "العين الأخبارية"، جاء فيها: مواقف الإمارات تجاه السودان إيجابية منذ عهد الشيخ زايد ونشيد بدورها في اتفاق جوبا. كما جاء فيها: نحن مع تسليم البشير وبقية المطلوبين للجنائية الدولية، لأنه وسيلة للتطبيع مع الأسرة الدولية. وجاء فيها، أيضًا: إذا فشلت التجربة الديمقراطية سيكون السودان مرتعًا للإرهاب، والعالم يؤذي نفسه بعدم تحركه لإنقاذ التدهور الاقتصادي في السودان. وحول الانخراط التركي في الملف الليبي قال السيد الصادق المهدي: إن وقف التدخل الخارجي وإجلاء المرتزقة نهائيًا من ليبيا يمثل أهم الحلول للأزمة فيها، وأن تركيا تدعم توجهات ضد الأنظمة القائمة في المنطقة بإيواء الجماعات الإرهابية. كل هذه التصريحات إيجابية، ولا يملك المرء سوى أن يبصم عليها بالعشرة. وهي تمثل، في نظري، تحولاً مهمًا في رؤية السيد الصادق المهدي السياسية. كما تمثل نقلةً فارقةً في تكتيكاته في التعاطي مع المستجدات الآنية. تمثل هذه التصريحات منعرجًا لافتًا، لأن السيد الصادق المهدي ظل متهمًا، وبحق، بأنه إخواني الهوى، ما جعل الحركة الإسلامية، منذ ثورة أكتوبر 1964 وحتى قبل ثلاثة أيام، الحليف المفضل إليه، على مدى عقود، في المناورات السياسية، بل، وكذلك في العمل العسكري ضد الأنظمة العسكرية. وقد صرح السيد الصادق المهدي قبل بضعة أيام أنه اتفق مع المؤتمر الشعبي، وهو فرع الحركة الإسلامية الذي أنشأه الدكتور الراحل حسن الترابي، على أن يشكلا معًا حاضنة سياسية جديدة لحكومة الفترة الانتقالية. وهذه واحدة من الأعاجيب التي لا يفتأ يتحفنا بها السيد الصادق المهدي، كل حينٍ وآخر.
ما من شك أن تحالف السيد الصادق المهدي مع المؤتمر الشعبي رغم بقاء الأخير متشبثًا ببقاء الرئيس البشير في السلطة حتى سقط، ليشكلا معًا، حسب زعمهما، الحاضنة الجديدة لحكومة الفترة الانتقالية، ليس سوى قفزة في الظلام. وهي قفزةٌ من جنس تلك القفزات الكثيرة المماثلة، التي اعتدنا عليها منه. لا يمكن للسيد الصادق المهدي أن يكون واقفًا مع التوجهات الإماراتية السعودية المصرية، خاصةً في حالة الشد الحادة الراهنة في الإقليم، ويصبح في نفس الوقت واقفًا مع المعسكر التركي القطري الإخواني الذي تمثل الحركة الإسلامية السودانية، بسائر فصائلها، وكيلته الحصرية في السودان. لقد انتقد السيد الصادق المهدي الدور الذي تقوم به تركيا حاليًا في الإقليم وهذا عمل صائب. بل ذهب إلى وصف تركيا بأنها تؤوي الجماعات الإرهابية، وهذا اتهامٌ صحيح. أما موافقة السيد الصادق المهدي على تسليم الرئيس المخلوع للمحكمة الجنائية الدولية، فتمثل استدارةً بمقدار 180 درجة، من قولته الشهيرة السابقة: "البشير جلدنا وما بنجر فيهو الشوك". وهي نقلة لافتة لا نملك إلا الإشادة بها. فإنه لا مجال للتطبيع الكامل مع المجتمع الدولي إلا بتسليم مجرمي حرب دارفور إلى العدالة الدولية. كما أن موقف السيد الصادق المهدي من تركيا، زعيمة المحور الإخواني الإمبراطوري التوسعي، فتمثل نقلة لافتة أخرى. ختامًا، بقي أن ينأى السيد الصادق المهدي بنفسه عن ديدنه القديم في اتخاذ الكتلة الإخوانية السودانية بطاقة للمناورة في الداخل السوداني. وأن يثبت على هذه التصريحات الراشدة، فلا يخرج علينا لاحقًا بما يناقضها. وعمومًا، ليس من الميسور أن نقف في لحظتنا الراهنة على نفس المسافة من المحورين الإقليميين القائمين الآن. وكما قيل قديمًا: "بعض الشر أهون بعض".
|
Post: #151
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-06-2020, 03:59 AM
Parent: #150
حتى لا ننتهي إلى نيفاشا أخرى
النور حمد
صحيفة التيار 6 سبتمبر 2020
أولا لابد من الإشادة بلقاء رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بالسيد عبد العزيز الحلو، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال. فقد فتح اللقاء ما استغلق في مفاوضات جوبا حول تحقيق سلام شامل. لقد أتاح اللقاء فرصة ذهبية لاستكمال ملف السلام، حتى لا يبقى الباب في قضية السلام، نصفٌ مفتوح وآخرُ مغلق، إذ لا سلام أصلا أن لم يكن سلاما شاملا. وقد أثبتت تجربة الإنقاذ في تجزئة قضية السلام والانفراد بكل فصيل محارب على حده، بغرض تفتيت وحدة القوى الحاملة للسلاح، أنها تنتهي فقط بمناصب ومغانم للأطراف الموقعة. ويبقى أوار الحرب مشتعلا كما هو ويستمر القطر في الأنين والهزال.
كانت علة اتفاقية نيفاشا الجوهرية رغم جودة نصوصها أن الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق ارتضت التوافق مع الإنقاذ على إقصاء القوى السياسية الشمالية. فدخلت منفردة في شراكة مع المؤتمر الوطني لحكم البلاد لمدة خمسة سنوات. وهذا واحد من مزالق ما يسمى "الشرعية الثورية". كان الأمل لدى الحركة الشعبية، أو قل لدى قرنق وبعض قادة حركته، على الأقل، أن تسهم سنوات الشراكة الخمس في جعل خيار الوحدة جاذبًا عندما يأتي أوان الاستفتاء. غير أن الإنقاذ وحزبها المؤتمر الوطني عملا بلا كلل لإفشال الفترة الانتقالية. مستندين في ذلك على وهمهم القاتل الذي غرقوا فيه وهو: أنهم هم الفائزون الحتميون في كل صراع. فأجندتهم، وفقا لظنهم بنفسهم، الطافح بالغرور، هي ما سيبقى في نهاية المطاف. وفجأة، لقي قرنق نحبه في حادثة غامضة، وأخذت الخطوط المتعلقة بالوحدة الجاذبة في التباعد بوتيرة متصاعدة. وانتهت الشراكة عبر الاستفتاء بانفصال الجنوب.
الآن يعود موضوع الدين والدولة ليسيطر على المشهد من جديد. لكن نرجو أن نخرج به الآن من دائرة الشعارية التعبوية والجدل إلهلامي الملغوم إلى أرض الموضوعية. فحين استقل السودان كان دولة ديموقراطية لها علاتها البنيوية، لكنها كانت خاليةً من هذا الجدل الملتهب. الإسلاميون والرئيس الراحل جعفر نميري هم من أدخلونا في هذا النفق المظلم. لم تأت ما سميت، زورًا وبهتانًا، بالقوانين الإسلامية نتيجة لاستفتاء. وإنما جرى فرضها على الجميع بمراسيم جمهورية فوقية. وحتى بعد أن جاء الإسلاميون إلى الحكم، لم ينشغلوا بتطبيقها وإنما انشغلوا بجعلها ذريعةً لاحتكار السلطة والثروة وإقصاء غيرهم. لم يطبق الإسلاميون عبر ثلاثين عامًا في الحكم حدًّا شرعيًا واحدًا، لعلمهم باستحالة تطبيقه في عالم اليوم. ولم ير الشعب مما سمي تطبيقًا للشريعة سوى الفقر والمرض والإذلال. لقد لخص الأستاذ نبيل أديب تباكي الإسلاميين على وهم الدولة الدينية خير تلخيص حين قال: «اتفاق حمدوك الحلو هو خطوة هامة استئناف المفاوضات، وهو لا يغير ما أجمع عليه السودانيون من ضرورة تبني دستور يلزم الدولة بأن تقف على مسافة واحدة من كل الاديان، بغض النظر عن المسميات والمصطلحات، وهو ما تبناه الاسلاميون في دستوري 98 و2005. ولكن سبب احتجاجهم هو أنهم كانوا في الحكم، وكانوا يضمنون بالسلطة أن تظل نصوصا ميتة، ولكنهم الآن يخشون تطبيق تلك النصوص بعد أن فقدوا السلطة». خلاصة القول: أرجو ألا نكرر خطأ نيفاشا وننتهي ببلادنا إلى تفتيت جديد. علينا أن نؤكد وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع العقائد الدينية، وألا ننجرف إلى الجدل الفلسفي واللغوي حول المصطلحات. فالأثر على مجريات الواقع الموضوعي هو المهم، وليس المصطلح.
|
Post: #152
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-06-2020, 10:39 PM
Parent: #151
الفيضانات وإدارة الكوارث
النور حمد
صحيفة التيار 7 سبتمبر 2020
للأمم الحصيفة المنتبهة مؤسساتٌ لإدارة الكوارث. والسودان أحد البلدان التي أوجدتها يد العناية الإلهية في نطاق جغرافي رحيم. فما تتعرض له بلادنا يعد خفيفًا جدًا مقارنًا بما تتعرض له بلدان كثيرة أخرى. فبلادنا لا تعرف الزلازل والبراكين والأعاصير المدمرة. وما يحدث فيها، بصورة متكررة وفي أزمنة متباعدة هو المجاعات والفيضانات. ومع ذلك تبقى حكوماتنا، على الدوام، غير جاهزة بما يكفي، للتصدي لها. ولربما يكون توقع أن تكون حكومتنا جاهزة بما يكفي للتصدي للكوارث ضرب من ضروب التمني. فشؤون حياتنا اليومية نفسها التي يفترض أن تكون معافاة في الظروف الطبيعية، بقيت على مدى عقود مأزومةً ومضطربة، وكأننا نعيش حالة كارثة مستدامة.
يهدد نهر القاش، على سبيل المثال، مدينة كسلا بصورة شبه دورية. لكن تبقى المعالجات منحصرةً في خانة المعالجات الاسعافية التي لا تتعدى طور إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لتتكرر ردة الفعل ذاتها في كل موسم جديد. ولو نظرنا إلى فيضانات النيل الأزرق ونهر النيل التي تشكل تهديدًا كبيرًا، نجدها تحدث في دورات متباعدة. ففيضان 1946 وفيضان 1988 فصلت بينهما 42 سنة. وفيضان 1988 وفيضان 2020 فصلت بينهما 32 سنة. هذا الفاصل الزمني كان كافيًا لخلق مؤسسة متخصصة معنية بالدرء الاستباقي للكوارث، إضافةً إلى التعاطي معها بكفاءة حين تحدث. وهذا ما لم يجد منا الانتباه الكافي.
مما يمكن أن تقوم به مؤسسة ثابتة لإدارة الكوارث إجراء البحوث المتخصصة في مراقبة تغير الأنماط المعتادة للطبيعة التي تنتج منها الكوارث. ويتضمن ذلك الرصد المبكر وتوقع مواقيت الحدوث وتقدير وطأة الكارثة القادمة والقيام بالاستعدادات اللازمة لها. ولكي تصبح سرعة التدخل ممكنةً، ينبغي أن يكون لكل ولاية مستودع للمعينات المتعلقة بالكوارث؛ كخيام الإيواء ومعينات الإعاشة من المواد الغذائية الضرورية. وكذلك المواد والأدوات الطبية وقوارب الإنقاذ الصغيرة. يضاف إلى ذلك مولدات الكهرباء وفناطيس مياه الشرب ومعدات الطهي ومستلزماته، وغير ذلك. أما ما ظل يجري منذ عقود من تشكيل لجان للطوارئ بعد أن تقع الفأس على الرأس، فهو عمل إسعافي من شأنه، إن اكتفينا به وحده، أن يُبقي الأمور دائرة في حلقة مفرغة متكررة، سمتها العجز وقلة الحيلة. ولسوف يجعل ذلك مستوى التصدي لأي كارثة جزئيًا وضعيفا، على الدوام. وهو ما يجعلنا تحت رحمة المانحين الأجانب، أعطونا أو منعونا.
تعرضت سواحل سلطنة عمان قبل أعوام إلى إعصار مدمر أدى إلى سيول جارفة. وحين عرضت البلدان استعدادها لمد ليد العون، شكرتها السلطنة وأكدت أنها قادرة على التصدي للكارثة بمفردها. وهذا يدل على أن السلطنة كانت مستعدة مؤسسيًا للكارثة. وقد قدمت السلطنة بذلك، درسًا لجميع حكومات العالم النامي في نهوض الدولة بمسؤوليتها تجاه شعبها. وحقيقة الأمر أن انتظار العون القادم من الخارج يجعل المواطنين المنكوبين عالقين في قلب المعاناة الشديدة لأيام في انتظار أن يصل العون الأجنبي. ولا بأس أبدًا في قبول العون الأجنبي، فالتعاون الدولي مطلوب. لكن لا ينبغي أن يكون هذا هو الأساس. بلادنا بحاجة إلى مؤسسة قومية ثابتة للكوارث لها فروع في كل الولايات، تعمل مع مختلف أجهزة الدولة المركزية والولائية على درء الكوارث أولا، ثم تقديم الإسعاف السريع حين وقوعها. ومع ظاهرة التغير المناخي المتنامية فإن الكوارث الطبيعية مرشحة للازدياد في الوتيرة وفي شدة الوطأة، فهلا انتبهنا؟
|
Post: #153
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-07-2020, 10:37 PM
Parent: #152
علمانية الدولة ليست نفيًا للدين
النور حمد صحيفة التيار 8 ديسمبر 2020
شاهدت قبل يومين فيديو مركبًا من عدة مقاطع تحدث فيه الشيخ يوسف القرضاوي وشيخ آخر لا أعرفه، لعله سعودي، إضافة إلى الرئيس المصري الراحل محمد مرسي يمدحون فيه مدنية الدولة بحماس لافت. ولو أضفنا إلى هذا الفيديو ما قاله أردوغان عن ضرورة علمانية الدولة وما قاله الشيخ راشد الغنوشي، عن أن حزب النهضة التونسي قد فصل الدَّعَوِي عن السياسي، إضافة إلى ما قاله الدكتور علي الحاج، الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي عن مزايا العلمانية، لاتضح لنا أن القيادات العليا في حركة الإسلام السياسي تقف مع علمانية الدولة. لكن، للقيادات الوسيطة لفصائل الإسلام السياسي في السودان شأنٌ آخر. فجيشهم العرمرم من الصحفيين ومن الكتائب الإلكترونية وأئمة المساجد، منخرطٌ بحماس لافت في شيطنة علمانية الدولة. وليس في هذا غرابة، لأن التناقض في التصريحات سمةٌ رئيسةٌ لدى أهل الإسلام السياسي. فهم فيما خبرنا ليسوا دعاة دينيين حقيقيين، وإنما هم سياسيون ذرائعيون، بلا مبدأ. كل همهم هو الوصول إلى السلطة والحفاظ عليها بكل سبيل. فإن اقتضى الحال مدح العلمانية أو مدنية الدولة والتغني بمزاياها فعلوا ذلك، دون أن يطرف لهم جفن، وأن اقتضى الحال ذمها وشيطنتها، ذموها وشيطنوها وسلقوها بألسنة حداد. بل، وجعلوها أصلًا لكل الشرور والموبقات.
على المستوى القاعدي ينحو معتنقو أيديولوجية الإسلام السياسي إلى شيطنة علمانية الدولة. فيبثون عنها الفرية بعد الفرية، ويغرسون كراهيتها في أدمغة الجهلاء، لكي يستغلونهم في الكسب السياسي الآني. هم لا يستثمرون قط في رفع درجة وعي الجماهير لأن بقاءها على الجهل يسهل شحنها عاطفيًا وحشدها واستخدامهم أدواتٍ لتحقيق الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها. هم والطائفية السياسية في هذا سواء. غير أن هذا تكتيكٌ بئيسٌ تعمل قوانين التطور ضده باضطراد. ولسوف يأتي وقتٌ قريبٌ جدًا يصبح فيه هذا النوع من الاتجار بالجهل متعذرًا تماما. ولو أنهم كانوا يفقهون لتأملوا هذه الثورة العظيمة التي قام بها الشباب من الجنسين فانتزعت منهم في أربعة أشهر سلطةً بذلوا في حمايتها كل غالٍ ونفيسٍ على مدى ثلاثين عامًا، بعد أن ظنوا أنهم أحرزوها إلى الأبد. لو تأملوا هذا الذي جرى لهم بعقل رزين غير مُستفزٍّ، ولا حانقٍ، لعلموا صوب أي وجهةٍ تهب الريح. ولأقلعوا، إذن، عن ألاعيب الشيطنة القديمة التي ما فتئوا يمارسونها. ولشفيت البلاد من هذا الاستقطاب الحاد المقعد، المتسم بالغوغائية.
علمانية الدولة ليست نظرية معرفية كلية تقوم على نفي الدين فلسفيًا والتضييق عليه عمليًا في المجال العام، مثلما فعلت الشيوعية في كل من الاتحاد السوفيتي والصين. علمانية الدولة جاءت أصلاً لقفل الباب أمام الكهنوت الديني الخادم للملوك والمشرعن للاستبداد المناقض لجوهر الدين وللديموقراطية. لقد حكم الإسلام السياسي السودان منفردا لثلاثين عامًا، فأين هو الدين الذي أقامه. ما جرى لم يكن سوى استغلال بالغ السوء للدين لفرض الاستبداد وحماية الفساد وكبت من ينتقدون ذلك. فدعونا لا نغرق في الجدل الفلسفي حول المصطلح ونشأته ودلالته. فالمقصود بعلمانية الدولة، ببساطة شديدة، هو ديموقراطيتها وحيادها بحيث يتساوى الناس تحت مظلتها في الحقوق والواجبات، غض النظر عن أديانهم أو جندرهم أو أوضاعهم الطبقية. فيا أهل الإسلام السياسي من حقكم أن تكسبوا سياسيًا شأنكم شأن غيركم. ولكن اكسبوا بالحق لا بالباطل. فمالكم تلبسون الحق بالباطل وأنتم تعلمون؟
|
Post: #154
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-09-2020, 10:11 PM
Parent: #153
الكوارث تعين على تعديل العقل
النور حمد صحيفة التيار 10 سبتمبر 2020
تحدَّث الناس كثيرًا عبر التاريخ الروحاني للبشر عن أن من الممكن أن تكون النِّغمة نعمة. وبطبيعة الحال، لا نستطيع أن نرى النِّغْمَةُ نعمةً لأنها ذات تأثيرٍ حسي ضار ومباشر. لكنها رغمًا عن ذلك كثيرا ما تتحول إلى نعمة بتأثيرها الإيجابي على العقول وسوقها لتعديل مسارها. يرى العلمانيون الفلسفيون في مثل هذا التصور منحى قدريًا استسلاميًا، يحيل كل شيءٍ إلى إرادة الغيب. ومن ثم يجرد الإنسان من حرية الفعل تجاه ما تواجهه به الطبيعة. غير أن هذه النظرة، في تقديري، لا تتسم بالعمق المعرفي الكافي. ويعود قصورها إلى أن العلمانية الفلسفية تفصل فصلاً قاسيًا بين العقل البشري والعقل الكوني. بل هي لا تؤمن أصلاً بوجود عقلٍ كوني، وتعزو كل ما يحدث من كوارث إلى عشوائية تمثل السمة الأساسية في سلوك الطبيعة.
تنحو الاتجاهات الروحانية والفلسفية القديمة ومماثلاتها الأكثر حداثة، إضافة إلى بعض تيارات العلوم الطبيعية، إلى القول بأن اختيارات العقل البشري محاطٌ بها من قبل العقل الكلي. فالديناميات الباطنية المودعة في بنية القوى والتب بها تحدث حركة الوجود، لا تعمل في الطبيعة وحسب، وإنما تعمل في الطبيعة وفي العقل البشري، على السواء. فالعقل البشري ليس خارجًا عن قبضة قوانين الكون، ولا يملك حرية الاختيار المطلقة كما يتوهم. فهو موحى إليه من العقل الكلي في جميع أحواله، ولكن بلطف وخفاء يجعلانه يتوهم حرية الإرادة والاختيار. وهذا مجال فسيح للأخذ والرد، ليست هذه مكانه وليس هذا حيزه المناسب.
يتيح تعميق المفاهيم المتعلقة بعلاقة العقل البشري بالعقل الكلي فرصةً لفهم الكوارث على نحو مركَّب، يخرج من قبضة النظر إلى البلايا بوصفها أحداثًا تجريها قوى غاشمة عمياء، لا تبالي بمصيرنا. بعبارة أخرى، يفتح الفهم العميق لعلاقة العقل المحدث بالعقل القديم لنا الباب لننظر إلى البلايا، على نحو جديد. فالقصص القرآني المشار اليه بالآية الكريمة «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ»، إنما يشير ضمن ما يشير إلى هذا التعلُّم. فما حاق بأمم كثيرة من بلايا ماحقة، كليًا أو جزئيًا، يقع ضمن مضمار التعلم الأزلي السرمدي. ومما يمكن أن نتعلمه من كارثة الفيضان التي جرت بهذه الوطأة غير المسبوقة، أن عقلنا الفردي والجمعي، بحاجة إلى تعديل. وأكثر ما يحتاج التعديل هو عقل النخب. فقد ظللنا منذ الاستقلال منحصرين في الذاتي مع نقص كبير في الالتفات إلى الجمعي المتعلق بالصالح العام. وعلينا أن نفهم هذه الكارثة كجرس إنذار مبكر.
يتسم مجتمعنا السوداني بسمة التعاون. وهي سمةٌ قضى عليها النظام الرأسمالي في كثيرٍ من المجتمعات التي تحكم فيها تحكمت كليا، لكي يتيح للمالكين مجالاً أكبر للربح. ومن عناية الله بنا أن الرأسمالية لم تبلغ درجة التحكم في حياتنا هذه الدرجة. غير أن ثقافة التعاون والنفير التي نتمتع بها، بقيت ثقافةً غير فاعلة، في واقعنا الاجتماعي، سوى في حدودٍ ضيقة. في مثل الكارثة الراهنة تخرج هذه السمة الثقافية الحميدة للتجلي في الجهد الشعبي على مستوى أكبر وأوسع، كما نشاهد الآن. غير أن المطلوب هو أن تحدث الكارثة الراهنة نقلةً تحدث تناغمًا مؤسسيًا بين الجهد الشعبي وبين التخطيط المؤسسي. فربما تكون هذه الكارثة مجرد إشارة إلى نمطٍ جديدٍ في سلوك الطبيعة في بلادنا، قابل لأن يتكرر. وهو أمر يقتضي تحولاً في العقل السائد ليصبح قادرًا على استباق الكوارث وعلى إحداث مأسسةٍ لنزعة التعاون والنفير، بها ترتفع مجمل الطاقات إلى مستوى هذا التحدي الجديد.
|
Post: #155
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-11-2020, 10:46 PM
Parent: #154
قد تتعثر الثورة قبل أن تنتصر
النور حمد
ما اعترى ثورة ديسمبر العظيمة من تعثُّر أمرٌ متوقع. وكل من قرأ تاريخ الثورات في العالم يعلم أن الثورات لا تتبع خطًّا مستقيمًا صاعدًا، يسير بوتيرةٍ منتظمةٍ حتى تبلغ غاياتها. فالثور تنشب، بطبيعتها، ضد نظام فاسد وصلت درجة الفساد فيه حد إشعال شرارة الغضب الشعبي العام. والثورةُ حين تُحدث التحول المتمثل في اجتثاث رؤوس النظام القديم، تواجهها مهمة تفكيك بنيةٍ ضخمةٍ فاسدةٍ، لا يمثل رؤوس النظام المُجتث فيها، سوى قمة جبل الجليد. ويقدم نظام الانقاذ المؤدلج المتمسِّح ظاهريًا بالإسلام أوضح النماذج للأنظمة الكليبتوقراطية التي تعمل بطبيعتها على سرقة سلطة القرار في الدولة واستخدامها في شفط مواردها وضخها في مجاري لا تقع تحت عين الشعب وأجهزته الرقابية المفترضة. بالإضافة إلى ما تقدم، لا يصمد أي نظام حكم شمولي من غير أن تكون له حاضنةٌ ذات شقين؛ شقٌّ رسميٌّ وآخر شعبي. ويتجه النظام الفاسد إلى السيطرة على الشق الرسمي باستمالة الأجهزة الأمنية؛ من جيش ومليشيات وقوى أمنية من مخابرات وشرطة وإشراكها في الثروات المسروقة، حتى تصبح صاحبة مصلحة في بقائه، ومدافعةً عنه. أما في الشق الشعبي، فيسعى النظام الشمولي لخلق حزبٍ وحيدٍ يسخِّر له الموارد ليتغلغل في مفاصل الدولة وأركانها. بل وليتوسع بالتضييق على كل التنظيمات التاريخية؛ سواءً كانت أحزابًا سابقة لمجيئه أو نقابات أو منظمات مجتمع مدني، وغير ذلك. اعتمدت أنظمة اليسار العروبي المنقرضة على أحزاب البعث في سوريا والعراق. وخلق نظام عبد الناصر في مصر الاتحاد الاشتراكي ليعتمد عليه. وهو ذات النموذج الذي اتبعه نظام جعفر نميري في السودان. أما نظام معمر القذافي في ليبيا، فقد اخترع ما أسماه اللجان الثورية. وأوجدت الإنقاذ ما أسمته حزب المؤتمر الوطني. تقوم هذه الأحزاب الكرتونية، معتمدةً على استثمار نزعة المصالح الفردية وسط المؤمنين بأيديولجيتها، ومن يلف حولهم من سياسيين انتهازيين، بالتغلغل في سائر القوى الاجتماعية، فتستقطب الانتهازيين في الأحزاب القائمة، مستخدمةً قوة المال. وبسبب تأثير الدين القوي على الجمهور، تركز الأحزاب الشمولية ذات الطبيعة الدينية على اختراق الناشطين في الحقل الديني؛ من أئمة ووعاظ شيوخ للطرق الصوفية، الذين اعتادت أكثريتهم الوقوف إلى جانب الحاكم حفظًا للأملاك والجاه المتوارثين. يجري ربط كل هؤلاء عضويًا بالنظام الشمولي القائم، عن طريق خدمة مصالحهم المالية واستغلال حرصهم على الوجاهة الاجتماعية. فيصبحون، بالضرورة، مدافعين عن الشمولية كارهين زوالها. وحين تهدد الثورة هذه المنظومة الفاسدة، تتعاضد مع بعضها، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
يمكن أن نضيف إلى كل هذه الفئات التي جرى ذكرها فئة "سارقي الثورات". وهؤلاء فصائل عدة يُحسبون ضمن فئة الثوار. خطر هؤلاء على الثورة لا يقل عن خطر أولئك. فبنيتهم العقلية لا تختلف في انتهازيتها عن بنية عقول أولئك. بل إن باطل هؤلاء يشبه الحق، ما يجعل اكتشافهم يأخذ وقتا. لكل ما تقدم، لا ينبغي أن نظن أن الثورة تسير نحو أهدافها في طريق مستقيم صاعد بصورة متسقة. فالحرب في الثورة، أي ثورة، تجري على عدة جبهات. ويقتضي كسب تلك الحرب صبرًا جميلاً ومثابرةً، ووقوف الثوار متحدين على أمشاط أصابعهم، إضافة إلى تحليهم بعزيمة أنبياءٍ مرسلين. من يتأمل بعمق ما ظل يجري عبر العام المنصرم يتضح له، وبجلاءٍ شديد، أن بنية عقل جسد المصالح الضخم، النقيض للثورة، يمكن أن تنطبق على فصائل الثورة نفسها، مثلما تنطبق على نقيضها الذي تحاول كنسه.
|
Post: #156
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-12-2020, 09:26 PM
Parent: #155
حين تصبح المؤتمرات الصحفية هي الإنجاز
النور حمد
صحيفة التيار 13 سبتمبر 2020
سبق أن أشرت، عدة مراتٍ، إلى أن العقلية القديمة التي تعكس الإنقاذ أسوأ تمثلاتها، لا تزال مسيطرةً على الفعل السياسي في بلادنا. من الشواهد على ذلك مواجهة المشاكل العويصة بحملات العلاقات العامة الباهتة والتصريحات التطمينية. كم مرةً سمعنا أن المكون العسكري والمكون المدني في مجلس السيادة يعملان في تناغم. وكم مرةً سمعنا أن الجيش والدعم السريع يدٌ واحدة. وكم مرة سمعنا أن الشراكة العسكرية بين المدنيين والعسكريين التي تدير الفترة الانتقالية سمنٌ على عسل. وحين يصيبنا شيء من الاسترخاء والخدر جراء هذه التطمينات والهدهدة الحنية المضللة، يخرج علينا السيد رئيس الوزراء، بعد أن علت نبرة الشكوى وسط المواطنين، بسبب الخنق الذي لا يعرف الشفقة الذي يتعرضون له في معيشتهم، ليقول: إن 80% مما ينبغي أن يكون تحت سيطرة الدولة فيما يتعلق بإدارة شؤونها المالية والاقتصادية يقع خارج سيطرتها تمامًا. ولا تمضي أيامٌ حتى يجتمع الفريق البرهان بالعسكريين، في رد فعلٍ غاضبٍ ليلقي باللائمة على المدنيين، دامغًا إياهم بعدم الكفاءة والفشل. بل، ومطالبًا بتفويضٍ شعبيٍ، على غرار ما جرى من الفريق عبد الفتاح السيسي في مصر، لإزالتهم من أجهزة الحكم، وهم الذين جاءت بهم الثورة، غض النظر عن العوار الذي صحب مجيئهم. فهم قد وصلوا إلى المواقع التنفيذية في الدولة بناءً على وثيقةٍ دستوريةٍ، وقَّع عليها الشريك العسكري، تحت سمع وبصر العالم أجمع.
من الأمثلة الصارخة للمؤتمرات الصحفية التي لا تقول شيئًا في مجابهة المشاكل، في حين تقول كل شيء ضمنا عن الزعازع التي تلف المشهد السياسي الراهن، هذا المؤتمر الإنشائي الأخير الذي جرى فيه إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية. أكثر ما لفت نظري في هذا المؤتمر حضور الفريق عبد الرحيم دقلو ممثلا للدعم السريع، في حين غاب ممثل الجيش وجهاز المخابرات! أفلا يشير هذا إلى انشقاقٍ واضحٍ حول معالجة كارثةٍ اقتصاديةٍ رهيبةٍ توشك أن تلقي بالبلاد في الهاوية؟ لقد تعبنا من أسلوب مجابهة المشاكل بالمؤتمرات الصحفية التي لا تقول شيئًا ولا يعقبها فعلٌ ذو تأثيرٍ واضح. بل لقد أصبحت هذه المؤتمرات مجرد لعب على الذقون وسلسلة من الإهانات المتكررة لذكاء الرأي العام.
يتوهم أصحاب هذا الأسلوب الإعلامي المايوي، الإنقاذي، البالي، السذاجةَ والغفلةَ في الرأي العام. فهم يتوهمون في الشعب قابليةً مطلقةً للخداع ولتشتت الانتباه بتأثير الفرقعات الإعلامية والتصريحات الغامضة التي تناقضها مجملُ حقائق الواقع. لكن، على العكس مما يظنون، فإن هذا النهج، يدلفقط على أنهم ليسوا سوى مايويين، إنقاذيين، في ثوبٍ جديد. وعمومًا، فإننا كبشر لا نزال نعبر أخريات المرحلة التاريخية الطويلة المتسمة باللااتساق بين أكثرية الشعوب وقادتها. من شواهد بقايا هذه المرحلة، أن حاجة بعض الشعوب إلى الثورات لا تزال قائمة. فلو كان القادة في مستوى جملة المحصلة الوعيوية والأخلاقية لشعوبهم، لما احتاجت الشعوب أصلا لأن تثور، ولاختفت الاحتقانات والنزاعات العنيفة. فمستوى الوعي والبنية الأخلاقية الجمعية وسط عديد الشعوب أمتن بكثيرٍ مما لدى النخب التي تقودها. تكمن المشكلة في صعود ضعيفي القدرات ومهلهلي البناء الأخلاقي إلى مواقع القرار في كثيرٍ من الدول. والسبب أن الشعوب، رغم وجود الكثير من المقتدرين معرفيًا وأخلاقيًا وسطها، لم تعرف بعد، كيف تستجمع طاقتها وتستبقيها متماسكة، لتحول دون أن ينفذ أهل المطامع والبناء الأخلاقي الهش، إلى مراكز القرار لديها. لكن، رغم كل ذلك، سيبلغ الكتاب أجله وستنتصر الشعوب في نهاية الأمر. كان على ربك حتما مقضيا.
|
Post: #157
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-13-2020, 11:22 PM
Parent: #156
تجميد حساب سفارتنا بإسبانيا!
النور حمد
صحيفة التيار 14 سبتمبر 2020
أوردت صحيفة السوداني يوم أمس خبرًا هذا نصه: "السوداني تكشف أسباب تجميد السلطات الإسبانية حساب سفارة الخرطوم بمدريد. (الخرطو - سوسن محجوب): "جمدت السلطات الاسبانية على نحو مفاجئ حساب سفارة السودان بأحد البنوك في العاصمة مدريد. وقال مصدر دبلوماسي رفيع – طلب حجب اسمه – لـ (السوداني) إن تجميد الحساب من قبل السلطات الإسبانية تم بعد الكشف عن عمليات تحويل مالية كبيرة من حساب السفارة إلى حسابات في عدة دول. وأوضح المصدر أن وزارة الخارجية الاسبانية أبلغت رسميًا نظيرتها في السودان بخطوة التجميد، واضاف: "السلطات كشفت عن تدفقات لأموال ضخمة في حساب البعثة السودانية وهي بعثة صغيرة"، ومن ثم، عمليات تحويل تجرى إلى حسابات في عدة دول. ورفض المصدر الكشف عن تحركات الخارجية لمعرفة ما يجري في حساب بعثتها في مدريد. وكان الرئيس المعزول المشير عمر البشير، وجه قبل سقوط نظامه، بهيكلة الخارجية وبعثاتها بالخارج حيث قضت الهيكلة بإغلاق السفارة السودانية في إسبانيا إذ شرعت الخارجية في تجفيف السفارة فعليا. لكن بعد سقوط نظامه أوقف "المجلس العسكري" عملية التجفيف وأرسل دبلوماسيًا لإدارة السفارة". (انتهى نص الخبر).
تضمن هذا الخبر تلميحات غريبة، خاصةً ما ورد في ذيله. فقد جاء فيه أن الرئيس المخلوع قرر قبل سقوطه إقفال السفارة في مدريد وقد شرعت الخارجية فعلا في تجفيفها تمهيدًا لإغلاقها. غير أن المصدر بالخارجية الذي نسبت إليه الصحيفة الخبر، ذكر أن "المجلس العسكري" قرر إبقاء السفارة مفتوحة. بل، وأرسل دبلوماسيًا لإدارتها! السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الجزئية صحيحة؟ أي، هل عطل "المجلس العسكري"، كما ذكرت الصحيفة، أو قل "اللجنة الأمنية"، قرار الرئيس المخلوع لتصفية سفارة مدريد في الفترة التي أدارت فيها البلاد قبل توقيع الوثيقة الدستورية؟ وهل قامت بالفعل بإرسال سفير، كما ذكر المصدر؟ وإذا حدث ذلك، هل جرى هذا بتنسيق مع الخارجية؟ هذه أسئلة تحتاج إلى إجابات. وعلى إجاباتها سوف تنشأ بالضرورة أسئلة أخرى. ورد أيضًا في قول المصدر إن طاقم السفارة السودانية في مدريد صغير، ومع ذلك ظلت تتلقى أموالاً طائلة، كانت ترسلها بدورها إلى حسابات بنكية في دول أخرى، لم يسمها المصدر. ولكي ينجلي الضباب عن حقيقة هذا الخبر المزعج، نحتاج أن نعرف متى أغلقت السلطات الإسبانية الحساب؟ ومتى أبلغت الخارجية السودانية بذلك؟ وما هي الفترة التي جرى فيها هذا النشاط المريب: هل في عهد المخلوع وتوقف مع سقوطه أم امتد إلى الفترة الانتقالية، سواءً في الجزء الذي أدارته اللجنة الأمنية العسكرية بمفردها، أو الجزء الذي أعقب توقيع الوثيقة الدستورية؟
هذه قضية رأي عام من الدرجة الأولى، لكونها تثير شبهات حول مسلك دولتنا على الساحة الدولية عبر سفاراتها. من حقنا كشعب أن نطالب وزارة الخارجية بالخروج إلى العلن وتقديم الحقائق الأولية حول هذه القضية. على الأقل أن نعرف أنها قد بدأت التحقيق فيها. فالوازرة مطالبة: إما أن تقبل ما أوردته صحيفة السوداني كما هو، أو تقوم بتصحيح ما ليس صحيحًا منه للرأي العام. ختامًا، لابد أن أمرًا مريبًا دفع بالسلطات الإسبانية إلى اتخاذ هذا الإجراء. فهل هناك غسيل أموال؟ وهل هناك تجارة سلاح، أو أي نشاط إجرامي آخر؟ وما هي الحسابات الأخرى التي كانت تصل إليها هذه الأموال، ولأي غرض؟ نحن في انتظار ما ستخرج علينا به وزارة الخارجية.
|
Post: #158
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-15-2020, 01:53 AM
Parent: #157
لماذا السعر الرسمي للدولار 55 جنيها؟
النور حمد صحيفة التيار 15 سبتمبر 2020
ظللت أسأل نفسي لماذا يبقى السعر الرسمي للدولار 55 جنيهًا، في حين ظل سعره يزداد في السوق الموازي حتى تعدى مئتي جنيه؟ ولربما تكون للذين يديرون الاقتصاد، منذ عهد الانقاذ المدحور، وصولاً إلى ما نحن فيه الآن، حكمةٌ اقتصاديةٌ أجهلها. سمعنا قبل شهور أن السعر الحكومي سيرتفع إلى 120 جنيهًا، لكن ذلك بقي نظريًا حتى الآن. أول تساؤلاتي في هذا الصدد: من هم الزبائن المستهدفون بسعر 55 جينها؟ فهل هناك مغتربٌ ينضح وطنيةً يُحضر معه آلاف الدولارات من مغتربه أو مهجره ليذهب بها إلى البنوك وبيعها بالسعر الحكومي، مفضِّلاَ ذلك على سعر السوق الموازي الذي يبلغ ثلاثة أو أربعة أضعاف السعر الحكومي؟
أعرف، مثلاً، أن هذا السعر هو ما تبيع به الحكومة العملة السودانية للمنظمات الطوعية العاملة في السودان وهي مجبرة وهو، أيضًا، ما تحسب به القروض والمنح. ففي حالة التعامل مع المنظمات، جعلت الحكومة من نفسها سارقًا لأموال الضعاف المستهدفين بخدمات المنظمات، الذين ما جاءت المنظمات لمساعدتهم إلا بسبب عجز الحكومة. تأخذ الحكومة جزءًا كبيرًا جدًا من تلك الأموال لنفسها دون وجه حق، لأنها تعلم أن السعر الذي تحسب به غير حقيقي. وقد كانت حكومة الإنقاذ تتكسب من هذا الإجراء على حساب شعبها فتأخذ، أحيانًا، ما يقارب نصف ما تجلبه المنظمات من عملة حرة بهذا السعر الزائف. فتضطر المنظمات إلى تقليص مشاريعها، لأن نصف الميزانية المرصودة لها يضيع عند عتبة الحكومة المُضيفة. كان بنك السودان قبل بضعة عقود يغطي حاجة المستوردين من العملة الأجنبية، وكان حتى بدايات عهد نميري قادرًا على توفير ما يطلبه المستوردون، وفقًا للضوابط والشروط. أيضًا كان يفي بحاجة الطلاب الذين يدرسون في الخارج والمسافرين للعلاج أو السياحة، من العملات الحرة. غير أن ذلك تراجع مع تدهور أحوال البلاد الاقتصادية، حتى وصلنا إلى هذه الحالة العويصة التي نحن فيها اليوم. الآن لا تستطيع الحكومة أن توفر للمستوردين كل ما يطلبون من عملة حرة. فهي ربما تمنحهم جزءًا، لا أعرف نسبته، ثم تتركهم يكملون النقص من السوق الموازي. فبأي منطقٍ، إذن، تحارب الحكومة السوق الموازي وهي معترفةٌ به أصلا؟ ثم، هل هي تحارب مبدأ وجود سوقٍ موازٍ، أم تحارب تخريبًا ممنهجًا، يتعمد رفع سعر الدولار؟ وإذا افترضنا أن الجواب الأخير هو الصحيح، فما هي الكيفية التي تفرق بها الحكومة بين الفعلين، فتغض الطرف عن واحدٍ، وتقوم بمطاردة الآخر وتجريمه؟
يدخل المغتربون السودانيون البلاد عبر المنافذ الرسمية كل يوم، وفي حوزتهم عملاتٍ حرة، لا يسألهم أحد عن مقدارها ولا عن أين سيستبدلونها. بل، إن المسؤولون الحكوميون أنفسهم، يعودون من مهامهم الرسمية خارج البلاد، بمبالغ من العملات الحرة. فهل يا ترى يذهبون لاستبدالها بسعر البنك؟ نحن نعاني من اختلال هيكليٍّ وإداريٍّ وتضاربٍ بالغ الفظاعة في الضوابط الاقتصادية. ما نحتاجه هو أن نوقف هذه الفورات الأمنية المتكررة التي لا تسندها سياسات مالية متسقة. وأن نتجه إلى حلولٍ جذرية مستدامة، قادرة على الصمود؟ هناك سوقٌ موازٍ للعملات الحرة في كل الدول ذات الاقتصادات الضعيفة، لكن الفارق بين سعر السوقين الرسمي والموازي، لا يتعدى عادةً في هذه الدول بضع وحدات، في حين يبلغ الفارق عندنا مئات الوحدات! فبالله عليكم اكشفوا لنا المستور، وأطلعونا على حقيقة مسببات هذا الخلل. ودعونا من زبد حملات العلاقات العامة، الذي لا يلبث أن يذهب جفاء.
|
Post: #159
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-17-2020, 12:55 PM
Parent: #158
مجانية تعليم ووجبة لكل طالب.. كيف؟
النور حمد
أوضحت وزارة التربية والتعليم في مؤتمرها الصحفي الذي عقدته في مقر وكالة السودان للأنباء (سونا) أول أمس، أنها لم تتمكن من طباعة أكثر من كتابين (هناك ثالث في الطريق) من أصل بضع وثلاثين عنوانًا، من كتب مرحلة الأساس للعام الدراسي الجديد. ويبلغ العدد الكلي للنسخ، التي كان من المفترض أن تُطبع، عشرات الملايين. لقد أحسست بالإشفاق، لحظة أن أعلنت وزارة التربية والتعليم منذ عام تقريبًا، أنها بصدد تغيير كامل لمنهج مرحلة الأساس وطباعته بكامله قبل بداية العام الجديد، مضيفةً أنها ستجعل التعليم مجانيًا. وزاد إشفاقي أكثر حين أردفت الوزارة أنها ستوفر وجبةً مجانية ٍلكل طلاب مرحلة الأساس. كان إحساسي أن هذا طموحٌ ثوريٌّ كبيرٌ لا تدل مؤشرات الواقع العملي على إمكانية تحقيقه. فمن طبيعة كل فترة انتقالية كثرة المعيقات. لكنني تريثت وآثرت ألا أعلق، وقلت في نفسي: لابد أن مسؤولي الوزارة يرون شيئًا لا أره. كما خشيت، أن أُعدَّ ضمن مثبطي الهمم من أهل الغرض. لكن، دارت عجلة الأيام وثبت عمليًا أن هذا الطموح لم يكن واقعيًا.
نحن نعرف، ومنذ وقتٍ طويلٍ جدًا، أن معلمي المدارس لا يحصلون على رواتبهم الشهرية في مواقيتها. بل مرت فترات بقي فيها بعض المعلمين بلا رواتب لشهورٍ متتالية. كما نعلم أيضا تناقص الإيرادات الحكومية في أي فترةٍ انتقاليةٍ، لأن الثورة، بطبيعتها، تُحدث هزةً في الخدمة المدنية. فلكل ثورةٍ، بالضرورة، ثورةٌ مضادة. والثورة المضادة ليست جيشًا غازيًا يأتي من الخارج، وإنما هي قطاعٌ من العاملين في الدولة، ممن يعرفون من أين تُؤكل الكتف. وقد أتقن هذا القطاع أساليب التعطيل وخنق القرارات. فقد سبق أن مارسها في حروب الانقاذيين ضد بعضهم. فوق هذا وذاك، جاءت جائحة كورونا وكارثة السيول، وأصبحت الدولة مواجهةً بمنصرفاتٍ لا قبل لها بها. لذلك كان من المدهش بالنسبة لي أن يكرر السيد وزير التربية والتعليم إصراره على تحقيق مجانية التعليم في مرحلة الأساس في العام القادم. بل زاد دهشتي تأكيده على تقديم وجبةٍ مجانية، متجاهلاً تجربة الوعود السابقة التي تحطمت على صخور هذا الواقع العملي شديد التعقيد. فنحن لم نفق بعد من زلزال الزيادة الضخمة في الرواتب التي منحها وزير المالية السابق للعاملين، وجرى تطبيقها على المعلمين. وقد قرأنا قبل يومين خطاب وزيرة التعليم العالي، الذي أوضحت فيه أن وزارة المالية عجزت أن تمنحهم أي زيادة على الرواتب القديمة.
تقديم وجبة لطلاب يعدون بالملايين ليس أمرًا هينًا. يحتاج هذا العمل الضخم لإنشاء مطابخ في آلاف المدارس مع توفير الأواني والوقود والمواد الغذائية. يُضاف إلى ذلك، توظيف عدد من الطباخين في كل مدارس القطر. ويعني ذلك، إضافة قوة عاملة جديدة ومنصرفات جديدة على الوزارة، سواءً قامت بذلك بنفسها، أو أوكلته إلى متعهدين. فكيف ستوفر الوزارة ذلك، وهي بحاجة إلى توظيف معلمين لإكمال النقص، وإلى حل مشكلة الإجلاس المزمنة، إضافةً إلى مواجهة تحديات التمدد الأفقي المستمر في قاعدة التعليم. ليس من الحكمة أن نوهم الجماهير أن للثورة عصا سحرية تحيل بها الواقع الذي يعرف كلنا جحيمه إلى نعيم مقيمٍ، في عام أو بضع عام. لا اعتراض لي أبدًا على المبدأ فيما تتطلع إليه وزارة التربية. لكن لابد من إنجاز الأهداف على مراحل، خاصة حين يكون الواقع العملي يعاني من علل هيكلية عويصة. فالحماس للثورة والسعي لنيل رضا الجماهير بإطلاق الأمنيات التي لا يتسع لها الواقع، مضرٌّ بالثورة.
|
Post: #160
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-17-2020, 10:17 PM
Parent: #159
توازن القوى بين الثورة والثورة المضادة
النور حمد
صحيفة التيار 18 سبتمبر 2020
لم يحدث في التاريخ أن كانت هناك ثورة مكتملة انتصرت وحققت أهدافها في ضربةٍ واحدة. فالثورة بناء يجري تشييده لبنةً، لبنةً وليست انفجارًا يحدث في ثوان، ثم يعم الصمت المكان، وحين يفيق الناس من صدمة الانفجار، يجدون أنفسهم في خَلْقٍ جديد. فالثورة فعل تراكمي ولذلك فإن ما يسمى بالثورات الفاشلة في التاريخ ليست، في حقيقة الأمر، سوى مراحل من بنية ثورةٍ ناجحةٍ أتت لاحقا. وفقا لهذا المفهوم، فإنني أنظر إلى ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 بوصفهما محاولتين فاشلتين لإحداث التغيير الجذري، لكنهما وضعتا البلاد، على عتبة المحاولة الثالثة الناجحة، التي أتت بعد كل تلك العقود الممتدة التي أمضتها الدولة السودانية في التراجع المستمر. غير أن المحاولة الثالثة، الجارية الآن، لا تعد ناجحةً لمجرد أنها قد حدث وأزالت قمة هيكل النظام القديم. فجسد النظام القديم وعقلية النظام القديم لا تزالان تسيطران على مجريات الأمور. بل إن عقلية النظام القديم منتشرة حتى وسط من يتصدون لقيادة الثورة حاليا. وهذا أمر قد أخذ يتبدى للناس كل صبحٍ جديد.
لقد قيض لله لهذه الثورة المباركة توازنًا مثاليًا للقوى. والذين يرون المشهد من زاوية واحدة لا يلقون بالا إلى عنصر توازن القوى وأهميته في هذه المرحلة المفصلية الحرجة من مجمل حراك التغيير السوداني، الذي لم يتوقف منذ الاستقلال. لقد كان من الممكن، لولا وجود قوى عسكرية متعددة، متضاربة الأهداف، أن يسحق تحالف المصالح الحاكم، الثورة عبر الخطة الموضوعة لقتل عشرات الآلاف. وكما رأينا، فقد أخذ الرئيس المخلوع الفتوى بذلك من علماء السوء. لقد أتاح توازن القوى العسكرية الذي حيد القوة الغاشمة للرئيس المخلوع ورهطه، مساحةً جديدة للثورة لتتحرك فيها. لذلك حين جرى فض الاعتصام، الذي ظن معدوه أنه الضربة القاصمة، كانت الثورة لا تزال محتفظةً بقواها سالمة؛ حسيًّا ومعنويًا، فأخرجت مليونية 30 يونيو التي أجهضت الانقلاب على الثورة وأبطلت محاولة تتويج جنرالٍ جديد. غير أن سيناريو رابعة العدوية لم يمت بعد. فقد أخذ أهله ينضجونه على نارٍ هادئة، عبر التخريب الاقتصادي وخنق الناس في معاشهم. وقد أدى هذا أيضًا إلى تعادل قوى جديد. فالثورة لا تنجح لمجرد أن عينها مصوبةٌ على تحالف الثورة المضادة؛ في شقيه العسكري والمدني، وحسب وإنما ينبغي أن تكون عينها مصوَّبةً، أيضًا، على من أخذوا يقودون الثورة بأساليب ماكرةٍ خبيثة. فالخطر على هؤلاء من الثورة قائمٌ، مثلما هو قائمٌ من أولئك.
لقد تمكنت قوى الثورة المضادة، وهي قوى مدنية، أن تقضي على ثورة أكتوبر 1964 في بضعة أشهر. كما تمكنت نفس تلك القوى المدنية من جعل الفترة الانتقالية لثورة أبريل 1985 ذات العام الواحد، فترة خاملة مجردةً من أي إنجاز ثوري، لتعود بعدها العقلية السابقة لنظام مايو لتسيطر من جديد. علينا أن نفكر في توازن القوى بعقلية ترى التركيب والتعقيد الكبير في المشهد السياسي الراهن. ليس من مصلحة الثورة أن تعادي الجميع في آن معًا، لأن هذا يخل بتوازن القوى. واختلال توازن القوى في الظرف الراهن هو الثغرة التي ينفذ منها كارهو الثورة لإجهاضها. هذا المشهد المركب، المعقد، بفترته الانتقالية التي تمددت لأربع سنوات هبةٌ من السماء. فشراء الوقت الآن في مصلحة كثير من القوى الفاعلة المؤثرة، وهذا يتيح فرصًا للمراجعات، ولبروز عوامل داخلية وخارجية جديدة في الصورة.
|
Post: #161
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-20-2020, 06:10 AM
Parent: #160
التطبيع واستقلالية القرار السوداني
(1 من 2)
النور حمد
صحيفة التيار 19 سبتمبر 2020
أحاول في هذه المقالة أن أناقش قضية التطبيع مع دولة إسرائيل من زاوية مغايرة. محور هذه الزاوية هو كسر الحاجز العقلي والنفسي، الذي ظل يحول بين السودان وبين التعاطي الواقعي مع دولة إسرائيل، شأنه شأن سائر دول الجوار. بل وشأن كل الدول المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة التي لها علاقات طبيعية مع إسرائيل. ولا ننسى أن نذكر هنا أن جمهورية مصر العربية، زعيمة كل العرب منذ خمسينات القرن الماضي وحتى سبعيناته، قد طبعت علاقتها بإسرائيل منذ أربعة عقود، تقريبًا. طبعت مصر رغم أنها أول من رفع راية معاداة إسرائيل، وأول من خلق حالة اصطفاف عربية شاملة ضدها. غير أن مصر كانت أول من خرج على هذ الاصطفاف. فقاطعها العرب سنينًا ثم ما لبثوا أن قبلوا خيارها ولم يعودوا يدمغونها بخطيئة التطبيع المزعومة.
كانت لمصر وللأردن أسبابهما في الخروج من ذلك الاصطفاف. فقد غلَّبتا خيار مصلحتيهما، على خيار العمل لهدف جماعي، عابر للدولة القطرية، يفتقر إلى التحديد الدقيق والآليات الواضحة. والآن تنضم إلى ركب الخروج من الاصطفاف العربي الهلامي، الذي لم يكسب معركة واحدة مع إسرائيل، دولتا الإمارات والبحرين. وبهذا، خرجت إلى العلن أربعة دول عربية، من مظلة مقاطعة إسرائيل. ونعلم جميعًا أن مجموعة أخرى من الدول العربية ظلت تتعامل مع إسرائيل من تحت الطاولة، منذ تسعينات القرن الماضي. بل زار كبار قادة هذه الدول إسرائيل، كما زارها قادة إسرائيليون. كل من يقرأ مسار التراجع في مسيرة العداء المطلق لإسرائيل يتضح له ازدياد حالة تفكك حالة القطيعة وسيرها، باضطراد، نحو التلاشي والزوال.
يتمسك تيار الإسلام السياسي في السودان بالإبقاء على مقاطعة إسرائيل، في حين أن زعيمتيه تركيا وقطر تتعاملان مع إسرائيل. كما يتمسك بالمقاطعة السيد الصادق المهدي، الذي هرولت زعامة حزبه إلى إسرائيل منذ خمسينات القرن الماضي. أما القبيل الثالث فهم الشيوعيون وغيرهم من فصائل اليسار، الذين يتناسون أن الاتحاد السوفيتي كان من أول الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل. ولم يجرؤ الحزب الشيوعي ولا غيره من الأحزاب اليسارية على مطالبة الدولة الشيوعية السوفيتية سحب اعترافها بإسرائيل، حتى بعد الهزيمة العربية في عام 1967، التي احتلت على أثرها إسرائيل كلا من هضبة الجولان السورية، وسيناء المصرية، والقدس الغربية. الشاهد في كل ما تقدم أن مقاطعة إسرائيل بقيت على الدوام حالةً مهتزة ومتناقصة. بل لقد أصبحت بلا معنى، منذ أن تفاوض الفلسطينيون مع إسرائيل وقبلوا باتفاق أوسلو الذي انقسموا بسببه إلى فصيلين رئيسين؛ اختار أحدهما أن يرسل صواريخ بدائية إلى إسرائيل، أما الآخر فلا يتأخر في الذهاب لتقديم واجب العزاء في وفيات أقارب القادة الإسرائيليين.
لا تنحصر أهمية التطبيع مع إسرائيل فيما يخصنا نحن السودانيين، فيما أرى، في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولا في التعاون التجاري والزراعي والتقني مع إسرائيل، رغم ما في كل ذلك من منافع مؤكدة. يمثل التطبيع في نظري نقلة تاريخية تتمثل في الجرأة على الخروج على الهيمنة العربية التاريخية على القرار السياسي السوداني. بعبارة أخرى، يعني التطبيع بالنسبة لي، بداية نهاية الاحتلال العربي للعقل السوداني، والقضاء على التشوه النفسي التاريخي الذي جعل السودانيين يضحون بمصالحهم مرارًا وتكرارًا لنصرة حقٍّ لا يقف معه أهله أنفسهم. وتمثل خطوة التطبيع، بالنسبة لي ضربة بداية فارقة في مسيرتنا نحو، استعادة الهوية السودانية المضيعة.
|
Post: #162
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-20-2020, 06:14 AM
Parent: #161
التطبيع واستقلالية القرار السوداني
النور حمد
التيار 20 سبتمبر 2020
ما من شك أن لإسرائيل تجاوزاتها اللاانسانية، غير أن لبعض الدول العربية تجاوزاتها التي لا تقل منها فظاعة. ولو أننا نعادي الدول بسبب تجاوزاتها ومواقفها من حقوق الإنسان، لوجب علينا قطع علاقاتنا مع دول كثيرة عربية، وغير عربية، بسبب التجاوزات. من بين تلك الدول مصر، التي احتلت حلايب وعملت على تمصيرها. وهو عمل لم يستنكره أي قطرٍ عربي. الحقيقة الثابتة أن كل دول العالم معترفة بإسرائيل باستثناء أكثرية الدول العربية. وهناك دولٌ لا تقع تحت هيمنة المنظومة الغربية، كالهند والصين معترفةٌ بإسرائيل، ولها معها علاقات تتفاوت في الكيفية وفي المقدار. بل للهند، على سبيل المثال، تعاونٌ مع إسرائيل فيما يتعلق بتكنولوجيا السلاح، وغير ذلك من صور التعاون. فعدم الاعتراف بإسرائيل ليس موقفا كوكبيًا ينبغي أن نتَّبعه، ولا هو شأنٌ ينبغي أن يحمل السودان عبئه بأكثر مما تحمله دولٌ جارةٌ مثال: إثيوبيا وتشاد ومصر. الإصرار على عدم الاعتراف بإسرائيل ومقاطعتها بدعوى الحقوق يضعنا في سلة نفاق النخب العربية والمستعربة. وهي سلةٌ لا يعرف العالم سجلاً في حقوق الإنسان، أسوأ من سجلها. فقتل اليمنيين بالقصف الجوي على مدى سنوات، وتجويعهم وتعريضهم للإصابة بالكوليرا لا يقل فظاعةً عما جرى للفلسطينيين، وما جرى للدارفوريين في السودان، من قتلٍ وتشريد بأسلوب الأرض المحروقة. فكل الفظائع الجارية حاليًا في المنطقة العربية؛ كما في سوريا وليبيا واليمن والعراق أبطالها العرب، وليس إسرائيل.
تتهاوى المقاطعة لإسرائيل حاليا باطراد، وربما يأتي يومٌ نجد فيه أنفسنا الوحيدين المتمسكين بها، الدافعين لفاتورتها على صُعُدٍ مختلفة. يقول البعض أن ثورتنا ثورة حقوق وينبغي أن تقف ضد الظلم أينما كان، غير أن هذا تصور يتسم بالكثير من المثالية. فثورتنا لم تأت لتغير العالم وإنما لتغير بلادنا. كما أن إسرائيل دولةٌ معترفٌ بها من قبل النظام الدولي، ولا معنى لأن نكون غير معترفين بها، اللهم إلا إذا كنا نريد أن نغير النظام الدولي نفسه. إن الإصرار على عدم الاعتراف بإسرائيل لا يختلف، من حيث تطرفه، وتأثيراته السالبة، من التمسك بالشعار العروبي المنقرض، القاضي بإلقائها في البحر. الاعتراف بإسرائيل أو المضي لدرجة تبادل البعثات الدبلوماسية معها لا يجلب بالضرورة إلى بلادنا المن والسلوى. ولكنه يجلب الانفلات من التبعية ويتيح مجالاً لرسم سياستنا الخارجية على نحو جديد، ويفتح الباب لإعادة تشكيل السردية التاريخية والمعرفية التي ينبغي أن تتأسس عليها سياساتنا لإدارة السودان الديموقراطي المتسم بالتنوع الواسع.
يتناسى قطاعٌ من نخبنا السياسية في المركز أن ما يقارب نصف السودانيين لا يرون في القضية الفلسطينية شأنًا يخص السودان، بأكثر مما يخص المجتمع الدولي. ويجب ألا ننسى أن السودانيين المقهورين في أطراف القطر لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم غوائل النخب المركزية المستعربة التي أذاقتهم الويل. هذا في حين تُنصِّب هذه النخب نفسها مدافعةً عن حقوق الفلسطينيين. ختامًا، من الخطأ أن إعترافنا بدولة إسرائيل، حين يحدث، سيكون بالضرورة مماثلا لما قامت به دولتا الإمارات والبحرين، أو ما قامت به قبلها دولتا مصر والأردن. فمنطلقنا كسودانيين مختلف، وتسبيبنا مختلف، وأهدافنا مختلفة. كل ما في الأمر أن من الحصافة أن نغتنم اللحظة السيكلوجية الراهنة، لنفك هذا القيد. وهو قيد قيدتنا به حساباتٌ خاطئةٌ أجراها سياسيونا في الماضي، تسبب فيها الاحتلال القومي العربي، والإسلاموي الأممي، لعقولهم. المهم هو الاعتراف والخروج من دائرة العداء. أما أي شروطٍ أخرى نضعها للتطببع و أي اختيارٍ نختاره لمدى مسافة الابتعاد، أو الاقتراب من اسرائيل، فينبغي أن يجري داخل إطار الاعتراف، ويجري تأسييه على دراسات جدوى واضحة.
|
Post: #163
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-20-2020, 11:09 PM
Parent: #162
ثوراتنا وصراع اليمين واليسار (1)
النور حمد
صحيفة التيار 21 سبتمبر 2020
ما من ثورةٍ من ثوراتنا إلا وكان اليمين واليسار هما المسيطران على مجرياتها. هذا على الرغم من أن الأحزاب التي ننسبها، في السياق السوداني، إلى كل من اليمين واليسار في البعد القُح، أحزابٌ صغيرة. أما اليمين في معناه العام، الذي يندرج تحت وصف "المحافظة" conservatism، فيمثل القطاع الأعرض من المجتمع السوداني. ويعود هذا إلى سيادة المزاج الديني على الوعي الجمعي في البلاد. وقد فطن الدكتور حسن الترابي إلى هذه الحقيقة، فحوَّل حزبه في مرحلتين مفصليتين في تاريخ حركته إلى جبهة عريضة، ضمت أشتاتًا توزَّعت بين أكثرية الناشطين في الحقل الديني وبعض البيوت الصوفية وقطاعًا من الطبقة الوسطى، إضافةً إلى بعض القيادات العسكرية والطلاب. هذا في حين ركز غريمه التقليدي، الحزب الشيوعي السوداني، على العمال والمزارعين وقطاع الطلاب وبعض المثقفين، خاصة من كان مشتغلا منهم في حقلي الفنون والآداب، والثقافة بصورة عامة.
اليمين واليسار في السياق السوداني، فيما أرى، تقسيمان أقرب لأن يكونا تقسيمين متخيلين أكثر من كونهما تقسيمين واقعيين تنطبق عليهما التسمية تمام الانطباق. والسبب هو أن السياق السوداني كان ولا يزال، إلى حدٍّ كبيرٍ، سياقا غير حداثي؛ أي بلا بنى هيكلية؛ سياسية واقتصادية حداثية. فالييار واليمين، في سياقنا السوداني صدى لحقبة الحرب الباردة الذي امتد إلى الدول النامية. ظن فوكوياما أن الانفجار المفاجئ الذي أخرج الكتلة الشرقية من المعادلة الثنائية السائدة حينها، قد أسفر عن انتصارٍ حاسم للرأسمالية ليثبَّت مكانها سيادة القطب الواحد. غير أن الذي حدث، حقيقةً، أن ذلك الانفجار قد أسفر عن حالةٍ أشبه ما تكون بإعلانٍ عن نهاية عهد القطبية، وولوج العالم متاهةً جديدةً لم تتضح ملامحها بعد.
هذه مقدمة مبتسرة للدخول إلى دوامة صراع اليمين واليسار ومعاركهما الممتدة بثأراتها المتبادلة التي دارت رحاها لعقود في السياق السياسي السوداني وأنهكت البلاد والعباد. وما أحب أن ألقي عليه بعض الضوء هنا أن ما حدث عقب ثورة أكتوبر 1964 وعقب ثورة أبريل 1985 يعيد نفسه في ثوب جديد عقب ثورة ديسمبر المجيدة 2018. السبب أن بنيات الوعي السياسي وسط القوة السياسية السودانية لم تتغير. فالمعادلة الصفرية التي لا تبحث عن المشترَك مع الغريم السياسي لتُنَمِّيه من أجل خدمة الصالح العام، وإنما تسعى لمحو الغريم واستئصاله وإخراجه من المعادلة كليا. وبما أن بؤرتي ما يسمى "اليسار" و"اليمين" بؤرتين صغيرتي، من حيث الوزن الانتخابي، فإنهما تجنحان إلى خلق الجبهات العريضة. وفي هذا كان حظ اليمن أكثر بما لا يقاس من حظ اليسار، ولا يزال.
من يراقب المشهد السياسي الراهن يرى بوضوحٍ سعي اليسار، وهو قوى عديدة متضاربة الأهواء، إلى استخدام نهج الشرعية الثورية في الفترة الانتقالية لقلب المعادلة لصالح الكتلة اليسارية، ولكن بلا نجاحٍ يذكر. فهذه الكتلة، لم تملك في كل محاولتيها عبر الثورتين السابقتين أدواتٍ لإنجاز هذه المهمة، وهي اليوم أعجز عن إنجازها منها بالأمس. في نفس الوقت أخذت قوى فاعلة كثيرة من ضمنها حركات مسلحة، وقوى يسارية وقادة رأي يساريون، ينتهجون، ما أخال أنهم يرونه نهجًا واقعيًا وعمليًا، يسير في وجهة إدغام قرارهم السياسي في قرار الكتلة اليمينية التاريخية المكونة من الإسلاميين وحزب الأمة. وبين هؤلاء وأولئك يبقى الشارع العريض الحائر، الذي كره الجميع. ما آراه الآن أن الوقت ليس كافيًا لنشوء كتلة ثالثة توافقية معقلنة تقضي على هذه المعادلة الصفرية العقيم قبل الإنتخابات القادمة. ما يشير إلى أن فرصة اليمين في الانتخابات القادمة هي الأرجح. (يتواصل).
|
Post: #164
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-21-2020, 11:55 PM
Parent: #163
ثوراتنا وصراع اليمين واليسار
(2 من 2)
النور حمد
صحيفة التيار 22 سبتمبر 2020
خلصت في الجزء الأول من هذه المقالة إلى أنني أرجح سيطرة اليمين العريض على مفاصل السلطة عقب الانتخابات، التي سوف تجري في نهاية الفترة الانتقالية. وكما سبق أن قلت فإن مصطلحيْ "يمين" و"يسار" ربما لا ينطبقان على حالة الانقسام السياسية السودانية التاريخية بين هذين القطبين، التي سادت فترة ما بعد الاستقلال، إلا بصورة مجازية. فما يسمى باليمين بقي عبر التجربة السياسية السودانية، لفترة ما بعد الاستقلال، تحالفًا عريضًا غير محدد الملامح. وأكثر ما يدل عليه هو تعدد الائتلافات التي حدثت بين مكوناته لتشكيل عدد من الحكومات، في أوقات مختلفة. وهي ائتلافات جرت بين حزب الأمة والإسلاميين والاتحاديين في الفترات الديموقراطية المتقطعة. وقد كان القاسم المشترك الأعظم بين هؤلاء هو شعار "إسلامية الدولة"، الذي لم يمنع حالات التنافر المؤقتة بينهم.
مثلت بوتقتا حزب الأمة والاتحادي من الناحية التاريخية الوعاء اللاَّم لأهل المصالح الاقتصادية. وقد انضم الإسلاميون، بعد أن مارسوا الحكم وذاقوا طعمه، وغرقوا في الفساد المالي والإداري، إلى مجموعة مصالح جديدة. تحول الإسلاميون من كونهم كيانًا أيديولوجيًا "رساليًا"، ليصبحوا جزءًا من مجموعة المصالح. والآن، بحكم فقدانهم الغطاء العسكري والأمني الباطش الساند لهم، سيقعون بالضرورة في الوعاء الحاوي لحزب الأمة، بكل شظاياه، إضافة إلى الاتحادي الأصل. يجمع بين كل هذه الكتلة العريضة؛ بشقيها السياسي والاقتصادي، ما يمكن أن نسميه "رهاب اليسار". ورغم أن اليسار غير متحد وأن كتلته أصغر حجمًا من حيث السند الجماهيري، إلا أن كتلة اليمين لم تستهن يومًا بخطره عليها. ولذلك كلما أحست بدنو خطر اليسار منها، تناست خلافاتها والتصقت ببعضها، بدوافع شبه غريزية.
الآن تعقدت الصورة أكثر عقب دخول القوى العسكرية المختلفة، بصورةٍ جديدة، في هذه المعادلة. فقد أصبح للقوة العسكرية الحكومية شِقَّان شبه مستقلين، تحول كل واحدٍ منهما إلى "تايكون" اقتصادي. ودخلا إلى نادي المصالح بثقلٍ نوعيٍ ضخم، لم يتفق للعسكر في الماضي. يضاف إلى ذلك دخلت الحركات المسلحة بالأجندة الخاصة بها إلى المشهد المعقد أصلا. ولو أضفنا إلى كل ما تقدم السند المالي والسياسية من بعض القوى الإقليمية لهذه الكتلة، يصبح الحلم اليساري التقليدي بإحداث انقلاب راديكالي يقلب الخريطة السياسية السودانية، عبر الثورة رأسًا على عقب، في المدى القريب، مجرَّد تفكيرٍ رغبوي.
لقد دفعت هذه التحولات والتشكلات الجديدة رموزًا من مثقفي اليسار ومن الحركات العسكرية المحسوبة على اليسار، إلى اقتلاع خيامهم من معسكرهم القديم، لينخرطوا لواذًا في مغازلة كتلة اليمين العريضة هذه. ولهؤلاء، في تقديري، إن صح تحليلي، تبريرهم البراغماتي، وربما التكتيكي لهذه النقلة. فالثورة الآن في مطبٍّ لا ينكره إلا مكابر. فقد أصبحت قدرة الإسلاميين وكارهي اليسار، من أرباب المصالح، ومن بعض شركاء الحكم أنفسهم، على خنق المرحلة الانتقالية، حقيقةً بيِّنة. ولذلك لربما رأى رموز اليسار غير المؤدلج، في الالتفاف حول محور السيد الصادق المهدي ترياقًا ضد عودة الإسلاميين. يضاف إلى ذلك، ربما مثَّل لهم السيد الصادق المهدي مركبًا للتصالح مع المكون العسكري أو بعض قواه المؤثرة، وأيضًا، مع القطاعات المتدينة من الجمهور. وهنا، ربما قال قائلٌ: إن جماهير الثورة قادرةٌ على تعديل كفة الميزان. غير أن تشقُّق كتلة اليسار، وتضعضع قوى الحرية والتغيير، وعدم تجانس حكومة الفترة الانتقالية، إضافة إلى سوء تقديرات الحزب الشيوعي وخطأ رهاناته، ربما جعلت من المستحيل تعديل هذا الوضع قبل الانتخابات. بل ربما أصبحت غاية الآمال أن تمر الفترة الانتقالية بسلام، لا أكثر.
|
Post: #165
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-22-2020, 11:07 PM
Parent: #164
عصا نائمة وعصا قائمة!
النور حمد
صحيفة التيار 23 سبتمبر 2020
للمنظومة الحاكمة حاليًا في السودان، برؤوسها المتعددة، عدة ألسن. أما الفضاء العام المحيط بها والذي تسيطر عليه وسائط التواصل الاجتماعي فله ألف لسانٍ متعارض. وتظل الحقيقة في هذا المناخ منفصلةً عن الواقع، سابحةً في هذا السديم الشاسع من الشائعات، والشائعات المضادة. من أمثلة ذلك: عندما ذهب الفريق البرهان للقاء نتنياهو في عنتيبي بيوغندا في فبراير الماضي، طفح على سطح الأخبار أن المكون المدني في الشراكة الانتقالية لم يقرر ذلك اللقاء، وأن الفريق البرهان تصرَّف بمفرده. بل قيل إن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لم يُستشر في أمر ذلك اللقاء. أما ما أعقب اللقاء من الموافقة على عبور طائرات شركة العال الإسرائيلية أجواء السودان، فقد أظهرته القنوات الإسرائيلية، ولم تقابله الحكومة السودانية لا بنفي ولا بإثبات. وبعد أن هدأت الزوبعة، لم يعد أحدٌ مشغولاً ما إذا كانت طائرات شركة العال الإسرائيلية لا تزال مستمرةً في عبور أجواء السودان، أم أنها توقفت. كما لم يخرج قط من إدارة الحركة الجوية السودانية ما ينفي أو يثبت ذلك. في نفس تلك الفترة، حطت طائرة فريق الإسعاف الطبي الإسرائيلي التي هرعت لإنقاذ مهندسة لقاء البرهان ونتنياهو، الدكتورة الراحلة، نجوى قدح الدم، في مطار الخرطوم. وطفح ذلك الخبر، واحتل مواقع الصدارة في وسائط التواصل الاجتماعي، ثم ما لبث أن أصبح نسيًا منسيا.
الآن تتكرر ذات البلبلة الخبرية وتشتعل وسائط التواصل الاجتماعي من جديد بعد أن ذاع أن الفريق عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك سوف يذهبان إلى أبو ظبي يصحبهم وفد وزاري. لكن في اللحظة الأخيرة تخلف رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وذهب الفريق البرهان بمفرده مع الوفد الوزاري. ولم يصدر في الفترة الممتدة بين ظهور خبر ذهاب حمدوك إلى أبو ظبي بصحبة البرهان وبين حدوث الرحلة، أي نفي من مكتب رئيس الوزراء لخبر ذهابهما معًا. أيضا تردد في الأخبار العالمية والمحلية أن وفدًا أمريكيًا ينتظرهما في أبو ظبي. ولم أفهم من جانبي لماذا تجري مناقشة قضية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في أبو ظبي، إن كان سبب اللقاء منحصرًا في هذه القضية وحدها. لكن، حين يُشار إلى أن لقاء السودان والإمارات وأمريكا في أبو ظبي مرتبطٌ عضويًا بإدخال السودان في زمرة مجموعة الدول العربية التي وقَّعت قبل أيام، يخرج الناطق الرسمي باسم الحكومة السودانية ليناقض ذلك. وليقول: إن موقف الحكومة السودانية ثابت ولا أحد مفوضٌ بمناقشة قضية التطبيع، الآن. وفي وسط كل هذه البلبلة يسقط الجميع في التَّنُّور الذي يمور بالإشاعات والاشاعات المضادة.
لقد أعاب الأستاذ الشهيد، محمود محمد طه، منذ ستينات القرن الماضي على القادة العرب اختيار دور القاصر الذي يحب أن يتوارى خلف وصي. كما أعاب عليهم انحلال العزيمة وفعل ما يعتقدونه لواذًا وخفية. وأعاب عليهم أيضًا قلة الشجاعة والقدرة على مواجهة شعوبهم بالحقائق كما هي. لقد كان أنور السادات قائدًا عظيمًا، لأنه حين رأى أن يخرج ببلاده من حالة العداء مع إسرائيل، الضارة ببلاده، انبرى لفعل ذلك ولم يتلفَّت من فوق كتفيه ليري ما يقوله عنه الآخرون. لقي السادات مصرعه شهيدًا بسبب ذلك. وقاطع العرب مصر، ثم ما لبثوا أن عادوا إليها، بل وأعادوا إليها مقر الجامعة العربية، بعد أن نقلوه منها. والآن، لم يعد أحدٌ يطالب مصر بنقض السلام مع إسرائيل. وتفرغت مصر، منذ تلك اللحظة، لإدارة شؤونها الداخلية والخارجية وفق مصالحها القطرية.
|
Post: #166
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-24-2020, 07:25 AM
Parent: #165
فعلٌ إبداعي يزدهر وآخر يحتضر
النور حمد
صحيفة التيار 24 سبتمبر 2020
بحكم غرقنا، نحن السودانيين، في الصراع السياسي والانشغال به عما سواه، واختزالنا مجمل أبعاد هذه الثورة العظيمة الشاملة في الفعل السياسي، فقد ات على أكثريتنا أن ترى أبعادها ومضامينها الأخرى، التي تتعدى في أهميتها مجرد الفعل السياسي ونتائجه. لكل ثورة أبعادٌ ثقافية واجتماعية تتمثل في محاولة الخروج من أوضاعٍ عامةٍ متكلسة، إلى أوضاعٍ جديدةٍ أكثر مرونةً وحيوية. لقد ظهرت بعض الاشراقات الثقافية والاجتماعية لثورة ديسمبر، في فترة الاعتصام. غير أن الفعل السياسي التقليدي المنبثق من العقل السياسي التقليدي، الذي يتقاسمه كارهو الثورة من أنصار النظام المدحور، مع أدعياء الثورة ممن اختطفوا مقود مركبتها، ما لبث أن تسيد المشهد. وغطى، من ثم، على الملمحين؛ السوسيولوجي والثقافي، اللذين أبرزتهما الثورة وهي في أوج عنفوانها.
لم يكن امتلاء الشوارع بالثوار وعراكهم اليومي، كرًّا وفرًّا مع آلة الأمن العسكرية الباطشة، على مدى سنوات هو أهم ملامح ثورة ديسمبر العظيمة. فهناك حراكٌ سوسيولوجي وثقافي بقي يعتمل تحت السطح على مدى عقودٍ طويلةٍ سابقة لمجيء الإنقاذ إلى الحكم. وقد كان الحقل الإبداعي مرآة عاكسة لذلك العراك. ويمكننا أن نقول إن فترة الاعتصام والصدمة التي أصابت المؤسسة القديمة وتسببت في شللها مؤقتًا، أتاحت فرصةً لخروج الطاقات الإبداعية المقموعة سلطويا لعقود طويلة إلى السطح ليشهدها العالم أجمع. ولذلك كانت الكراهية لفترة الاعتصام نابيةً والعمل على شيطنتها نذلاً وخسيسًا، وعلى إنهائها عنيفًا وإجراميا. لقد كان مجمل ما عكسته شهور الاعتصام فضحًا ثقافيًا واجتماعيًا لبنية السائد المعتل قيميًا، الذي خنق الحياة السودانية منذ مؤتمر الخريجين في ثلاثينات القرن الماضي، وحتى يومنا هذا.
لا يتحقق سبر أبعاد أي ثورة، بالتركيز حصريًا على تجليات الفعل السياسي المصاحب لمختلف أطوارها، وإنما بالتركيز أيضًا على تجليات الفعل الثقافي والسيسيولوجي المعتمل في داخلها. لقد أتاحت لنا وسائط التواصل الاجتماعي نافذةً نطل منها على عالمٍ تعتمل قواه تحت السطح، ما كان بوسعنا الاطلاع عليها لولا هذه الثورة التكنولوجيا الشاملة التي انتظمت العالم بأسره. قوام هذا العالم فئة الشباب، التي تحملت العبء الأكبر في الثورة. ومَثَلُه مَثَلُ أي بنيةٍ سوسيولوجية أو ثقافيةٍ، فإن لهذا العالم المقموع قطبان: قطبٌ إيجابي متسامٍ، وآخر سلبيٌّ متسفِّل. يتضح لنا ذلك حين نتفحص موسيقى هذا العالم المُتَجَاهَل من قبل الإعلام الرسمي، ومن قبل القطاع الأكبر من المجتمع، بعد أن قلبت وسائل التواصل الاجتماعي الطاولة على الإعلام الرسمي المتكلس البائس. لهذا العالم القادم نصوصٌ شعريةٌ غنائيةٌ جديدة. وله أيضًا تأليفٌ موسيقيٌّ جديد، وامتلاك لتقنيات الصورة والصوت عجزت عنه الأجهزة الرسمية. غير أن له أيضًا موسيقى هابطة خفيفة الوزن مما تذروه الرياح. ولو نظرنا أيضا إلى ما ينتجه الشباب حاليًا، وبغزارة، من كوميديا على تطبيق "تِك توك"، نلاحظ الفارق الشاسع بين ما ينتجونه وكوميديا أجهزة الإعلام الرسمية الاسترازقية الغارقة في "الهبالة" و"العباطة" ورداءة الصنعة، وبين كوميديا هؤلاء الشباب الذكيِّةٍ الشيِّقة، خفيفة الظل، جيدة الصنعة، رغم أنها إنتاج منزلي.
مقاومة الثورة لا تأتي من جانب النظام القديم وحده، وإنما تأتي أيضًا من قطاعٍ يحسب نفسه ضمن الثوار. من بين هؤلاء سياسيون وتنفيذيون وعاملون في مجالات الإبداع الثقافي بمختلف صورها. والآن، يحرس المسيطرون على أجهزة الإعلام الرسمية خرابةً آيلةً للسقوط، ويقفون بتشبثهم بنهجها المتوارث وعجزها البنيوي عن المواكبة، ضد التحول الجاري على المستوى السوسيولوجي والثقافي. هؤلاء، دروا أو لم يدروا، جزءٌ من الثورة المضادة. باختصار، هذه دعوة للالتفات الجدي لتجليات الثورة خارج دوامة الفعل السياسي النمطي المتكرر ، الذي خبرنا كثيرا قلة عائده.
|
Post: #167
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-25-2020, 03:20 AM
Parent: #166
"الجوع كافر"
النور حمد
صحيفة التيار 25 سبتمبر 2020
لا أخفي أبدًا اعتقادي في أن ما يسمى "اليسار السوداني" كيانٌ معتلٌّ بنيويًا. ويتركز ذلك الإعتلال حصرا في الأحزاب اليساروية الأيديولوجية التي لم تدرك، حتى الآن، أن مفهوم اليسار قد تغيَّر بصورة جذرية عقب نهاية الحرب الباردة. قرأت في اليومين الماضيين بيانًا للحزب الشيوعي تحدث فيه عن الإمبريالية والصهيونية العالمية، وكأننا في ستينات القرن الماضي. هذا في حين دخلت كلٌّ من روسيا والصين في ركب الإمبريالية، بطرقٍ جديدة. ما الفرق يا ترى بين هذا الخطاب الذي تضمنه بيان الحزب الشيوعي وبين رؤية الدكتور الراحل، حسن الترابي التي أرادت أن تجعل من السودان مركزًا لنضالٍ كوكبي ضد الحضارة الغربية؟ كيف يا ترى سيقود الحزب الشيوعي السوداني القطر ويرفع من جديد راية الماركسية اللينينية التي سقطت، من لقا من السودان الذي لا يجد أهله ما يقيم أوَدَهم من الخبز الحافي، فيكون السودان المركز الجديد للنضال الأممي ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية العالمية؟ أيضًا استمعت إلى تسجيل للقيادي البعثي الأستاذ، محمد ضياء الدين، يعارض فيه مساعي السلام مع إسرائيل بخطابٍ وكأنه صادرٌ من عراق صدام حسين التي طالما تبجحت بالنضال والصمود، غمسحت بها الإمبريالية والصهيونية الأرض في ثلاثة أيام. تجاهل الأستاذ محمد ضياء الدين أن هناك شيئًا اسمه "اتفاقية أوسلو" وأن الفلسطينيين أنفسهم وقعوا اعترافًا بإسرائيل وتعهدوا بالسلام معها، وأصبحوا، يناضلون من آجل حقهم في دولة مستقلة، من جهة، وضد التغوُّلات الإسرائيلية، من الجهة الأخرى، منطلقين من داخل هذا الاعتراف، وليس من خارجه. بل إن فلسطينيي المناطق الواقعة تحت إدارة حركة "فتح"، يعملون، باختيارهم، في جني محصول البرتقال في المزارع الإسرائيلية. كما يقومون يوميًا بغير ذلك من الأعمال داخل الأراضي الإسرائيلية. هذا المكون اليساروي السوداني المتكلِّس العاجز عن التفكير النقدي وعن اقتلاع قدميه من وحل الأيديولوجيا، لا يزال يفضل العيش في غيابة التاريخ السابق لكامب ديفيد ولأوسلو. يحاول هذا المكون جر ثورتنا لخدمة شعاراته البالية وتوجهاته الصدامية العابرة للأقطار، بعيدًا عن خدمة البلد وقضاياها الآنية الملحة. وآرجو ألا نكون قد خرجنا من الابتزاز العاطفي باسم الإسلام الذي تخلصنا منه لنقع في دوامة جديدة من الابتزاز العاطفي باسم العروبة والنضال ضد الصهيونية والإمبريالية. تمارس هذه العقلية اليساروية نفس النهج النرجسي القديم المتمركز حول الذات الحزبية، الذي أفشل ثورتي أكتوبر وأبريل، ويوشك الآن أن يفشل ثورة ديسمبر، باختلاق المعارك الهامشية التي لا تتعدى مجرد إثبات الوجود وهو وجود هامشي على أي حال. لا يعي هذا المكون اليساروي الذي يهذي في أتون حمى الشعارات البالية أنه يركب مع كارهي الثورة على نفس المركب، ويخدم نفس أجندتهم. وأرجو أن تلاحظوا التطابق في: "لا أحد مفوض لمناقشة التطبيع". أفلستم تستنون كقوى حرية وتغيير الآن على تفويضٍ شعبي ثوري في كل ما تقومون به؟ إنكم تتذرعون بالتفويض الشعبي لتحموا قناعاتكم الأيديولوجية البالية.
السودان في اللحظة الراهنة قطرٌ على حافة الهاوية، من الناحية الاقتصادية. فحكومته لا تستطيع توفير العملات الحرة اللازمة لجلب دقيق الخبز، والمحروقات التي يتوقف عليها نجاح الموسم الزراعي، وغاز الطبخ، والأدوية المنقذة للحياة، التي يعتمد عليها الملايين من السكان. هذا في حين تتهاوى أسعار عملته تهاويًا مخيفًا أمام العملات الأجنبية، ويرتفع معدل التضخم تبعًا لذلك. يبدو لي أحيانا أن علينا آن نسند أمور الاقتصاد للمنظرين الاقتصاديين لليسار، ليرونا حلولهم السحرية الناجعة التي تقوم بمعزل عن الإمبريالية والصهيونية العالمية وعن مؤسساتها المالية، وبمعزل عن الإعانات الخليجية. فيتوفر الدقيق والمحروقات والدواء وغيرها، في التو والحين. هؤلاء يعملون على إفشال الفترة الانتقالية على نفس النسق الذي تعمل به القوى الكارهة للثورة. فهم لا يدركون أن "الجوع كافر"، في حين يدرك ذلك كارهو الثورة، ولذلك يعملون بجدٍّ لكي يسود الجوع الذي سوف يخلط جميع الأوراق ويقود حتما للانهيار.
|
Post: #168
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-26-2020, 05:27 AM
Parent: #167
خواء المزايدات
النور حمد
صحيفة التيار 26 سبتمبر 2020
الظرف الذي يمر به السودان الآن ظرف لا يحتمل المزايدات السياسية. فقد ورثت الفترة الانتقالية خزينة خاوية واقتصادًا منهارًا تدور عجلته بعيدًا عن عين الرقيب الحكومي. تنصلت حكومة الإنقاذ عن الصرف على جميع الخدمات الرئيسية كالصحة والتعليم وغيرها وحولت موارد البلاد الرئيسة لجيوب منتسبيها وشركائهم في الداخل والخارج. فأصبح نهب هذه الموارد يجري بصورة يومية ويجري تصديرها إلى الخارج، ولا تتلقى خزينة الدولة شيئا من عوائد صادرها. باختصار، ورثت حكومة الفترة الانتقالية دولةً منخورةً من الداخل، لا حول لها ولا قوة. ومع ذلك، لم تمض سوى ستة أشهر، حتى اجتاحت العالم جائحة كورونا التي أنهكت حتى اقتصادات الدول الصناعية الكبرى، وخلقت لها من الاشكالات ما لم يسبق أن توقعها أحد من الاقتصاديين، أو السياسيين. ولم تمر أكثر من ستة أشهر أخرى حتى اجتاحت السيول والفيضانات البلاد وأحدث دمارًا لا شبيه له فيما حوته الذاكرة الحية من كوارث الفيضانات التي حدثت في المئة سنة الأخيرة وتناقلت أخباره الأجيال. الشاهد، أن وضع البلاد الحالي غريب في استثنائيته. ويحتاج الخروج منه، مقاربات استثنائية وعقولا حرة نزيهة لا تزايد من أجل الكسب السياسي الرخيص، ولا تتاجر بمصير البلاد والعباد.
كل من يقول أن في وسع السودان الخروج من هذا المطب الخطير بقدرته الذاتية، فهو إما شخص مزايدٌ لا يبالي أو أنه غير مدرك لحجم الأزمة وخطرها. جارتنا إريتريا رفعت منذ ثلاثين عاما الشعارات اليساروية الانغلاق ية، فماذا أنجزت؟ لقد تحولت إريتريا إلى بلقع هجره أهله وتشتتوا في بقاع الأرض، ولقي زهرة شبابها حتفهم غرقا في البحر الأبيض المتوسط، أو تعذيبًا على أيدي محترفي الاتجار بالبشر. أما الذين يتحدثون عن الكرامة وعن استقلالية القرار السياسي ونحن نعبر حالة الخنق الاقتصادي الماحقة الراهنة، فشراذم من المتنطعين الذين لا يعرفون إكراهات السياسية وموازناتها، ولم يدبروا شواهد التاريخ كما ينبغي.
لقد سبق أن ذكرت في بعض مما كتبت أن الاعتداد الياباني والألماني بالذات لا مثيل له. ومع ذلك عرفت كلتاهما كيف تحنيان رأسيهما عند المنعطف الخطر. لقد دوخت اليابان أمريكا في المحيط الهادي ودمرت ميناءها الحربي وقطع اسطولها في بيرل هاربر. واحتلت ألمانيا النازية أوروبا القارية بأكملها واوشكت أن تجعل بريطانيا العظمى تركع بين يديها، لولا التدخل الأمريكي الكاسح. أيضا زحفت ألمانيا على الاتحاد السوفيتي وتوغلت في أراضيه حتى لينينغراد. وحين فاجأت أمريكا اليابان، ومن ورائها العالم بأجمعه، بإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي، لم تجد كلا ألمانيا واليابان أمامها ما تفعلانه سوى الركوع للجبروت الأمريكي، والأوروبي. حنت كل من ألمانيا واليابان رأسيهما ولعقتا جراحهما واتجهتا إلى بناء اقتصاديهما بعد أن جرى تجريدهما من الآلة العسكرية، فأصبحتا في بضع عقود ثاني وثالث أقوى اقتصادين في العالم. قبل كلتاهما الهزيمة في الحرب لكنها انتصرتا في الاقتصاد وتخطيتا في ذلك بريطانيا العظمي وفرنسا.
نحن لم نتعرض للمهانة التي تعرضت لها كل من ألمانيا واليابان. لدينا فرصة لانتشال بلادنا من حفرة الوأد بتبادل ما لدينا من عناصر القوة بما لدى خاطبي تعاونا مما نحن بحاجة إليه حاجة حياة أو موت في هذا المنعطف الحرج. كل ما يتعين علينا في هذه اللحظة الفارقة بين فرصة البقاء وانهيار الدولة بالكلية هو الخروج من الاعتداد الزائف بالذات، ومن نزعة التحدي الصدامية الرعوية ومن الانسياق وراء الشعارات. هذا ما سوف يحفظ بلادنا ويخرجنا من سياسات المزايدة إلى نطاق الفعل في الواقع الذي لم نمارسه منذ الاستقلال مهدرين طاقاتنا في المزايدات وفي تدبيج الخطاب السياسي المعلق في الهواء. لا مخرج من وضعنا الراهن الخانق إلا بعون أجنبي وهو ما يقتضينا في اللحظة الراهنة، شيئًا من المرونة وحني الرأس للعاصفة وابتلاع الشعارات الفارغة. وهذا في تقديري ما سوف يحدث. ا
|
Post: #169
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-27-2020, 04:05 AM
Parent: #168
ههنا يكمن التكلُّس اليساروي (1) النور حمد
صحيفة. التيار 27 سبتمبر 2020
عكست الردود التي ازدحمت بها الأسافير حول مقالتي في نقد اليسار الشيوعي والبعثي في السودان، حقيقة هذين التنظيمين الطنَّانين. جنحت غالبية تلك الردود إلى الهتر، وهو أمر لم أكن أتوقع غيره، على أي حال. فاليسار السوداني صنع قبيلةٍ، ولم يصنع حزبًا سياسيًا ديموقراطيًا حداثويًا. لذلك ما أن شاعت مقالتي في الأسافير امتشق صغار فرسان هذه القبيلة اليساروية سيوفهم وشرعوا يدافعون بالنصال عن صنم قبيلتهم وبقرتهم المقدسة. هؤلاء لا يناقشون، لأنهم لا يملكون حصائل معرفية يناقشون بها. ولذلك، ينحدرون تلقائيًا على منزلق الهتر الفج والغوغائية. يريد كل فارسٍ منهم نيل رضا القبيلة، وقد سنحت لذلك الفرصة. هذا النهج، هو ما جعلهم، باستمرار، خارج ساحة الفعل الفكري المنتج. وقد تأكد لي الآن، أكثر من أي وقت مضى، ألاَّ فرق في طريقة مقارعة الرأي المغاير، بين التكفيريين المسلمين، وهؤلاء التكفيريين اليسارويين.
قلنا لهم إن مفهوم اليسار تغيَّر عقب نهاية الحرب الباردة، فلم يلقوا بالاً إلى ذلك. لم يناقشوا ذلك، ولم يسألوا ماذا يعني، وإنما ذهبوا إلى "محفوظاتهم الأولية" في التخوين وكيْل التهم بخدمة الإمبريالية والصهيونية العالمية، وترديد الشعار الأجوف: "قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية". هذا في حين أن حلايب محتلَّةٌ عربيًا، ونصف أهل دارفور وغيرهم يعيشون في معسكرات النزوح. كلُّ ما عناهم أن القبيلة هوجمت، وأن عليهم الدفاع عنها، كيفما اتفق. لا جدال في أن اليسار لا يزال حيًّا وناميًا في جميع بقاع العالم. وقد أدخل تحت مظلته حماة البيئة والحركات النسوية ومعتنقي الاتجاهات الروحانية الجديدة، وغيرهم. لقد تغير مفهوم اليسار بعد أن مخرت سفنه بعيدًا عن مرافئ الماركسية اللينينية وأطرها. فالماركسية اللينينية لم تعد تصلح أداةً لتحليل ما يجري الآن على مستوى الكوكب، كما لم تعد تصلح لقيادة اليسار المتنامي وسوقه نحو تحقيق أهدافه. العمل اليساري لم يعد ذاك العمل الثوري الملحمي الذي يقلب الأوضاع بالعنف والقوة، ويسلِّم الطبقة العاملة مقاليد الأمور. وإنما انحصر في نطاق الاصلاحات المطلبية التي تحول النظام الرأسمالي، تدريجيًا، إلى نظام اشتراكي عبر وسيلة الديموقراطية، وليس بغيرها.
تسير الصين (الشيوعية سابقا) في طريق الأتمتة Automation، إذ أخذت تحل الآلة محل الإنسان وتسير في هذا الطريق بأسرع مما يفعل الغربيون، بشهادة الغربيين أنفسهم. ولسوف يأتي وقتٌ قريب لن تكون هناك طبقة عاملة تقليدية كالتي وصفتها الأدبيات الماركسية. ولسوف يُخرج الذكاء الصناعي وعلم الروبوتات، في العقود وربما السنوات القادمات، الإنسان من أي موقعٍ للعمل يمكن نتصوره. وبناء عليه ستصبح دولة الرعاية الاجتماعية أمرًا مفروضًا على الجميع. فإن لم تتكفل الدولة برعاية مواطنيها وتركت الحبل على الغارب للرأسمال، فإن جيوش العطالى سوف تتحول إلى جيوش من المجرمين. وربما بسبب هذا، بدأ بعض المجانين يفكرون في إنقاص سكان العالم بالحروب وبالأوبئة، أو بكليهما. حين نقول إن الحزب الشيوعي السوداني حزب متكلِّس فإننا نعني ذلك تمامًا ولا نقصد بذلك الهزؤ، وإنما قصدنا إيضاح حقيقته على ما هي عليه. فهو حزب بلا أدبيات يُعتد بها وبلا تجديد فكري وبلا قادة مفكرين. هو الآخر مجرد "لمة" امتدت إلى حاضرنا من تاريخ العمل النقابي، وتحولت إلى قبيلةٍ كثيرةٍ الضجيج، مفرطةٍ في نرجسيتها، لا ترى من حق الناس أن يروا غير ما ترى. أما البعث، فهو لم يعد سوى صدى باهتٍ لحقبة طويلةٍ من الفشل ومن الدم المسفوح، انطمرت تحت التراب. (يتواصل)
|
Post: #170
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-27-2020, 05:24 PM
Parent: #169
🔵يغمط كثيرون الصديق الدكتور النور حمد علي شجاعته في إبتدار النزال الفكري بجرأة لامثيل لها . غض النظر عن رأينا فيما يعرض من موضوعات ويقدم من طروحات نقدية ، لن ينكر مُنصف توفر الرجل علي قلم مستنير مكتنز بأدوات تعبيرية ديجتال تبتز مايتسلح به التقليديون من مفروشات برندات السوق . إذن ، لاغرو إن جاء محصوله الفكري متميزا في النسج والنوع . فأدواته التي يحشدها تسندها مناهج بحثية وأوعية علمية راسخة . إستطرادا ، يجئ طرح د. النور متسقا مع شخصيته : مثقفا حرا وطليقا من أي مُكبلات وقيود حزبية او فكرية . فليس بمستغرب ألاّ يسيغ صراحته المستفزة ومباشرته المؤلمة من يضيق بهم الماعون ، فالالتزام العقائدي وصمدية المحفوظات يناقضان قوانين الحركة والخيال . يتعين علينا أن نحيي قدرات النور حمد الاستثنائية في تمزيق أكفان القداسة الفكرية ، المُتَوّهْم منها ومابطن ، وغاراته الجسورة علي القباب المنصوبة في فضاء حياتنا السياسية والفكرية وولوجه مزاراتها ونبشه لمراقدها وكشفه ان مومياء الفكي ليست سوي أضغاث في أكفان ، والضغث لغة هو ما تظفر به من قبضة الحشيش فيمتزج الطويل بالقصير، الطّري باليابس والرطب بالقاسي ، وما يصلحُ للأكل وما لا يصلح.وما اكثر هذا النوع الاخير ! عبدالرحمن الامين واشنطن
|
Post: #171
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-28-2020, 00:56 AM
Parent: #170
ههنا يكمن التكلُّس اليساروي (2)
النور حمد
صحيفة التيار 28 سبتمبر 2020
لقد نادى بتجديد جلد الحزب الشيوعي السوداني شيوعيون نابهون مُطَّلعون، مثال: الخاتم عدلان وصديق الزيلعي، والشفيع خضر، وكثيرون غيرهم ممن لم تظهر مساهماتهم على السطح. ويعلم كلنا كيف كان مصيرهم مع الكهانة الأرثوذوكسية القابضة على رقبة الحزب الشيوعي؟ لقد جرت شيطنتهم على نفس النهج الذي تجري به شيطنتي اليوم، التي تقوم بها في الأسافير الأقلام قصيرة النَّفَس، لصغار محاربي قبيلة الحزب الشيوعي. لقد نادى المفكر الشيوعي د. فاروق محمد إبراهيم بتغيير اسم الحزب الشيوعي بناءً على المستجدات الفكرية والسياسية، والافصاح عن علاقته بالدين وعن علاقة الدين بالماركسية، ولكن لا حياة لمن تنادي. فالحزب ليس في أيدي مفكرين، وإنما في أيدي كادر نقابي متمرس، لا يعرف شيئًا أبعد من العمل التنظيمي والمناورات السياسية.
تمر الفترة الانتقالية الآن بفترة عصيبة في وقت يعاني فيه الشعب ضائقة معيشية غير مسبوقة. بل لقد أصبحت الفترة الانتقالية في مجملها على كف عفريت بسبب سوء إدارتها. مر أكثر من عام منذ أن تسلمت الحكومة الانتقالية مقاليد السلطة. ولم تجن الجماهير العريضة التي أشعلت هذه الثورة وضحت من أجل نجاحها بدمائها، سوى حملات علاقاتٍ عامةٍ باهتة، تتمثل في حلقات نقاش تلفزيونية يديرها من سرَّبهم اليسار إلى الأجهزة الإعلامية. إضافةً إلى مؤتمرات متتابعة "مكلفتة" لا تسمن ولا تغني من جوع. وهي مجرد حملات علاقات عامة غرضها التخدير وشراء الوقت في انتظار ما لا يأتي.
لقد حوَّلت قلة كفاءة من أداروا التفاوض مع اللجنة الأمنية، ومن بينهم شيوعيون كبار، هذه الثورة حتى الآن إلى جهدٍ بلا عائد. لقد تحوَّلت أحلام الثوار في إدارة مقتدرة للفترة الانتقالية إلى تمكين حزبي جديد متعدد الرؤوس، وإلى اقتناص متلهف للمناصب. ونذكر كلنا أن التوجه الأول للثورة تمثل في أن تدير الفترة الانتقالية حكومة كفاءات. لكن، ما لبثنا أن رأينا الشخصيات الحزبية تأخذ طريقها إلى المناصب. لقد فات على قوى اليسار وغيرها، وهي تمارس خداع الشعب، منطلقةً من غرائزها البدائية الأولى التي تأثيرها المناصب، أن هناك أجيالاً من السودانيين تعرف بعضها منذ أيام الدراسة في الثانويات والجامعات، ويعرفون إلى أي حزب ينتمي غالبية من تبوأوا المناصب. لقد أرسلت أحزاب اليسار إلى المناصب من ظنوا أن انتماءهم مجهول لدى عامة الناس، وفي هذا جهل بالبيئة السودانية، وبمدى معرفة السودانيين ببعضهم.
لقد أفشل الشيوعيون ثورة أكتوبر وجعلوا فترة الانتقالية لا تتجاوز بضعة أشهر بسبب سوء تصرفهم. لقد ظنوا أن ثورة أكتوبر هي الثورة البلشفية، ولن تلبث الطبقة العاملة أن تأتي إلى دست الحكم. وكان ذلك جهلا موبقا بالسياق السوسيو/اقتصادي السوداني. رفعوا شعار لا زعامة للقدامى، ولا أحزاب بعد اليوم، ومنحوا جبهة الهيئات التي يسيطرون عليها 7 وزارات، في حين منحوا كلا من حزب الأمة والاتحادي وجبهة الميثاق وزارة واحدة. كما منحوا أنفسهم وزارة واحدة، وفقًا لما حسبوه ذرًّا للرماد في العيون. غير أن الجميع كانوا يعلمون أن نصيب الأسد من وزارات حكومة أكتوبر الذي ذهب إلى جبهة الهيئات، إنما ذهب إلى الحزب الشيوعي "باللفة". لذلك، ألَّبت عليهم الأحزاب الكبيرة الشارع ومورس ضغطٌ رهيبٌ على رئيس وزراء الفترة الانتقالية السيد، سر الختم الخليفة، فاستقال وانهارت الفترة الانتقالية، وتبخرت أحلام الثائرين، وأصبحت أكتوبر أثرًا بعد عين. (راجع كتاب تيم نيبلوك: "صراع السلطة والثورة في السودان"، ترجمة محمد علي جادين والفاتح التجاني، وراجع كتاب محمد سعيد القدال "معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني"). غدًا أعرض بعضًا من تفاصيل محاولات "تكويش" الحزب الشيوعي على أكتوبر حتى أجهضها. (يتواصل)
|
Post: #172
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-29-2020, 04:00 AM
Parent: #171
ههنا يكمن التكلُّس اليساروي (3)
النور حمد
صحيفة التيار 29 سبتمبر 2020
فاجأنا عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، والاقتصادي الماركسي المعروف، الدكتور صدقي كبلو بتصريحٍ مثيرٍ للدهشة، في ختام حديثه في المؤتمر الاقتصادي الأخير. قال كبلو، وأنا أنقل هنا حرفيًا ما جاء في الفيديو الذي حوي حديثه: "يا جماعة للمرة المليون، عشان ما في زول ينزل بعد ما أنزل .. آخر كلمة .. إنو يقول: الزول ده قاعد يدعو للاشتراكية. نحن عايزين نعمل نظام رأسمالي صناعي حديث لازم تقوم فيهو الدولة بدورها الاجتماعي والاستثماري عشان تحدث الثورة ...". (بقية الكلام لم تكن واضحة بسبب مقاطعة رئيس الجلسة).
معلومٌ أن في الأدبيات الماركسية ما يسمى: "مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية". ولقد يجد د كبلو تبريرًا لحديثه، لدى نفسه وقبيله، في أنهم يعملون، الآن، لإحداث الثورة الوطنية الديمقراطية، وهي مرحلة رأسمالية الطابع، بطبيعتها. لكن هذا لا يبرر القول: "ما في زول يقول الزول ده قاعد يدعو للاشتراكية". فهل يعني العمل في مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية أن يتوقف من هو شيوعي، تمامًا عن الدعوة للاشتراكية؟ فإلي أي وجهة إذن يسوق الشيوعيون الناس، وأي خطابٍ يقدمونه لهم؟ لم يعد أحد الآن يتحدث عن مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية سوى شيوعيي السودان، استنادا على "المانيوال". الماركسي اللينيني الذي تخطته السياقات الراهنة وأضحى أدبيات نفقت وذرتها الرياح. فتمسك الشيوعيين بها لا يعني، في تقديري، سوى شراءٍ للوقت للخروج من وحسةٍ دخلوا فيها منذ انهيار المعسكر الشيوعي في ثمانينات القرن الماضي، ورغم مرور ثلاثة عقود، لم يدروا كيف يخرجون منها.
ودعونا نعود لثورة أكتوبر لنرى بدقة كيف تصرف الحزب الشيوعي إزاءها، وفقًا لما جاء في كتاب تيم نيبلوك "صراع السلطة والثروة في السودان". يقول نيبلوك أن جبهة الهيئات، (وهي المعادل آنذاك لقوى الحرية والتغيير الحالية)، سيطرت على مجريات الثورة، عبر الشهور الأولى، فطرحت أجندةً راديكالية، جعلت القوى التقليدية الطائفية تشعر أن هناك اتجاهًا لإقصائها وتصفيتها. سنت جبهة الهيئات تشريعات منحازةً للعمال والمزارعين والنساء. فضمت الحكومة التي أُعلنت في 31 أكتوبر سبعة وزراء من جبهة الهيئات، من بينهم السكرتير العام لاتحاد نقابات عمال السودان، وسكرتير اتحاد المزارعين، واثنين من الجنوبيين. أما حزب الأمة، والاتحادي، والشعب الديمقراطي، والميثاق الإسلامي، والشيوعي، فقد مُنح كل حزبٍ منها وزيرًا واحدًا فقط. (ورد في النسخة الورقية للتيار وزيران لكل حزب، وكان ذلك خطأ مني). غير أن وزراء جبهة الهيئات كانوا تابعين، من الناحية العملية، للحزب الشيوعي السوداني، ما جعل الحزب مسيطرًا على مجلس الوزراء.
أيضًا، اتجهت تلك الحكومة الانتقالية في أشهرها الأولى إلى وضع مقترحات للإصلاح الزراعي، وإلى التصفية التدريجية للإدارة الأهلية، والتمهيد لأن تستلم الشركات السودانية تجارة الصادر والوارد من الشركات الأجنبية، وتنشيط التجارة مع الدول الشرقية. وكذلك، اتباع سياسات نشطة في دعم حركات التحرر في إفريقيا والشرق الأوسط. أي، التطبيق الحرفي لرنامج الحزب الشيوعي الراديكالي المتطرف. وكان أكثر ما أثار قلق القوى التقليدية هو الاقتراح الذي تقدمت به جبهة الهيئات لتخصيص 50% من مقاعد الجمعية التأسيسية للعمال والمزارعين، (راجع: نيبلوك). ولقد قدم محمد سعيد القدال في كتابه (معالم في تاريخ الحزب الشيوعي)، مراجعةً نقديةً للاندفاعات الراديكالية لجبهة الهيئات، وهي تدير تلك الفترة الانتقالية القصيرة. وقد اتسم نقده بالموضوعية، وبالتأكيد على ضرورة التحلي بالحكمة وتفهُّم مُقيِّدات الواقع. لكن يبدو أن الحزب الشيوعي يطأ على أراء عقلائه بحذاءٍ ثقيل، ويمضي في طريقه المُفضي إلى الهاوية. (يتواصل).
|
Post: #173
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: بدر الدين الأمير
Date: 09-29-2020, 07:03 AM
Parent: #172
فوق لحين عودة
|
Post: #174
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-30-2020, 01:42 AM
Parent: #173
*
|
Post: #175
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 09-30-2020, 02:23 AM
Parent: #174
ههنا يكمن التكلُّس اليساروي (4) النور حمد
صحيفة التيار 30 سبتمبر 2020
ما أن خرج الحزب الشيوعي السوداني من تجربة إفشاله ثورة أكتوبر 1964، حتى دخل بعد خمسة أعوام في مطبٍّ جديدٍ قضى على أمجاده وزخمه الكبير الذي عُرف به على المستوى الإفريقي والعربي والدولي. فقد كان يشار إليه بأنه أقوى الأحزاب الشيوعية على المستويين العربي والإفريقي. المطب الذي وقع فيه الحزب الشيوعي وأفقده توازنه حتى اليوم، هو تأييده لنظام مايو والانخراط في أجهزة حكمه. وقد كان تأييده لانقلاب مايو مجرد ردة فعلٍ ثأرية لما حدث له في عام 1965. فقد تسببت محاولة الحزب الشيوعي تهميش الحزبين الكبيرين في حكومة أكتوبر، ومحاولته ضربه الإدارة الأهلية التي تمثل قاعدةً لهذين الحزبين الكبيرين، في ردة الفعل العنيفة التي بدرت من هذه القوى ضده في عام 1965. يُضاف إلى ذلك، كما أورد تيم نيبلوك، محاولته تمكينه العمال والمزارعين التابعين له في تلك الحكومة، وإظهاره نيته الهجوم على شركات القطاع الخاص وتحويل التجارة السودانية إلى المعسكر الاشتراكي بقيادة روسيا. عرفت الأحزاب اليمينية نوايا الحزب الشيوعي الماكرة تجاهها، فقررت أن تقضي، عليه بعد أن سيطرت على البرلمان في الانتخابات التي أعقبت انهيار الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة أكتوبر.
افتعلت جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة الدكتور حسن الترابي معركة مع الحزب الشيوعي عقب حادثة طالب معهد المعلمين العالي، الذي قيل أنه خاض في العرض النبوي المشرف فسيَّر الإسلاميون المظاهرات وحركوا المساجد وألهبوا العاطفة الدينية لدى البسطاء، ودعوا إلى حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان. كان مُشعل فتيل تلك المؤامرة عضو جبهة الميثاق الإسلامي البارز ، علي عبد الله يعقوب. وقد تلقف منه الدكتور حسن الترابي رأس الخيط وصعَّد الأمر في الجمعية التأسيسية (البرلمان آنذاك) وطالب بتعديل المادة 105 من الدستور، وهي مادة كفالة الحريات، فجرى تعديلها. وجرى من ثم حل الحزب الشيوعي وطرد الحزب الشيوعي من البرلمان. ولأن الحزبين الكبيرين أحسا بخطورة الشيوعيين عليهما منذ تجربة حكومة أكتوبر التي أجبروها على الاستقالة، فقد وجد كل من الإمام الهادي والسيد الصادق المهدي والسيد إسماعيل الأزهري الفرصة سانحةً للقضاء على الحزب الشيوعي الذي استهدفهما عقب ثورة أكتوبر. فسارا وراء جبهة الميثاق الإسلامي في مخططها الإجرامي. وهكذا تحولت الديموقراطية الثانية (1964 -1969) إلى دكتاتورية مدنية ذات طبيعة دينية.
لم يراجع الحزب الشيوعي مواقفه الخاطئة المتعجلة إبان ثورة أكتوبر، التي كشفت نواياه السيئة تجاه القوى التقليدية، ونزعته الفوقية الانقلابية، وإنما اختار السير في طريق الثأر. فما أن تحرك الجيش بقيادة نميري مع ثلة من الضباط القوميين اليساريين وأطاحوا بحكومة الديمقراطية الثانية، بقيادة السيد محمد احمد المحجوب ، حتى بادر الحزب الشيوعي بتأييد الانقلاب. بل، وانخرط الحزب مشاركًا في أجهزته السياسية والتنفيذية، بل والأمنية. شارك الحزب في حكومة نميري الأولى بعدد كبيرٍ من الوزراء، نذكر منهم على سبيل المثال: فاروق أبو عيسى وزيرًا لشؤون الرئاسة، الرائد فاروق حمد الله وزيرًا للداخلية، عبد الكريم ميرغني وزيرًا للاقتصاد والتجارة الخارجية، جوزيف قرنق وزيرًا لتموين، موريس سدرة وزيرًا للصحة، محجوب عثمان وزيرًا للإرشاد، مرتضى أحمد إبراهيم وزيرًا للري. وهناك مجموعة أخرى لست متأكدًا من انتمائهم للحزب الشيوعي مثال: محمد عبد الله نور وزير الزراعة، وسيد أحمد الجاك وزيرً الأشغال، ومنصور محجوب وزير الخزانة. عمومًا، كانت حكومة انقلاب نميري مناصفة، تقريبا، بين الشيوعيين والقوميين العرب. لكن هل اقتنع الشيوعيون بهذا الوضع. الذي صبغوا فيه انقلاب مايو بصبغتهم ؟ والإجابة: لا. فهم بناء على نظرتهم التي لم يراجعوها، لا يرضون أن يكون غيرهم في السلطة. هذا ما سأتناوله في الحلقة القادمة. (يتواصل).
|
Post: #176
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-01-2020, 02:39 AM
Parent: #175
ههنا يكمن التكلُّس اليساروي (5)
النور حمد
صحيفة التيار 1 أكتوبر 2020
(لزمني تصويبان للمقالة 4: الأول: المادة التي عٌدِّلت من الدستور لحل الحزب الشيوعي هي المادة 5-2 وليس 105. الثاني: أن رئيس الوزراء عند انقلاب نميري هو محمد احمد محجوب وليس الصادق المهدي، فمعذرة).
رغم أن الشيوعين شاركوا في حكومة نميري الانقلابية بما يقارب عشرة وزراء من أصل 21، إلا أنهم سرعان ما اختلفوا مع نميري ولم يستمر تناغمهم معه سوى تسعة أشهر. فقد ضاق نميري باعتراضات عبد الخالق محجوب ومحاولاته الظهور بأن حزبه ليس جزءًا من نظام مايو، رغم مشاركة حزبه في الوزارة. فقام بنفي عبد الخالق إلى مصر في 22 مارس 1970. ورافق ذلك، حظر نشاط الحزب الشيوعي وحل المؤسسات التابعة له، وهنا بدأت مرحلة العداء السافر. لكن، نتيجةً لالتماسٍ من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، أعاد نميري عبد الخالق بعد ثلاثة أشهر إلى الخرطوم. لكن، أُعيد اعتقاله مراتٍ، كان آخرها في 16/11/1970، في سلاح الذخيرة بالخرطوم. وهناك، كما تشير عديد الشواهد، بدأ التفكير في الانقلاب العسكري الذي جرى في 21/7/1971.
اعترض عبد الخالق محجوب على الوحدة الثلاثية بين السودان ومصر وليبيا، وقدم انتقادات وتحفظات متكررة على سياسات نميري، حتى وصل الأمر بينهما نقطة الافتراق. الشاهد، أن ازدواجية المواقف التي يمارسها الحزب الشيوعي، ظاهرةٌ قديمة؛ فهو يقف مع الشيء وضده. تدل على ذلك الآن مواقفه المتناقضة المتمثلة في مشاركته في المفاوضات التي أنتجت الوثيقة الدستورية، والشراكة العسكرية/المدنية المختلة لصالح العسكر، وحكومة حمدوك المشلولة، ثم ظهوره، رغم ذلك، بمظهر المعارض. وقد انتقد حزب المؤتمر السوداني ذلك السلوك قائلاً: إن الحزب يقوم بالتصعيد ضد حكومة الفترة الانتقالية رغم أنه ينتمي لتحالف الحرية والتغيير. كما وجه رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي انتقادات حادة للحزب الشيوعي، أيضًا، لكونه ينتقد الحكومة وهو جزء من تحالف الحرية والتغيير.
التذبذب الذي مارسه الحزب الشيوعي عقب تأييده لانقلاب نميري واشتراكه بوزرائه في حكومته، هو ما أدى إلى انقسامه في سبتمبر 1970. يقول الإرشيف الخاص بالحزب إن ذلك الانقسام: «شق الحزب من القمة الي القاعدة، وخرج فيه اثنان من أعضاء المكتب السياسي من مجموع 10، و12 من أعضاء اللجنة المركزية من 33، وعديد من المتفرغين والكوادر الجماهيرية وقادة لجان المناطق والمكاتب المركزية والأعضاء العاديين». (راجع موقع الحوار المتمدن: (https://bit.ly/33dQ3XOhttps://bit.ly/33dQ3XO) تحول الحزب الشيوعي بسبب ذلك الانقسام الخطير إلى شظيتين، أصبحت أضعفُهما، من الناحية العملية، التي وقفت بقيادة عبد الخالق محجوب ضد نظام نميري. هذا الانقسام، في تقديري، هو ما رجَّح خيار القيام بانقلاب يوليو 1971 لدى جناح عبد الخالق.
في يوم انقلاب مايو أصدر الحزب الشيوعي تقييمًا لما أسماه "الطبيعة الطبقية للانقلاب". واصفًا قيادة الانقلاب وفق "المانيوال"، بـأنها "برجوازية صغيرة". وأبدى القيادي الشيوعي عمر مصطفى المكي، الاستعداد للتعاون مع الانقلابيين، بشرط أن يحتفظ الحزب بقدراته الايجابية في نقد وكشف مناهج البرجوازية الصغيرة واحتمال نقلها قيادة الثورة من يد الطبقة العاملة إلى يدها هي. وهكذا، اختار الحزب الشيوعي الوقوف مع انقلاب نميري، والاشتراك في حكومته، ضاربًا عرض الحائط بالديموقراطية. واشترط الحزب الشيوعي أن يسلمه الانقلابيون المايويون عجلة القيادة، لأنه يرى أنه المؤتمنٌ الوحيد على إبقائها في يد الطبقة العاملة. لكن، أفلا تنتمي القيادات العليا مثال: عمر مصطفى المكي وعبد الخالق محجوب وغيرهم إلى فئة "البرجوازية الصغيرة"؟ آليست هذه نرجسيةٍ وتزكيةٍ مجانيةٍ للذات ذات جذر عقائدي؟ أليست تنم عن شعورٍ بامتلاك حصري للحقيقة، وعن امتلاء بالاستحقاق المطلق في أن تكون الأمور في أيديهم وحدهم؟ (يتواصل).
|
Post: #177
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-02-2020, 00:53 AM
Parent: #176
ههنا يكمن التكلُّس اليساروي (6) صحيفة التيار 2 أكتوبر 2020 النور حمد
لا تقف خطيئة وخطأ الحزب الشيوعي السوداني عند قيامه بانقلاب يوليو 1971، الذي انتهى بمآسي مؤلمة وتجاوزات بشعة من جانب جعفر نميري، وإنما تتعدى ذلك إلى قبوله الضمني لانقلاب مايو نفسه. فاشتراك الحزب بقرابة عشرة وزراء، وممارسته دور المُوجِّه في الشهور التسع الأولى من عمر مايو، تدحض كل محاولاته للتملص من سُبَّة مفارقة المبدأ واعتناق التفكير الانقلابي. يتساءل كثيرون، وأنا واحدٌ منهم: كيف لا يكون للحزب الشيوعي دورٌ في انقلاب مايو 1969 وقد اشترك ضابطان شيوعيان فيه، هما: هاشم العطا، وبابكر النور سوار الدهب؟ بل، لقد حامت شبهة الانتماء للحزب الشيوعي حول ضابط ثالث، هو فاروق عثمان حمد الله، الذي كان ضمن طاقم الضباط الذين قاموا بانقلاب مايو بقيادة جعفر نميري. كما أن فاروق حمد الله عاد من لندن في نفس طائرة الخطوط البريطانية مع بابكر النور، عقب استيلاء هاشم العطا على السلطة في الخرطوم في 19 يوليو 1971. وهي الطائرة التي أنزلها العقيد القذافي قسرًا وهي تعبر أجواء ليبيا، وأرسل هؤلاء الضابطين إلى نميري، ليقوم بإعدامهما في محكمة إيجازيةٍ مبتسرةٍ "مكلفتة". فلو لم يكن فاروق حمد الله شيوعيًا أو على الأقل مؤتمنًا على توجهات الشيوعيين، لما استدعاه هاشم العطا من لندن، ليكون في قيادة انقلاب يوليو، ولما قبل هو العودة. يضاف إلى ما تقدم أن حمد الله كان أحد الضباط الذين أبعدهم نميري عقب مفاصلته مع الشيوعيين. وعمومًا، لم نعرف عن الشيوعيين أنهم يسندون أمورهم إلى غيرهم، حتى فيما هو أقل بكثير من ذلك الشأن الخطر.
ناقش الدكتور عبد الله علي إبراهيم في واحدةٍ من مقالاته انقلابيْ مايو1969 ويوليو 1971، ناعيًا على الشيوعيين مفارقتهم منهجهم الماركسي، في مقاربتهم للانقلابيْن، مذكرًا إياهم بأنه لا توجد صيغة شيوعية سودانية ألزم وأدق عن فساد فكرة الانقلاب في السياسية، تقارب تلك التي وردت في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في مارس 1969، وهي أن: "التكتيك الانقلابي بديلاً عن العمل الجماهيري يمثل في نهاية الأمر، وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية، مصالح طبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة". غير أن هذه العبارة التي وردت في اجتماع اللجنة المركزية تبقى لديَّ مجرد عبارة هوائية، لا أكثر. فهي لا تعني شيئًا إطلاقًا، ما دام أن الحزب قد أيد الانقلاب وأشترك في وزارته. فالعبرة بالعمل، لا بالقول.
ذكر الدكتور، أيضًا، أن تلك العبارة هي ما صدع بها الحزب في وجه الضباط الأحرار بقيادة جعفر نميري، حين دعوه للاشتراك في انقلابهم. لكن ما حدث فعلا أنهم بعد أن "صدعوا بها" في وجه الانقلابيين في مارس 1969، نسوها بعد شهرين فقط، فأيدوا الانقلاب حال حدوثه وشاركوا في حكومته بذلك الثقل الكبير. (راجع عبد الله علي إبراهيم: "يوليو 1971: محنتنا المزدوجة"، سودانايل، 19 يوليو 2020). الشاهد، في كل ما تقدم، أن ممارسات الحزب الشيوعي تؤكد أنه لا يتبع مبدأً، سواءً كان ماركسيًا أو غيره. فتاريخه يؤكد أنه حزب "براغماتي" هدفه الأوحد هو الإمساك بالسلطة، شأنه شأن الإسلاميين. فبدلاً من أن يجهد الدكتور عبد الله علي إبراهيم نفسه في تذكيره بضرورة اتباع المنهج الماركسي في تحليل الانقلابات العسكرية والالتزام بذلك النهج، أرى من الأفضل له، إن حق لي أن أنصح، أن يتجه إلى تأسيس حزبه الماركسي الخاص به، وينتشل قدميه من وحل هذا التاريخ الملتبس المضطرب. (يتواصل).
|
Post: #178
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-03-2020, 00:46 AM
Parent: #177
التكلُّس اليساروي: فوقية الحداثيين (7) النور حمد صحيفة التيار 3 أكتوبر 2020
كتب منصور خالد: "لا نظلم القوى الحديثة شيئا إن قلنا ... بأن تعسفها عن الطريق، من بدايته، هو الذي انتهى بها إلى ضياعٍ، لم يبق لها معه غير تبادل الملامة". ويقول محمود ممداني في كتابه حول دارفور، Saviors and Survivors، إن القوى المدافعة عن الحداثة في السودان بشقيها "العلماني" و"الإسلامي"، تستند على طبقات وتكوينات اجتماعية حضرية، وبالأخص تلك المنتمية إلى الانتليجنسيا من المهنيين، وضباط الجيش، وطبقة التجار، مضافًا إليهم قطاع الطلاب. وقد أيقن أفراد هذه الانتليجنسيا الطموحون، منذ بداية الاستقلال، أنهم لا يمثلون سوى جزيرةٍ "حداثية" صغيرةٍ جدًا في خضمٍّ كبير جدًا من القوى "التقليدية". ولم يكن في وسعهم، من ثم، أن يحصلوا على أغلبيةٍ من الناخبين تأتي بهم إلى الحكم. ولذلك فقد عنت "الديمقراطية" بالنسبة لهم حركةً حداثيةً ثورية، تختصر الطريق إلى الحكم. كانت رؤيتهم ألا يتم تفريغ الديمقراطية من دورها الإنمائي النهضوي، لتصبح مجرد وسيلةً يواصل بها "التقليديون" الجلوس المستمر في كراسي الحكم. يرى ممداني أن ذلك هو الذي جعل أنظمة الحكم في السودان تتأرجح بين أنظمة ديمقراطية برلمانية، وبين سلسلة من الانقلابات العسكرية. فالحلقة المفرغة، التي ظل يدور فيها السودان، منذ الاستقلال، سببها الرئيس، في نظره، هو الصراع بين معسكر "الحداثيين" ومعسكر "التقليديين، وليس الصراع بين طرفي القوى التقليدية الكبيرة المتمثلة في حزب الأمة والاتحادي، (ص 11)".
سبب قعود الدولة السودانية هو صراع المعادلة الصفرية الذي انتهجه الحزبان العقائديان؛ الحزب الشيوعي وحزب جماعة الإسلام السياسي، وهما الحزبان العقائديان اللذان ظلا يملآن الساحة السياسية السودانية ضجيجا وعنفا. لقد مارس بعض الشيوعيين النقد الذاتي فيما يتعلق في الضلوع في الانقلابات، وفي أمور أخرى، لكن بلا مردود عملي في مسلك الحزب. من ذلك ما قاله القيادي الشيوعي الراحل، التجاني الطيب، في ندوة جرت في 4-6 يوليو 1993، بمركز الأهرام بالقاهرة نظمها مركز الدراسات السودانية، حيث ذكر أن هناك ثلاثة أخطاء تستوجب الاعتراف، وهي: (1) موقف الحزب الشيوعي من قضية الحكم الذاتي قبل الاستقلال (2) المشاركة في المجلس المركزي لحكم عبود (3) تدبير انقلاب نميري. (راجع: فتحي الضو، سقوط الأقنعة، (2006)، ص 66). المدهش أن خطأ المشاركة في مجلس عبود المركزي تكرر بالاشتراك في مجلس البشير الوطني بقيادات من عيار محمد إبراهيم نقد وفاطمة أحمد إبراهيم. وخطأ معارضة الفيدرالية بالنسبة للجنوب ناقضه الحزب الشيوعي بما هو أسوأ، وهو الموافقة على حق تقرير المصير للجنوب. والآن يتحالف الحزب الشيوعي مع عبد العزيز الحلو رافعا راية تقرير المصير في جبال النوبة. باختصار، الحزب الشيوعي السوداني حزب متخبط فاقد للبوصلة، لا مبدأ له، ويلبس لكل حالة لبوسها.
في 31 مايو 2004 كتب الأستاذ، كمال الجزولي في صحيفة الرأي العام ما نصه: "ما نقوله باستقامة كاملة أن الحزب الشيوعي السوداني مسؤول أمام الجماهير عن انقلاب 25 مايو، طالما قطاع مؤثر وقوي من قياداته مشى في تدبير الانقلاب قبل قيامه، أو مؤازرته بعد قيامه .... إذن الحزب مسؤول أخلاقيًا وسياسيًا، وندعو أي "زول" مسؤول في الحركة السياسية عن انقلاب عسكري أن يعترف بذلك دون تبرير"، (راجع فتحي الضو، نفس المرجع والصفحة). إذن لا جدال في أخطاء الحزب الشيوعي الفادحة المتسلسلة التي أقرت بها كبرى قياداته. المشكلة أن الحزب مُحصَّن من أن يتعلم من أخطائه.
|
Post: #179
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-04-2020, 01:02 AM
Parent: #178
التكلُّس اليساروي: الاستغلال السيئ للنقابات (8) النور حمد صحيفة التيار 4 أكتوبر 2020 العمل النقابي هو في الأساس عمل مطلبي القصد منه تحسين أوضاع العاملين، لكن كثيرَا ما جرى استغلاله لأغراض سياسية، خاصة من جانب الشيوعيين. أدى ذلك النهج المعوج إلى إضعافٍ متنامٍ للاستقرار السياسي للدولة السودانية، ولقدرتها على النمو. ولقد اتَّبع الحزب الشيوعي السوداني أجندةً أمميةً مرتبطةً باستراتيجيات الشيوعية الدولية. وهو لا يختلف في هذا عن الإسلامويين ذوي الأجندة العابرة للأقطار. يؤمن الحزب الشيوعي السوداني بالعمل النضالي التراكمي وسط النقابات الذي يؤدي، في نهاية الأمر، إلى أن تقع السلطة برمتها في يده وحده. لكن اتضح عمليًا أن ذلك النهج لم يثمر في أي قطر من أقطار العالم، ولم يُوصل أي حزب شيوعي إلى السلطة. بل تخلت أكبر الأحزاب الشيوعية في العالم، التي وصلت إلى السلطة عن طريق الحديد والنار، عن النظرية نفسها، في نهاية الأمر.
لا يعرف الحزب الشيوعي السوداني، التوافق الحزبيbipartisanship . فضعف جماهيريته هو ما يجره إلى التحالف مع الآخرين. لكنه يظل يعمل من داخل أي تحالف لتكون له السيطرة على مجريات الأمور. فنهجه النضالي المُتبَّع هو هلهلة الأوضاع وإرباك الحكومة القائمة وشل قدرتها على الفعل لإثارة غضب الجماهير عليها. ولا يهم إن أربك ذلك نمو القطر وعبث باستقراره وأضعف بنية الدولة. المهم أن يقود ذلك النهج إلى أن يستلم الحزب السلطة، ليطبق برنامجه الذي يَرى فيه الحل السحري لكل معضلة. وهذا شبيه بما يمارسه الإسلاميون الآن، ولكن بوسائل أخرى، يأتي على رأسها الخنق المعيشي للجماهير.
لقد كانت الاضرابات النقابية التي هندسها الشيوعيون عقب الاستقلال مباشرة، أحد أسباب تسليم حزب الأمة السلطة للفريق عبود. لم يصبر الشيوعيون على الحكومة الوطنية الأولى التي تشكلت عقب الاستقلال. فحرَّكوا ضدها، بعد عامٍ واحدٍ من الاستقلال، النقابات التي كانوا يسيطرون عليها. قدم اتحاد نقابات العمال مطالب، يتعلق بعضها بتحسين أوضاع العاملين، وبعضها الآخر كان سياسيًا، فتجاهلتها الحكومة. نتيجةً لذلك، شرعت 42 نقابة، مثلَّت في مجموعها 98% من مجموع القوى العاملة في البلاد في الاضراب، (راجع: محمد سعيد القدال، معالم على طريق الحزب الشيوعي السوداني، ص 97). وقد ذكر تيم نيبلوك، أن خطاب الفريق عبود للأمة صبيحة انقلابه في 17 نوفمبر 1958، كان محاولةً للتماهي مع مخاوف المؤسسة التقليدية التي انتابتها، نتيجة لضعف الحكومة البرلمانية الأولى في مواجهة الحركة الراديكالية التي ازدادت عُتوّا، (ص 209).
لقد أدى نهج الحزب الشيوعي السوداني في تحريك النقابات لأغراض سياسية، دون انتباه إلى ما يقود إليه من نسفٍ للاستقرار وهدمٍ للثوابت وتعويقٍ لجهود بناء الدولة، إلى تدمير العمل النقابي برمته. بل، وإلى القضاء على القطاع العام نفسه، الذي يمثل أكبر مُخدِّمٍ في الدولة السودانية. وكلنا يذكر اضراب السكة حديد الذي حركه الشيوعيون ضد نميري فأنشأ نميري ما أسماه "الكتيبة الاستراتيجية"، وأصبح أفراد الجيش يقودون القطارات ويديرون حركتها أثناء الاضرابات. وقد قاد ذلك نميري إلى ضرب العمل النقابي في أساسه. وحين جاء الإسلاميون إلى الحكم استرشدوا بتجربة نميري. فقاموا بتدمير السكك الحديدية ومشروع الجزيرة وغيرهما. وانتهى الأمر بتفكيكٍ شبه كاملٍ لمؤسسات القطاع العام. لهذا السبب انطلقت ثورة ديسمبر من الشارع في المدن القصية فلهث وراءها ما سُمي "تجمع المهنيين" وسطا عليها. لكن، في أقل من عامين نخر فيه السوس الشيوعي المعتاد، وطال من ورائه الحاضنة السياسية برمتها. (يتواصل)
|
Post: #180
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-05-2020, 02:25 AM
Parent: #179
التكلس اليساروي: معاداة الغرب (9) النور حمد صحيفة التيار 4 أكتوبر 2020
اكتوت كثير من البلدان فيما يسمى العالم النامي بنيران الاستعمار والامبريالية، لكن بعضها لم يقع فريسةً للدعاية السوفييتية المضللة، فسلمت، عقب استقلالها، من الوقوع في فخ العداء الحاد للغرب. يلاحظ أن نفس هذه الدول هي التي نجحت في بناء نفسها عقب الاستقلال، ومن بينها: الهند وماليزيا وإندونيسيا والمغرب وتونس وغانا وكينيا، وغيرها. أما نحن فقد أوقعنا الخطاب الشيوعي والعروبي في فخ معادة الغرب، خدمةً لأجندة الشيوعية الدولية. وقد كان انقلاب نميري في 25 مايو الذي دبره الشيوعيون والقوميون العرب هو الذي أخرج سياستنا الخارجية من الاعتدال النسبي، إلى الراديكالية الصدامية. ولسوء حظنا أن الإسلاميين ساقونا في هذا الخط إلى نهاياتٍ كارثيةٍ أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن. نحن الآن بحاجة إلى فك براثن هذين التنظيمين المتطرفين من رقبة السياسة السودانية.
كانت موجة الانجرار وراء المعسكر السوفييتي في ستينات وسبعينات القرن الماضي موجةً عامة، تمددت بها الشيوعية في اليمن الجنوبي، وإثيوبيا، والصومال، والسودان. بعبارة أخرى، وقعت منطقة القرن الإفريقي بما فيها البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وخليج عدن في القبضة غير المباشرة للشيوعية الدولية. وأصبح السودان، بسبب التوجه اليساروي، من الناحية الجيواستراتيجيًة والجيوسياسية، في سلة الشيوعية الدولية، ومعاداة الغرب. انهارت أنظمة إثيوبيا واليمن الجنوبي والصومال المناصرة للشيوعية. وفشل انقلاب الشيوعيين بقيادة هاشم العطا في السودان. ولم ينشغل الاتحاد السوفييتي بإنقاذ أيٍّ من هؤلاء، فقد كان هو نفسه يعاني سكرات الموت. وانهارت الأنظمة العروبية في كلٍّ من مصر واليمن والعراق وليبيا. أما سوريا فهي كما نرى الآن مجرد ركام من الدمار.
لا ينبغي أن نظن أن الأحزاب الشيوعية العربية وأحزاب البعث العربية والأحزاب الناصرية أحزبًا متصالحة مع بعضها وتعمل قي توافق. بل على العكس من ذلك، فإن بينها ما صنع الحداد. فشيوعيو العراق المناصرين لعبد الكريم قاسم، الذين كان ثلث ضباط القوات الجوية تابعين لهم، أو من مناصريهم، تعرضوا عقب انقلاب البعث في 8 فبراير 1963، إلى مجازر فظيعة. وبعد أن تصالحوا مع الرئيس أحمد حسن البكر في عالم 1973 مُشكِّلين معه ما أسموه "الجبهة الوطنية التقدمية"، انقلب البعث عليهم عقب سيطرة صدام حسين، على السلطة في عام 1979، وتعرضوا للتصفية الدموية مرة أخرى. أما شيوعيو السودان فقد انقسموا بسبب الموقف من مايو وبدد شمل ما تبقى منه جعفر نميري عقب محاولتهم الانقلاب عليه في 19 يوليو 1971. ولقد تآمر العروبيان، معمر القذافي وصدام حسين مع نميري في ضرب انقلاب الشيوعيين. من سوء حظنا أن الشيوعيين والبعثيين هم من سيطروا على الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية لثورة 18 ديسمبر، ويمثل هذا خطرًا عظيمًا على مستقبل القطر السوداني وثورته. والسبب أن هذين الحزبين انبتا تمامًا من جذورهما، وأصبحا معلَّقين في الهواء. فلا البعث ككيان قومي عابر للأقطار عاد له وجود، ولا الشيوعية الدولية بوصفها منظومة أممية، عادت هناك. تحوَّلت روسيا إلى أوليغاركية، وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأمريكا، وتسير فيتنام "هوشي مِنَّه" على طريق الصين. فما هو وزن الحزب الشيوعي السوداني يا ترى بإزاء هؤلاء؟ نحن بحاجة إلى توجهٍ جيواستراتيجي وجيوسياسي جديد، ينهي العداء الأخرق للغرب ويعقلن العلاقة معه. الشيوعيون والعروبيون لا يختلفون عن جماعة "أمريكا قد دنا عذابها"، وقد آن الأوان ليذهبوا هم أيضًا. فقد أثبتوا أنهم غير قادرين على تغيير جلدهم البالي. (يتواصل)
|
Post: #181
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-06-2020, 04:06 AM
Parent: #180
التكلس اليساروي: شيطنة المعونة الأمريكية (10) النور حمد
لا يمثل التاريخ السياسي للحزب الشيوعي السوداني سوى سلسلة متصلة من الأخطاء. وهي أخطاء فادحة لا يراجع الحزب فيها نفسه، وإنما يطأ عليها بقدميه ويمضي في حال سبيله. وقد سردنا من هذه الأخطاء، حتى الآن، ما يكفي، وعلى رأسها ما كان منها تعبيرًا عن طبيعته الانقلابية الفوقية. ونزيد عليها اليوم الزوبعة الشعبوية التي أثارها الحزب الشيوعي السوداني حول المعونة الأمريكية، في خمسينات القرن الماضي. لم يتحرك الشيوعيون ضد المعونة الأمريكية، حين تحركوا، دفاعًا عن مصالح السودان وإنما خدمةً للشيوعية الدولية. ومعلوم أن أمريكا لم تقدم برنامج المعونة بدافعٍ إنسانيًّ محض، وإنما بدافع سياسي، هو وقف التمدد الشيوعي في أقطار العالم النامي، بسد الثغرات الاقتصادية والاحتياجات التنموية لتك الأقطار. روج الشيوعيون في عام 1957 على لسان حسن الطاهر زروق أن المعونة الأمريكية مشروطة. ولم تكن تلك سوى فرية دعائية يساروية فالمعونة الأمريكية للأقطار النامية لا تأتي بشروط ملزمة. أرسل السفير الأمريكي في الخرطوم في 24/5/ 1958، رسالة إلى وزارة الخارجية الأمريكية، كانت عبارة عن تقرير عن مظاهرة كانت قد خرجت ضد المساعدات الامريكية في السودان في يوم 16 من نفس الشهر. ذكر السفير الأمريكي أن أول تظاهرة ضد المعونة الأمريكية جرت في السودان كانت في مدينة الأبيض، وقد نظمتها الجبهة المعادية للاستعمار الشيوعية. وذكر أن الحاج الطاهر، مرشح الجبهة المعادية للاستعمار، الذي خسر دائرته في الانتخابات في دائرة الأبيض هو الذي خاطب التظاهرة. كما ذكر أن حسن الطاهر زروق، ممثل الجبهة المعادية للاستعمار تحدث في البرلمان، شانًّا هجومًا عنيفًا على الولايات المتحدة، ذاكرًا أن هناك بنودًا سريةً في اتفاقية المساعدات الأمريكية. وضمَّن السفير الأمريكي في رسالته إلى الخارجية الأمريكية بتاريخ 14/4/1958، ردود الفعل التي ظهرت في عددٍ من الصحف السودانية. ومن ضمنها ما جاء في صحيفة "الأيام" التي قالت: "لا توجد في الاتفاقية شروط، لهذا، نقبلها. لكن، تجب مراقبتها، ربما فيها شروط وأهداف سرية". وفي تقديري، أن هذا التحفظ الأخير الذي أبدته "الأيام"، تجاه الاتفاقية، ليس سوى جزء من الفوبيا اليساروية المعهودة تجاه الغرب، إضافة إلى سوء الظن العريض المعهود بالمسؤولين السودانيين واتهامهم في وطنيتهم. قالت "الأيام: "لا توجد في الاتفاقية شروط، لهذا، نقبلها"، ثم ختمت نفس الجملة بقولها: "ربما فيها شروط وأهداف سرية"!! وقد علق الأستاذ محمد علي محمد صالح، الذي ترجم الوثائق التي حوت هذه الرسالة، بما يدحض فرية حسن الطاهر زروق، قائلا: "يبدو واضحًا أن الاميركيين كانوا حريصين على الإشارة في الاتفاقية الى "احترام استقلال وسيادة جمهورية السودان"، وأن المستشار القانوني للخارجية الاميركية وقع عليها للتأكد من ذلك".
أورد السفير الأمريكي أيضًا، أن أربعة آلاف شخص تظاهروا في يوم 18/5 بقيادة بابكر قباني، عضو الحزب الاتحادي في مجلس الشيوخ. وقد جرت التظاهرة قرب منزل إسماعيل الأزهري، نائب دائرة امدرمان الشرقية، ورئيس الوزراء السابق. وقد خطب الأزهري في جمهور تلك التظاهرة، قائلاً إن اتفاقية المساعدات الأمريكية الى السودان، "أسوأ من الاستعمار البريطاني". وخطب أيضًا كل من نصر الدين السيد، وعماد الدين عثمان، واحمد محمد الشيخ، ورفع المتظاهرون لافتات قالت: "لا نريد المعونة الامريكية" و"المعونة الامريكية استعمار جديد"، و"حزب الأمة يقود السودان نحو أحلاف عسكرية أجنبية". وسوف أناقش موقف الأزهري الانتهازي الذي ركب فيه مؤقتًا على سرج الشيوعيين في المقالة القادمة. (يتواصل).
|
Post: #182
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-07-2020, 07:43 PM
Parent: #181
التكلس اليساروي: أزهري يركب الموجة (11) صحيفة التيار 7 أكتوبر 2020 النور حمد لا يمكن مقاربة الموقف من المعونة الأمريكية للسودان، دون الأخذ في الاعتبار خوف النخب العربية من جمال عبد الناصر، وسوف أعرض لذلك في المقالة القادمة. واصل السفير الأمريكي في الخرطوم، في رسالته إلى الخارجية الأمريكية قائلا: في رد فعل على موقف الشيوعيين وتظاهراتهم إضافة إلى تظاهرة الاتحاديين، تظاهر في يوم 21/5/1957 مؤيدو حزب الأمة قرب قبة المهدي، وأيدوا قبول المعونة الاميركية. وقد خطب فيهم وزراء حزب الأمة: محمد أحمد محجوب، وعبد الرحمن نقد الله، وعبد الرحمن على طه، وزيادة أرباب. وقد علق السفير قائلا: تبدو هذه التظاهرات المعادية موجهة ضد حزب الأمة، أكثر منها موجهة ضد المعونة الامريكية، (انتهى تقرير السفير الأمريكي). (راجع ما نشره الأستاذ محمد علي محمد صالح في صحيفة الراكوبة، نقلاً عن وثائق الخارجية الأمريكية).
أصبح موقف الشيوعيين والأزهري، فيما يتعلق بالمعونة الأمريكية، متطابقًا. غير أن وقوف الأزهري ضد المعونة الأمريكية لم يكن مبدئيًا كموقف الحزب الشيوعي، وإنما كان موقفًا تكتيكيًا انتهازيا. كان الأزهري حينها قد فقد رئاسة الوزارة وحل محله عبد الله خليل ممثلاً لحزب الأمة. وقد جاءت تلك الوزارة التي ترأسها عبد الله خليل، نتيجةً لائتلافٍ جرى بين حزب الأمة (حزب طائفة الأنصار)، وحزب الشعب الديموقراطي (حزب طائفة الختمية)، وسُمِّيت "وزارة السيدين". أصبح الأزهري حانقًا على حزب الأمة، ولم تعد أمامه فرصة سوى أن يتطلع إلى مصر لتجري مصالحةً بينه وبين حزب الشعب الديموقراطي، الحليف التاريخي لمصر. وهو أمرٌ يسعد مصر، التي فقدت نفوذها في السودان. وقد تماهى موقف الأزهري في رفض المعونة، حينها، مع موقف عبد الناصر الحانق على أمريكا، بسبب رفضها تمويل مشروع السد العالي.
قبل تلك الخطوة، كان الاتحاديون، وعلى رأسهم يحي الفضلي، قد أساءوا كثيرًا لحزب الختمية. وأصبحوا يطلقون النعوت النابية على السيد علي الميرغني تحت ما أسموه، "مصرع القداسة تحت أقدام السياسة". لكن حين فقدوا السلطة أخذوا يخطبون وده. رأت مصر أن الفرصة سانحة لتجمع الختمية والاتحاديين لإسقاط حكومة حزب الأمة المعارض للنفوذ المصري. سافر السيد علي عبد الرحمن، أمين حزب الشعب الديموقراطي، إلى مصر، وأعلن من هناك، في خطوة انتهازية مماثلة لخطوة الأزهري، أنه يقف في معارضة حكومة عبد الله خليل. (راجع صحيفتي: "أنباء السودان" 15/11/1958م، و"الرأي العام" 9/11/1958م). الطريف أن السيد علي عبد الرحمن كان لحظتها، لا يزال نائبًا لرئيس وزراء حكومة عبد الله خليل، ووزيرًا لداخليتها! أنكر السيد، على عبد الرحمن ذلك لاحقًا، لكنه يبقى مجرد إنكار. (راجع: شهادة السفير الإثيوبي في الخرطوم الواردة في وثائق الخارجية الأمريكية: محمد علي محمد صالح، سودانايل). استغل الأزهري مسألة المعونة الأمريكية ليركب موجة الزوبعة التي أشعلها الحزب الشيوعي، بغرض إحراج حزب الأمة الذي انتزع منه رئاسة الوزارة. ولم يكن الحزب الشيوعي محايدًا في معارضته للمعونة، وإنما كان يريد جر السودان للاصطفاف خلف الاتحاد السوفييتي. سممت تلك الزوبعة الأجواء السياسية في السودان وخلقت ماءً عكرًا أصبح كل قبيلٍ فيه يصيد بطريقته. قاد التخوف من عودة المصريين للتحكم في الشأن السوداني من جديد، إلى أن يسلم عبد الله خليل، في مغامرةٍ غير محسوبة العواقب، السلطة للفريق إبراهيم عبود. لتدخل البلاد منذ تلك اللحظة الفارقة في سلسلة الانقلابات العسكرية التي أهدرت، حتى الآن، 52 عامًا من عمر استقلال البلاد. (يتواصل).
|
Post: #183
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-08-2020, 02:11 AM
Parent: #182
التكلس اليساروي: التبعية العمياء للسوفييت (12) النور حمد صحيفة التيار 8 أكتوبر 2020
حاول الحزب الشيوعي السوداني أن يستخدم مسألة المعونة لخلق اصطفاف جماهيري ضد الاستعمار والإمبريالية، وفقًا لخارطة الطريق المتبعة لدى الشيوعية الدولية. فالحزب الشيوعي السوداني لم يكن مالكًا لقراره بقدر ما كان تابعًا لأوامر موسكو منصاعًا لها. ودعونا نرى ما أورده الأكاديمي المرموق، محمد محمود، حول خضوعه لتوجيهات موسكو، في قضية بالغة الأهمية. في ورقته الشهيرة القيمة المُسَمَّاة: "البيت الذي بناه عبد الخالق". ناقش محمد محمود في جزئيةٍ منهاه ما كتبه د. فاروق محمد إبراهيم عضو اللجنة المركزية السابق حينها، عن محاولتهم عقب حل الحزب الشيوعي تحويل الحزب إلى حزب اشتراكي، يعتمد برنامجًا وطنيًا ديمقراطيا. وهو اقتراح أجيز بعد مناقشات مستفيضة. وتقرر دعوة المؤتمر الرابع للانعقاد في الجريف في أبريل 1966 لإجازة التوجه الجديد وانتخاب لجنة مركزية جديدة. لكن بعد أن وصل الأعضاء إلى مكان انعقاد المؤتمر جرى إخطارهم أن المؤتمر تغيَّرت صفته من "المؤتمر الرابع" إلى "المؤتمر التداولي". كذلك قيل لهم إن الأمين العام للحزب المرحوم عبد الخالق محجوب لن يتمكن من المشاركة في المؤتمر لأنه مضطر للسفر إلى موسكو، للمشاركة في مؤتمر الحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد هناك في نفس التاريخ. بعد عودة عبد الخالق بفترة تقرر أن قرار تحويل الحزب الشيوعي إلى حزب طليعي، كان "انحرافًا يمينيًّا" يؤدي إلى حلّ الحزب الشيوعي. وفي دورة من دورات اللجنة المركزية التي انعقدت في ضاحية من ضواحي الخرطوم في نوفمبر 1966، قام نفس أعضاء اللجنة الخمسة وخمسين الذين انتخبهم مؤتمر الجريف، بإدانة القرارات التي سبق أن اتخذوها بأنفسهم، قبل ستة أشهر. (راجع: محمد محمود، "البيت الذي بناه عبد الخالق"، "مجلة الكلمة"). وكما يفعل الشيوعيون الصينيون تحت قيادة ماو تسي تونغ، والكوريون الشماليون تحت قيادة كيم إل سونغ، في النقد الذاتي التذلُّلي، شكر الأعضاء، الأمين العام على تصحيحه "انحرافهم اليميني". وبدوره شكر الأمين العام الرفاق السوفييت للنصائح القيمة التي أسدوها له خلال زيارته لموسكو، لتصحيح ذلك الانحراف. (راجع: محمد محمود، نفس المصدر").
أوردت هذا الجزئية مما ذكره الأستاذ فاروق محمد إبراهيم، لأدلل على أن الحزب الشيوعي وهو يتنطع بعداء الاستعمار والامبريالية والمعونة الأمريكية، كان في حقيقة أمره حزبًا تابعًا لجهة أجنبية توجهه وتحدد له إن كان قد ارتكب "انحرافًا يمينًا"، أم لا. فهو يقرأ واقع بلاده التاريخي والاجتماعي والسياسي، بعينٍ أجنبية. وهو في تقديري لا يزال، إلى يومنا هذا، على تلك الحالة المزرية التي كان عليها آنذاك، رغم تبدل الأحول الدولية. فالأراضي السوفييتية المقدسة التي كان يحج إليها آنذاك، غدت بلقعًا قفرًا، يحق فيها قول الشاعر: "أضحت خلاءً وأضحى أهلُها ارتحلوا، أخنى عليها الذي أخنى على لُبدٍ".
لقد أضاعت غوغائية الحزب الشيوعي السوداني وتبعيته العمياء لموسكو على السودان فرصًا ذهبية للتنمية. كان الحزب منحبسًا في أيديولوجيته، ولا يزال، وكان منخرطًا في خدمة أجندة الحرب الباردة. وقد انجر وراء الحزب الشيوعي السيد إسماعيل الأزهري بما عرف به من انتهازية وحب للسلطة. أدى الإضراب الكبير الذي دبره الشيوعيون في عام 1957، وضغطهم على حكومة الاستقلال الوليدة، ومعارضتهم للمعونة الأمريكية، إضافة إلى تآمر السيد إسماعيل الأزهري والسيد على عبد الرحمن مع جمال عبد الناصر لهزيمة حكومة حزب الأمة، إلى تعقيدٍ بالغ للأوضاع السياسية. الأمر الذي دفع بالسيد عبد الله خليل، ومن ورائه حزب الأمة، إلى تسليم السلطة المنتخبة طواعيةً إلى الجيش.
|
Post: #184
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-08-2020, 11:45 PM
Parent: #183
التَّكلُّس اليساروي: النُّخب المراوغة (13) صحيفة التيار 9 أكتوبر 2020 النور حمد اتسم سلوك قادتنا السياسيين بالمراوغة. فهم، حتى حين يكونون، مقتنعين بسلامة قرار ما اتخذوه، يتلفَّتون من فوق أكتافهم ليروا ماذا سيكون رد فعل الآخرين. وقد كان موضوع المعونة الأمريكية من أفضل النماذج التي تعكس هذا النوع من ضعف الشجاعة القيادية لديهم. ولقد كانت حملة شيطنة المعونة الأمريكية حملةً شعبويةً بامتياز، قادها الحزب الشيوعي السوداني وأصحاب التوجهات العروبية.
في 13/3/1958، أي قبل ثمانية أشهر من انقلاب الفريق إبراهيم عبود، أرسل السفير الأمريكي في الخرطوم رسالة إلى وزير الخارجية السودانية آنذاك، محمد أحمد محجوب يقول فيها: "يشرفني أن أشير الى الاتصالات الاخيرة بين حكومتينا. وأن أبلغكم أن حكومة الولايات المتحدة الامريكية، في روح تعاون ودي واحترام لاستقلال وسيادة جمهورية السودان، مستعدة لتقديم مساعدات اقتصادية وفنية". وكتبت الخارجية الأمريكية إلى سفيرها في الخرطوم في 1/4/1958 ما نصه: "نرفق مع هذا توقيع المستشار القانوني لوزارة الخارجية على الاتفاقية والمراسلات المتبادلة بين حكومة الولايات المتحدة الامريكية وحكومة جمهورية السودان لتقديم مساعدات اقتصادية وفنية". (راجع محمد علي محمد صالح، وثائق الخارجية الأمريكية).
دعونا نرى كيف لوَّن كلٌّ من عبد الله خليل ومحمد أحمد محجوب، قبولهما المعونة الأمريكية، بلون خوفهما من الشيوعيين والعروبيين. فبعد عشرة أيام من تسلمه خطاب الخارجية الأمريكية أرسل السفير الأمريكي في الخرطوم في 11/4/1958، رسالةً إلى الخارجية الأمريكية، جاء فيها أن صحيفة "مورنينق نيوز"، التي تصدرها دار صحيفة الأيام، نشرت بيانًا لعبد الله خليل حول قبول المعونة. ووصف السفير الأمريكي بيان عبد الله خليل بأنه كان "اعتذاريا". فقد زعم الخبر المنشور أن حكومة السودان أجرت تغييرات أساسية في مسودة الاتفاقية، حتى لا تكون شبيهة لاتفاقيات عقدها الأمريكيون مع حكومات أخرى. وقال السفير الأمريكي إن هذا القول غير صحيح ولا يسنده شيءٌ مما وقعوه مع حكومة السودان. كما ذكر السفير أنهم لاحظوا لمسات محمد أحمد محجوب في البيان. وأضاف السفير، أن مصدرًا موثوقًا أخبرهم: أنه كان في مكتب محمد أحمد محجوب، قبل يوم من نشر الصحيفة للخبر. وشاهد محجوب يتصل تلفونيًا مع رئيس تحرير الصحيفة، ويتحدث معه عن طريقة معينة لنشره. (راجع: محمد علي صالح، الوثائق الأمريكية).
ذكر السفير، أنهم اتصلوا بعد أربعة أيام بالسيد، عبد الله خليل، مستغربين طريقة نشر الخبر. وأقر عبد الله خليل للسفير الأمريكي أن الخبر، كما نشرته الصحيفة، غير صحيح. لكنه قال إن أشخاصًا في الصحيفة هم المسؤولون. وجاء أيضًا في تعليقات السفير الأمريكي أن حكومة السودان كانت تتوقع حملةً دعائيةً ضدها. وتريد أن تثبت، أنها لا تزال تلتزم بمبدأ "الحياد الايجابي". الشاهد، أن النزعة اليساروية التي يختلط فيها الغرض الشيوعي بالغرض العروبي في العداء للغرب شكلت ضغطًا رهيبًا على حكومة عبد الله خليل. ولم يكن ذلك الضغط بغرض المصلحة الوطنية المجردة، وإنما بغرض المصلحة، كما يراها الشيوعيون والعروبيون، وهي الاصطفاف خلف الإتحاد السوفييتي. فالحياد الإيجابي يعني أن تتعامل مع الكتلتين وفقًا لمصلحتك، لا مع كتلةٍ واحدة، كما أراد الشيوعيون والعروبيون. وعمومًا فإن ما قام به كلٌّ من عبد الله خليل ومحمد أحمد محجوب، أظهرهما بمظهر المراوغ، لا أكثر. خاصةً، أن عبد الله خليل اعترف للسفير الأمريكي أن الخبر كما أوردته الصحيفة غير صحيح. وفي النهاية، لم تمنع تلك المراوغة من أن تقوم القيامة على المعونة الأمريكية. (يتواصل).
|
Post: #185
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-10-2020, 06:07 AM
Parent: #184
التكلس اليساروي: التَّنمُّر الشيوعي الناصري (14) النور حمد صحيفة التيار 10 أكتوبر 2020 ورد في بعض الردود اليساروية على هذه السلسة، التي تترى هذه الأيام في مختلف المواقع الإلكترونية، أن هذا الحلقات ليس لها خيطٌ ناظم. غير أن هذا غير صحيح. فأحد جانبي خيطها الناظم هو سلوك اليسار الشيوعي والعروبي وعداؤه الحاد للغرب وابتزازه للقوى السياسية الأخرى بالخطاب الديماغوجي الشعبوي، ومواقفه المتخشبة التي أسهمت إسهامًا معتبرًا في إبطاء تطورنا الاقتصادي، وجعلت أحوال بلادنا نموذجًا في التراجع والتردي. ليس هناك قطرٌ اليوم، حتى في جوارنا الإقليمي، يشابه السودان من حيث انهيار أجهزة الدولة الإدارية، وفي التخلف الاقتصادي، وفي ضعف بنياته التحتية، وفي اضطرابه وعدم استقراره.
أما الجانب الآخر من الخيط الناظم فهو علل النخب السياسية، ممن يُسمَّوْن آباء الاستقلال، الذين خضعوا للابتزاز اليساروي وللتخويف العروبي المنطلق من الآلة الإعلامية الناصرية والبعثية والفلسطينية، وما يكيله ذلك الإعلام من هذه المنصات الثلاث، لمخالفي خطه؛ من تهم العمالة والخضوع للاستعمار والإمبريالية. فنحن منذ الاستقلال بين يسار مُتنمِّر ينثر خطابًا ديماغوجيًا شعبويًا ملتهبًا يربك به من هم في السلطة، أيَّا كانوا، وبين ساسة غير واثقين مما يفعلون، قابلين للابتزاز، غير قادرين على مواجهة الزوابع اليساروية الشعبوية الموسمية. اخترت قضية المعونة الأمريكية وأفردت لها بعض الحلقات، لأدلل بها على الابتزاز اليساروي الذي كان يريد أن يجر البلاد إلى محور الكتلة الشرقية الشيوعية، باسم استقلال الإرادة السياسية والتحرر من ربقة الاستعمار. في حين لم يكن الأمر سوى تبديلٍ لتبعيةٍ مثمرةٍ، بعض الشيء، بتبعيةٍ للمعسكر الشيوعي، بلا ثمرٍ إطلاقا. فالتجربة الشيوعية الأم في الاتحاد السوفييتي نفسه، انتهت بعد سبعين عامًا، إلى أن يقف الشعب في صفوفٍ متراصَّةٍ، طلبًا للخبز والجبن وضروريات الحياة اليومية.
أما الجانب الآخر من اختياري لقضية المعونة التي سيطرت على المشهد السياسي السوداني منذ 1957 وإلى بداية الستينات، فغرضه إيضاح تأثير الابتزاز اليساروي لنخبنا السياسية التي أصيبت بحالة من الاضطراب وفقدان التوازن، حتى لم تعد واثقةً مما تفعل. فأصبحوا يركضون إلى السفارات الغربية ليقولوا لهم ما لا يستطيعون قوله في العلن لشعبهم وإقناعه بالوقوف وراء قراراتهم. لقد أصبحوا أسرى لما يقوله عنهم الشيوعيون ولما تقوله عنهم آلة جمال عبد الناصر الإعلامية. غالى جمال عبد الناصر في عداء الغرب، فعاش في حالة هزيمة عسكرية وتنموية مستدامة إلى أن مات. ولم تتطرف ماليزيا في عدائها للغرب، وكانت أفقر من مصر بما لا يقاس حين نالت استقلالها، فتخطى اقتصادها في بضعة عقود، اقتصاد مصر، بقدر لم تعد معه المقارنة قائمة.
هذا النمط من التنمر اليساروي الديماغوجي لا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا. فحين نقول لهم إن مفهوم اليسار تغيَّر وأن الرأسمالية تعيش أيامها الأخيرة، وأن التوجه نحو الاشتراكية متنامٍ، ولكنه لن يكون وفقًا لخارطة الطريق الماركسية اللينينية والأحزاب الشيوعية التي خلفها الزمن، يخرج إلينا العقائديون من حفظة النصوص بلا فهم، المُدَرَّبون على أساليب الشيطنة والتشنيع اللاأخلاقية، ليقولوا: إنك "نيوليبرالي" وإنك "مستلبٌ غربيًا" وإنك "مفتون بالرأسمالية". هؤلاء العقائديون المساكين لا يتهمون أنفسهم إطلاقًا بأنهم لم يفهموا الأمور على وجهها الصحيح. عمومًا، سوف نضع أيدينا على جذور أسلوب الشيطنة الفج هذا، بدءً بشيطنتهم للرائد الشيوعي عوض عبد الرازق.
|
Post: #186
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-10-2020, 11:30 PM
Parent: #185
التكلس اليساروي: التَّنُّمر وشيطنة الآخر (15) صحيفة التيار 11 أكتوبر 2020 النور حمد التنمر وشيطنة الآخر المخالف في الرأي ليسا قاصرين على من ينتقدون الحزب الشيوعي من خارجه. وإنما مورسا في البداية ضد من خرجوا على الخط الأصولي، الذي ظل ينتهجه الحزب منذ نشوئه، وبقيت مستمرة إلى يومنا هذا. وأسلوب شيطنة الخصم الفكري معروفٌ وسط التنظيمات العقيدية المنغلقة التي لا تناقش الموضوعات، وليس لديها صبر على المناقشة. فهي تهرب من النقاش الذي لا تجيد أدواته، أو لأنها ترى أنه لا فائدة منه، إلى استخدام حملات الإثارة، الدعائية التي تهدف إلى إعابة الآخر المعارض وتقبيحه والتنفير عنه، إلى درجة اغتيال الشخصية. وقد كان لهذا النهج ضحاياه المعروفين، من الشيوعيين أنفسهم. لكن، ما لم ينتبه إليه الشيوعيون بسبب تجاهلهم تغيُّر السياقات، وازدياد الوعي العام لدى الناس، وانتهاء عهد احتكار المنابر الإعلامية للمؤسسات والأحزاب، أن هذا السلاح اللاأخلاقي الخبيث قد انثلم حده، ولم يعد ماضيًا كما كان. وكل باطلٍ مصيره إلى الزوال.
السبب الرئيس الذي يقف وراء التنمر وشيطنة الآخر المخالف في الرأي، هو العقيدة الصماء المنغلقة، المنكفئة على ذاتها. وكذلك، الامتلاء بثقةٍ مطلقةٍ في صحة النظرية الشيوعية، أو النظرية العروبية، أو الإسلاموية، والإيمان الأعمى بصلاحيتها لكل زمانٍ ومكان. وفي هذا لا يختلف كثيرٌ من أعضاء الحزب الشيوعي السوداني ومن العروبيين، عن المتطرفين من المسلمين، أصحاب العقيدة الصماء. أتقنت قيادات الشيوعيين حملات التنُّمر والشيطنة، وبرعوا في صك الألفاظ التي ينثروها وسط جمهورهم، الذي ينبري ليرددها في ببغاوية مؤسفة. من أمثلة ذلك: "الردة اليمينية"، "البرجوازية الصغيرة"، و"التحريفيين"، و"الانهزامية" و"الانتهازيين"، و"التصفويين" إلخ.
شاعت كثيرًا مثل هذه التنميطات في الأدبيات السوفيتية وأدبيات الثورة الثقافية في الصين في حقبة الشيوعية. وأخيرًا سمم الشيوعيون أجواء البلاد وأغلقوا أبواب الحوار الهادئ الموضوعي بمصطلح "الهبوط الناعم"، في حين كانوا هم أحد أبرز أبطاله في مجريات هذه الثورة. فقد شارك الأستاذ صديق يوسف، الذي نكن له كل الاحترام والتجلة، في المفاوضات الطويلة الشاقة التي أنتجت الوثيقة الدستورية، التي انتهت إلى هبوطٍ هو أنعم ما يكون. لكنهم، عندما ذُهلوا من نتيجة ما صنعته أيديهم، عادوا يتباكون أن الحاضنة السياسية (قحت) أضحت خارج المشهد السياسي. وقبل ذلك، تناسوا قرارهم بخوض انتخابات برلمان عبود المسمى "المجلس المركزي". كما تناسوا مشاركتهم في برلمان الانقاذ، الذي ظلوا يتحفوننا بمداخلاتهم من داخله. ومع ذلك، يتحدثون عن شخصي بوصفي أحد عرَّابي "الهبوط الناعم". عجيبة والله!
دعونا نرى الفجاجة التي برر بها الحزب الشيوعي مشاركته في برلمان عبود المسمى "المجلس المركزي، مما أورده محمد محمود في ورقته القيمة: "البيت الذي بناه عبد الخالق". كتب محمد محمود: "وكان الحزب الشيوعي قد أصدر في نوفمبر 1962 مطبوعةً بعنوان "الكتاب الأسود بمناسبة الذكرى الرابعة للانقلاب العسكري"، أعلن فيها أن "المجلس المركزي جاء أبعد ما يكون عن تحقيق الديمقراطية بل هو نكسة خطيرة إذا ما قورن بالمؤسسات التي حققها الشعب قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958." ويواصل محمد محمود فيقول: "وفي يناير 1963 قررت اللجنة المركزية دخول الحزب الشيوعي في انتخابات المجلس المركزي، وبرّرت ذلك بقولها إنها رغم علمها بالطبيعة الرجعية للمجلس إلا أنها تريد أن تفضحه من الداخل، وتسخره كمنبر للدفاع عن الديمقراطية، لتستنهض الجماهير وتطيح بالنظام". أليست حجة "فضح نظام عبود من الداخل" تبدو شبيهة بحجة الدكتور حسن الترابي عند دخوله أجهزة نميري عقب المصالحة الوطنية؟ إنها لعمري، ذرائعيةٌ بلا ضفاف! (يتواصل)
|
Post: #187
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-12-2020, 02:07 AM
Parent: #186
التَّكَلُّس اليساروي: عبد الخالق ونهج التشنيع (16) النور حمد صحيفة التيار 12 أكتوبر 2020 ما لم ينتبه له الشيوعيون أن اعتناقهم المبكر للفكرة المادية عن الكون، كما تقدمها المادة الديالكتيكية، واستغراقهم الحصري في فكرة المادية التاريخية، التي تفسر مجمل تاريخ العالم من زاوية العلاقات الاقتصادية حصرًا، قد باعد بينهم وبين الاعتدال الفكري والأخلاقي. وحتى لا تذهب الأذهان إلى غير ما أرمي إليه، فإنني أعني بالاعتدال الأخلاقي هنا أن يكون المرء موزونًا في تعامله مع معارضيه. وألا يجنح إلى تشويه صورتهم وإلصاق النعوت بهم لمجرد أنهم اختلفوا معه في الرأي. وهذا سَمْتٌ للروحانية الحقة دور عظيمٌ فيه. فنهج التشنيع الشيوعي نهج فاشي يشبه ما يقوم به المتعصبون دينيًا مع مخالفيهم في الرأي. ففهم أيضًا، خاوي الوفاض من الروحانية. ما أريد أن أقوله هنا باختصار شديد، إن الحزب الشيوعي اتبع، منذ بداياته الأولى، نهجًا يعود تاريخه إلى لينين وأسلوبه في شيطنة مخالفيه في الرأي. وهو نهج أعمى يريد الانتصار على الخصم الفكري بأي سبيل. ويدخل هذا السلوك تحت ما يسمى name-calling، أي إطلاق النعوت المشوِّهة للتنفير. قدَّم "أنري فايشينيسكي" ممثل الاتهام الرئيس للدولة السوفيتية في محاكمات موسكو في عام 1938 ملخصًا لتلك المحاكمات إلى مجلة الحزب الشيوعي المسماة: "روسيا السوفيتية اليوم". في تلك المقالة أطلق فايشينيسكي نعوتًا جاهزة للوصم والتشنيع، على أولئك الذين جرت محاكمتهم وإدانتهم. فقال: "لقد ثبت أن اليمينيين، والتروتسكيين، والمنشفيك، والثوريين الاشتراكيين، والبرجوازيين الوطنيين، إنما هم مجموعة من القتلة، والجواسيس، والمخربين التحريفيين الذين ليس لديهم أيديولوجية، ولا مبدأ. هؤلاء مجموعة من المجرمين الذين باعوا أنفسهم لأجهزة الاستخبارات التابعة لأعدائنا". (راجع: ريوك شوهي Name-calling in the History of Russia، الأكاديمية الكورية للقيادة 2010).
بقراءة لتاريخ الحزب الشيوعي يتضح أنه كان ولا يزال يسير على ذاك النهج السوفييتي في إطلاق النعوت. ففي الخلاف الذي نشب بين عبد الخالق محجوب وعوض عبد الرازق، وكلاهما رائد في الحراك الشيوعي في السودان، ظل عبد الخالق محجوب لا يذكر عبد الرازق، دون أن يقرن اسمه بصفة "الانتهازي". يقول محمد محمود عن عبد الرازق وعبد الخالق: "رغم أن كليهما كان ذا نزعة ثورية إلا أن تجربة عبد الرازق العملية عجمت عوده، وجعلته أقدر على الأخذ والعطاء وعلى التنازل انتظارًا للحظة ارتفاع المد. أما عبد الخالق فكان أقرب لأفق "النظرية" وأقرب للحَرْفية في هذه الفترة. ويكشف هذا الخلاف المبكّر عن نزعةٍ قويةٍ لدى عبد الخالق للتشنيع والانتقاص من معارضيه. فرغم ما تحقّق في فترة عبد الرازق من إنجاز، فإن اختلاف عبد الخالق مع رؤيته لمستقبل الحركة جعله يلقي بإنجازاته عرض البحر وأصبح حريصًا، وهو يشكّل ذاكرة الحزب، على قرن اسم رفيقه في الكفاح، كلما ذكره، بصفة "الانتهازي". "(راجع: محمد محمود " البيت الذي بناه عبد الخالق"). وقد دافع الأستاذ عادل عبد العاطي عن عوض عبد الرازق، ودعا إلى رد الاعتبار له. وقال إن اتهامه بأنه كان يريد إذابة الحزب الشيوعي في الأحزاب الاتحادية ليس سوى فرية. كما تحدث الدكتور عبد الله علي إبراهيم مؤكدًا ممارسة عبد الخالق شيطنة الخصوم، وأن الشيوعيين الدعويين التربويين خرجوا، كجماعةِ أقلية (أو منشفيك بلغة الشيوعيين)، مجلَّلين بعار مفارقة التاريخ، مقهورين منبوذين، مقابل النجاحات الجماهيرية المؤكدة التي أحرزها الجهاديون الثوريون (راجع: عبد الله علي إبراهيم، "الترابي البولشفيكي وعوض عبد الرازق المنشفيكي"، صحيفة الراكوبة." (يتواصل).
|
Post: #188
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-12-2020, 10:50 PM
Parent: #187
التَّكلُّس اليساروي: البيئة الطاردة للمثقفين (17) النور حمد صحيفة التيار 13 أكتوبر 2020 ما أحاول القيام به هنا ليس موجهًا ضد نهج الحزب الشيوعي واليسار العروبي حصرا. ولا يتجه إلى أن يقول إن هذه التنظيمات لم يكن لها دور وأنها كانت باطلاً مطلقا. إذ ما من شك أبدًا، أن اليسار السوداني لعب، عبر طيفه العريض، دورً رائدًا في الحياة السياسية والفكرية والثقافية في السودان. ولسوف يرد ذكر ذلك، لاحقًا. فالغرض وراء هذا الاسترجاع لتاريخ التزمت العلموي اليساروي هو أن تنفتح أذهان الأجيال الجديدة على حقيقة السِّيَر السياسية السودانية. ومثلما ظللتُ أفضح تنظيم الإسلاميين، وبلا هوادة، عبر مئات المقالات وعشرات المقابلات التلفزيونية والندوات والمحاضرات، فإنني أفعل ذات الشيء بسيرة الحزب الشيوعي المسربلة برداءٍ زائفٍ من الطهر والقداسة. إن أكثر ما يصيب الوعي العام في مقتل، خاصة أوساط الشباب، لهو هذه الحركية السياسية الفيزيائية، الناشطية الصرفة، التي تفتقر إلى الأفق المعرفي.
الحركية السياسية، التعبوية، التحشيدية، هي ما ساق بها الدكتور حسن الترابي شباب الإسلاميين إلى التطرف والعنف وإلى محارق الحروب. فما لبثت حركته أن أكلت نفسها بنفسها، وضاع جهده الضخم أدراج الرياح. ومثلما لفظ تنظيم الشيوعيين المفكرين والمبدعين، كذلك لفظ تنظيم الإسلامويين، المعتدلين الخارجين عن سلطة الأخ الأكبر big brother، كما في الرمزية التي ابتدعها جورج أورويل في روايته 1984. ويسير قبيلٌ من الجمهوريين العقائديين، الآن، على ذات النسق الشيوعي في شيطنة الآخر، كما جرى من شيطنةٍ نابيةٍ للعالِم الجليل، الدكتور عبد الله أحمد النعيم، على صفحات المواقع الإلكترونية. فالذي يجمع هذه النزعات الثلاث هو التكلُّس العقيدي والاعتقاد المطلق من قبل أصحابها، في صحة ما يرون، واعتقادهم أن هناك قصدًا شريرًا مبيتًا يقف وراء ما يقوله مخالفوهم. وهذه "بارانويا" ووسواس معروف، لا يسلم منه عقائديٌّ مُتكلِّسٌ، قط.
تنبه عبد الخالق محجوب مبكرًا إلى علاقة حزبه بالمثقفين والمبدعين، فكتب عنها، لكن ذلك لم يغير شيئا. فالنهج اللينيني الذي سيطر باستمرار على تصورات الحزب للأمور لا تغيِّره مثل تلك التنبيهات الاستدراكية العابرة. فالمثقف والشاعر والفنان التشكيلي وكل مبدع لا يسهل صبهم في القوالب الجاهزة. ولهذا السبب هرب المبدعون من الاتحاد السوفييتي، ذرافات ووحدانا، إلى الغرب. ورغم أن الحزب الشيوعي السوداني كان أكثر تحررًا في نظرته للفن والأدب من نظيره السوفييتي، إلا أن المفكرين والمثقفين والمبدعين ظلوا يبتعدون عنه، لِعلل متأصلة فيه. فالمظلة الفضفاضة التي يضعها الحزب على دائرة من يسميهم "الديموقراطيين" تضعهم في عداد "المغفلين النافعين". ولربما يكون الانشقاق المُزلزل الذي جرى للحزب عقب انقلاب مايو، وأفقد الحزب اتزانه، وجعل قيادته التاريخية تجنح إلى سلاح الانقلاب قد مثَّل، هو الآخر، عنصرًا طاردًا للمثقفين.
الغريب أن الشيوعيين السودانيين حين يغادرون الحزب لا يبتعدون عنه وحسب، وإنما يذهبون إلى النقيض. وهذه ظاهرة تحتاج الدراسةَ البحثيةَ المدققة. ولا أريد أن أذكر أسماء من خرجوا منه وارتموا في حضن الإسلاميين، فهم معروفون. أما من لم يرتموا في حضن الإسلاميين فقد احتفظوا بالود مع رفاق الأمس. ولكنهم، احتفظوا لأنفسهم بمسافةٍ كافيةٍ عما يجري في الحزب من تنظير أو حراك. ولكن كلما تقدم الزمن كلما اتسعت تلك المسافة، الأمر الذي أصاب الحزب بالعقم الفكري والإبداعي. فغرق أكثر وأكثر في الحركية التعبوية، الفاقدة للأفق الجيواستراتيجي والزاد المعرفيٍّ والثقافي. فانتهى الزخم الثقافي الضخم الذي أحدثه الحزب في عقدي الستينات والسبعينات إلى مجرد "كورالٍ" ينيص في المناسبات. (يتواصل).
|
Post: #189
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-15-2020, 10:32 AM
Parent: #188
التكلُّس اليساروي: من أبادَماك إلى العوز الثقافي (18) النور حمد التيار 14أكتوبر 2020 أرسل إليَّ أحد الأصدقاء الأعزاء ممن كانوا في الحزب الشيوعي، رسالةً يقول فيها: "إنت يا النور قايل الخلَّانا، ونحنُ كُثْرٌ، ننجوا بجلودنا، هيِّن؟ إنت اكتشفتها بالبحث والملاحظة والمعايشة من بُعد، ولكن نحن عشناها بكل تفاصيلها ... والحمد لله على نعمة العقل، على كل حال". والحق أن كثيرين ممن تعرضوا للتنمر والشيطنة من قبل كهنة الحزب الشيوعي فقدوا عقولهم، أو اهتزت شخصياتهم، اهتزازًا لم يعودوا بعده أشخاصًا طبيعيين متماسكين. ولقد رددت على رسالته بأنني عشت طرفًا من تجربة الضغط النفسي عن كثب، وأنا طالبٌ في الثانوية، رغم إني لم أكن عضوًا في الحزب. لكنني كنت منتسبًا إلى الجبهة الديموقراطية، وكنت عضوًا نشطًا في تنظيم "طلائع الهدهد". فقد تعرضت، ومن هم على شاكلتي، للنظرة الدونية من زملائنا الطلاب أعضاء الحزب، الذين كان يعدون أنفسهم طبقةً أرفع، وكانوا يتصرفون تصرف "الأعرف". وقد خلقوا بذلك دائرةً داخليةً، أو ناديًا للامتياز الرفاقي، مع أساتذتنا الشيوعيين، الذين كانوا يرعون أنشطتنا الثقافية. كان تنظيم طلائع الهدهد وعاءً ثقافيًا يعمل أعضاؤه تحت مظلتي الجبهة الديموقراطية، ومن ورائها الحزب الشيوعي، لاستقطاب طلاب الثانويات. وقد كان بعض الطلاب يعلم ذلك، وبعض آخر لا يعلم ذلك، وبعضٌ ثالث غير مهتم. نبعت فكرة طلائع الهدهد فيما يبدو من تنظيم أبادَماك الذي أسسه الشيوعيون منذ الديموقراطية الثانية، ووصفوه بأنه: "اتحاد الكتاب والفنانين التقدميين". وكان الدكتور عبد الله علي إبراهيم أحد أبرز القائمين على أمره او ربما أبرزهم جميعا. وقد تمددت الفكرة إلى خلق أفرع مماثلةٍ له في الثانويات. فتأسست "طلائع الهدهد" في حنتوب الثانوية، و"طلائع القندول" في القضارف الثانوية و"طلائع النخيل" في مروي الثانوية. ولولا صدام الشيوعيين مع نميري عام 1971، الذي هدم كثيرًا ما شيَّده الحزب الشيوعي، لكان لذلك النشاط الرائد أن يحدث تغييراتٍ كبيرةً في الوسط الثقافي المدرسي، وفي مجريات الثقافة في المجال العام. لكن لأن الغرض الحزبي الضيق كان هو المسيطر، ولأن التنظيم كان ذا طبيعة مغامرة، متعجلة جنحت إلى الانقلاب العسكري، فقد تبخَّرت تلك النهضة.
لقد كان تنظيم أبادماك عملاً مدنيًا متميزًا في الدفع بالثقافة في المجال العام وفي الوسط التعليمي. لكن، عابه انجراره نحو ثقافة الكتلة الشرقية، وأيضًا انجراره إلى عموم "الكانون" الثقافي الغربي، حال المثقفين العلمانيين في الدول حديثة الاستقلال، في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين. كان هناك ابتعادًا عن الثقافة الإسلامية وحالةً عميقةً من الاغتراب. كانت أنشطة فروع أبادَماك المصغرة في الثانويات عملاً متقدمًا فيما يسمى، في مجال التربية، بـ"الأنشطة اللاصفية" extra curricula activities، وهي أنشطة لا تقل شأنًا عن المنهج الرسمي. بل ربما تكون أهم منه أحيانًا، خاصةً حين تتصل الأمور بالثقافة العامة وبالوعي السياسي، وبما يسمى حاليًا "تعليم التمدن" civic education، وكل ما يتصل بتعليم قواعد المواطنة الصالحة والانخراط في المجتمع العريض.
الامتلاء بثقةٍ زائفةٍ في الذات، والعزوف عن النقد الذاتي الصريح، أضر كثيراً بتجربة الحزب الشيوعي السوداني. ولو أنهم تمهلوا قليلاً وتأملوا لماذا حصلوا في انتخابات 1965 على 11 مقعدًا، في حين حصل الإسلاميون على 5 مقاعد، ولاحظوا كيف انقلب الوضع بعد ثورة أبريل 1985، فحصلوا في انتخابات 1986، م على 3 مقاعد، في حين حصل الإسلاميون على 51 مقعدًا لاتضح لهم خطأ طريقهم. تغليب التوجه الحركي التعبوي التحشيدي طرد المثقفين اليساريين من سوح الحزب، فصعد إلى قمته الحزبيون التنظيميون، وانتهى الأمر إلى هذا العوز الثقافي الذي يُملأ الفراغ بضجيج الشعارات المستهلكة. (يتواصل).
|
Post: #190
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-15-2020, 10:33 AM
Parent: #189
التكلُّس اليساروي: حلَّقوا هُنيهةً ثم طاروا(19)النور حمدصحيفة التيار 15 أكتوبر 2020 إذا أراد أي حزب سياسي أن يعرف مدى تكلُّسه، وعدم قدرته على النمو، عليه أن ينظر إلى إيِّ مدى تحاشاه المبدعون، أو إلى أي مدى حلَّقوا حول دوحته هُنَيْهةً ثم طاروا. يشم المبدعون شميم التكلس في القوى السياسية من مكان بعيد فيقتربون، لكنهم لا يلبثون أن يبتعدوا حين تُفعم خياشيمهم الرائحة. ويمكن القول: ألاَّ حزب في السودان جمعت دوحته طيور المبدعين كما فعلت دوحة الحزب الشيوعي السوداني. ولكنها عجزت طيلة سبعين عامًا أن تحتفظ بهذه الطيور. ولو كان الحزب الشيوعي السوداني أفضل حالاً، من حيث سعة الأفق المعرفي ومن القدرة على تجديد الدم وعلى فهم السياقات المتبدلة والتعامل معها بمرونة، لكان حاله غير الحال الذي نراه عليه الآن من اليباس. لقد كتبت مرارًا في أوراق وفي مقالات مختلفة أن الإبداع في السودان يساريٌّ بامتياز، ولم يكن للإسلاميين فيه شروى نقير. غير أنني لم أشرح حينها، ماذا أعني باليسار، ولم أكن بحاجة للشرح في تلك الإشارات المبتسرة. التوجه اليساري في السودان قديم. وهو سابق لنشوء الحزب الشيوعي السوداني. لقد فشل الحزب الشيوعي السوداني، حتى يومنا هذا في التجذير لنفسه في تربه بلادنا وتاريخها وتراثها وفي تلمُّس وجدان أهلها. فقد عازه المفكرون والمنظرون الحاذقون. لذلك، لم يستطع أن يصبح مركزًا لحركة يسارية عريضة متصالحة مع المكونات المحلية، وقادرةً في نفس الوقت على شدها نحو آفاق التحرر الواسعة.الشعراء الخمسة الذين تناولتهم في كتابي "مهارب المبدعين" مثَّلوا إرهاصًا مبكِّرًا لنزعةٍ تحررية سودانية بالغة القوة. غير أن انغراس أقدام منظري الحزب الشيوعي السوداني، في وحل النظرية الأجنبية التي يبست وتفسير السلوك استنادًا إلى الطبقة وحدها، حرمه القدرة على أن يفهم الظواهر خارج ذلك القالب الاقتصادي الغربي. لقد مثَّل كل من محمد سعيد العباسي ومحمد المهدي مجذوب، والناصر قريب الله، والتجاني يوسف بشير، إرهاصًا مبكرًا لتيار اليسار السوداني العريض. لكن، ماذا نفعل مع التحليل الاقتصادي للتاريخ وحشر كل شيء في قالب الطبقة المنقول من السياق الرأسمالي الغربي إلى صحاري السودان وسهوله؟ لقد سبق هؤلاء الشعراء الرواد الذين ذكرناهم، نشوء الحزب الشيوعي بعقودٍ طويلة. في حقبة الستينات من القرن الماضي، توافدت أسراب المبدعين على دوحة الحزب الشيوعي السوداني وعلى حرمها المحيط بها. فقد كان الحزب الوحيد في الساحة السياسية السودانية الذي كان في وسع المبدعين أن يسقطوا عليه تطلعاتهم وآمالهم في حياةٍ حرةٍ ناميةٍ مزدهرة. ودعونا نذكر، على سبيل المثال، لا الحصر، هذا الرهط المميز حقًا من المبدعين: تاج السر الحسن، جيلي عبد الرحمن، مبارك حسن خليفة، عبد الله شابو، النور عثمان أبكر، محمد المكي إبراهيم، عبد الرحيم أبو ذكرى، محمد عبد الحي، علي عبد القيوم، ألياس فتح الرحمن، محجوب شريف، محمد الحسن سالم "حميد". حلق كل هؤلاء حول دوحة الحزب الشيوعي في مرحلة ما من مراحله المختلفة. فمنهم من حط على غصونها لفترة، ومنهم من حلَّق هنيهةً ثم طار. لكن يمكن القول وباطمئنانٍ شديد، لم يبق أحد من هؤلاء قريبًا من مركز الحزب. كما بعد كثيرون حتى عن محيطه. فهو مركزٌ طاردٌ ومنفِّر لذوي القلوب الحية والوجدانات العامرة والنزوع للحرية. فالحزب بقي ماكينةً سياسيةً تقتات على مجريات الصراع اليومي، فاقدًة القدرة على فهم الظواهر السوسيوثقافية المعقدة وعلى الاستشراف. (يتواصل)
|
Post: #191
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-16-2020, 03:34 AM
Parent: #190
التكلُّس اليساروي: المغفلون النافعون (20) النور حمد صحيفة التيار 26 أكتوبر 2020 كتبت في الحلقة الماضية عن تحليق عدد من المبدعين في مدار الحزب الشيوعي. وأحب أن أنوه هنا إلى أن هؤلاء الذين ذكرتهم لم يكونوا جميعهم شيوعيين، فبعضهم كان شيوعيًا، وبعضهم كان "ديموقراطيًا"، بمصطلح الشيوعيين. وكما هو معلوم فإن "الجبهة الديموقراطية"، أو دائرة "الديموقراطيين"، هي الدائرة التي تحيط من الخارج بدائرة الحزب الشيوعي. والذين يصعدون إلى عضوية الحزب الكاملة إنما يجري انتقاؤهم، (وغالبًا بطلبٍ منهم)، من تلك الدائرة المحيطة. وقد كان بعض الشيوعيون، وربما لا يزالون، يتهامسون فيما بينهم، باسمٍ آخر للدائرة المحيطة بالحزب الشيوعي، وهو: "المغفلون النافعون". أي، الذين يدعمون خط الحزب الشيوعي دون أن تكون لهم دراية كاملة بمخططات الحزب وتكتيكاته كما تعرفها عضويته. فهم متحالفون ومؤيدون لا يعرفون على وجه الدقة حقيقة ما هم مسوقون إليه. وحتى عضوية الحزب نفسها، فإن اطلاعها على الأمور الحزبية العليا، يقع في درجات متفاوتة يحددها موقع الفرد منهم في سلم العضوية. وهذا من طبيعة الحركات التي تعتمد السرية في عملها.
لا يوجد في السودان تنظيم أكثر سرية من الحزب الشيوعي السوداني. وقد اتسمت معظم الحركات الثورية في العالم بهذه الصفة؛ أي صفة السرية التي هي أبعد ما تكون عن الديموقراطية وعن أساليبيها في العمل العام. فالديموقراطية إنما تقوم على التنوير وعلى تمليك الناس المعلومات، ليتخذوا أي قرار يقررونه بمعلوماتٍ وافيةٍ وبحريةٍ كاملة. لهذا السبب، وعلى سبيل المثال فقط، بقيت غالبية عضوية الحزب الشيوعي ليست على يقينٍ ما إذا كان الحزب الشيوعي له ضلع في انقلاب مايو، أم أنه فقط بارك قيامه، رغم أن الحزب انخرط بقوة في مؤسسات نميري في السنة الأولى عقب الانقلاب. كما بقيت عضوية الحزب الشيوعي السوداني، ليست على يقين ما إذا كان سكرتيره العام، الأستاذ عبد الخالق محجوب هو من خطط لانقلاب يوليو 1971، وهو في معتقل الشجرة، أم لا. وهل كان هروبه من معتقل الشجرة بسبب قرب موعد تنفيذ الانقلاب، أم لا؟ فهذه السرية تفتح الباب على مصراعيه للصفوة القائدة لتمارس الدكتاتورية في أبشع تجلياتها. وأيضًا، لتصبح ديكتاتوريةً مبررةً ومحميةً بالإجراءات واللوائح والبنية التنظيمية نفسها، وبطبيعتها الهرمية التي تسمح بحصر المعلومات في الدوائر العليا للتنظيم، بحجة "التأمين". عمومًا، هذا هو أسلوب المنظمات السرية بمختلف أشكالها وأهدافها.
من أكثر المبدعين السودانيين الذين دخلوا في عراك حام مع الحزب الشيوعي وقيادته، الشاعر الكبير صلاح أحمد إبراهيم. فقد كان عضوًا في الحزب وجرى فصله. وصلاح، كما هو معلوم، شاعرٌ من عيارٍ خاص جدًا، إضافةً إلى كونه مثقفًا واسع الاطلاع. وقد كتب عن عراك صلاح مع الحزب الشيوعي الدكتور عبد الله علي إبراهيم (سودانايل 28/5/2015)، وذكر أنه كتب مقالة من ثلاث حلقات استسخف فيها، مع تفهمه للدوافع، حسب تعبيره، "ثأرية صلاح الناشزة وجفاء عبارته"، بحق عبد الخالق محجوب وعمر مصطفى المكي. وذكر أنه "أعلن الحب على صلاح بغير مواربة وعلناً"، من على صفحات جريدة "الميدان". غير أن تلك "الهرطقة"، حسب قوله، لم تعجب أسرة تحرير الميدان، فكفت عن النشر منذ الحلقة الثانية. فاتصل بعبد الخالق وحكا له ما جرى، فطيَّب عبد الخالق خاطره، وذكر له من الضروري أن يفرق الشيوعيون بين صلاح الشيوعي السابق وصلاح الشاعر، وواصلت الميدان فنشرت المقالة الثالثة. أصل العلة فيما أرى، في عدم الانعتاق من يباس اللينينية وقيد الواقعية الاشتراكية. وهو قيد لا تزال أقدام الحزب راسفةً فيه. (يتواصل)
|
Post: #192
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-17-2020, 00:39 AM
Parent: #191
التكلُّس اليساروي: شيطنة جلبير الأشقر (21) النور حمد صحيفة التيار 17 أكتوبر 2020 في فبراير من هذا العام، دعا الحزب الشيوعي السوداني الأكاديمي المرموق جلبير الأشقر، لتقديم محاضرة لعضوية الحزب، بعنوان: "التحديات التي تواجه الثورات على المستوى الإقليمي ومآلاتها". وكانت الدعوة بمناسبة التحضير لمؤتمر الحزب. وصل الأكاديمي المرموق، أستاذ دراسات التنمية والعلاقات الدولية بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن إلى السودان تلبيةً للدعوة. غير أن الأوساط السياسية والثقافية فوجئت ببيان صادر للحزب على صفحات فيسبوك يقول فيه: "تمت مقابلة الأشقر في المركز العام الخميس 13 فبراير2020م بناءً على معلومات خاطئة. فقد أكد الحزب الشيوعي اللبناني للحزب الشيوعي السوداني أن جلبير الأشقر ليس عضوًا فيه. وأضاف البيان أن معلومات رشحت بأنه كان يعمل مستشاراً للجيش البريطاني ووزارة الدفاع البريطانية، ومستشاراً لدى المركز القطري/الإخواني الذي يديره عزمي بشارة. وعلي ضوء ذلك قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني إلغاء اللقاء المزمع معه. وكذلك إلغاء ندوة الاثنين 17 فبراير المُعلنة التي كان من المفترض أن يتحدث فيها". وعلى أثر ذلك، كتب صلاح جابر، مقالاً تحت عنوان: "الحزب الشيوعي السوداني يكشف التروتسكي المشبوه جلبير أشقر". وقد لخَّص عنوان مقال صلاح جابر، في تقديري اللينينية المعششة في أذهان عضوية الحزب الشيوعي السوداني، بما لا مزيد عليه.
رد الأكاديمي المرموق جلبير الأشقر على بيان الحزب الشيوعي السوداني المضطرب، سيء الصياغة قائلاً: إنه جاء إلى السودان بناءً على دعوة وصلته من لجنة التحضير لمؤتمر الحزب. مؤكدًا أنه لم يدَّعِ قط أنه عضوٌ في الحزب الشيوعي اللبناني، وذكر أنه منتمٍ إلى حزب العمال البريطاني. كما نفي اتهام الحزب الشيوعي السوداني له بأنه عمل مستشاراً للجيش البريطاني، واصفًا ذلك بأنه افتراء مغرض. كما نفى أن يكون مستشاراً لدى أي مركز قطري/إخواني، موضِّحًا أنه عضو في الهيئة الاستشارية لمجلة (سياسات عربية) التي تصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يديره عزمي بشارة، والتي تضم 22 باحثاً وأكاديمياً، مضيفًا أنه لا يتقاضى أي أجر لقاء تلك العضوية.
علق على ذلك الموقف أيضًا، سلام الكواكبي بقوله: "في صياغةٍ وفيةٍ لما حفلت به أدبيات سياسية عقودًا خلت، حيث كانت العبارات الخشبية هي سيدة الموقف ... أقدم الحزب الشيوعي السوداني على إصدار بيانٍ مستقى من مكارثية مستجدّة، بحق الكاتب والأكاديمي، جلبير الأشقر، عازفاً عن استقباله، بعد أن وجه إليه دعوة للحديث أمام منتسبيه. وقد استند هذا الحزب، في بيانه الشبيه ببيانات أجهزة المخابرات العربية على معلومات وردت إليه من الحزب الشيوعي اللبناني". وتساءل الكواكبي: "ماذا حصل اذاً للحزب الشيوعي السوداني، الذي كان مشهوداً له بالنضال الحقيقي ... والذي عرف قياداتٍ تقرأ وتفهم، ليجعله يصل إلى مستوىً من الضحالة الفكرية، لتبرير منع أكاديميٍّ مشهودٍ له باحترام المعايير العلمية في أعماله".
هكذا فضحنا الحزب الشيوعي بسبب "لينينيته" و"مكارثيته" أمام ضيف دعاه بنفسه وأمام مجمل الوسط الأكاديمي والثقافي العربي بحججٍ غايةٍ في التخلف. تصور حزبًا يدَّعي الحداثة والديموقراطية، يمنع ضيفًا دعاه هو بنفسه بعد وصوله للبلاد من التحدث متعللاً بمثل هذه الوساوس. فهل كون الضيف ليس عضوًا في الحزب الشيوعي اللبناني سببٌ كاف لعدم مقابلته ولمنعه من التحدث. وهل كونه عضو في الهيئة الاستشارية لدوريةٍ أكاديميةٍ مُحَكَّمة سببٌ آخر للمنع؟ ثم كيف تحقق الحزب من التهم الأخرى التي رمى بها الرجل؟ تمثل هذه الحادثة المؤسفة في تقديري أن هذا الحزب يعاني من خواءٍ معرفيٍّ وعدم قدرة على إحسان التصرف. (يتواصل).
|
Post: #193
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-17-2020, 08:40 PM
Parent: #192
التكلس اليساروي: مفهوم اليسار العريض (22) النور حمد التيار 18 أكتوبر 2020 كتب عاطف عبد الله في كتابه "طائر النوء: قطار الشهيد عبد الخالق محجوب: مدخل إلى التجديد"، الصادر عن دار الياسمين (2015)، يشرح جانبًا من فكرة اليسار العريض مشيرًا إلى "برنامج الحزب الاشتراكي "1966 و"برنامج التحالف الديمقراطي "، 1986 قائلًا إنهما، تقريبًا، يمثلان برنامج التحول الديموقراطي نفسه، الذي وصفه بأنه "لا يزال عالقًا حتى الآن". ويرى عاطف أن من الممكن أن يُطلق الشيوعيون والديمقراطيون الثوريون من خلال هاتين التجربتين ما أسماه "قطار عبد الخالق محجوب"، الذي يحمل، حسب وصفه، تحالف الشيوعيين والديموقراطيين الثوريين والمثقفين العلمانيين وكافة تحالف قوى اليسار، من أعضاء المنظمات الديموقراطية في الأحياء والمؤسسات التعليمية ومراكز العمل، إضافة إلى مواقع العمل والمؤسسات التعليمية.
لكن، لكي يتحقق كل ما تقدم، يرى عاطف، لابد أولا: من، "قيام حزب ليبرالي يضم ويجذب مختلف القوى الليبرالية والديموقراطية باسمٍ جديدٍ وبرنامجٍ جديد، وبعضوية تضم أعضاء الحزب الشيوعي الحاليين والديموقراطيين وأصدقاء الحزب والموالين له، حزب علني بدون أسماء حركية، ويعمل في العلن وفي ظل القانون، وبأهداف لا تخرج عن تحقيق الديموقراطية الليبرالية والعدالة الاجتماعية وبسط الحريات الأساسية". أي، ما أسماه عاطف (تحقيق برنامج التحول الوطني الديموقراطي) . أما ثانيًا، فإن عاطف يري لابد من: "العمل على إعادة بناء الحزب الشيوعي على أسس ماركسية لينينية عبد الخالقية، مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات العالمية والنظريات المتجددة في مجال تطور قوى الإنتاج في ظل الثوة العلمية التكنولوجية حيث الثروات تتراكم من الحقوق الفكرية ومن ناتج المجهودات الذهنية والبرامج الحاسوبية أضعاف، أضعاف ما تراكم من بيع الجهد العضلي وفائض القيمة"، (ص ص 216 -217).
إذن، الحديث عن ضرورة تشكيل تحالف يساريٍّ عريض فكرةٌ داعبت عقول عدد من المنتمين إلى الحزب والعاطفين عليه، سواء بسواء. لكن مما يمكن ملاحظته في عجالةٍ على طرح الأستاذ عاطف عبد الله، أنه بعد أن تحدث عن ضرورة خلق تحالفٍ يساريٍ عريضٍ، عاد مرَّةً أخرى ليتحدث عن: "العمل على إعادة بناء الحزب الشيوعي على أسس ماركسية لينينية عبد الخالقية". وهكذا، وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا، وكما يقولون فإن الطبع يغلب التَّطَبُّع. فالماركسية اللينينية لم تطرح الديموقراطية الليبرالية نهجا للتغيير، وإنما دعت إلى تحقيق "ديكتاتورية الطبقة العاملة" عبر العنف الثوري. وعبد الخالق الذي يراه الأستاذ عاطف صاحب تطويرٍ سودانيٍّ للنظرية الماركسية اللينينية لدرجة أنه قال: "على أسس ماركسية لينينية عبد الخالقية"، هو نفس عبد الخالق محجوب الذي انتهج أسلوب الانقلاب العسكري، عندما انقسم حزبه، وعندما قامت مجموعة أحمد سليمان ومعاوية سورج ومنصور محجوب ورفاقهم بوضعه وحزبه على الرف. تمامًا مثلما فعل الإسلامويون بمرشدهم الدكتور حسن الترابي، عقب المفاصلة. إن وضع إخوتنا الشيوعيين وضعٌ موسفٌ حقًا. فهم كلما حاولوا فك أقدامهم من قيد هذه التجربة المضطربة المتناقضة، نراهم يعودون إليها من جديد وهم أكثر شوقا ووجدا. ويبدو أن الإديولوج لا يخرج من قبضة حتمياته "المحفوظة"، "بأخوي وأخوك".
يتهموننا بالانحياز للرأسمالية المتوحشة وبكل الموبقات الموصوفة في أدبياتهم التكفيرية، ولا يتوقفون هنيهةً لمعرفة حقيقة ما نقول. فهل يا ترى قرأوا الكتاب الذي حرره الدكتور صديق الزيلعي حول إمكانية تجديد الحزب الشيوعي السوداني؟ وهل وقفوا على ما طرحته الأقلام التي أسهمت بالمواد التي ضمها ذلك السفر القيِّم؟ عمومًا، سوف لن نتوقف عن دك معاقل التشنيع والتخوين والتخويف ولن نكف عن تكسير صنم هذه الكهانة العلموية المخربة للعقول والمعيقة لتخلُّق يسارٍ سودانيٍّ معتدلٍ فاعلٍ. فطالما عطلت البلاد بنرجسيتها النضالي وعبادتها لماضيها ونزقها و"مشاترتها".
|
Post: #194
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-18-2020, 08:05 PM
Parent: #193
التلُّكس اليساروي: نرجسيةٌ عوَّقت اليسار (23) التيار 19 أكتوبر 2020 النور حمد لمست في المقالة السابقة مسألة اليسار العريض لمسًا خفيفا. وقلت إن اليسار السوداني كان نزوعًا فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا، حلم بالتحرر من ربقة الاستعمار ومن قبضة التقاليد البالية، ومن قبضة الطائفية على رقاب الناس، بسبب الجهل والفقر. وقلت إن اليسار بهذا المعنى الفضفاض سابق لنشوء الحزب الشيوعي السوداني. وسأحاول في هذه المقالة إيضاح بعضٍ مما أجملته هناك، بقدر ما يسمح به هذا الحيز. وأدلف مباشرة إلى القول إن التَّخندُق الأيديولوجي أضر باليسار السوداني العريض وعوق نموه وحال بينه وبين أن يصبح جبهة عريضة وقوة انتخابية مؤثرة. لم يستطع الشيوعيون انتزاع عقولهم من الفكرة القديمة التي تريد أن تخلق إيديولوج مُنمَّط، من كل من أراد الانتماء إليهم. تماما كما تريد الجماعات الدينية أن تخلق نسخةً طبق الأصل من "المؤمن" الجديد الذي طرق بابها. لو كان الحزب الشيوعي يريد أن ينتهج النهج اللينيني وأن يوصل المجتمع السودان عبر الثورة العنيفة إلى دكتاتورية البروليتاريا، لكان ما ظل ينتهجه مقبولا. لكن إذا كان الحزب قد اختار طريق الديموقراطية للوصول إلى السلطة، فإنه لا يحتاج إلى أعضاء عقائديين بقدر ما يحتاج إلى عضوية عريضٍة قابلة لأن تمنح البرنامج اليساري صوتها في الانتخابات. لقد نجح الترابي بفضل مرونته التكتيكية في أن يخلق جبهةً عريضةً حول الشعار الاسلامي الفضفاض، فأحرز في انتخابات الديمقراطية الثالثة التي أعقبت ثورة أبريل 1985، 51 مقعدًا في البرلمان، في حين تراجع الحزب الشيوعي من 11 مقعدًا عقب ثورة أكتوبر 1964 إلى 3 مقاعد فقط، عقب ثورة أبريل 1985، كما سبق أن أشرت فأنظروا إلى كسب جبهة الترابي الضخم، وخسارة الحزب الشيوعي الضخمة في مدى عشرين عاما. نرجسية الحزب الشيوعي، وفتونه بصورته الأولى التي كانت له في شبابه، وشعور قيادته وعضويته بالتميز وبـ "اصطفاء الحتمية التاريخية لهم"، بما يشبه ما يشعر به المتدينون المتعصبون، هي التي عوَّقت نمو التيار اليساري العريض الذي ينبغي أن يقلب الطاولة على اليمين المسيطر منذ الاستقلال. ولقد نبَّهت في مقالاتٍ عديدة إلى أن الفترة الانتقالية سوف تنتهي قريبًا جدًا ولا يوجد في الساحة أي جهدٌ لتشكيل جبهة يسارية عريضة. فقلد بقي الحزب الشيوعي وأحزاب البعث، بسبب العقائدية والجمود، والنرجسية، عائقًا أمام تخلق قوى يسار عريض، قادرة لأن يكون لها وزن في صناديق الاقتراع. العقائدية الجامدة التي تظن أن السماء قد عقدت لها على خناصرها لواءات النصر وأنه لن يقود الشعب سواها، بقيت عقبةً كأداء أمام جهود تخلُّق يسارٍ عريضٍ فاعل. أعني خلق يسارٍ يكون على الأقل معادلاً في القوة الانتخابية لقوة اليمين، أو متفوقًا عليها. غير أن هذا لن يحدث ما لم تغير أحزاب اليسار جلدها وتخرج من كهفها التاريخي، لتفهم دور اليسار في هذه المرحلة فهمًا موسعًا وعميقا. إن أحلام استغلال الفترة الانتقالية لقلب الطاولة على اليمين باسم الشرعية الثورية بتكتيكاتٍ هزيلةٍ، لن تلفح إلا في تأخير عقارب الساعة. فلقد جرى تجريب القفز بالإجراءات استنادًا على الشرعية الثورية، عقب ثورة أكتوبر، وكذلك، عقب ثورة أبريل وكان الفشل حليف التجربتين. وهاهم الآن يحاولونها، عقب ثورة ديسمبر. أما فشلها الأكبر من كل ما سبق فسوف يظهر حين يجري فتح صناديق الانتخابات التي ستجري عقب الفترة الانتقالية الحالية، إن نحن بلغنا تلك المرحلة بسلام. وبيننا وبينهم الأيام، "قل انتظروا إنا معكم منتظرون". (يتواصل).
|
Post: #195
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-19-2020, 11:25 PM
Parent: #194
التكلُّس اليساروي: نحو ختامٍ للسلسلة (24) النور حمد صحيفة التيار 21 أكتوبر 2020 تواترت هذه المقالات لتصبح ملخصاتٍ وخطوط ٍعريضةٍ، تمثل كل مجموعة منها فصلاً من كتاب سأعمل على إخراجه قريبا. ومبتدأ هذا الأمر قناعتي الراسخة، التي كثيرًا ما أعلنت عنها، وهي أن التاريخ السوداني مليء بالزيف، ويشمل ذلك تاريخنا الاجتماعي والسياسي. تجنح الأحزاب، الطائفية، والعقيدية إلى خلق سردية نظيفةٍ من غير أي شوائب ليتغذى منها الولاء الشخصي للمنظومة. كما تصبح، هذه السردية التي تغلب عليها "الفبركة"، شبكةً لاجتذاب قادمين جدد إلى دائرتها المغلقة. تميل العقائدية، بحكم تكوينها الملتف حول مركزٍ متكلِّسٍ، إلى تزكية الذات والإعلاء من شأنها. ومن هنا يجيء الضيق ذرعًا بالنقد. فهي أحزاب عقيدية اختلطت العقيدة الدوغمائية فيها بمزاجٍ بدوي أساسه الفتون بالذات وعبادتها. وهذا هو ما جعلنا فاشلين في العمل الجماعي التوافقي. ولا أعرف قطرًا، لا في محيطنا الإقليمي ولا في المحيط الدولي، اتسم أهله بعدم القدرة على العمل الجماعي، وعلى عدم القدرة على الاستماع لبعضهم بآذانٍ مفتوحة، مثلنا. كل قبيلٍ منا يدور داخل في دائرته المغلقة ويصرخ من تلافيفها مناديًا، محاولاً كبس الجميع في "كستبانتهٍ" تخصه وحده وهي لا تتسع لشيء.
أرجو أن نكون قد خرجنا باقتلاعنا نظام البشير الانقلابي من الدائرة الشريرة للانقلابات العسكرية التي أهدرت من عمر السودان المستقل 52 عامًا أُنفقتها الأنظمة العسكرية المتعاقبة في التجريب العشوائي. لذلك يميل الخطاب السياسي لدينا إلى إلقاء اللوم على العسكر، في حين أن الحقيقة الغائبة أو المُغيَّبة، على الأصح، أن العسكريين لم يأتوا إلى الحكم، قط، من غير أن يكون المدنيون طرفًا فاعلاً في مجيئهم. فقد ظل المدنيون يعملون على الدوام لأن تكون لهم أذرعًا داخل الجيش. تغلغل الشيوعيون والبعثيون والإسلامويون وسط الجيش وفق خطط ممنهجة. كما فعل ذلك حزبا الأمة والحزب الاتحادي، ولكن بقدرٍ أقل. وأبعد هؤلاء عن التوبة النصوح هم العقائديون اليسارويون، وأعني تحديدًا الشيوعيين والبعثيين. ففي حين ترتضي الأحزاب التقليدية بالديموقراطية، لا إيمانا راسخًا بها وإنما لكونها لا تزال تأتي بهم إلى الحكم، فإن العقائديين اليسارويين لا يؤمنون بها إلا نفاقًا. فهم حين يعلنون الإيمان بها، يستبطنون الرغبة في السيطرة على السلطة، منفردين. والآلية التي يظن هؤلاء أن سوف تضع السلطة في أيديهم هي آلية "الشرعية الثورية"؛ عقب أي ثورة، عبر سرقتها والإمساك بعجلة قيادتها.
قد طالعت كثيرًا من ردود الشيوعيين على مقالاتي هذه، فلم أجد فيها سوى إغراقًا في ممارسة نفس النهج القديم في الشيطنة وكيل التهم الملفقة. غير أن سوق هذا النهج الغث قد بار، بفضل الله، ثم بفضل تقدم الوعي، وتقدم تقنيات النشر الموسَّع. لقد أظهرت الردود على مقالاتي لينينيةً قُحَّةً، وكأننا لا نزال نعيش في العقد الثاني من القرن العشرين. والحمد الله الذي سخَّرنا لاستنطاقهم حتى يشهدوا على أنفسهم بأنفسهم، من جديد. ومن فضل الله على حراك الوعي في السودان أن ثورة ديسمبر جاءت من حيث لم يحتسب أحد من أدعياء التحكم في مسار التاريخ. لقد كانت ثورةً سلميةً، لم تجنح قط للعنف، رغم ما واجهته من بطش. فقد كانت بطبيعتها تلك، ضد العسكر، وضد الحزبيين الذين طالما زرعوا عضويتهم في الجسم العسكري السوداني، بل ومارسوا الانقلاب العسكري جهارًا نهارا. خلاصة القول، رغم بقايا الطائفية والعشائرية في مجتمعاتنا، لا مجال لغير الاحتكام لصناديق الاقتراع. أما سرقة السلطة المطلقة عبر "الشرعية الثورية" فلم تعد سوى ضربٍ من ضروب "أحلام ظلوط".
|
Post: #196
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-20-2020, 10:54 PM
Parent: #195
التكلُّس اليساروي: الحلقة الأخيرة (25) النور حمد صحيفة التيار 21 أكتوبر 2020 على الرغم من أن الشيوعيبن لا ينفكون ينفون طبيعة تفكيرهم الانقلابي، لكنهم، في ذات الوقت، يخطون بأقلامهم ما يؤكد تلك الطبيعة المدمرة، التي لازمت البنية المفاهيمية والتنظيمية لحزبهم ذي الطبيعة الانقلابية. من أكثر الكتب التي وفرت لي ولكل قارئ، فيما أحسب، شهاداتٍ واضحةٍ نسفت الشك باليقين حول الطبيعة الانقلابية للحزب الشيوعي السوداني، لذلك الكتاب الذي أعده الدكتور عبد القادر الرفاعي، عضو اللجنة المركزية للحزب. حمل الكتاب عنوان، "الرائد الشهيد هاشم العطا"، وهو من إصدارات مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، في عام 2018. في هذا الكتاب شهادات غاية في الوضوح عن تدبير الأستاذ عبد الخالق محجوب لانقلاب يوليو 1971 بالتنسيق مع الجناح العسكري للحزب في القوات المسلحة. والكتاب في جملته وثيقة ضخمة تكشف كثيرًا مما اكتنف حركة يوليو 1971 من غموض. يقع الكتاب في 560 صفحة من القطع الكبير. ولم أجد في مقالاتي الخمس وعشرين التي تمثل هذه المقالة خاتمتها فرصة لأناقش ما ورد في هذا الكتاب المهم. لكن، سوف يكون لديَّ متسعٌ من الحيز لأناقش ما جاء فيه في واحد من فصول الكتاب الذي أنوي إخراجه، قريبا بإذن الله.
ما يمكن أن أخلص إليه ونحن نعاني آلام المخاض العسير لميلاد الديموقراطية الرابعة في هذا الظرف الحرج، بالغ الدقة، أنه لا مجال لكي يتحكم فينا إيديولوج مرَّةً أخرى. فقد أخذنا نصيبنا من هذا النوع من التحكم في عقولنا وضمائرنا، وحركاتنا، وسكناتنا، عبر الثلاثين عامًا المنصرمة من حكم الإسلامويين. مشكلة الإيديولوج أنه لا يرضى الشراكة في الحكم، وإنما يريد أن يحكم منفردا. ولكي يحكم منفردًا فهو لا يملك إلا أن يمارس العسف والعنف. فهو صاحب خارطة طريق ترتكز على نظرية كلية يرى أنها كاملةً ومطلقة الصحة وقادرةٌ على الدوام على تفسير الظواهر وابتداع الحلول بناءً التنبؤات التي وضعتها تلك النظرية وهي تستقرئ التاريخ، وكذلك، وهي تستشرف المستقبل. ولا أرى اختلافًا ذا بال بين الإسلامويين والشيوعيين في اعتقادهم بمطلق صحة ما يعتقدون، وإن اختلفت المرجعية. لقد لجأ القوميون العرب والشيوعيون والبعثيون وتيار الإسلام السياسي في السودان إلى الانقلابات العسكرية، ليقينهم الراسخ أن أحزابهم لن تصبح أحزابًا جماهيرية ذات وزن انتخابي يوصلها إلى السلطة. كما لجأت، هذه التنظيمات، أيضًا، إلى أسلوب سرقة الثورات كتكتيك بديلٍ للانقلابات. غير أن الزمن السوداني، تعدى هذا النوع من الألاعيب. لن تستقر الديموقراطية ويرسخ مسارها ما لم تتشكل كتلتان كبيرتان؛ تمثل إحداهما برامج وسياسات اليمين الرأسمالية المحافظة، التي تطلق العنان لقوى السوق، وتقيد برامج الرعاية الاجتماعية، في حين تمثل الأخرى برامج وسياسات اليسار ذات التوجه الاشتراكي الذي تضع فيه الحكومة بعض القيود على قوى السوق كما تنشط في برامج الرعاية الاجتماعية، وفي العمل على ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء عبر إصلاحات مستمرة.
لكي تتشكل هاتان الكتلتان لابد أن ينهزم أهل الأيديولوجيا القابضة المتكلِّسة، بجميع مشاربهم. أعني أن ينهزموا جماهيريًا وأن تنغلق أمامهم أبواب الانقلابات العسكرية، وأبواب سرقة الثورات. فيضطرون للعمل التشاركي الشفاف لخلق التحالفات البرامجية والسير في وجهة تشكيل كتلة يسارية كبيرة تناضل سلميًا لتصل إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، وتصبر على بث الوعي وترفيه الممارسة السياسية مهما طال انتظارها للوصول إلى السلطة. أما اليمين فهو موجود بطبيعة الحال، لأنه هو التجسيد القائم في كل وقت لتاريخ المظالم وإعادة انتاجها. خلاصة القول، التمسك بطروحات الأيديولوجيا الكلية القابضة في السياق الكوكبي الراهن، وخاصة في السياق السوداني بخصائصه التي نعرفها، باطلٌ وقبْضُ الريح. (انتهى)
|
Post: #197
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-23-2020, 07:00 AM
Parent: #196
الأزمات المُزمنة في السلع الضرورية (1) النور حمد صحيفة التيار 23 أكتوبر 2020 هناك أمورٌ محيِّرةٌ جدًّا يتفرد بها السودان، دون غيره من أقطار العالم. من هذه الأمور ظاهرة استطالة أمد الأزمات في السلع الضرورية. فكل من زار أقطار الجوار، وهي أقطار تشابهنا في أحوالها من حيث تخلف التنمية وضعف الاقتصاد، إلا أننا لا نرى فيها مواطنين مصطفين لأخذ حصصهم من السلع الضرورية. لا توجد، على سبيل المثال صفوفٌ للخبز وللوقود ولغاز الطهي في دول جوارنا؛ لا في إثيوبيا ولا في كينيا ولا في يوغندا ولا في جيبوتي ولا في الصومال ولا في تشاد. ولو صحت هذه الملاحظة، وهي عندي صحيحة، لأنني زرت أكثرية هذه الأقطار المحيطة بنا، ولم ألحظ وجود مثل هذه الصفوف، فإن الاستنتاج الطبيعي الذي يمكن أن يصل إليه المرء هو أننا نعاني من علِّةٍ مستفحلةٍ تخصنا وحدنا. يضاف إلى ذلك أننا، لسببٍ ما، قد عجزنا عن تشخيص هذه العلة، وبالتالي فشلنا في التوصل إلى طريقةٍ لإبرائها.
لقد بدأت ظاهرة صفوف السلع الضرورية في بلادنا في سبعينات القرن العشرين، في فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري. فعاصمتنا ومدننا وقرانا، لم تعرف قبل فترة حكم نميري، صفوفًا أمام المخابز، ولا أمام محطات الوقود. أما غاز الطهي فلم يكن استخدامه قد اتسع بعد في تلك الفترة، خاصةً في الأرياف. يضاف إلى ذلك، أن أعداد السيارات لم تكن بهذه الكثرة التي نراها بها اليوم. وهي كثرةٌ لا تتناسب مع الأحوال الاقتصادية العامة للمواطنين ولا مع مستوى اقتصاد البلاد. ويبدو، علاوةً على السياسات الخاطئة، التي جعلت قطاع النقل العام ضعيفًا، الأمر الذي اضطر المواطنين إلى امتلاك السيارات الخاصة. أيضًا، هناك "الاغتراب"، في دول النفط وغيرها، الذي مكَّن الأسر متوسطة الحال ودون المتوسطة الحال من اقتناء السيارات. وكل هذا نتاجٌ لأخطاء التخطيط والسياسات. فمع الهجرة الكثيفة من الأرياف إلى المدن وعلى رأسها العاصمة المثلثة، أصبحت السيارات والحافلات الصغيرة والسيارات الصغيرة وغيرها من المركبات كسيارات "أمجاد"، و"الركشات" وسائل لزيادة الدخل الأسري، ما فاقم من عدد المركبات، وأحدث، من ثم، زيادةً مهولةً في الطلب على الوقود.
تحدث الظواهر السالبة نتيجة لأخطاء في السياسات وفي السياسة. وهي غالبًا ما تكون غير متعمَّدة، وإنما ناتجة عن ضعفٍ في الكفاءة وقصورٍ في الرؤية وعدم دراية بالتخطيط الحاذق. لكن تلك الظواهر السالبة؛ كالأزمات في السلع الضرورية، لا تلبث أن تتحول إلى أداةٍ سياسيةٍ يستخدمها قبيلٌ من أجل الكسب السياسي. فلقد كان جزءٌ من الأزمات في حقبة نميري من صنع القوى التي كانت تعارض نميري. وأعني هنا تحديدًا ما كانت تسمى "الجبهة الوطنية"، التي ضمت حزب الأمة والاتحاديين وجماعة الإسلام السياسي. وفي حقبة الديموقراطية الثالثة (1985 -1989)، استخدم الإسلامويون أذرعهم الاقتصادية في خلق الأزمات، ضد حلفاء الأمس، تمهيدًا للانقضاض على النظام الديموقراطي عن طريق الانقلاب العسكري، وهو ما حدث بالفعل في عام 1989.
لقد أصبح خلق الأزمات في السودان سلاحًا سياسيًا. وما يجري الآن ليس منحصرًا في خواء خزينة الدولة من العملات الحرة، وحسب، وإنما هناك أيضًا قصدٌ مبيَّتٌ لإضعاف حكومة المدنيين وإظهارها بمظهر العاجز لأمرٍ في نفس يعقوب. وقد ساعد على هذا الوضع الشاذ حقًا، خلق نظام عمر البشير دولةً موازيةً تدير اقتصادًا آخر في الخفاء، لا تستطيع الدولة الأم رؤيته ولا التحكم فيه. إنها سياسة الضرب تحت الحزام التي أدمنتها نخبنا السياسية والعسكرية، سواءً بسواء. (يتواصل)
|
Post: #198
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-23-2020, 10:55 PM
Parent: #197
الأزمات المُزمنة في السلع الضرورية (2-2) النور حمد صحيفة التيار 24 أكتوبر 2020 فصلت بين بداية السبعينات من القرن الماضي وزمننا الحالي خمسون عامًا. ولقد بقيت الأزمات في السلع الضرورية وفي الخدمات الضرورية، عبر هذه الخمسين سنة المنصرمة، تراوح مكانها. فنخبتا السياسية ونخبنا العسكرية، كانت، في تقديري، هي الأفشل، من بين نخب العالم النامي، في خدمة الشأن العام. فكل شيء في بلادنا بقيَ مُجيَّرًا للصالح الجهوي؛ من حزبي، ومؤسسي، وقَبَلي، وطائفي، وشخصي. باختصارٍ، هناك علةٌ مزمنةٌ لم نعمل قط على تشخصيها ولا على إبرائها، من ثَمَّ. عادت، كرَّة أخرى، طوابير السيارات التي تبيت ليلةً وليلتين أمام محطات الوقود، إلى ما كانت عليه في فترة حكم جعفر نميري، والصادق المهدي، وعمر البشير. وعاد الناس يقفون على حواف الشوارع لوسائل نقلٍ لا تأتي. بل، زهد كثيرون في الحركة وبقوا في بيوتهم. وفي كل حيٍّ تكتظ واجهات الأفران بالمنتظرين للخبز طيلة اليوم. وهو خبزٌ لا تنفك موادُّه وصناعته تسوءان باضطراد. ولا أظن أن هناك شعبًا من الشعوب النامية تعرض للمهانة اليومية الممنهجة المتطاولة، بمثل ما تعرض له الشعب السوداني.
رأينا مرارًا وتكرارًا من يدلقون عجين الخبر في مكبات النفايات للتضييق على الشعب حتى يكره حكومته ويثور ضدها. غرضهم أن يعودوا إلى سرقة المال العام والرضاع من ثدي الدولة الذي عز عليهم الفطام منه. ورأينا الشاحنات التي تأتي إلى المخابز في جوف الليل لتأخذ كميات هائلة من الخبز، لا ندري أين تذهب. كما رأينا النخب العسكرية تخرج ما بين حين وآخر، لتتصدق على شعبها، وتمن عليه بذلك من على وسائط الإعلام بصدقةٍ تُقدَّمُ له ماله الذي لم يعد يملكه. ويجري ذلك على قاعدة قول المتنبي: "جوعانُ يأكلُ من زادي ويُمسكُني لكي يُقالَ عظيمُ القدرِ مقصودُ". كما رأيناهم يتباطأون في إسعاف أهلهم وهم في أوج المسغبة، وأموال الشعب في حوزتهم، استدرارًا لهباتٍ وعون يأتي من الخارج، لقاء مواقف سياسيةٍ مشتراة. ولربما يكون حرصهم على ألا ينفقوا مثقال ذرَّةٍ مما احتاشوه من المال العام، متطابقٌ مع خطة القوى الخارجية الكارهة للثورات، التي لا تريد أن يكون للشعوب صوت. فالخطة الموضوعة، فيما يبدو هي خنق الشعوب بالضوائق وشظف العيش، بل وبالمسغبة الشديدة، حتى ترضخ. فيأتيها العلف، وتستيقن حينها أن شرط العلف هو الصمت، والاكتفاء، من الآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بدورِ السائمةِ المعلوفة. لكن، هيهات، فما لهذا خُلق الإنسان.
لم تكن السياسية في أي يوم من الأيام لعبةً نظيفة. لكن ممارستها على المستوي الدولي، والإقليمي، والمحلي، قد ساءت في العقود الأخيرة، بصورةٍ بالغةِ الغرابة. لقد انقرضت، أو كادت، على مستوى الكوكب، النخب المبجَّلة من سياسيين مدنيين وعسكرين، ممن كانوا يهتمون بالشأن العام، أو، على الأقل، يولون الشأن العام جزءًا كبيرًا من اهتمامهم. وأمسكت بمقاليد الأمور نخبٌ سياسيةٌ؛ مدنيةٌ وعسكريةٌ لا ترى في السياسة ولا في العسكرية سوى منصة لملء جيوبها، وتحقيق مجدها الشخصي والأسري، وإنشاء امبراطورياتٍ صغيرةٍ تافهة، يعقبها فيما رأينا من حولنا خرابٌ عظيم. لقد تعمق وسط نخبنا المحلية؛ المدني منها والعسكري، ومنذ أمدٍ طويلٍ، نقصانٌ مريعٌ في الشعور بما يحيط بهم من فقرٍ ومرضٍ وسوء أحوال، حتى تحوَّلت تلك الغفلة إلى تبلُّدٍ شبه كاملٍ بلغ حد فقدان الحياء من الذات. نراهم في وسائط الإعلام؛ مدنيين وعسكريين، منخرطين في ذات الملهاة القديمة، فنتساءل: يا ترى، أي فعلٍ إيجابيٍّ ملموسٍ لهؤلاء في واقع حياتنا؟
|
Post: #199
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-24-2020, 09:25 PM
Parent: #198
الأجندة المُستتِرة للرافضين للتطبيع النور حمد صحيفة التيار 25 أكتوبر 2020 يمكن أن نحصر المنصات السياسية الرافضة للتطبيع في ثلاث: أصحاب الأجندة الإسلاموية، وأهل اليسار الماركسي والعروبي، والمتعلِّلين بمناصرة الشعوب المستضعفة والدفاع عن حقوق الإنسان. الفئتان الأُوْلَيان؛ وأعني أصحاب الأجندة الإسلاموية واليساروية، يتخذون من التظاهر بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين ذريعةً للمناورة السياسية لخدمة أجندتهم الحزبية في الصراع السياسي الدائر حاليًا في الساحة السياسية السودانية. فالإمام الصادق المهدي اختار أن يركب في هذه القضية على سرج الإسلامويين. السبب، أنه مشدودٌ للجذر الديني لطائفة الأنصار وللارتباط العضوي لمشروعه السياسي بهذا الجذر، ولرؤيته لذاته كـ "مُخَلِّص" وصاحب رسالة "إسلامية"، ديني/سياسية. هذا في حين يقف ابن عمه، السيد، مبارك الفاضل المهدي، منه في موضوع التطبيع، على طرف النقيض تمامًا. أما أهل اليسار الماركسي واليسار العروبي فيعتقدون أن إعادة إحياء الخط الناصري الصدامي الذي قضى نحبه منذ عقود، يتيح لهما لف الجماهير حول أجندتهم السياسية الراهنة. وهذه قراءة خاطئة تغفل التحولات في الوعي الجماهيري التي جرت في العقود الثلاثة الأخيرة. كما تهمل، أيضًا، التغيرات التي جرت للسياسات العربية، بما في ذلك الموقف الفلسطيني، منذ اتفاقية أوسلو. أما الذين يرفعون راية الدفاع عن الشعوب المستضعفة، فإنهم يزايدون بموقفٍ تركه الفلسطينيون، أهل القضية أنفسهم.
كانت حكومة الإسلامويين الإنقاذية في طريقها إلى التطبيع مع إسرائيل (راجعوا تصريحات وزير خارجية الإنقاذ، إبراهيم غندور – "الراكوبة" 16/1/2016). لذلك، فإن موقف الإسلامويين ليس مبدئيًا، وإنما هو موقف منفعة. فهم مع التطبيع إن أسهم في إطالة مدة حكمهم، وضده إن قام به خصومهم السياسيون. يريد الإسلامويون، حاليًّا، أن يستمر خنق المواطنين بالندرة عبر بقاء العقوبات في مكانها، ومن ثم، إحجام من في وسعهم تقديم العون للسودان من قوى المجتمع الدولي والإقليمي، عن تقديم أي عون للسودان، في هذه الفترة بالغة الحرج. فيثور الشعب على حكومته الانتقالية ويتحقق إجهاض الثورة.
أما التذرع بأن القرار ينبغي أن يصدر من حكومة منتخبة فهو تَذَرُّعٌ واه. فمجلس الوزراء والمجلس السيادي، مُجتَمِعَيْن، ظلا يقومان بمهمة التشريع في غياب المجلس التشريعي، ولم يعترض على ذلك أحد. فلماذا جاء الاعتراض حين دخل الأمر حوش السياسة الخارجية؟ لقد نصت الوثيقة الدستورية في بابها الثاني – "مهام الفترة الانتقالية"، على: "وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة وتعمل على تحسين علاقات السودان الخارجية وبنائها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها". فالقول بأن قرار التطبيع لابد أن يأتي من حكومة منتخبة، مجرد تَمَحُّك لا أكثر.
لقد خرقت قوى المواجهة مع إسرائيل مقررات مؤتمر الخرطوم ولاءاته الثلاث. فقد طبَّعت مصر وطبَّعت الأردن وطبَّع الفلسطينيون، واعترفوا بدولة إسرائيل، بل أصبحوا ينسقون معها أمنيا. فما الذي يجعل قطرًا كالسودان، يبعد آلاف الكيلومترات من إسرائيل، رافضًا للاعتراف بإسرائيل؟ ومن قال إن التطبيع يمنع انتقاد السياسات الإسرائيلية الخاطئة؟ فالعالم ينتقد الصين لتجاوزاتها ضد المسلمين الإيغور، وينتقد ماينمار لتجاوزاتها ضد أقلية الروهينقا، وينتقد السودان للتطهير العرقي الذي ظل يجري في دارفور لخمسة عشر عامًا. فهل اقتضى ذلك قطع العلاقات مع الصين وميانمار والسودان؟ وتحتل مصر إقليم حلايب السوداني منذ ربع قرن فهل قطعنا علاقتنا مع مصر بسبب ذلك؟ إن الغرض السياسي يقود كثيرًا من القوى السياسية لدينا للاتجار المتهافت بالخطاب الشعبوي لخدمة الأجندة الحزبية الآنية. إن الانفلات السوداني من قبضة الخطاب العروبي التالف، يعيد السودان لطبيعته الشرق إفريقية ولخصوصيته وهويته المضيعة.
|
Post: #200
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-26-2020, 00:09 AM
Parent: #199
رفع العقوبات هو المهم النور حمد صحيفة التيار 26 أكتوبر 2020 معارضو التطبيع، أصحاب الأجندة المستترة، يحاولون صرف أنظار الشعب عن القضية الأهم وهي إخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات، إلى القضية الأقل أهمية وهي التطبيع مع إسرائيل. يحاول معارضو التطبيع إحداث زوبعة سياسية يظنون أنها تخدم أجندتهم السياسية التي تعثرت بسبب حساباتهم الخاطئة، وانحصار همهم في المصالح الحزبية الضيقة، وتقديمهم لها على مصلحة البلاد العليا. لقد أدخل الإنقاذيون السودان في كارثة مستطيلة وهي كارثة العقوبات التي استمرت لعشرين عاما. وضعت الولايات المتحدة الأمريكية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب وأوقعت عليه عقوبات اقتصادية في نهايات الفترة الثانية من حكم الرئيس بيل كلينتون في عام 1997. وكان التسبيب لذلك الإجراء هو مواصلة السودان دعمه للجماعات الإرهابية، وجهوده المستمرة في زعزعة استقرار دول الجوار، وانتهاكاته المتكررة لحقوق الإنسان. في يناير 2017 رأت حكومة الرئيس السابق باراك أوباما، وهي في أخريات أيامها، في السلطة، أن السودان أحدث تقدمًا يستحق عليه تخفيف العقوبات. خفف الرئيس أوباما العقوبات وترك الباب مواربًا للرئيس القادم، حينها، دونالد ترمب ليواصل المسار ويرفع العقوبات بصورة نهائية.
لقد أوقع وضع البلاد في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإنزال العقوبات الأمريكية عليها أضرارًا اقتصادية بالغة. ظن الانقاذيون أنهم بالاتجاه شرقًا نحو الصين وغيرها من دول جنوب شرق آسيا، سوف يجعلون العقوبات الأمريكية بلا تأثير. غير أن الأيام أثبتت سذاجتهم السياسية وضمور معرفتهم بمجريات السياسة الدولية. فبعد أن تسبب الإنقاذيون في فصل الجنوب بنفس تلك السذاجة السياسية، أدركوا عمليًا التأثير المدمر لفقدان ريع النفط، فعادوا يستجدون أمريكا رفع العقوبات. لم يقم الرئيس ترمب بأي تقدم في الوضع الذي تركه أوباما. ورغم أنه قدم خطة للشرق الأوسط ووثق صلاته بالمملكة العربية السعودية وبدول الخليج، إلا أنه لم يلتفت إلى السودان إلا مؤخرا. مع تضاؤل فرصه في الفوز بفترة حكم ثانية في انتخابات نوفمبر القادم، أراد ترمب أن يتقرب إلى اللوبي اليهودي بتوسيع دائرة السلام الإسرائيلية مع الدول العربية. فكان التطبيع مع كل من الإمارات والبحرين، ثم لحق بهن السودان في مسار مختلف نوعا ما. لم تكن أمام السودان أي فرصة ليخرج من الانحدار المستمر صوب الهاوية من غير أن ترفع عنه الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات، التي كانت سوف تلقي به في الهاوية، لا محالة. في مثل هذا الوضع يوازن السياسي الحصيف بين نهج الصدام الذي يقف وراءه كبرياء زائف، يؤدي إلى الانهيار الكامل، وبين واقعية سياسية توقف الانهيار ليبدأ الصعود. وهناك صلة قوية بين إخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية عنه، من جهة، وبين إعلان السلام مع إسرائيل، من الجهة الأخرى. ورغم أن حكومتنا قالت قبل أيام أنه لا ارتباط بين الأمرين، لكن تسارع الأحداث أثبت عكس ذلك تمامًا. وهكذا هم سياسيونا لا ينفكون يراوغون بلا داع.
الذين يحاولون إثارة زوبعة حول مسألة التطبيع يحاولون صرفنا عن مكسب الخروج من حفرة دعم الإرهاب. هؤلاء يسيرون على ذات خط البشير الصدام، العبثي، العدمي، الخادم لأجندة المتوهمة عابرة الأقطار. لقد ترك أهل القضية الأصليون أنفسهم خط الصدام، فأصبحوا ينعمون بأحوال عامة أفضل منا بكثير . فهم مرتبطون عضويًا بالعالم وتتقدم أحوالهم العامة تبعًا لذلك. يلتقون بالإسرائيليين صباح مساء ويأخذون ويردون معهم ويصفو الجو بينهم حينًا ويتعكر أحيانا أخرى. في حين ندفع نحن ثمن "المقاومة" بالتردي المستمر في أحوالنا العامة، ومغالبة النتائج الكارثية لركلنا خارج دائرة العصر.
|
Post: #201
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-29-2020, 01:59 AM
Parent: #200
حزب البعث متمسك باللاءات الثلاث!! النور حمد صحيفة التيار 29 أكتوبر 2020
شاهدت فيديو مبثوث على شبكة الإنترنت للسيد، علي الريح السنهوري أمين سر قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، القطر السوداني. في هذا الفيديو رد السيد السنهوري على ما ذكره السيد رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان في اللقاء الذي أجراه معه الأستاذ لقمان أحمد، مفندًا الزعم بأنه قد جرت مشاورته في قضية التطبيع مع إسرائيل. وأضاف السنهوري انهم يرفضون بصورةٍ مبدئيةٍ أي اتصال أو حوار يجري مع "الكيان الصهيوني". مؤكدا أنهم في حزب البعث لا يزالون متمسكين باللاءات الثلاث، التي أقرها مؤتمر القمة العربية الرابع، الذي انعقد في الخرطوم في 29 أغسطس 1967، بعد ما يقارب الثلاثة أشهر من هزيمة يونيو.
أكثر ما لفت نظري في البيان ذي الطبيعة الإنشائية الصدَّامية، إعلان السيد، علي الريح السنهوري، تمسُّك حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر السوداني بـ "لاءات الخرطوم الثلاث": "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف مع دولة إسرائيل". ولم يشر السيد السنهوري إلى أن هذه اللاءات قد نسفتها دولة المواجهة الرئيسية، مصر، باتفاقية كامب ديفيد بينها وبين إسرائيل في عام 1978. ووجه لها الفلسطينيون، أهل القضية أنفسهم، أكبر صفعة بتوقيعهم اتفاقية أوسلوا مع إسرائيل في عام 1993. ثم تلت ذلك الأردن بتوقيعها اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل في عام 1994. وأخيرًا باتفاقيتين حديثتين، جرى توقيعهما بين دولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين مع إسرائيل في شهر أكتوبر الجاري. ودعنا لا نذكر اتفاق السودان، موضوع الجدل الثائر حاليًا، حتى تكتمل فصولها. مع تجاهل السيد على الريح السنهوري لكل هذه الاتفاقيات، تجاهل أيضًا أن العراق قد وقع، بسبب التَّخبُّط الصدَّامي البعثي، والتخبُّط الأمريكي، في قبضة إيران منذ 2003. وها هي سوريا قد تحوَّلت على يد البعث إلى خرائب ترزح تحت قبضةٍ حديديةٍ لأوليغاركية أسرية يسيطر على مجريات الأمور فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إن المرء ليعجب أن يمارس سياسيٌّ مخضرمٌ متمرِّسٌ في العمل السياسي كالسيد علي الريح السنهوري، الهروب إلى الأمام من صدمة تحطم الحلم البعثي القومي عبر ما يقارب الخمسة عقود، بهذه الصورة العاطفية التي تستدر الشفقة والرثاء. لكنها الأيديولوجيا التي تجعل المرء يتجاهل الواقع الموضوعي الحي ليعيش في السرديات النافقة. لقد تحدث السيد علي الريح السنهوري، وكأن كل تلك الأحداث وكل تلك الاتفاقيات التي نسفت لاءات الخرطوم الثلاث، لم تحدث قط.
لقد نازعني عدد من المؤدلجين في حديثي عن "التكلس اليساروي". لكن، ها هو السيد على الريح يقدم لنا أسطع الأمثلة لما أسميته "التكلس اليساروي". لقد خرجنا بثورتنا من حفرة جعل السودان منصةً لمشروع إخواني، إسلاموي، أممي، عابر للأقطار، لنُفاجأ أن في حاضنتنا السياسية، وفي مجلس السيادة، وفي عديد المواقع الرسمية من تنفيذية وإعلامية، أشخاصٌ يعملون في خدمة مشروع قومي عربي عابر للأقطار، يستخدمون فيه السودان مجرَّد منصةٍ للانطلاق نحو الخارج، شأنهم شأن الإسلامويين. يقتضي التمسك باللاءات الثلاث أن يكون الرافضون للصلح والاعتراف في حالة حرب مع إسرائيل. فأين هي هذه الحرب الآن، بل أين هي دول المواجهة التي تحارب؟ لم أر في حياتي انفصالاً عن الواقع كالذي رأيته وأنا أشاهد هذا الفيديو للسيد، علي الريح السنهوري. على جماعة البعث، إن كانوا صادقين، أن يستقيلوا من جميع المواقع السيادية والتنفيذية وغيرها، التي تسربوا إليها في غفلة من أصحاب الثورة، وأن يعودوا إلى جماهيرهم المزعومة، لوضع الثورة، من جديد، في الطريق الصحيح الذي يرونه.
|
Post: #202
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 10-31-2020, 04:07 AM
Parent: #201
والشيوعي الإسرائيلي كمان!! النور حمد صحيفة التيار 31 أكتوبر 2020 لا يختلف الفلسطيني عن أخيه الفلسطيني في ممارسة ازدواج المعايير. كما لا يختلفون في ممارسة هذه الازدواجية دون أي شعور بالاستخذاء أو حتى القليل من الازعاج، بل، يمارسونها مع قدر مدهش من الطمأنينة وراحة الضمير. الأسوأ من ذلك، أنهم حين ينزعجون من أي موقف يقفه السودانيون تجاه القضية الفلسطينية يخرجون بسرعة البرق ما يخفونه من عنصرية تجاه السودانيين. فيمدون أيديهم إلى ترسانة الشتائم مما يحويه قاموسهم المعد لمثل هذه "النوائب". وهو قاموس معد خصيصا لتأديب أهل أقطار الهامش العربي الذين تختلط فيهم الدماء الحامية والزنجية والسامية. وكما لاحظ الجميع فقد حفلت وسائط التواصل الاجتماعي بكيل الفلسطينيين هذه الأيام سيلا من السباب العنصري للسودانيين. وهذه ليست المرة الأولى، لكني أظنها ستكون الأخيرة. فلعل من أهم فوائد ما جرى مؤخرا من سيرنا في وجهة التطبيع، أننا قد قفلنا الباب، وإلى الأبد، أمام هذا النوع الوضيع من الابتزاز. فالآن حصحص الحق، ووقفنا الموقف الذي كان ينبغي علينا وقوفه منذ عقود. ولسوف لن يضيرنا منذ هذه اللحظة إن شتمنا الفلسطينيون وكالوا لنا النعوت العنصرية بسبب لون بشرتنا وأصولنا العرقية المختلطة؛ من الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بأسودها وأسمرها وأصفرها وأسودها.
لقد استطاع الفلسطينيون وقطاع عريض من العرب المشرقيين ابتزاز النخب السودانية على مدى عقود. وهذا عيب نخبنا بطبيعة الحال. فقد ارتدفونا على السرج العربي المشرقي في نزال في قضية لا تهمنا، إلا كما تهم بقية أحرار العالم. بل أراد لنا الفلسطينيون أن نظل على ذلك السرج شاهرين اسلحتنا بعد أن ترجلوا هم عنه. ولربما أعرج في مقالات قادمة، بشيء من الإيجار، لأسباب خضوع النخب السودانية للابتزاز الفلسطيني والعربي المشرقي. لقد بقيت نخبناعلى مدى عقود تتبنى خطابا فلسطينيا نافقا، لم يعد أهله أنفسهم يتبنونه. الطريف أن الفلسطينيين يصمتون صمت القبور حين يخرج العرب الخليجيون على توقعاتهم المرسومة لما ينبغي أن تتصرف وفقه الدول العربية تجاه قضيتهم. وكأني بهم يتمثلون الأغنية السودانية التي تقول: "تغلطوا إنتو يا الحلوين، نجيكم نحن بالأعذار"
لكن، دعونا نعود لازدواجية المعايير لدى الفلسطينيين ونعرض نموذجا صارخا من نماذجها، وهو ما ورد على لسان نائبة سابقة في الكنيست الإسرائيلي من أصل عربي، تنتمي إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي. فقد انتقدت النائبة عايدة توما سليمان، الاتفاق السوداني الإسرائيلي قائلة: إنه لن يؤدي إلى تعزيز السلام أو الرفاهية لشعوب المنطقة. فالسلام الدائم في الشرق الأوسط لن يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية.كما أبرز بيان للحزب الشيوعي الإسرائيلي نُشر على صفحته مساء الإثنين الماضي موقف نظيره السوداني الرافض للتطبيع مع إسرائيل: "حتى يتوصل الفلسطينيون إلى حل عادل لقضيتهم". وقال: "يعتمد الحزب الشيوعي السوداني على موقفه الرافض للتطبيع مع إسرائيل، على التضامن مع الشعوب التي تتعرض للاضطهاد من أجل الحرية والديمقراطية". فإذا كان مقاطعة إسرائيل والاستمرار في حالة حرب معها هما ما يؤدي إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، لماذا إذن تجلس هذه النائبة العربية الشيوعية في الكنيست الإسرائيلي، حاملة في جيبها جواز سفر اسرائيلي، وبطاقات إئتمان لبنوك إسرائيلية، وربما تملك منزلا وسيارة تدفع أقساطهما للبنوك الإسرائيلية، ثم تريدنا نحن في السودان أن نبقى رافعين من أجل نيافتها راية العداء والمقاطعة. فإذا كانت هذه النائبة تدافع عن وجودها في الكنيست بأنها إنما تستخدمه لخدمة الحق الفلسطيني، رغم أنها بكونها اسرائليةالجنسية قد طبعت حد الثمالة، فما الذي يمنعنا نحن السودانيين القاطنين جنوب مدار السرطان أن نطبع وندافع من خلال تطبيعنا عن الحق الفلسطيني؟
إن ازدواجية المعايير لدى نخب الفلسطينيين مقرفة بحق، وتدل على اضطراب أخلاقي مريع. ما يصدر من الفلسطينيين تجاه السودانيين هذه الأيام لا يصدر إلا من عقول ملتاثة، وبنية وجدانية خربة وأفق معرفي بالغ البؤس. وكل هذا، في تقديري هو ما جعل الفلسطينيين ينزلقون باستمرار من خسران إلى خسران أكبر من سابقه. ا
|
Post: #203
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-01-2020, 05:24 AM
Parent: #202
أدعياء الثورة يخنقونها النور حمد صحيفة التيار 1 نوفمبر 2020 كثيرا ما كتبت أن الثورة ليست فعلا شكليا يبدل أشخاصا بأشخاص، وإنما هي فعل إنقلابي، بمعني تجاوزي، يبدل بنية عقلية معتلة ببنية عقلية معافاة. غير أن الذي يحدث لأغلب الثورات أنها لا تنجز هذا الفعل الانقلابي، وإنما تأتي بطاقم قيادي إلى أجهزة الحكم لا يختلف من حيث المفاهيم والبنية الأخلاقية عن الطاقم الذي أزاحته الثورة. فالثوار في تلهفهم لإزاحة النظام القديم، وانحباس أنفسهم خشية أن تفشل ثورتهم، يقبلون بقيادات لم يجر تمحيصها كما ينبغي. بل أن تصورات الجماهير العريضة الثائرة للقيادة المتمناة، يجري إسقاطها على أول من يمدون رقابهم متصدين لقيادة الحراك الثوري. ولكن بمرور الوقت، بعد أن تجرى إزاحة قيادة النظام القديم، ويبدأ الصراع من أجل تفكيك بنيته القاعدية، تبدأ الشروخ بين جمهور الثورة وقيادات الثورة في البروز. السبب في تقديري هو اتضاح أن البنية العقلية للقيادة الجديدة لا تختلف اختلافا بائنا عن البنية العقلية للقيادة القديمة. لذلك فإن الثورة الناجحة هي التي تصنع قياداتها المختلفة فكرا واخلاقا، قبل الاندفاع في الفعل الثوري. غير أن ذلك نادرا ما يحدث. وهذا هو ما يجعل معظم الثورات تمر بمرحلة مخاض عسيرة طويلة.
ما جرني إلى هذا الحديث لقاء جمعني صدفة ببعض شباب الثورة الذين يصطرعون بلا هوادة مع قواعد النظام القديم، التي لازالت ممسكة بمفاصل البنية الإدارية القاعدية في بعض الأحياء وبعض الأسواق الشعبية، ولا يجدون إلا التعويق من قوى الحرية والتغيير وسائر منظومة السلطة الانتقالية. ذكروا في حديثهم معي أن نظام الإنقاذ لا يزال يتحكم، بقوانين الحكم المحلي التي سنها وبكوادره التي مكنها من مفاصل القرار الإداري القاعدي، في تحصيل الإيرادات وإدارة الخدمات في مجريات الأمور بذات الأساليب الفاسدة القديمة. وحسب قولهم، لا خدمات يجري تقديمها ولا إيرادات يجري تسليمها كاملة لخزينة الدولة. كما ذكروا أن اتصالاتهم بمكونات السلطة الانتقالية فيما يتعلق بصراعهم هذا ظلت بلا فائدة. وأن ما تفعله قوى الحرية والتغيير التي سيطرت على تصرفاتها الدوافع الحزبية هو احالتهم للمسارات البيروقراطية الروتينية، وإرسال أفراد حزبيين ليديروا هذا الصراع نيابة عن الثائرين الذين يعرفون مكامن العلل والألاعيب الإنقاذية. ومما جرت ملاحظته على هؤلاء الذين يجري إرسالهم من عل أنهم بلا كفاءة وبلا معرفة بمجريات الأمور على مستوى القواعد. وقد قاد ذلك لأن يتوقف صراع هولاء الشباب الثائرين مع كوادر المؤتمر الوطني التي تعمل على حجب المعلومات ومواصلة الخط القديم، ليصبح صراعا مع هؤلاء المرسلين من عل، الذين لا مؤهل لهم سوى انتمائهم الحزبي. الخلاصة، أن تمكينا جديدا يجري فرضه من عل ليحل محل التمكين الإنقاذي، وبلا نجاح يذكر.
الشاهد فيما تقدم، أن قوانا الحزبية لا تختلف في لاديموقراطيتها عن الإنقاذ. فهي تمارس الآن إنزال القرارات من فوق على الجماهير الثائرة المكتوية بنيران القبضة الإنقاذية على القواعد الإدارية في منظومة الحكم المحلي. فالوضع الصحيح هو جعل هذه القواعد تنتخب من عندها من يتصدون لعملية تفكيك البنية الإنقاذية، لا إرسال حزبيين من فوق غرضهم الأساسي زرع خلايا حزبية في الأحياء والأسواق وجعل أهل المصلحة العارفين بالخبايا مجرد متفرجين. ما يجري باختصار شديد هو ذات النهج الشمولي الفوقي الذي لا يختلف عن نهج الإنقاذ. فهو يشترك معه في خدمة الغرض الحزبي وليس خدمة الصالح العام. ما يجري الآن هو أن الأجندة الحزبية لأحزاب لاديموقراطية تخنق الثورة خنقا لا هوادة فيه وتعطل تفكيك التمكين لتتمكن هي. لكن، كل عمل باطل مصيره أن يحبط مثلما حبط عمل الإنقاذ، فالله من ورائهم محيط.
|
Post: #204
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-04-2020, 04:52 AM
Parent: #203
تحطيم الدولة للكسب السياسي النور حمد صحيفة التيار 4 نوفمبر 2020 عانت الدولة السودانية منذ الاستقلال من انعدام الثوابت الوطنية. فكل ضابط للفعل السياسي السوداني بقي مرتكزا على رمال متحركة. فما يهم القوى السياسية في السودان هو الكسب الآني. ولا يهم إن قاد هذا الكسب الى هدم ثوابت الدولة وركائزها. شهدت ديموقراطياتنا الثلاث الكثير من الائتلافات. يحدث الائتلاف حين لا تمكن النتائج الانتخابية أي حزب الحكم بمفرده فيضطر من أجل احراز أغلبية في البرلمان إلى أن يأتلف مع حزب آخر. وقد قاد الحرص على المناصب إلى أن تأتلف أحزاب لا يجمع بينها جامع. بل إن بعض أركان الائتلاف في فترة بعينها يتحولون إلى حالة عداء حادة في فترة جديدة لاحقة، تكون فيها الخريطة السياسية قد أخذت شكلا آخر. والأمثلة لهذا من تجاربنا البرلمانية "على قفا من يشيل". لقد تفننت بعض الأحزاب في إثارة الاضرابات المطلبية، لا تعاطفا مع حقوق العاملين وإنما لإرباك من هم في السلطة وافقادهم الاستقرار والقدرة على الإنجاز ليكون فشلهم هو مركب المعارضة الذي يأتي بها إلى مقاعد الحكم. لا تتردد قوانا السياسية في إنتهاج أي أسلوب يمكن أن يمنحها كسبا سياسيا آنيا. ولقد ذكرت في مقالات سابقة كيف تفننت الجبهة الوطنية (حزب الأمة والاتحاديون والإسلاميون) في خلق الندرة في السلع في فترة حكم نميري. وكيف تفنن الشيوعيون في تحريك نقابة عمال السكة حديد لزعزعة حكم نميري ما قاد إلى انشاء ما سميت الكتيبة الاستراتيجية العسكرية التي تدير حركة السكة حديد في حالات الإضراب. وقد قاد كل ذلك إلى تكسير المرفق نفسه على يد نميري ثم على يد الاسلاميين في نهاية الأمر. وهذه هي نتيجة العبث بثوابت الدولة واستحلال هدم ركائزها.
شاهدت بالأمس فيديو مصور من نافذة سيارة تسير على واحد من الطرق السريعة. وقد قطعت تلك السيارة التي جرى منها تصوير ذلك الفيديو قرابة الكيلومترين. وقد كانت تمتد على طول تلك المسافة مئات وربما الآلاف من براميل الوقود المنتشرة بمحاذاة الطريق، إضافة إلى الشاحنات المتوقفة، ما يدل على أن سوقا مفتوحا للمواد البترولية يجري هناك، (على عينك يا تاجر). إن أول ما يعكسه هذا الشريط هو أن ما تسمى الدولة السودانية لم يعد لها وجود. فنحن نعلم أن هناك شرطة للمرور السريع وهناك ولاة ومحليات وحكم محلي ومسؤلون تنفذيون فأين هم من هذا الانحلال الدولتي المقرف؟ هل هذه بلاد يرجى لها أن ينصلح حالها؟ والأنكأ من هذا أن المواطنين هم من يصورون هذه العورات ويبثونها على وسائط التواصل الاجتماعي، في حين ينشغل الإعلام الرسمي بالتفاهات وسفساف الأمور. أيضا، أين صحافتنا وتقاريرها الاستقصائية من هذا الانحلال الدولتي المريع؟ أين يقع هذا السوق؟ وتحت إدارة من تقع هذه المنطقة؟ إن أعتياد قبول مثل هذه الممارسات يعني أن نقرأ الفاتحة على روح الدولة السودانية وحكم القانون فيها.
لا شك عندي أبدا أن هناك تحالفا غير مكتوب بين قوى مختلفة من عسكرية ومدنية غرضه إفشال الفترة الانتقالية. ويبدو أن هذا العمل قد حقق حتى الآن نجاحا كبيرا. فالأزمات بمختلف صورها لا تزال ترواح مكانها. وقد أصبحت ما سميت الحاضنة السياسية وحكومتها مجرد "هنبول"، "لا يهش ولا ينش". وحين نقول إن أزمتنا أزمة بناء نفسي قويم وأزمة أخلاق وأزمة ثوابت دولتية، يخرج علينا حفظة الألفاظ الفارغة ليصرفونا إلى ما اعتادوه من نمط الاستعاضة بالكلمات الرنانة عن الدلالات. من يريدون إفشال الفترة الانتقالية قد ينجحون، لكنهم حتما سيفشلون في ترميم ما خربوه. ولسوف يشربون من نفس الكأس التي سقوا منها شعبهم. فتخريب النظم قابل للإصلاح، لكن تخريب الإنسان يصعب إصلاحه. ما عكسه ذلك الفيديو يدل على أن تخريب الإنسان في بلادنا قد بلغ شأوا بعيدا.
|
Post: #205
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-04-2020, 04:52 AM
Parent: #203
تحطيم الدولة للكسب السياسي النور حمد صحيفة التيار 4 نوفمبر 2020 عانت الدولة السودانية منذ الاستقلال من انعدام الثوابت الوطنية. فكل ضابط للفعل السياسي السوداني بقي مرتكزا على رمال متحركة. فما يهم القوى السياسية في السودان هو الكسب الآني. ولا يهم إن قاد هذا الكسب الى هدم ثوابت الدولة وركائزها. شهدت ديموقراطياتنا الثلاث الكثير من الائتلافات. يحدث الائتلاف حين لا تمكن النتائج الانتخابية أي حزب الحكم بمفرده فيضطر من أجل احراز أغلبية في البرلمان إلى أن يأتلف مع حزب آخر. وقد قاد الحرص على المناصب إلى أن تأتلف أحزاب لا يجمع بينها جامع. بل إن بعض أركان الائتلاف في فترة بعينها يتحولون إلى حالة عداء حادة في فترة جديدة لاحقة، تكون فيها الخريطة السياسية قد أخذت شكلا آخر. والأمثلة لهذا من تجاربنا البرلمانية "على قفا من يشيل". لقد تفننت بعض الأحزاب في إثارة الاضرابات المطلبية، لا تعاطفا مع حقوق العاملين وإنما لإرباك من هم في السلطة وافقادهم الاستقرار والقدرة على الإنجاز ليكون فشلهم هو مركب المعارضة الذي يأتي بها إلى مقاعد الحكم. لا تتردد قوانا السياسية في إنتهاج أي أسلوب يمكن أن يمنحها كسبا سياسيا آنيا. ولقد ذكرت في مقالات سابقة كيف تفننت الجبهة الوطنية (حزب الأمة والاتحاديون والإسلاميون) في خلق الندرة في السلع في فترة حكم نميري. وكيف تفنن الشيوعيون في تحريك نقابة عمال السكة حديد لزعزعة حكم نميري ما قاد إلى انشاء ما سميت الكتيبة الاستراتيجية العسكرية التي تدير حركة السكة حديد في حالات الإضراب. وقد قاد كل ذلك إلى تكسير المرفق نفسه على يد نميري ثم على يد الاسلاميين في نهاية الأمر. وهذه هي نتيجة العبث بثوابت الدولة واستحلال هدم ركائزها.
شاهدت بالأمس فيديو مصور من نافذة سيارة تسير على واحد من الطرق السريعة. وقد قطعت تلك السيارة التي جرى منها تصوير ذلك الفيديو قرابة الكيلومترين. وقد كانت تمتد على طول تلك المسافة مئات وربما الآلاف من براميل الوقود المنتشرة بمحاذاة الطريق، إضافة إلى الشاحنات المتوقفة، ما يدل على أن سوقا مفتوحا للمواد البترولية يجري هناك، (على عينك يا تاجر). إن أول ما يعكسه هذا الشريط هو أن ما تسمى الدولة السودانية لم يعد لها وجود. فنحن نعلم أن هناك شرطة للمرور السريع وهناك ولاة ومحليات وحكم محلي ومسؤلون تنفذيون فأين هم من هذا الانحلال الدولتي المقرف؟ هل هذه بلاد يرجى لها أن ينصلح حالها؟ والأنكأ من هذا أن المواطنين هم من يصورون هذه العورات ويبثونها على وسائط التواصل الاجتماعي، في حين ينشغل الإعلام الرسمي بالتفاهات وسفساف الأمور. أيضا، أين صحافتنا وتقاريرها الاستقصائية من هذا الانحلال الدولتي المريع؟ أين يقع هذا السوق؟ وتحت إدارة من تقع هذه المنطقة؟ إن أعتياد قبول مثل هذه الممارسات يعني أن نقرأ الفاتحة على روح الدولة السودانية وحكم القانون فيها.
لا شك عندي أبدا أن هناك تحالفا غير مكتوب بين قوى مختلفة من عسكرية ومدنية غرضه إفشال الفترة الانتقالية. ويبدو أن هذا العمل قد حقق حتى الآن نجاحا كبيرا. فالأزمات بمختلف صورها لا تزال ترواح مكانها. وقد أصبحت ما سميت الحاضنة السياسية وحكومتها مجرد "هنبول"، "لا يهش ولا ينش". وحين نقول إن أزمتنا أزمة بناء نفسي قويم وأزمة أخلاق وأزمة ثوابت دولتية، يخرج علينا حفظة الألفاظ الفارغة ليصرفونا إلى ما اعتادوه من نمط الاستعاضة بالكلمات الرنانة عن الدلالات. من يريدون إفشال الفترة الانتقالية قد ينجحون، لكنهم حتما سيفشلون في ترميم ما خربوه. ولسوف يشربون من نفس الكأس التي سقوا منها شعبهم. فتخريب النظم قابل للإصلاح، لكن تخريب الإنسان يصعب إصلاحه. ما عكسه ذلك الفيديو يدل على أن تخريب الإنسان في بلادنا قد بلغ شأوا بعيدا.
|
Post: #206
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-04-2020, 04:52 AM
Parent: #203
تحطيم الدولة للكسب السياسي النور حمد صحيفة التيار 4 نوفمبر 2020 عانت الدولة السودانية منذ الاستقلال من انعدام الثوابت الوطنية. فكل ضابط للفعل السياسي السوداني بقي مرتكزا على رمال متحركة. فما يهم القوى السياسية في السودان هو الكسب الآني. ولا يهم إن قاد هذا الكسب الى هدم ثوابت الدولة وركائزها. شهدت ديموقراطياتنا الثلاث الكثير من الائتلافات. يحدث الائتلاف حين لا تمكن النتائج الانتخابية أي حزب الحكم بمفرده فيضطر من أجل احراز أغلبية في البرلمان إلى أن يأتلف مع حزب آخر. وقد قاد الحرص على المناصب إلى أن تأتلف أحزاب لا يجمع بينها جامع. بل إن بعض أركان الائتلاف في فترة بعينها يتحولون إلى حالة عداء حادة في فترة جديدة لاحقة، تكون فيها الخريطة السياسية قد أخذت شكلا آخر. والأمثلة لهذا من تجاربنا البرلمانية "على قفا من يشيل". لقد تفننت بعض الأحزاب في إثارة الاضرابات المطلبية، لا تعاطفا مع حقوق العاملين وإنما لإرباك من هم في السلطة وافقادهم الاستقرار والقدرة على الإنجاز ليكون فشلهم هو مركب المعارضة الذي يأتي بها إلى مقاعد الحكم. لا تتردد قوانا السياسية في إنتهاج أي أسلوب يمكن أن يمنحها كسبا سياسيا آنيا. ولقد ذكرت في مقالات سابقة كيف تفننت الجبهة الوطنية (حزب الأمة والاتحاديون والإسلاميون) في خلق الندرة في السلع في فترة حكم نميري. وكيف تفنن الشيوعيون في تحريك نقابة عمال السكة حديد لزعزعة حكم نميري ما قاد إلى انشاء ما سميت الكتيبة الاستراتيجية العسكرية التي تدير حركة السكة حديد في حالات الإضراب. وقد قاد كل ذلك إلى تكسير المرفق نفسه على يد نميري ثم على يد الاسلاميين في نهاية الأمر. وهذه هي نتيجة العبث بثوابت الدولة واستحلال هدم ركائزها.
شاهدت بالأمس فيديو مصور من نافذة سيارة تسير على واحد من الطرق السريعة. وقد قطعت تلك السيارة التي جرى منها تصوير ذلك الفيديو قرابة الكيلومترين. وقد كانت تمتد على طول تلك المسافة مئات وربما الآلاف من براميل الوقود المنتشرة بمحاذاة الطريق، إضافة إلى الشاحنات المتوقفة، ما يدل على أن سوقا مفتوحا للمواد البترولية يجري هناك، (على عينك يا تاجر). إن أول ما يعكسه هذا الشريط هو أن ما تسمى الدولة السودانية لم يعد لها وجود. فنحن نعلم أن هناك شرطة للمرور السريع وهناك ولاة ومحليات وحكم محلي ومسؤلون تنفذيون فأين هم من هذا الانحلال الدولتي المقرف؟ هل هذه بلاد يرجى لها أن ينصلح حالها؟ والأنكأ من هذا أن المواطنين هم من يصورون هذه العورات ويبثونها على وسائط التواصل الاجتماعي، في حين ينشغل الإعلام الرسمي بالتفاهات وسفساف الأمور. أيضا، أين صحافتنا وتقاريرها الاستقصائية من هذا الانحلال الدولتي المريع؟ أين يقع هذا السوق؟ وتحت إدارة من تقع هذه المنطقة؟ إن أعتياد قبول مثل هذه الممارسات يعني أن نقرأ الفاتحة على روح الدولة السودانية وحكم القانون فيها.
لا شك عندي أبدا أن هناك تحالفا غير مكتوب بين قوى مختلفة من عسكرية ومدنية غرضه إفشال الفترة الانتقالية. ويبدو أن هذا العمل قد حقق حتى الآن نجاحا كبيرا. فالأزمات بمختلف صورها لا تزال ترواح مكانها. وقد أصبحت ما سميت الحاضنة السياسية وحكومتها مجرد "هنبول"، "لا يهش ولا ينش". وحين نقول إن أزمتنا أزمة بناء نفسي قويم وأزمة أخلاق وأزمة ثوابت دولتية، يخرج علينا حفظة الألفاظ الفارغة ليصرفونا إلى ما اعتادوه من نمط الاستعاضة بالكلمات الرنانة عن الدلالات. من يريدون إفشال الفترة الانتقالية قد ينجحون، لكنهم حتما سيفشلون في ترميم ما خربوه. ولسوف يشربون من نفس الكأس التي سقوا منها شعبهم. فتخريب النظم قابل للإصلاح، لكن تخريب الإنسان يصعب إصلاحه. ما عكسه ذلك الفيديو يدل على أن تخريب الإنسان في بلادنا قد بلغ شأوا بعيدا.
|
Post: #207
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-04-2020, 04:52 AM
Parent: #203
تحطيم الدولة للكسب السياسي النور حمد صحيفة التيار 4 نوفمبر 2020 عانت الدولة السودانية منذ الاستقلال من انعدام الثوابت الوطنية. فكل ضابط للفعل السياسي السوداني بقي مرتكزا على رمال متحركة. فما يهم القوى السياسية في السودان هو الكسب الآني. ولا يهم إن قاد هذا الكسب الى هدم ثوابت الدولة وركائزها. شهدت ديموقراطياتنا الثلاث الكثير من الائتلافات. يحدث الائتلاف حين لا تمكن النتائج الانتخابية أي حزب الحكم بمفرده فيضطر من أجل احراز أغلبية في البرلمان إلى أن يأتلف مع حزب آخر. وقد قاد الحرص على المناصب إلى أن تأتلف أحزاب لا يجمع بينها جامع. بل إن بعض أركان الائتلاف في فترة بعينها يتحولون إلى حالة عداء حادة في فترة جديدة لاحقة، تكون فيها الخريطة السياسية قد أخذت شكلا آخر. والأمثلة لهذا من تجاربنا البرلمانية "على قفا من يشيل". لقد تفننت بعض الأحزاب في إثارة الاضرابات المطلبية، لا تعاطفا مع حقوق العاملين وإنما لإرباك من هم في السلطة وافقادهم الاستقرار والقدرة على الإنجاز ليكون فشلهم هو مركب المعارضة الذي يأتي بها إلى مقاعد الحكم. لا تتردد قوانا السياسية في إنتهاج أي أسلوب يمكن أن يمنحها كسبا سياسيا آنيا. ولقد ذكرت في مقالات سابقة كيف تفننت الجبهة الوطنية (حزب الأمة والاتحاديون والإسلاميون) في خلق الندرة في السلع في فترة حكم نميري. وكيف تفنن الشيوعيون في تحريك نقابة عمال السكة حديد لزعزعة حكم نميري ما قاد إلى انشاء ما سميت الكتيبة الاستراتيجية العسكرية التي تدير حركة السكة حديد في حالات الإضراب. وقد قاد كل ذلك إلى تكسير المرفق نفسه على يد نميري ثم على يد الاسلاميين في نهاية الأمر. وهذه هي نتيجة العبث بثوابت الدولة واستحلال هدم ركائزها.
شاهدت بالأمس فيديو مصور من نافذة سيارة تسير على واحد من الطرق السريعة. وقد قطعت تلك السيارة التي جرى منها تصوير ذلك الفيديو قرابة الكيلومترين. وقد كانت تمتد على طول تلك المسافة مئات وربما الآلاف من براميل الوقود المنتشرة بمحاذاة الطريق، إضافة إلى الشاحنات المتوقفة، ما يدل على أن سوقا مفتوحا للمواد البترولية يجري هناك، (على عينك يا تاجر). إن أول ما يعكسه هذا الشريط هو أن ما تسمى الدولة السودانية لم يعد لها وجود. فنحن نعلم أن هناك شرطة للمرور السريع وهناك ولاة ومحليات وحكم محلي ومسؤلون تنفذيون فأين هم من هذا الانحلال الدولتي المقرف؟ هل هذه بلاد يرجى لها أن ينصلح حالها؟ والأنكأ من هذا أن المواطنين هم من يصورون هذه العورات ويبثونها على وسائط التواصل الاجتماعي، في حين ينشغل الإعلام الرسمي بالتفاهات وسفساف الأمور. أيضا، أين صحافتنا وتقاريرها الاستقصائية من هذا الانحلال الدولتي المريع؟ أين يقع هذا السوق؟ وتحت إدارة من تقع هذه المنطقة؟ إن أعتياد قبول مثل هذه الممارسات يعني أن نقرأ الفاتحة على روح الدولة السودانية وحكم القانون فيها.
لا شك عندي أبدا أن هناك تحالفا غير مكتوب بين قوى مختلفة من عسكرية ومدنية غرضه إفشال الفترة الانتقالية. ويبدو أن هذا العمل قد حقق حتى الآن نجاحا كبيرا. فالأزمات بمختلف صورها لا تزال ترواح مكانها. وقد أصبحت ما سميت الحاضنة السياسية وحكومتها مجرد "هنبول"، "لا يهش ولا ينش". وحين نقول إن أزمتنا أزمة بناء نفسي قويم وأزمة أخلاق وأزمة ثوابت دولتية، يخرج علينا حفظة الألفاظ الفارغة ليصرفونا إلى ما اعتادوه من نمط الاستعاضة بالكلمات الرنانة عن الدلالات. من يريدون إفشال الفترة الانتقالية قد ينجحون، لكنهم حتما سيفشلون في ترميم ما خربوه. ولسوف يشربون من نفس الكأس التي سقوا منها شعبهم. فتخريب النظم قابل للإصلاح، لكن تخريب الإنسان يصعب إصلاحه. ما عكسه ذلك الفيديو يدل على أن تخريب الإنسان في بلادنا قد بلغ شأوا بعيدا.
|
Post: #208
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-08-2020, 10:16 PM
Parent: #207
الأفول السريع لظاهرة ترمب النور حمد صحيفة التيار 9 نوفمبر 2020 مثل فوز ترمب في انتخابات عام 2016 ظاهرة استثنائية بكل المقاييس. فرغم استهزاء الميديا الأمريكيةالداعمة للحزب الديموقراطي بفكرته ترشيح نفسه، ورغم نبشها كل تاريخه الشخصي بالغ السوء، وجهله وضحالة ثقافته العامة وعدم خبرته السياسية، استطاع ترمب بخطاب شعبوي بسيط أن يحرك ساكن أهل الريف الأمريكي من البيض، فالتفوا حوله. وانهزمت الصفوة المثقفة الداعمة للحزب الديموقراطي بآلتها الإعلامية الضخمة ومحلليها السياسيين وأكاديمييها، أمام زعيم شعبوي لا يحسن الحديث، ولا يملك سوى قاموس لغوي محدود. لكنه كان يرسل رسائل شعبوية قصيرة مؤثرة ضد صفوة واشنطن وضد المهاجرين وضد الإسلام والمسلمين وضد الصين وضد قوانين حماية البيئة، وضد برنامج أوباما للرعاية الصحية، فوصل إلى البيت الأبيض وسط دهشة الجميع.
لقد ظل بيض أمريكا خاصة جمهور الريف من مناصري الحزب الجمهوري يحبسون أنفاسهم لعقود وهم يرقبون الاحصاءات التي تشير باضطراد إلى تنامي أعداد الأقليات، خاصة القادمين من أمريكا اللاتينية، وتأكيد تلك الاحصاءات أن البيض سوف يصبحون، في بضع عقود، أقلية في أمريكا. فالملونون سوف يصبحون قوة انتخابية ضاربة، لن تلبث أن تقلب موازين القوة في الحياة السياسية الأمريكية التي كانت على الدوام في صالح فئة البيض. ويزعج هذا، أكثر ما يزعج، الداعمين لسياسات الجمهوريين. في ظل هذا الوضع من المخاوف، خاصة وسط البسطاء من سكان الأرياف المعزولين يصبح للخطاب العنصري تأثير بالغ. وقد ساعد في ذلك أن صفوة المدن تجاهلت هذه الشرائح الريفية العريضة. وكان خطابها المكثف يمر دائما من فوق رؤوس أهل الريف. فالإكثار من الحديث عن حقوق المثليين وزواج المثليين وحق الإجهاض والحديث عن ضرورة تقييد امتلاك السلاح الناري كانت كلها مما يثير مخاوف القطاع الريفي المحافظ الذي وجد في ترمب بطلا منقذا.
أمضى ترمب أربع سنوات عاصفات في البيت الأبيض وكان كالثور في مستودع الخزف. فلم يسنده خطابه الشعبوي الذي أوصله إلى البيت الأبيض. وأصبح وهو رئيس أقوى دولة على وجه الأرض، مثارا للسخرية في كل أرجاء العالم. وجاءت جائحة كورونا فقابلها بالتهريج وبنفس الرعونة ولغة الخطاب الشعبوية واللامبالاة. فكانت أمريكا الأضعف من بين دول العالم في التصدي للجائحة. ولذلك لم يكن غريبا أن يفقد ترمب الرئاسة عقب سنواته الأربع الأولى. وهو أمر لم يحدث لرئيس جالس على سدة الرئاسة منذ 1992. لقد وجهت القوى الأمريكية الجديدة صفعة بالغة القوة للوثة الترمبية العابرة. فقد كان وصول ترمب للرئاسة هو "فجة الموت" للمقاومة الكتيمة لمشروع الحرية والعدل والمساواة في أمريكا.
حقق جو بايدن نصرا ساحقا على دونالد ترمب. وقد تغيرت الخارطة الانتخابية الأمريكية تغيرا كبيرا إذ تحولت عدة ولايات من حمراء إلى زرقاء. كما أن حجم المشاركة في هذه الانتخابات لم يحدث في تاريخ أمريكا. لقد انتفض الأمريكيون لكرامة وطنهم وقاموا بتطهير مقعد الرئاسة مما لوثه به دونالد ترمب. فهذا النصر، في تقديري، هو نصر الشعب الأمريكي بأكثر مما هو نصر الحزب الديموقراطي. فالحزب الديموقراطي حزب معتل تسيطر عليه مثل رصيفه الجمهوري مجموعات المصالح. ولسوف تظهر الأيام ما اذا سوف ينتهز الديموقراطيون هذه الفرصة العظيمة فيصلحوا من حال حزبهم، أم انهم سينغمسون فيما كانوا فيه أصلا فتضيع هذه الثورة ذات الدلالات العميقة التي فجرتها صناديق الانتخابات.
|
Post: #209
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-10-2020, 04:17 AM
Parent: #208
ترمب يضمد جرح نرجسيته بالغولف النور حمد صحيفة التيار 10نوفمبر 2020 في الوقت الذي منحت أجهزة الإعلام الأمريكية صباح السبت المرشح الرئاسي جوزيف بايدن لقب الرئيس المنتخب، وكمالا هاريس لقب نائب الرئيس المنتخب، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يلعب الغولف في ضاحية إستيرلنغ بولاية فرجينيا. وتقع ضاحية إستيرلينغ قريبا من منطقة واشنطن الكبرى. وهو مسلك يدل، في تقديري، على مدى غرابة شخصية ترمب. فبدلا أن يبقى وسط فريقه في البيت الأبيض يناقش حال مجده الذي أخذ ينهار أمام ناظريه، هرب إلى ملعب الغولف. وأخذ يبدد مرارة الهزيمة بقذف الكرات على مدى يومين، مبتعدا عن أعين أعضاء فريقه التي تحيط به في البيت الأبيض، وترمقه في إشفاق ورثاء. لم يحتمل ترمب نزع هيبته الزائفة. ولم يحتمل أن يراه المحيطون به والهزيمة تجلله من شعر رأسه إلى أخمص قدميه. فهو شخص تعود أن ينتصر، بأي طريقة، منذ أن دخل عالم المال والأعمال. ظل ترمب يعيش وهم "المنتصر الدائم"، غض النظر عن أخلاقية أو لا أخلاقية الكيفية التي ينتصر بها. وعموما كلما أوغلت الشخصية في هذه النوع من النرجسية والعجب بالذات، كلما كان جرحها عند الهزيمة أكثر غورا.
كتبت صحيفة لوس أنجلز تايمز واصفة اعتياد ترمب على الفوز قائلة: "إن الهزيمة التي تلقاها ترمب يوم السبت هي المحصلة الحاسمة التي نادرا ما تلقى مثلها طيلة حياته. فقد بقيت البنوك تقدم له القروض حتى بعد أن أعلنت أعماله التفليس. كما بقي الناخبون الجمهوريون أوفياء له، رغم سلاسل الفضائح. أما سيطرة حزبه على مجلس الشيوخ فقد أبقته في مقعده رغم إجراءات خلعه التي قام بها الكونغرس". لقد صعد ترمب إلى سدة الرئاسة من حيث لم يحتسب أحد. فترمب ورث الثروة عن أبيه وعمل في مجال التطوير العقاري لعقود. أنشأ ترمب في عام 1995 شركة للفنادق والضيافة والتسلية، تضمنت كازينوهات للقمار. ولمع نجم ترمب أكثر عندما ظهر في عام 2004 ببرنامجه التلفزيوني الشهير The Apprentice ويقع البرنامج ضمن الفئة المسماة "تلفزيون الواقع" Reality TV ويبدو أن شهرة البرنامج هي التي دفعت بترمب إلى التفكير بالترشح للرئاسة في عام 2016، فظهر ضمن قائمة المرشحين الجمهوريين، رغم أنه لم يكن من السياسيين الجمهوريين المرموقين الذين يأتون لموقع الترشح للرئاسة من مقاعد الكونغرس ومجلس الشيوخ.
استطاع ترمب بخطابه الشعبوي وجسارته وتنمره أن يقصي كل منافسيه من الجمهوريين، في الانتخابات التمهيدية، وأن ينفرد بتمثيل الحزب الجمهوري. وقد وجه ترمب وهو يصعد إلى موقع تمثيل الحزب الجمهوري إهانات بالغة لمنافسيه من كبار قادة الحزب، فلعقوا جراحهم وأحنوا له رؤوسهم وتقبلوا زعامته صاغرين. قبلوا رئاسته ودافعوا عنه حتى انهزم مؤخرا، وهكذا هي البراغماتية الأمريكية. لقد لقي ترمب من الشهرة عبر برنامج "ذي أبرينتس" فوق ما كان يتصور، وفوق ما تؤهله له قدراته المتواضعة. لكن ذلك النجاح جعله يطمع في أن يكون الشخص الأول في أمريكا، ففكر في خوض انتخابات الرئاسة.
يحاول ترمب حاليا إنكار أنه هزم. وقد أخذ من قبل الإنتخابات يشكك في نزاهة الانتخابات ويمهد لعدم الاعتراف بنتائجها. وحتى بعد أن اتضح فوز منافسه بايدن، ظل يردد أنه هو الفائز. فوجهت إليه وسائل الإعلام الصفعة تلو الأخرى، بما في ذلك داعمته قناة فوكس. بهذا المسلك الشاذ يكون دونالد ترمب الرئيس الوحيد الذي عز عليه الاعتراف بالهزيمة. كما عازه نبل القادة الكبار الذين يهنئون منافسيهم بالفوز. لم يكن ترمب بحاجة إلى رئاسة أمريكا، فقد وجد من الشهرة والثروة ما يكفي ويزيد. لكن نرجسيتة وغروره وجهله بالعواقب وعماه عن خطاياه الكثيرة، وتاريخه الشخصي بالغ السوء، دفعت به إلى الحفرة التي ستنطمر فيها، مرة وإلى الأبد، نرجسيته ورعونته وغروره. فالآن انكشف غطاء الحصانة الذي كان يتدثر به، بذهاب الرئاسة عنه. وأتوقع أن تجري ملاحقته بالعديد من القضايا والفضائح "المتلتلة"، التي ربما قادته إلى السجن. فالنهم الذي لا يعرف الحدود مهلكة، و"التسوي إيدك يغلب أجاويدك".
|
Post: #210
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-10-2020, 11:05 PM
Parent: #209
الفوضى الخلاقة السودانية النور حمد صحيفة التيار 11 نوفمبر 2020 لا يمكن وصف المشهد السياسي السوداني الراهن سوى بأنه مشهد أضحت تتجاذبه الفوضى من جميع أقطاره. فبانسحاب الحزب الشيوعي السوداني من قوى الإجماع الوطني ومن قوى الحرية والتغيير، وانسحاب شريحة من البعثيين، أيضا، يصل المشهد السياسي السوداني الراهن إلى أعلى درجات التشقق. ولتصوير المدى الذي بلغه التشرذم، يكفي أن أن نشير إلى أن البعثيين، وهم بضع أحزاب صغيرة، قد دخل فصيل منها في دائرة الانسحابات الجارية حاليا. يشير المشهد المأزوم الراهن إلى أن طبختين رئيسيتين يجري إعدادهما على جبهتين كبيرتين متعارضتين. وربما تكون هناك أكثر من جبهتين، لكثرة اللاعبين في المشهد السياسي السوداني بالغ التعقيد. لكن، يمكن القول إن هناك جبهتين رئسيتين، وهما: (1) جبهة العسكر المكونة من الجيش وقوات الدعم السريع، والحركات المسلحة المنضوية تحت مظلة الجبهة الثورية. (2) جبهة القوى السياسية التي شكلت فيما مضى قوى الحرية والتغيير، وأخذ يصيبها القلق مع اقتراب قدوم قادة الجبهة الثورية الى الخرطوم، بعد أيام. حيث سيأخذون مواقعهم داخل بنية الشراكة العسكرية المدنية المعتلة التي تدير الفترة الانتقالية. فيصبح لهم حضور مقدر في المجلس التشريعي وفي المجلس السيادي وفي مجلس الوزراء. وتبقى حكومة حمدوك في برزخ، سمته الرئيسة كراهية الجهتين لها.
في هذا التوقيت يخرج على الملأ، بعد صمت طويل، السيد علي كرتي، متحدثا باسم الحركة الإسلامية بتسجيل صوتي تتطابق لغته، وللغرابة الشديدة، مع لغة اليسار. انتقد كرتي إجراءات رفع الدعم والانصياع لسياسات المؤسسات المالية الدولية، متناسيا إجراءات الخصخصة وبيع مؤسسات القطاع العام التي انخرطت فيها الإنقاذ منذ أيام عبد الرحيم حمدي. ومتناسيا أيضا، سرقة ريع البترول والذهب وخلق الدولة الموازية وبيع أراضي البلاد وضرب منصات الإنتاج وطباعة العملة بلا غطاء حتى أصبح الدولار الواحد يساوي عشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف من الجنيهات السودانية. ولا يدري المرء أين يصب خطاب كرتي هذا. هل أصبح الإسلاميون يساريين كما يبدو من ظاهر خطاب كرتي؟ أم هو تحريك للقواعد الإسلاميين لتثير غضب الشارع بسبب حالة الغلاء الطاحنة الراهنة، وخلق بلبلة عامة تمهد المسرح لقوى الإسلاميين داخل الجيش، إن كانوا لا يزالون يملكون وجودا فاعلا هناك.
يحاول الحزب الشيوعي حاليا، ومعه من يسيرون على خطه "دك" أوراق اللعبة القديمة للثورة التي ارتضمت بجدار صلد، وإعادة "شك" ورق لعبة الثورة من جديد. غير أن هناك أسئلة مهمة تطرح نفسها، وهي: ما الذي سيجعل التحالف الذي يزمع الحزب الشيوعي بناءه الآن مختلفا عن تحالف "قحت"؟ وما الذي سوف يعصمه من التشقق والتشرذم هو الآخر، خاصة أن تجربة التحالف القديم لم تتجاوز العامين؟ أيضا هل الشارع الآن بنفس قوة تماسكه التي أوصلت الثورة نقطة انهيار نظام الإنقاذ، أم أن التشققات قد اعترت جسده، هو الآخر؟ من المهم جدا في تقديري ألا يتجاهل بناة التحالف الجديد أن للجبهة الثورية جمهورا عريضا، خاصة في العاصمة، ولسوف يقف هذا الجمهور حيث تقف. يضاف إلى ذلك أن الحزبين الكبيرين لهما ارتباطاتهما مع القوى الإقليمية التي لا تخفى على أحد، إضافة إلى تقاطعات هذه المنظومة مع كتلة الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة.
لو ترك الجميع التدابر وتعاونوا على ترك الفترة الإنتقالية تمضي بهدوء، إلى حال سبيلها المرسوم، مع كل عللها الظاهرة، حتى تبلغ نقطة الانتخابات، لكان خيرا. وهذا ما دعا إليه بيان المؤتمر الشعبي الأخير، غير أنه ذكر باقتراحة بتقصير الفترة الانتقالية. خلاصة القول، لو أثمرت لنا هذه الفوضى كتلتين رئيسيتين كبيرتين لخوض الانتخابات، نكون قد وضعنا أقدامنا على الأرض السودانية الصلدة الجديدة. أما الحلم بأن من الممكن استعادة زمام الشرعية الثورية، عبر إعادة اصطفاف جديدة للجماهير، والظن بأن ذلك سوف يحقق على أرض الواقع ما ظلت تتصوره الأقليات السياسية اليسارية، في أدبياتها الكلاسيكية، فحلم بلا سيقان.
|
Post: #211
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-12-2020, 09:32 PM
Parent: #210
مع الشيوعي في البحث عن بندقية النور حمد صحيفة التيار 13 نوفمبر 2020 الميزة الرئيسة لثورة ديسمبر 2018 أنها تجاوزت كل أفق خطه ابن أنثى سوداني للكيفية التي سوف تجبر نظام الإنقاذ، المدجج بالسلاح والمحروس بجيوش من القوى الأمنية الشرسة، على الجثو على ركبتيه والتسليم لإرادة الشعب. لقد كانت ثورة ديسمبر من أنصع الثورات في تاريخ العالم، من حيث الالتزام بالسلمية بصرامة مدهشة. وكان ذلك هو ما خلب ألباب العالم، فطفق قادته وشعوبه يتغنون بها في كل مكان. لم تكن القوى الحزبية السودانية مؤمنة تمام الإيمان بالشعب في أي يوم من الأيام. ولو نظرنا إلى تاريخ مقاومة الأنظمة العسكرية الثلاثة التي حكمت السودان على مدى 52 عاما، لوجدنا أن استنفار الجماهير إلى الثورة ضد تلك الأنظمة قد ظل مصحوبا على الدوام، إما بمحاولات انقلابية، وإما بغزو أجنبي ينطلق من واحدة من دول الجوار. ويمكن القول بكل اطمئنان أنه لا يوجد جسم حزبي واحد، من الأحزاب الفاعلة، التي أدخلت نوابا إلى البرلمانات المختلفة، بقيت بلا تغلغل من نوع ما داخل المؤسسة العسكرية. خلاصة القول هنا، أن الثورة السلمية "كاملة الدسم" ، لم تكن مبدأ رأسخا لدى أي من أحزابنا الفاعلة. فهي أحزاب ذرائعية لا تعرف الالتزام بمبدأ، ولا تعرف اتساق المواقف.
لعلنا جميعا نذكر أيام التجمع الوطني الديموقراطي المستضاف في أسمرا، والحديث عن الانتفاضة المحمية بالسلاح. حينها، اصطفت الأحزاب السودانية الفاعلة، بلا استثناء، وراء بندقية جون قرنق. لكن ما لبث جون قرنق أن انزلها من ظهره بهدوء وانخرط في التفاوض مع نظام الإنقاذ بمعزل عنها. ثم دخل في شراكة ثنائية للحكم مع الإنقاذ، حبست كل القوى السياسية خارج السور. انتهت تلك الشراكة الثنائية، بعد ستة سنين من اتفاقية نيفاشا، بانفصال الجنوب. وحاليا لا تمر مدة الا ونسمع بمذكرة للتفاهم جرى توقيعها بين حزب ما وفصيل مسلح. من ذلك، على سبيل المثال، التفاهم حول علمانية الدولة الذي جرى في أديس أبابا، بين الحزب الشيوعي السوداني ومجموعة عبد العزيز الحلو المسلحة. ومنها مذكرة التفاهم التي جرى توقيعها في القاهرة بين الاتحادي الأصل ومجموعة مني أركو مناوي المسلحة. وأخيرا كانت مذكرة التفاهم بين الحزب الشيوعي السوداني ومجموعة موسى هلال المسلحة. وهي، في تقديري، الأغرب بين كل رصيفاتها.
يمكن للمرء أن يقفز مباشرة للسؤل الذي يفرض نفسه بصورة تلقائية، وهو: لماذا لم يوقع الحزب الشيوعي مذكرة تفاهم مع قوات الدعم السريع، ما دام لديه ما يسوغ به توقيع مذكرة تفاهم مع مجموعة موسى هلال؟ فلو نحن نظرنا إلى بدايات التطهير العرقي في دارفور، ابتداء من عام 2003 لوجدنا أن المجتمع الدولي لم يكن يتحدث، ولم تكن أصابعه تشير إلى شخص غير السيد، موسى هلال. الغريب أن السكرتير العام للحزب الشيوعي فتح النار بصورة محددة، في مؤتمره الصحفي الذي أعقب مذكرة التفاهم مع مجموعة موسى هلال، بيوم واحد، على قوات الدعم السريع. وكأنه يريد بذلك الهجوم دعم مذكرة التفاهم التي وقعها وإرضاء حليفه الجديد. كما كان من الملاحظ، أيضا، تجنب السكرتير العام للحزب الشيوعي التحدث عن القوات المسلحة، رغم أنها هي التي تدير الصناعات الحربية ومنظومة شركاتها التي قال رئيس الوزراء عنها: إنها تستحوذ على 80٪ من مداخيل الدولة، وإنها خارج رقابة ومراجعة جهاز الدولة . يضاف إلى ذلك، أن القوات المسلحة، باعتراف الفريق أول، شمس الدين الكباشي، كانت هي التي أمرت مع بقية شركائها بفض الاعتصام، على النحو الوحشي الذي جرى. لابد والحال كذلك أن نقول للحزب الشيوعي إن هذا النوع من الانتقائية في المواقف، الذي تفرضه التكتيكات السياسية الوقتية، لن يجد الاحترام من أحد.
السيد موسى هلال متهم من جانب المحكمة الجنائية الدولية، وعليه عقوبات من جانب الأمم المتحدة. وعموما، المتهم برئ حتى تثبت إدانته. لكن، ينبغي أن ننتظر حتى تثبت براءته. لماذا يريد الحزب الشيوعي، قبل أن يجري إخلاء ساحة السيد موسى هلال تماما، أن يدخل معه في تفاهمات يدخل بها نفسه في مدار خارجي معقد، تدور في مساراته المحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة؟ هذه في تقديري ذرائعيةٌ بلا ضفاف وفقدان للبوصلة ومجافاة لما يقتضيه الموقف الأخلاقي ونسف كامل للاتساق في المواقف السياسية. يضاف إلى كل ما تقدم، فإن الحركات المسلحة تدافع عن قضايا الهامش، وهي، بهذا الوصف، لا تقع ضمن إطار تحليلات الحزب الشيوعي وتنميطاته. لقد خرج الحزب الشيوعي ليحرك الشارع ضد الحكومة التي أتى بها، رغم وجود كوادره داخلها. لكنه سرعان ما قام بهذه القفزة الهائلة في الظلام ليوقع تفاهما مع مليشيا لا تزال مطاردة قانونيا من قبل المجتمع الدولي.
|
Post: #212
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-15-2020, 02:19 AM
Parent: #211
الأدوية والعبث بأرواح الناس النور حمد صحيفة التيار 15 نوفمبر 2020 إن أسوأ ما يصيب أمة من الأمم هو تخريب الضمائر حد إماتتها تماما، وقتل الحساسية وسط الصفوة المتنفذة تجاه معاناة عامة الناس. وهذا ليس جديدا، وإنما هو قديم قدم التاريخ. فقد جاء في القصص القرآني: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا". وتحتاج هذه الآية إلى شرح كثير ليس هذا محله. الشاهد، أن نهج تدمير ضمائر الصفوة وإماتتها ظل يتنامى منذ نيل الاستقلال، وقد بلغ أوجه في فترة حكم الإنقاذ. ولا يوجد ما هو أكثر إنامة للضمائر، وإماتة لها، من المفاهيم الدينية الخاطئة. والمفاهيم الدينية الخاطئة هي ما روجت لها الإنقاذ طيلة سنوات حكمها الثلاثين، فانتهى الأمر بها إلى تحويل الحزب الحاكم وذيوله إلى أكبر سارق للمال العام في العالم. والآن، ما أكثر تمظهرات موت الضمير في حياتنا اليومية. فكل أزماتنا المتعلقة بأساسيات العيش؛ كالخبز والدواء والوقود، يمثل موت الضمير واحدا من أهم مكوناتها. ولا ينحصر موت الضمير وفقدان الحساسية تجاه معاناة الناس في حالتنا الراهنة، في كارهي الثورة وجيوشهم الناشطة بكل سبيل في العمل على إفشال الفترة الانتقالية، وإنما يمتد فقدان الحساسية وموت الضمير إلى التنفيذيين الذين أتت بهم الثورة. فالداء منقسم بين الفريقين. فلولا غفلة السلطات وقلة حساسيتها وعجزها الإداري، ما وجد المستهترون مجالا للاستهتار والعبث بحيوات الناس.
لقد انشغلت وسائط التواصل الاجتماعي والأوساط الصحفية منذ قرابة الأسبوعين بالفيديو الذي صوره سائقو الشاحنات المحملة بالأدوية التي ظلت تنتظر التفريغ جنوب الخرطوم، لما يزيد عن عشرة أيام. غير أن المسؤولين لم يتحركوا سوى قبل بضعة أيام. فقام السيد عمر مانيس بزيارة الصندوق القومي للإمدادات الطبية، كما قام الدكتور عبدالله حمدوك بإقالة مديرة الصندوق. وما دام أن تقصير المديرة قد ثبت بما برر إقالتها، فلماذا لا تقدم ضدها وربما بعضا ممن حولها من مرؤوسيها تهما جنائية؟ فالذي جرى فيه تلاعب صراح بأرواح الناس.
تعللت إدارة الصندوق القومي للإمدادات الطبية بأنها غير قادرة على استيعاب الشحنات الجديدة لنفاد السعة التخزينية لديها. فإذا كانت أرفف الصيدليات فارغة والناس في طول البلاد وعرضها يشكون لطوب الأرض من انعدام الأدوية، بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة، فما الذي يجعل مخازن الإمدادات ممتلئة؟ هل يحجزون الأدوية في المخازن لتستفحل الأزمة؟ ولماذا لم تحدث مشكلة التخزين هذه طيلة السنوات الماضية؟ لماذا حدثت الآن بالذات؟ ونحب أن نذكر الصندوق القومي للإمدادات الطبية أنه سبق أن تفاخر في سنة 2017 أنه زاد السعة التخزينية بمقدار 46 ألف متر مكعب بتكلفة بلغت 174مليون جنيه. والسؤال الأخير: ألا يعلم الصندوق أن هذه الأدوية قد تحركت من البلاد التي أتت منها، ثم تحركت بالشاحنات من بورتسودان متجهة إلى الخرطوم، وأن من واجب الصندوق أن يكون جاهزا لتفريغها من حمولتها؟ وأن من واجبه أيضا أن تكون له خطط احتياطية كاستئجار مخازن مبردة؟ فإما أن أمور البلاد وحياة الناس تدار بعبث واستهتار ولا مسؤولية تفوقان التصور، أو أن هناك قصدا مبيتا لاستمرار أزمة الدواء وهلاك المواطنين، لكي تكسب من ذلك جهات سياسية او تجارية بعينها.
أما إعلامنا؛ الحكومي وغير الحكومي، فأمره عجب. حاولت أن أجد تحقيقا شافيا حول هذه القضية، وهي قضية رأي عام من الدرجة الأولى، فلم أجد ما يشفي الغليل. وشكرا لوسائط التواصل الاجتماعي، فقد أثار هذه القضية سائقو الشاحنات الذين تضرروا من طول الانتظار وتعطل عملهم، وإلا ربما لم نسمع بهذه المشكلة أصلا. وبعد أن سمعنا بها توقعت أن تتسابق محطات التلفزيون والصحف إلى الموقع لتنقل تقارير حية وتسأل هل هذه الأدوية في شاحنات مبردة أم في حاويات قابعة تحت شواظ الشمس. فدرجة الحرارة داخل حاوية مغلقة يمكن أن تصل منتصف النهار إلى أكثر من 50 درجة مئوية. وإذا كانت الأدوية في حاويات وليس في شاحنات مبردة فهل تصلح هذه الأدوية بعد أن بقيت عشرة أيام تحت درجة حرارة عالية؟ ينبغي على مجلس الوزراء أن يأمر المسؤولين في مثل هذه الحالات بإقامة مؤتمرات صحفية يسألهم فيها الإعلام. بل يجب أن يلزموا من قبل الحكومة بقبول دعوات الفضائيات لهم والحضور إلى الأستديو والإجابة على أسئلة حارقة يقدمها محاورون مقتدرون. بغير هذا سيبقى المسؤولون على هذه الحالة الكارثية؛ يرتكبون كل الموبقات ويستهترون بحياة الناس، ويندسون وراء وظائفهم، رافضين الحديث للإعلام.
|
Post: #213
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-15-2020, 08:39 PM
Parent: #212
التخبط الجيواستراتيجي النور حمد صحيفة التيار 16 نوفمبر 2020 التخبط الجيواستراتيجي في سياسية السودان الخارجية شأن قديم يعود إلى مرحلة العمل الوطني المنادي بالاستقلال، منذ الربع الثاني من القرن العشرين. وقد كان لحالة الشد والجذب التي نتجت عن الصراع بين تيار الاستقلاليين والاتحاديين تأثيرها السالب على توجه السودان الجيواستراتيجي. ورغم أن الاتحاديين، دعاة الوحدة مع مصر، انحازوا في اللحظات الأخيرة التي سبقت الاستقلال إلى الخط الاستقلالي، إلا أن الانجرار وراء مصر ودعوة القومية العربية استمر حتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. حين وصل العقيد جعفر نميري إلى السلطة بالانقلاب العسكري عام 1969، بدأ حكمه يساريا متماهيا مع الخط القومي العربي، ودار السودان تبعا لذلك في فلك الناصرية والاتحاد السوفيتي. لكن تغير الوضع عقب محاولة الانقلاب التي قام بها الشيوعيون، وإبعاد السادات الخبراء الروس والتوجه نحو الغرب.
في بداية تسعينات القرن الماضي، أخذ التوجه الجيواستراتيجي خطا راديكاليا، بسبب وصول الإسلاميين إلى السلطة، خاصة في العشرية الأولى التي سيطرت فيها رؤى الدكتور حسن الترابي العامدة إلى تصدير الثورة إلى ما وراء الحدود. فنشأت التوترات مع دول القرن الإفريقي وبلغت حد قطع العلاقات. وازدادت التوترات مع دول الخليج نتيجة لموقف الإسلاميين في السودان من غزو صدام حسين للكويت. كما أنجر السودان إلى المحور الإيراني نتيجة لإعجاب إسلاميي السودان بالثورة الإيرانية، وتصورهم لإمكانية نشوء حلف بين الإسلام السياسي وإيران، يعيد رسم خريطة المشرق العربي على نحو جديد. الشاهد، أن السودان بقي بلا بوصلة جيواستراتيجية منذ استقلاله وإلى يومنا هذا.
بلغ التخبط الجيواستراتيجي في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس المخلوع عمر البشير، مبلغا لا يصدق. فبعد أن تغلغل الإيرانيون في السودان سياسيا وعسكري وعقديا في السودان، قلب لهم الرئيس البشير ظهر المجن وقطع علاقاته معهم. بل، وأرسل الجنود السودانيين إلى اليمن ليحاربوا ضد الحوثيين حلفاء إيران. حدث هذا بعد أن كانت إيران تهرب السلاح إلى حماس عبر الأراضي السودانية بتنسيق كامل مع حكومة الرئيس البشير، وبعد أن أصبحت البحرية الإيرانية ضيفا معتادا على ميناء بورتسودان، الأمر الذي أقلق السعودية ومصر ودول الخليج. وبلغ البشير في التخبط الجيواستراتيجي درجة العبط، حين طلب من بوتين بحضور أجهزة الإعلام حماية نظامه من خطر الأمريكيين، وعرض على روسيا إنشاء قاعدة عسكرية في السودان.
في عام 2017 قال المدير الأسبق لإدارة الإعلام بوزارة الدفاع السودانية، اللواء متقاعد محمد عجيب، في مقابلة مع وكالة "سبوتينك": "أعتقد أن بلادنا بحاجة لتعاون عسكري مع روسيا إلى جانب التعاون السياسي والاقتصادي المستمر، مشيرا إلى أن بناء قواعد عسكرية روسية في البحر الأحمر سيؤدي إلى خلق توازن في المنطقة ويعيد للسودان الكثير من الأدوار التي كان يلعبها في محيطه العربي". ويبدو أن ما تحدث عنه اللواء المتقاعد محمد عجيب في عام 2017 حول ما يراه ضرورة لوجود قاعدة روسية في السودان، أصبح في طريقه إلى التحقق حاليا. فقد أوردت سكاي نيوز عربية، قبل بضعة أيام، أن روسيا ستنشئ قاعدة بحرية شمال بورتسودان. وأن مسودة الاتفاق تنص على أنه يحق لروسيا أن تنقل عبر مطارات ومرافئ السودان أسلحة وذخائر ومعدات تعد ضرورية لتشغيل القاعدة البحرية.
من جانب آخر بدأت في الأيام القليلة الماضية مناورات مشتركة بين السودان ومصر يشترك فيها سلاح الجو المصري، منطلقة من مطار مروي. يجري هذا في ظل تلويح مصر المستمر بضرب سد النهضة، ما يجعل إثيوبيا تنظر إليها، وبالضرورة، بادرة عداء سودانية. خاصة بعد أن انخرطت الحكومة الأثيوبية في حرب مع إقليم التقراي الذي أخذ يخرج عن طوعها. وأيضا، في وقت لا تزال فيه قضية سد النهضة عالقة، ولا تزال فيه حلايب السودانية محتلة من جانب مصر. يجري كل ذلك في وقت تعود فيه العلاقات السودانية الأمريكية إلى طبيعتها السابقة لفترة فرض العقوبات، وأيضا، في وقت تجري فيه خطوات التطبيع مع إسرائيل. يشير كل ما تقدم إلى أن السياسة الخارجية السودانية لا تزال تعيش في ظل تخبط وتقلبات فترة حكم البشير. كما أنها، فيما يبدو، لا تنطلق من مركز حكم واحد، وإنما من مركزين، وربما أكثر. ولهذا التخبط ثمنه الذي ستدفعه البلاد عاجلا أو آجلا.
|
Post: #214
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-17-2020, 10:37 PM
Parent: #213
خطر اللامبالاة تجاه الكورونا النور حمد صحيفة التيار 18 نوفمبر 2020 أصبت بفيروس كورونا قبل ثلاثة أسابيع، وتأكدت إصابتي بالفحص المعملي بعد حوالي أسبوع من بداية الأعراض. وبحمد الله تجاوزت المرحلة الحرجة وأخذت أتعافى بصورة مضطردة، لكنها بطيئة. وأود أن أقول إن هذا المرض لا يشبه أي مرض آخر. لقد أصبت منذ طفولتي، وإلى الآن، بكل أمراض المناطق الحارة، ربما بلا استثناء، لكني لم أجد مرضا ممضا وهادما للقوى البدنية ومسببا لأقصى درجات الوهن واعتلال المزاج مثل هذا المرض العجيب. ويبدو لي أنه يعبث بكل كيمياء الجسد الطبيعية. فهو يطالعك كل صبح جديد بأعراض جديدة. ومن غرائبه التي حدثت لي، ارتفاع غير طبيعي في سكر الدم، رغم أنني لست مصابا بمرض السكري. فحتى في الأيام التي لم أكن قادرا فيها على تناول الطعام، يتعدي سكر الدم لدي، بعد ساعتين من تناول كوب شاي بالحليب من غير سكر 300. الشيء اللافت في مرحلة التعافي الشعور بالوهن الشديد واضمحلال القوى البدنية. ويبدو أن هذه المرحلة تستمر لدى بعض الناس لفترة قد تمتد لشهرين، وربما أكثر، حسب ما قرأت في العديد من التقارير الطبية المتخصصة. خلاصة هذه المقدمة، واستنادا على تجربتي، أنصح بأن نتجنب، بكل سبيل ممكن، الإصابة بهذا المرض.
قادتني حالة الوهن البدني لأن أفكر في من يكسبون عيشهم بقواهم البدنية، كالحمالين والبناءين والحفارين والميكانيكية والحدادين والسمكرية والسباكين، وغير ذلك من المهن التي تعتمد على الجهد البدني، وعلى تحصيل رزق اليوم باليوم. فبالإضافة إلى خطر هذا المرض الذي يتسبب في الوفاة، لدى نسبة من المصابين، تزيد وتنقص وفقا لمختلف العوامل، فإنه يمكن أن يتسبب، أيضا، في ضيق بالغ في العيش للأسر التي تعتمد على عائل واحد يكسب قوته بالجهد البدني. الشاهد أن لهذا المرض آثارا اقتصادية مدمرة على الأسر. خاصة، أن الإصابة به يمكن أن تتكرر بعد بضعة أشهر من تلاشي المناعة المؤقتة المكتسبة. ورغم البشريات بالتوصل إلى لقاح، إلا أن وصول اللقاحات إلى دول العالم النامي سيأخذ وقتا، لأن هناك الكثير من العوائق التي تعترض وصوله بالسرعة المطلوبة. لذلك، تقتضي الفترة الحالية منا جميعا أخذ أقصى درجات التحوط و التعامل مع الأخطار الجمة لهذا المرض بالجدية اللازمة، والالتزام الصارم بالموجهات.
لقد بدأت الآن الموجة الثانية لهذا الفيروس. ويبدو انها أكثر شراسة وأكثر انتشارا من الموجة الأولى. فقد ازدادت الإصابات في الولايات المتحدة، في شهر واحد، من 7 ملايين إلى 11مليون. وبلغ عدد الوفيات ربع مليون شخص. وقد كان لاستهتار الرئيس ترمب بالجائحة وتشجيعه على عدم لبس الكمامات وسط مناصريه، الدور الرئيس في هذا الانتشار المخيف. ويجري هذا الانتشار الآن بدرجات متفاوتة في مختلف دول العالم. المزعج في الأمر أننا هنا في السودان شرعنا في التعامل مع الموجة الثانية، بحذر أقل، بكثير، مما تعاملنا به مع الموجة الأولى. وقد ضربت حكومتنا مثلا في السلوك اللامبالي، حين سمحت بالاحتفال بتوقيع السلام على النحو الذي شاهدناه في ساحة الحرية. وأتوقع أن تظهر الآثار الكارثية لذلك التجمع الكبير في الأسابيع المقبلة، و"ربنا يكضب الشينة".
لكي نتجنب حدوث وضع كارثي نعجز عن التعامل معه، ينبغي أن نتجنب التجمعات في صالات الأفراح وصيونات الأتراح. وأقترح أن يدخل المصلون المساجد بالكمامات، وان يقفوا متباعدين. وكذلك أن يخفف الإئمة الصلاة. وكذلك أن تفرض المحليات على المتاجر والمولات توفير المعقمات وأن تفرض لبس الكمامات داخلها. وهناك الكثير من الإجراءات الاحترازية التي يمكن أن نشرع فيها الآن، حتى لا تقع الفأس على الرأس. وأن نوسع من الإجراءات ونتشدد في تنفيذها كلما زادت الإصابات، بل قبل أن تتفاقم الأوضاع . لكن، ما أراه الآن أن حكومتنا ووزارة الصحة تغطان في نوم عميق. أما إعلامنا فلا زال على ماهو عليه من عدم المعرفة بأخذ زمام المبادرة. فجائحة الموجة الثانية لا تزال لا تحتل موقعا متقدما في سلم أولوياته. وعموما كان إعلامنا الرسمي، على الدوام، "عبد المأمور"، ويبدو أنه سيظل كذلك.
|
Post: #215
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-20-2020, 08:51 PM
Parent: #214
لابد من إجراءات قبل الإغلاق الكلي النور حمد صحيفة التيار 21 نوفمبر 2020 أوضحت اللجنة العليا للطوارئ الصحية يوم الخميس أنه ليس لديها اتجاه لفرض إغلاق كامل وتقييد للحركة. وذكر وزير الصحة المكلف فيما نسبته إليه صحيفة السوداني: "أن الإغلاق يتوقف على مدى انتشار المرض وقدرة المجتمع على التعامل مع كورونا". لكن، يمكن القول، وبثقة تامة، أن المرض ينتشر وبوتيرة متسارعة، وأن الإحصاءات الرسمية لا تعكس حقيقة ما يجري في الواقع. أما قدرة المجتمع على التعامل مع الكورونا بالانضباط الذاتي، فمتدنية للغاية، ولا ينبغي أن نعول عليها. وقد شاهدنا جميعا لامبالاة المجتمع بالاحترازات الصحية في تجربتنا مع الموجة الأولى. فتجربة الإغلاق الفائتة لم تفعل شيئا سوى أنها قيدت الحركة بين المدن الثلاث، وبقي سكان كل مدينة يتحركون داخلها طولا وعرضا بحرية تامة. ومع ذلك كانت لذلك الإغلاق على علاته فوائده. كما أن منع الحركة بين العاصمة والأقاليم لم يكن محكما، بل كان فاشلا بكل المقاييس. لا أدعو هنا إلى القفز إلى فرض الإغلاق الكلي الذي له آثاره المعيشية الضارة على كثيرين، وإنما أدعو إلى اتخاذ العديد من الإجراءات الممكنة التي تقلل من الانتشار. ويقتضي ذلك شن حملة إعلامية وإدارية، ضخمة وفاعلة لفرض إجراءات محددة لمنع الانتشار. فالناس ليسوا أحرارا في الإضرار بالآخرين. عدت من الولايات المتحدة قبل شهر ورأيت كيف أن مؤسسات الدولة تفرض على المواطنين إجراءات بعينها. وكيف أن مؤسسات القطاع الخاص تلتزم بتطبيق تلك الإجراءات بحرفية. ومما يمكن فرضه حاليا على سبيل المثال، إيقاف حفلات الزواج في الصالات وجعل الزواج قاصرا على إجراءات العقد بين فئة قليلة من أهل الزوج وأهل الزوجة مع الاحترازات الأساسية كلبس الكمامة والتباعد في الجلوس. ومن لا يقبل بذلك عليه تأجيل الزواج حتى تتغير الأوضاع الصحية. أيضا لابد من حث الناس على لبس الكمامة عند دخول المساجد وأن يقوم الأئمة بالتنبيه المستمر والتحدث مباشرة مع المخالفين . أيضا، من الضروري أن يقف الناس في صفوف الصلاة متباعدين، بصورة تمنع اختلاط الأنفاس. ويشمل ذلك صلاة الجنازة مع قصر الدفن على فئة قليلة من الناس، مع أخذ كافة الاحتياطات. كما ينبغي تنبيه المصلين في المساجد إلى ضرورة أن يحتفظ المصلي بمنديل أو فوطة صغيرة ليضعها مكان وضع الرأس في السجود. فلربما وضع مصاب رأسه في نفس هذا المكان في الصلاة الفائتة واحتفظ بساط المسجد بالفيروس من أنفاس ذلك الشخص المصاب او الحامل للفيروس.
أيضا، لابد للإعلام أن يخرج من غفوته ويجعل من التحذير من خطر الموجة الثانية هذه على رأس أولوياته. فالناس لا يحذرون إلا إذا أدركوا جدية الخطر وخافوا من العواقب. فعلى الإعلام أن يكثر من الحديث عن الكورونا وأخطارها الماحقة. ومن الملاحظ أن وسائط التواصل الاجتماعي تمتلئ بتحذيرات من مختصين، تصور مبلغ الخطر وتحذر منه بشدة، لكننا لا نجد تلك التحذيرات في الإعلام الرسمي. أيضا، للقطاع الخاص دورا هاما ينبغي أن يلعبه، ويقتضي ذلك أن تفرض الجهات الإدارية موجهات للمتاجر الكبيرة التي ترتادها أعداد كبيرة من الناس. من ذلك توفير معقمات الأيدي وتوفير الكمامات لمن يأتي من غير كمامة، وإذا لم يوفر المتجر الكمامة عليه منع من لا يأتي بكمامة من الدخول. وعلى المتاجر أن تضع مواجهات لضمان التباعد بين المتسوقين داخل المتجر.
أيضا لابد أن تلعب الشرطة دورا في تنظيم صفوف المخابز وفقا للموجهات الصحية. ولابد للمحليات من مراقبة عمال المخابز وتجمعات بائعات الشاي والكافتيريات والمطاعم وفرض غرامات على من لايرتدون قفازات ولا يلبسون كمامات، خاصة عمال المخابز والجزارات والفواكه والخضروات الذين يعبئون السلع للزبائن في الأكياس. الشاهد أن هناك عدم احساس بالخطر من جانب السلطة ومن جانب الشعب، وهناك ما يمكن أن نسميه تراخيا عاما. عموما إن ما أقترحه هنا مجرد أمثلة وليس استقصاء لما يمكن فرضه بقوة القانون من إجراءات. وإذا لم تتخذ الإجراءات وتجري متابعة تنفيذها بصرامة، فإن هذه الموجة الثانية ستكون مدمرة، خاصة أن بلادنا لا تملك الإمكانيات الضرورية لمواجهة هذا النوع من الجوائح المدمرة.
|
Post: #216
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-24-2020, 09:15 PM
Parent: #215
حرب التقراي: هل ينجح الحسم العسكري؟ النور حمد صحيفة التيار 25 نوفمبر 2020 حدثت الكثير من الحركات الانفصالية عن الدولة المركزية، في كثير من الأقاليم، في مختلف القارات، في التاريخ الحديث والمعاصر. وقد انقسم التعاطي مع النزعات الانفصالية، بصورة عامة، بطريقتين: تتمثل الأولى في قبول الدولة المركزية الانفصال عبر استفتاء قد يأتي غالبا بعد الفشل في الحسم العسكري. أما الطريقة الثانية فهي رفض التفاوض مع الإنفصاليين والاتجاه إلى الحسم العسكري واستئصال شأفتهم نهائيا، وتوحيد البلاد بالقوة العسكرية. من التجارب البارزة التي اختارت طريق الحسم العسكري، تجربة الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865)، التي اشتعلت بعد فترة قصيرة من تنصيب الرئيس أبراهام لينكلن. وقد كان قرار تحرير الرقيق سببا مباشرا في أن تعلن الولايات الجنوبية الانفصال عن الاتحاد الأمريكي لتشكل فيما بينها كونفدرالية تضمها معا، في انفصال كامل عن الدولة المركزية. اختار الرئيس أبراهام لينكلن محاربة الولايات الجنوبية وتمكن من هزيمة جيوشها وأخضعها بالقوة لسلطة المركز. ومن التجارب الآسيوية تجربة توحيد فيتنام بهزيمة أمريكا التي كانت معسكرة في الشطر الجنوبي، بواسطة قوات الفيتكونغ المدعومة، حينها، من الاتحاد السوفيتي والصين. ومن تجارب الحسم العسكري الإفريقية البارزة تجربة نيجيريا. فقد اندلعت الحرب الأهلية النيجيرية بين الحكومة المركزية وبين إقليم بيافرا الذي كان يسعى للانفصال في 6 يوليو 1967 وانتهت بهزيمة الإنفصاليين في 15 يناير 1970. وقتها كان يحكم نيجيريا الجنرال يعقوب قوون، في حين كان يتزعم الحركة الانفصالية الكولونيل أودوميقوو أوجوكو. وهناك حرب اليمن التي وحدت شطري اليمن في عام 1994 في عهد الرئيس الراحل، علي عبد الله صالح. انهزمت قوات الشطر الجنوبي هزيمة ساحقة أمام قوات الشطر الشمالي، وسقطت مدينة عدن، وفرت قيادات الشطر الجنوبي الشيوعية إلى خارج البلاد. ومن التجارب المتأخرة تجربة سريلانكا في هزيمة نمور التاميل في عام 2009 واستئصال شأفتهم بعد عقود من النزاع المسلح بدأ منذ عام 1983. وهذا مجرد أمثلة من نماذج فرض الوحدة بالقوة.
يجري فرض الوحدة بالقوة العسكرية حين تكون الحكومة المركزية قادرة على هزيمة الإنفصاليين عسكريا هزيمة ساحقة. ويقتضي هذا أن تكون الدولة المركزية تملك من القدرات العسكرية ما يمكنها من الحسم العسكري. يضاف إلى ذلك، أن تكون مصممة ومؤمنة بحقها في فرض الوحدة، ومستقلة تماما في قرارها السياسي، وكذلك تقف وراءها وحدة وطنية صلدة. ويمكن القول أن أغلب الحروب التي انتهت بالانفصال وقف وراءها عجز الدولة عن الحسم العسكري. وتمثل التجربة السودانية واحدة من أوضح الأمثلة في العجز عن الحسم العسكري. فالحرب الأهلية السودانية تعد من أطول الحروب الأهلية. وقد كان من الممكن تجنب تلك الحرب تماما وتجنب الانفصال، لولا غطرسة النخب المركزية وقلة حكومتها ووعيها السياسي. فالجنوبيون لم يطالبوا سوى بحكم فيدرالي داخل إطار الدولة الموحدة. فجرى رفض طلبهم وجرى التشنيع بالطلب وبطالبيه، وحدث التمرد، وانتهت الحرب بعد عقود طويلة بانفصال الجنوب عن طريق الاستفتاء.
والآن تسير حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في طريق الحسم العسكري. فقد رفض أبي أحمد كل الوساطات والدعوات للمفاوضات التي جاءت من المجتمعين الإقليمي والدولي. وأصر على الزحف على مدينة ميكللي عاصمة إقليم التقراي والاستيلاء عليها وفرض سلطة الدولة المركزية على الإقليم بقوة السلاح. وكما أشرت في مقدمة هذه المقالة فإن طريق الحسم العسكري نجح في تجارب عديدة. بل إن تجارب نجاح خيار الحسم العسكري أكثر بكثير من تجارب تحقيق الانفصال. لكن شرط نجاح خيار الحسم العسكري هو، بطبيعة الحال، امتلاك القوة العسكرية الحاسمة وكذلك المهارات العسكرية المتفوقة على الخصم. ولذلك فإن حكومة أبي أحمد أمام امتحان عسير. فإذا تعقدت الأمور واستعصى الحسم العسكري في وقت وجيز، فإن لذلك خطره الكبير على الدولة الإثيوبية. لأن ذلك سوف يظهر ضعف الحكومة المركزية عسكريا. ولربما يغري هذا بعض الأقاليم المتململة لتبدأ صراعا مسلحا مع الدولة المركزية. وهذا سيزيد من عدم قدرة الحكومة المركزية على الحسم، أذ تجد نفسها تحارب في أكثر من جبهة. كما أن الحكومة الإثيوبية سبق أن تلقت تهديدات عسكرية مصرية بسبب سد النهضة. عموما سيتضح في الأسبوع، أو الأسبوعين المقبلين، ما إذا كان إصرار حكومة أبي أحمد مستند على تفوق عسكري حقيقي وإرادة إثيوبية شعبية داعمة، أو ما أذا كان الأمر مجرد "ركوب رأس".
|
Post: #217
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 11-28-2020, 09:38 PM
Parent: #216
بين سلطة مهملة وجمهور لا يتقيد النور حمد صحيفة التيار 29 نوفمبر 2020 ورد في بيتين من الشعر منسوبين إلى الإمام الشافعي، قوله: "جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي/ وما حمدي لها شكرا ولكن عرفت بها عدوي من صديقي". وأود في سياق ما أود الحديث عنه في هذه المقالة أن أستخدم هذين البيتين في وجهة ما أظهرته جائحة كورونا من مثالب المسلك لدى نخبنا القائدة ولدى عامة الشعب. فمقدار حصيلتنا من التمدن والتحضر لم يسبق أن اختبرت بمثل ما اختبرت به في هذه الجائحة الهوجاء. كما لم تنفضح ضآلة محصولنا من التحضر والتمدن بمثل ما انفضحت به في هذه الجائحة، أيضا. لقد أهدتنا هذه الجائحة عيوبنا كأوضح ما يكون وليتنا عملنا بجد على التخلص منها. وتتمثل بداية التخلص منها في الاعتراف بها وترك المكابرة بشأنها.
منذ نهايات أكتوبر بدأ الحديث على مستوى العالم عن الموجة الثانية من جائحة كورونا. وقد بدأت الإصابات بها تتكاثر في نصف الكرة الأرضية الشمالي بصورة تنذر بخطر داهم. الأمر الذي حدا بالسلطات في عديد الأقطار للتفكير في الإغلاق الجزئي، وفي شن حملات التوعية الواسعة، وفي التشديد على ضرورة اتباع التوجيهات. وقد حدثت تفلتات في المجتمعات الغربية تمثلت في تظاهرات جماهيرية جرت هنا وهناك. وهذا طبيعي، فليس هناك مجتمع كامل التمدن. لكن، مع ذلك، لا مقارنة البتة بيننا وبين الغربيين في احترام القوانين وفي الانصياع لتوجيهات السلطات. الشاهد أن السلطات لدينا أظهرت افتقارا فاضحا للصفات القيادية وللقدرة على اتخاذ المبادرات التي تدرأ الأخطار.
في 15 نوفمبر أقامت الحكومة احتفالا جماهيريا جرى فيه استقبال قادة الحركات المسلحة العائدين بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام. وقد جرى حشد الجماهير لهذا اللقاء الجماهيري، فتوافد الآلاف إلى ساحة الحرية بالخرطوم رغم نذر الجائحة التي جعلت العالم بأجمعه يقف على أمشاط أصابعه. بعد خمسة أيام من الحشد الذي جرى في ساحة الحرية أقام فنان الطمبور محمد النصري حفلا غنائيا حاشدا بنادي ضباط القوات المسلحة أمه الآلاف من الشباب، الذين جلسوا متلاصقين بلا احتراز لساعات. ثم جاءت وفاة الإمام الصادق المهدي، عليه الرحمة والمغفرة والرضوان، ليتدافع الآلاف من الأنصار وغيرهم لتشييعه في جامع الخليفة. هذه الحشود الجماهيرية الضخمة حدثت كلها في مدة لم تتجاوز 12 يوما. فقد جرت في 15و 20 و 27 من نوفمبر الجاري. ويحمد لهيئة شؤون الأنصار أنها طلبت من الأنصار في الأقاليم تلقي العزاء في أماكنهم. غير أن الحشد الذي حضر التشييع كان صخما جدا وينذر بخطر كبير في الأسبوعين المقبلين. وأعتقد أننا نجني حاليا خطأ إقامة احتفال الساحة الخضراء وحفل نادي الضباط في هذا الاستشراء الكبير. ونسأل الله اللطف فيما هو مقبل.
نحن نعاني من أزمة تاريخية في القيادة، ومن ثم في القدرة على الأخذ بزمام المبادرة بإصدار التوجيهات وفرضها بقوة القانون على المواطنين. لقد جرت حشود نوفمبر بمباركة السلطات، بإستثناء تشييع الإمام الصادق المهدي، الذي لم يكن بمقدور السلطات التحكم المطلق فيه. لكن، كان من الممكن التحكم الجزئي فيه، وهو ما لم تقم به السلطات. أما الإعلام الحكومي فهو، كعادته، "صوت سيده". فهو لا يتحدث إلا بعد أن تتحدث السلطات، التي بدورها قليلا ما تتحدث حديثا مفيدا.
نحن في أزمة بنيوية مزمنة ومزدوجة، تتمثل في نخب متنفذة بلا صفات قيادية. فهي مشغولة بنفسها بأكثر مما هي مشغولة بالشأن العام وبالصالح العام. كما تتمثل، أيضا، في جمهور تدفعه عاداته التي أضحت أصناما معبودة، للانقياد الأعمى لتلك العادات، بأكثر مما ينصاع للعقل وللحكمة. فهو لا يعرف الانصياع للتوجيهات والتحذيرات التي تملأ وسائط الإعلام العالمية ولا يحترم شيئا مما تقوله السلطات هنا في السودان، إن هي خرجت وقالت شيئا. ولسوف يحصحص الحق فيما يتعلق بفداحة هذه الجائحة الثانية في الأسبوعين المقبلين. فهلا وضعنا خيار الإغلاق التام على الطاولة؟ وهلا استبقنا ذلك بإعلان الطوارئ الصحية وشرعنا في فرض إجراءات صارمة ووقفنا جميعا على أمشاط أصابعنا لدرأ خطر الموت الزؤآم الذي أخذ يدق على الأبواب؟ .
|
Post: #218
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-01-2020, 08:46 PM
Parent: #217
ماذا أعددنا لعودتنا المتوقعة إلى العالم؟ النور حمد صحيفة التيار 2 ديسمبر 2020 بدأت أشائر انفتاح الفرص لبلادنا في وصل ما انفصم من صلاتها بالعالم، تتبدى مع اقتراب أوان رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ورغم أن الرفع ليس مؤكدا 100٪، إلا أن زيارة وفد شركة بوينغ، عملاق صناعة الطيران الأمريكية، للبلاد يعد مؤشرا قويا، أن رفع اسم السودان قد أصبح في حكم الأمر الأمر الواقع. خاصة، إذا أضفنا إلى ذلك مهاتفة وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو، قبل يومين، للسيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. ويبدو أن شركة بوينغ قد سارعت بالوصول إلى السودان لتستعيد موقعا قديما فقدته بسبب التراجع المستمر في أداء الخطوط الجوية السودانية، ثم بسبب العقوبات التي استمرت لأمد طويل. فموقع السودان في خريطة الطيران في الإقليم، موقع بالغ الأهمية. يضاف إلى ذلك أن بوينغ قد فقدت لأسباب مختلفة، جزءا كبيرا من حصتها من السوق في هذه المنطقة الحيوية الواعدة بسبب المنافسة التي تسببت فيها عملاقة صناعة الطيران الأوروبية آيربص. ويمكن القول هنا إن المنافسة بين بوينغ وآيربص تمنح السودان نقطة قوة في أي اتفاق يجري إبرامه مع بوينغ. وقد كانت للسودان صلة قوية بشركة بوينغ. فأول نقلة كبيرة حدثت في أداء شركة الخطوط الجوية السودانية، إنما حدثت بعد استيراد الشركة طائرات بوينغ 707 وبوينغ 737 في بداية سبعينات القرن الماضي. ولقد كانت تلك الطائرات هي الأحدث والأكفأ في وقتها.
أيضا تردد في الأنباء أن وفدا تجاريا أمريكيا في طريقه إلى السودان، وأن وفدا إسرائيليا استثماريا، هو الآخر، في طريقه إلى السودان. ولن يكون هذا الإقبال المبدئي على السودان، في تقديري سوى مقدمة لهجمة استثمارية كبيرة ستتوالى بقوة بعد أن يصبح رفع ايم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب حقيقة واقعة. فالعالم كله يعرف ما يملكه السودان من موارد، إضافة إلى ما يؤهله له موقعه الجغرافي ليصبح منصة انطلاق، متعددة الوجهات لكبرى الاستثمارات العالمية. لكن يبقى كل ذلك رهين بإصلاح جهاز الدولة ومنظومة الخدمة المدنية واستئصال بؤر الفساد في المؤسسات الحكومية. فرؤوس الأموال الدولية متعطشة لفتح أسواق جديدة، خاصة في أفريقيا. لكن تبقى فرصة اغتنام هذه الفرصة الجديدة التي ربما لا تتكرر في وقت قريب، رهينة بما نقوم به نحن من إصلاحات إدارية، ومن جاهزية تخطيطية، ومن فهم مكتمل لما يعنيه ويتطلبه إدماج السودان مرة أخرى في المنظومة الدولية.
إن مشكلة السودان مشكلة سياسية وإدارية. وهي مشكلة تفردت بها بلادنا، من حيث الحدة والاستدامة، عن غيرها من دول العالم والإقليم. هذه المشكلة جعلت من البلاد، على مدى عقود، أشبه ما تكون ب "قربة مقدودة"، لا يحدث النفخ فيها أي أثر. فالعلة كانت ولا تزال كامنة في النخب السياسية وفي النخب العسكرية. وكذلك في بؤر الفساد في الجهاز البيروقراطي الإداري. باختصار شديد، بدأت تلوح أمام بلادنا فرص جديدة واعدة. غير أن اهتبال هذه الفرص وجني ثمارها يتطلب وعيا جديدا ونوايا صادقة وجاهزية. كما أن رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للأرهاب له متطلباته. وكما ذكر الكاتب والمحل السياسي شوقي عبد العظيم، أول أمس، في القناة السودانية، أن الحرب ضد الإرهاب أنتجت قوانين جديدة فيما يتعلق بالتحويلات المالية وبغسيل الأموال. ولسوف يصبح السودان مطالبا بالشفافية، وبتطبيق هذه القوانين في منظومته المالية والإدارية. يضاف إلى ذلك، أن نظام الإنقاذ الذي بسببه فرضت العقوبات لا يزال ممسكا بمفاصل الدولة. فالدولة الموازية لا تزال قائمة، ولا يزال الاصرار على استمرارها على أشده. ولا شفافية مع الدولة الموازية التي ستكون هي فضيحتنا الأكبر بين العالمين، والقوة المبددة للثقة الدولية، والمانعة لردم الهوة بين السعر الرسمي والموازي، والطاردة للاستثمار. باختصار، أمامنا فرصة جديدة . لكن سيكون احتمال ضياعها هو الأكبر، إن لم تكن نخبنا قد وعت الدرس بعد، كما ينبغي.
|
Post: #219
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-03-2020, 08:50 PM
Parent: #218
أزمة القيادة والتدريب ( 1 من 2) صحيفة التيار 4 ديسمبر 2020 النور حمد كل أمر من أمور حياتنا اليومية يصرخ بأعلى صوت أننا نعاني من مشكلة عويصة ومزمنة في القيادة وفي التدريب. فالقيادة leadership أصبحت علما يدرس في الجامعات، وتجري مواءمته مع مختلف التخصصات العلمية، والمجالات المهنية، بوصفه ركيزة من ركائز الإدارة؛ في التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقييم. لذلك أصبحت المؤسسات تهتم كثيرا بالتدريب القيادي. فبغير قيادة مقتدرة لا يستطيع أي مرفق، سواء كان حكوميا، أو خاصا أن يؤدي وظيفته على النحو الأكمل، وأن ينمو أفقيا ورأسيا في أدائه. تعود أزمة القيادة والتدريب في مرافقنا، في تقديري، إلى انصراف الأداء المؤسسي لدينا عن الاستهداء بالبحوث الجامعية على مستوى الكوكب، وعما تنتجه مراكز الأبحاث من دراسات متجددة حول القيادة. يضاف إلى ذلك أن الاهتمام بالبحث العلمي والصلة بالجامعات وبمراكز الأبحاث المتخصصة لدينا، هو أصلا ضعيف للغاية. ويعود هذا، في تقديري، إلى جهل النخب السياسية المتنفذة بضرورة المؤهلات القيادية وما تعنيه حقيقة في مضمار التطوير المستدام. يضاف إلى ذلك، عدم إيمان هذه النخب بأهمية دور المستشارين المتخصصين. فهي حتى حين تستخدم المستشارين، تجعل منهم مجرد ديكورات.
ربما يعود عجزنا المزمن عن وضع الشخص المناسب في المكان المناسب إلى جملة من العوامل؛ منها الطائفية، والعشائرية، والحزبية، ومختلف صنوف المحسوبية، وغير ذلك من مشاكل الأمم الداخلة لتوها في نطاق الحداثة. ومنها أيضا الترقية في السلم الوظيفي بناء على استيفاء القيد الزمني فقط؛ أي، ترقية المهني او الموظف أو العامل في السلم الوظيفي بناء على الأقدمية الزمنية. فعلى عهدنا في الخدمة المدنية كان الخريج الجامعي الذي يمضي أربع سنوات في الخدمة، يجري ترفيعه من الدرجة Q إلى الدرجة DS بصورة شبه تلقائية. ويظل يتدرج عبر استيفاء القيد الزمني، كل بضع سنوات، حتى يبلغ أعلى الدرجات في السلم. المشكلة أن الترقية باستيفاء القيد الزمني تجعل الباب مفتوحا لكي يصل من لا يملك الصفات القيادية إلى أعلى المواقع القيادية. وهذه كارثة كبيرة. فليس كل مهني أو موظف أو عامل يملك الصفات التي تجعل منه قياديا. المؤسسات جيدة الأداء هي التي تنتقي، عبر نظم التقييم المبنية على معايير علمية دقيقة، من يستحقون التصعيد للمواقع القيادية. ويجري ذلك عبر التقييم المستمر للأداء، والتمحيص الدقيق الذي يستصفي للترفيع من يمتلكون القدرات القيادية. فالتصعيد إلى الموقع القيادية ينبغي أن يجري بالإضافة إلى الأقدمية الزمنية، أيضا، على امتلاك الصفات القيادية التي يثبتها التدريب والتقييم السنوي للأداء.
من المهم جدا أن يكون الشخص القيادي في أي موقع، سواء في أعلى السلم الوظيفي أو في أسفله، صاحب رؤية ومبادرة، وصاحب قدرة على الملاحظة وعلى الاهتمام بأدق التفاصيل. أيضا، لابد أن يكون ذا شغف وكلف بالتطوير والتحديث، وأن تكون له شخصية ديناميكية لا يبتلعها الروتين اليومي، ولا يطفئ اتقادها ويبطئ توثبها. وأهم من كل ذلك أن يكون صاحب خيال يجعله قادرا على استباق الإشكالات. يضاف إلى كل ما تقدم، أن يكون صاحب حس نقدي وقدرة على المراجعة المستمرة وعلى التصحيح الفوري. وهذه صفات لا تتوفر سوى في قلة قليلة من الناس، وسط أي مجموعة بشرية. وكما سبق أن أشرت في صدر هذه المقالة فإن وصول الشخص الذي لا يملك المؤهلات القيادية إلى موقع القيادة يخلق إشكالات عويصة، ةلأن عدم الكفاءة يحول مثل هذا الشخص إلى عائق كبير جدا. وبما أن من وصلوا عندنا إلى مواقع سدة القرار لم يصلوا عبر تاريخنا السياسي سوى بالبندقية، أو الوزن الطائفي، أو الأيديولوجيا الصماء، فلا غرابة إذن أن كان جهاز الدولة لدينا في حالة تآكل مستمرة، وأن أصبح الفساد هو المسيطر. نحن بحاجة إلى تغيير آليات السياسة القديمة التي جعلت البندقية والطائفة والأيديولجيا المصمتة هي المؤهل للقيادة. كما أننا بحاجة أيضا إلى وضع النهج العلمي الذي يستصفي القيادات وسط كل مجموعة عاملة، بناء على امتلاك الصفات القيادية وامتلاك القدرة على تنميتها. (يتواصل)
|
Post: #220
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-08-2020, 09:09 PM
Parent: #219
القمامة المستدامة النور حمد صحيفة التيار ٩ ديسمبر ٢٠٢٠ تفضل مواطن كريم، وهو يقود سيارته بحي المعمورة في الخرطوم، بتصوير فيديو للرصيف الذي يقسم الشارع إلى نصفين، حيث امتلأ ذلك الرصيف، على طول الشارع من أقصاه إلى أدناه، بالقمامة التي يضعها أصحاب البيوت والمحلات التجارية المحيطة بالشارع. تصوروا!! أن فكرة وضع القمامة على طول الشوارع الرئيسية فكرة تفتفت عنها عبقرية المحليات، بعد أن عجزت، بسبب النقص المريع الذي تعانية في شاحنات نقل الأوساخ، وربما قلة الأيدي العاملة أيضا، وأعتقدت أن ذلك حل مثالي. كانت المحليات قبل أعوام قد بدأت في تسيير سيارات الأوساخ داخل الأحياء في أيام محددة من الأسبوع، نظير تقاضيها رسوما من كل منزل ومحل تجاري نظير هذه الخدمة. لكن، بسبب حالة التراجع المستدامة في كل شؤون حياتنا، دون فرز، فقد عجزت المحليات عن تسيير العربات الناقلة للأوساخ داخل الأحياء. وقد سبق أن رأينا في وسائط التواصل الإجتماعي قبل فترة فيديو يصور رتلا من سيارات نقل الأوساخ وهي رابضة في حوش يخص إحدى المحليات بسبب الأعطال، التي لا ندري إن كانت حقيقية أو مصطنعة. الطريف أن بعض تلك العربات كانت واقفة وهي محملة بالأوساخ. تعجز المحليات، كعادتها، في إدارة الخدمات كما ينبغي، فتتفتق عبقريتها عن حلول كارثية.
نفس هذا المشهد الذي صوره الفيديو في حي المعمورة، ظل لفترة هو نفسه في شارع الثورة بالنص. فقد ظل الرصيف الذي يقسم الشارع إلى نصفين هو مكب الأوساخ بعد أن أعلنت المحلية أن عربات نقل الأوساخ لن تطوف بالمنازل كما كانت تفعل في السابق. ولذلك على سكان كل حي وضع أكياس الأوساخ على الشوارع الرئيسية. وهكذا نشأت ظاهرة الشارع الرئيس بوصفه مكبا للنفايات. ما فات على عباقرة المحليات أن هذا حل يتسم بضمور الخيال، بل بالغباء الفاضح. يحضر المواطنون أكياس الأوساخ مغلقة ويضعونها على طرف الشارع. لكن، تأتي الكلاب والقطط الضالة فتثقب الأكياس بحثا عن بقايا الطعام فينتثر محتواها في الشارع. أيضا يأتي بعض الصبية الذين يبعيون قوارير البلاستيك الفارغة فيفتحون الأكياس بحثا عن تلك القوارير وغيرها وينثرون محتوياتها خارج الأكياس. ثم تمر عرية الأوساخ فيأخذ العمال الكيس المغلق ويرفعون على العربة. أما المتناثر، وهو الغالب، فيتركونه في مكانه، لأنهم لا وقت لديهم لجمعه، خاصة أنه متناثر في الشارع من أقصاه إلى أدناه. هذه الفكرة الغبية التي تفتقت عنها عقول عباقرة المحليات هي التي حولت الشوارع الرئيسية التي ينبغي أن تزين وتجمل بالأشجار، بل وبأصائص الزهور إلى مكب للنفايات يمتد لكيلومترات.
هذا المنظر المقزز الدال على الفشل الفاضح للمحليات لا تراه في أي مدينة أخرى، اللهم إلا حينما يضرب عمال النظافة في بعض البلدان. لكن، ما أن يجري رفع الإضراب تعود المدينة نظيفة كما كانت. مشكلتنا أننا نصعد للمناصب القيادية أشخاص بلا كفاءة وبلا خيال وبلا حس جمالي. أشخاص لا يملكون قدرة على التخطيط السليم ولا على المتابعة اللصيقة التي تضمن التصحيح والتحسين المستمر للخدمات. فنحن لا ينبغي أن نعيد اختراع العجلة من جديد، وإنما علينا نتبع من سبقونا في هذا المضمار. فنقل النفايات علم يدرس، وهو فعل يقوم على منظومة متكاملة system. لذلك لا مجال فيه للحلول المرتجلة، ولا للفورات الوقتية المسماة "حملات النظافة" ، التي ظللنا نراها تجري منذ عهد الرئيس نميري، ولم نر لها أثرا يذكر في نظافة مدننا. إن واحدة من أكبر آفاتنا انشغالنا بالسياسة وبالخطاب السياسي التجريدي الأجوف، الذي لا صلة له بقضايا الواقع، وانصرافنا عن رسم السياسات الإدارية وتنمية القدرات، وعجزنا المزمن عن وضع الشخص المناسب في المكان المناسب .
.
|
Post: #221
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-09-2020, 09:00 PM
Parent: #220
ثورة عملاقة اختطفها كالعادة أقزامالنور حمدصحيفة التيار ١٠ ديسمبر ٢٠٢٠كانت ثورة ديسمبر 2018 ثورة بلا قائد. فقد نبعت من روح الشعب وسارت بقوة الدفع التي قيضها لها الإجماع الشعبي منقطع النظير. لكن، قفز إلى مقود عربة الثورة من تحرك غرائزهم البدائية نزعة الاصطياد في زخم الثورات، من أجل الكسب الحزبي الضيق والشخصي. وعموما لم يكن الفراغ البنيوي المزمن المتعلق بعدم توفر قيادات حقيقية، والطرائق الملتوية في إدارة الأمور السياسية في السودان، التي أدمنتها أحزابنا السياسية، لتسمح ببروز قيادات غير هذه التي برزت بالفعل. فالوصف بالقزمية للقيادات التي تصدرت مجريات الثورة ليس مقصودا منه النيل من هذه القيادات، بصفة شخصية. وإنما المقصود منه توصيف حالة التقزم العامة التي ليس في مقدورها أن تنتج وضعا أفضل مما جرى.ربما لا ينتبه كثيرون إلى الارتباط بين النظم العسكرية التي حكمت السودان، وبين تخلق انقلاباتنا العسكرية المتكررة في رحم الثورات التي سبقتها. فانقلاب نميري 1969 تخلق في رحم ثورة أكتوبر 1964. فلو أدارت القوى السياسية ثورة أكتوبر على نحو صحيح، لما حدث إنقلاب نميري بعد خمس سنوات منها. أيضا، تخلق انقلاب البشير في رحم ثورة أبريل 1985. ولو أن القوى السياسية أدارت ثورة أبريل، على نحو صحيح، لما حدث انقلاب البشير، بعد أربع سنوات منها. ولهذين الملاحظتين عن ارتباط الإنقلابات بالثورات السابقة لها، حيثيات ساندة كثيرة، لا يتسع المجال لسردها. والآن تتكرر نفس الملهاة، التي لم يملك سياسيونا، عبر تاريخنا السياسي لفترة ما بعد الاستقلال، أي قدرة على تجنبها. فهم يقومون بنفس الخطوات، كل مرة، وينتظرون نتيجة مختلفة. وأرجو ألا تنتهي بنا تجربتنا الثالثة هذه مع الثورات، إلى نظام عسكري جديد. بحكم البنية العسكرية للجيوش، من حيث تسلسل الأوامر chain of command، تملك المؤسسات العسكرية في البلدان النامية قدرة أكبر على إصدار القرارات وعلى إنزالها إلى أرض الواقع. وذلك على عكس القوى السياسية التي تتجاذبها، في البلدان النامية، الولاءات الطائفية والعشائرية والحزبية الضيقة،ح ويسود فيها الخلاف المستدام. هذا الوضع جعل العسكريين يظنون أنهم أصلح للحكم من المدنيين. لكن التجارب العملية أثبتت، وبتواتر كبير، أن هذا التصور خاطئ تماما. فلا جعفر نميري دفع بأحوال البلاد إلى الأمام، ولا البشير كذلك. بل كان البشير أفشل وأفسد حاكم عرفه السودان، ربما منذ العصر الكوشي. الخلاصة، أن العلل الجوهرية المقعدة، المعيقة للنمو، علل يتقاسمها الجانبان. يقول الأستاذ محمود محمد طه: هناك علتان تحرفان الشخص عن التفكير المستقيم، هما: "الخوف والطمع". فالمناداة بمدنية الدولة لا تعني استبدال شخص ببزة عسكرية بآخر يرتدي سترة ورباطة عنق. وإنما تعني إسناد القيادة لشخص ديموقراطي فكرا ومسلكا، وصاحب عقل يتسم بالحيدة، إضافة إلى تأهيل معرفي وعلمي، وتعافي تام من علتي الخوف والطمع. أمسك بقياد ثورتنا أقوام لم يعرف الشعب أكثريتهم فأتونا بالوثيقة الدستورية المعيبة. ثم قفزت الحركات المسلحة إلى مقود القيادة بآخرة، فأفرغت الوثيقة الدستورية من كثير من جوهر محتواها. كما قدمت قوى الحرية والتغيير أشخاصا إلى مجلس السيادة، فأصبحت أكثريتهم في صف العسكر. لذلك مجرد المناداة بتسليم الحكم إلى المدنيين لا تكفي. فالمسألة تكمن في الجوهر وليس في مجرد إلصاق بطاقة "مدنية". القيادات المدنية التي تصدت إلى قيادة الثورة انتهت بعد قرابة العامين، إلى عجز شامل في كل شيء، وإلى "فركشة". ومع ذلك، لا ينبغي أن يقود فشلها العسكريين ليظنوا أنهم المنقذين الوحيدين. فتجربة البشير لا تزال ماثلة للعيان في كل شيء، بما في ذلك العوار الذي يحتوش بعض أوضاع المؤسسة العسكرية حاليا. ما يجري الآن يعكس استقطابا حادا واصطفافا في معسكر حملة السلاح وأيضا في معسكر المدنيين. وقد بدأت بعض الحركات المسلحة في شيطنة المكونات المدنية. هذا الوضع المعقد والملتهب لا يحتمل الشد. فهو بحاجة للحكمة وللتوافق. ويقتصي هذا أن تسموا جميع القيادات على تصوراتها المسبقة وكراهياتها لبعضها وهمومها الصغيرة. وهذه أمنية ربما لا تتحقق في مثل أوضاعنا البئيسة التي نعرفها إلا بمعجزة. لكن المعجزات تحدث أحيانا.
|
Post: #222
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-11-2020, 08:36 PM
Parent: #221
أين روح السلام في اتفاق جوبا؟ النور حمد صحيفة التيار ١٢ ديسمبر ٢٠٢٠ السلام ليس كلمات مرقومة توضع على الورق في صورة اتفاق أو ميثاق، وحسب. أيضا، هو ليس مصفوفة من الخطوات المجدولة التي تنتظر الإنجاز. هو ليس هذا ولا ذاك وحسب، وإنما هو قبل ذلك، وفوق ذلك، تغيير روح الشراسة التي سادت طويلا واقتضها ضرورات القتال، بروح جديدة مسالمة. وينبغي أن تنعكس هذه الروح في الخطاب الذي يعقب اتفاق السلام. غير أن ما شاهدناه وسمعناه في عدد من التسجيلات الصوتية والمرئية التي جرى تناقلها بكثافة من على وسائط التواصل الاجتماعي، عكس أن الشراسة تزداد، وأن لغة الخطاب قد انتكست، فأصبحت أكثر عدوانية وحدة، مما كانت عليه قبل توقيع الاتفاق. بل أن نبرة التهديد والوعيد تتصاعد. هلل الناس للسلام وأقاموا له احتفالا ضخما وانخرطت وسائل الإعلام الحكومية في التغني به. وظهر قادة الحركات المسلحة في كل الأقنية الإعلامية مبشرين الجميع بقدوم السلام، لكن أخذت تلك الصورة تتغير.
لم يمض شهر واحد، حتى اتضح أن روح السلام مفقودة تماما. أظهرت بعض القيادات الكبرى في الحركات المسلحة عداء حادا للمكون المدني في الشراكة. وهو مكون منصوص على دوره في الوثيقة الدستورية التي جرى إدراج اتفاق جوبا في متنها. أما بعض القيادات الوسيطة فقد انخرطت في التهديد والوعيد بما أسمته نقل الحرب إلى المنشية والرياض، بل وإلى عتبة كل دار في العاصمة. هذا في حين تقتضي هذه المرحلة بالغة الحساسية أن يتسم الخطاب السياسي بالانضباط وبالمسؤولية. وينبغي على القيادات العليا في الحركات المسلحة أن تلزم القيادات الوسيطة بحدود واضحة للغة الخطاب السياسي، اللهم إلا إن كانت القيادات العليا، نفسها، تود أن تستثمر في هذا الخطاب الحاد الملتهب. إن السلام الذي يجري فرضه بلغة التهديد والوعيد، إن كان ذلك ممكنا حقا، ليس سلاما. وإنما هو سلام صوري زائف يحمل بذور فنائه في داخله. وعادة لا تخرج لغة التهديد والوعيد من قائد سياسي محنك واثق من نفسه، وإنما تخرج ممن يستولي عليهم الشعور بالإحباط، بسبب مختلف إكراهات الواقع المتسم بالتعقيد السديد، فينزلقون بسرعة إلى الحنق ونفاد الصبر.
هناك تلكؤ واضح وبطء من جانب السلطات في كل شيء. وسبب ذلك روح "المكاجرة" السائدة. وقد حاول الفريق البرهان أن ينحي في خطابه الأخير بلائمة الفشل على المكون المدني، وهو إنحاء جانبه التوفيق. فالمكون العسكري شريك أصيل في هذا الفشل، بل، ربما تحملو فيه القسط الأكبر. فهذه شراكة كان ينبغي أن ينهض طرفاها برتق الخروق معا، لا أن يحفر طرف منها للآخر حتى يقع ليجري إلقاء اللوم والتبعة عليه. الشاهد أن عقلية الإنقاذ التآمرية التخريبية العنيفة لا تزال تعيش بيننا في كل شيء. ولسوف لن نفلح أبدا مالم نستأصل شأفة هذه العقلية التآمرية التخريبية الخسيسة، ونتعلم كيف نعمل مع بعضنا نحو الأهداف المشتركة.
ختاما، علينا أن نعي دروس التاريخ، القديم منها والحديث. فالتهديد بحرب المدن والمضي نحو إشعالها، لن يكسب أي طرف من الأطراف نصرا مؤزرا. كانت بيروت الستينات ومطلع السبعينات مدينة وادعة يأتيها رزقها رغدا. فقد كانت قبلة للسياح الغربيين والشرق أوسطيين. ثم اندلعت فيها الحرب. وفي لمح البصر تحول الشباب البيروتي المعروف حينها بمخملية العيش وتتبع خطوط الموضات الغربية إلى مقاتلين بالغي الشراسة. تقسمت المدينة إلى دشم عسكرية تسيطر كل مجموعة عسكرية فيها على جزء منها. جرى تخريب المدينة تماما. ولم ينتصر طرف على آخر رغم الدمار الشامل. أضاع اللبنانيون 15 عاما في قتال الشوارع، وجلسوا في النهاية ليتفاوضوا ليعودوا للسلام. فهل نريد أن نضيف على عقود الاقتتال التي مضت سنوات إضافية من قتال الشوارع وكوارثه الفظيعة؟
|
Post: #223
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-12-2020, 11:56 PM
Parent: #222
فقدنا إنسانا من طراز فريد النور حمد صحيفة التيار ١٣ ديسمبر ٢٠٢٠ رن جرس الهاتف في بيتنا صباح السبت ١٢ ديسمبر لينقل لنا من كان على الطرف الآخر الخبر الفاجع بانتقال أخينا الطبيب الإنسان، بروفيسور الطيب أحمد النعيم. ولقد ظللنا عبر الأسابيع القليلة الماضية نبتهل إلى الله أن ينتصر الطيب على داء الكورونا الفتاك، ويعود إلى أسرته وأهله وأصدقائه معافى، ليواصل ما بدأه من جليل الأعمال في إعمار المدارس والإسهام في النهوض بحياة أهل الريف. لكن غلبت الإرادة القديمة الحكيمة واصطفته إلى جوارها في دار الخلود التي لا يدخلها شر ولا بلاء.
عرفت الطيب النعيم منذ ما يزيد على الأربعة عقود. كان وقتها طالبا بالمرحلة الثانوية، وكنت مدرسا للفنون بنفس المرحلة. وقبل معرفتي به عرفت أخاه الأكبر، البروفيسور بجامعة إيموري بالولايات المتحدة الأمربكية، عبد الله أحمد النعيم. كما عرفت أيضا والدهما، طيب الذكر، أحمد النعيم. وقد تقاطعت صلتي بهذه الأسرة الكريمة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، بسبب ارتباط الأسرة بالأستاذ محمود محمد طه وحركة الجمهوريين. ولقد كانت أولى الندوات التي حضرتها للأستاذ محمود محمد طه، ندوة انعقدت بمنزل هذه الأسرة، الذي كان وقتها في الحارة السادسة بمدينة الثورة بأم درمان. جرت الندوة بدعوة من الأسرة لوداع عبد الله أحمد النعيم، الذي أكمل حينها دراسة القانون في جامعة الخرطوم، وكان على أهبة الاستعداد للسفر إلى أدنبرة باسكوتلندة للتحضير لدرجتي الماجستير والدكتوراه.
جاءني الطيب وهو في نهاية المرحلة الثانوية، راجيا مني أن أقدم له دروسا خاصة في الفنون، لأنه يود الإلتحاق بكلية الفنون. لكنه تخلى عن الفكرة، واختار دراسة الطب وسافر من أجل ذلك إلى باكستان. وقد عرفت لاحقا أنه كان يود دراسة الزراعة أيضا. أكمل الطيب دراسة الطب في باكستان ثم هاجر وعمل طبيبا ببريطانيا. وانتهى به الأمر استشاريا بمستشفيات بالمملكة العربية السعودية. أما بروز إسم د الطيب النعيم في مجال العمل العام فقد حدث عقب الحادثة المؤسفة التي غرقت فيها مجموعة من الطالبات في منطقة المناصير، وهن على ظهر مركب كان ينقلهن عبر مياه النهر إلى حيث مدرستهن. قاد الطيب حملة لتشييد مدرسة في تلك القرية بمبادرة فردية وجدت تجاوبا ودعما من مختلف السودانيين في الداخل والخارج. وما لبث ذلك الجهد أن تبلور لتظهر إلى حيز الفعل المنظمة السودانية لدعم التعليم (سيدسو).
شاهدت الطيب في فيديو بثته الفضائية السودانية قبل بضعة أيام من رحلته الأخيرة إلى قرية أبو سنون في ولاية شمال كردفان للاحتفال بإكمال صيانة مدرسة هناك. وقد ذكر الطيب في ذلك الفيديو انهم وجدوا أن أهل تلك القرية يعانون من شح الماء. فقامت المنظمة بمساعدتهم في حفر بئر. تحدث الطيب في احتفال قرية أبو سنون أن منظمتهم لا تتلقى دعما من أي منظمة أو دولة خارج السودان. كما أنها لا تعتمد على أي دعم حكومي داخلي. أيضا هي لا تصرف على العاملين فيها. فمورد المنظمة الوحيد وهو اشتراكات المنتسبين إليها، الذين بلغ عددهم 8000 منتسب.
جاء الطيب من مقر عمله بالسعودية ليمكث مدة أسبوعين يقوم خلالها بطواف على المواقع التي تعمل فيها المنظمة في أرياف للسودان. وشاءت إرادة الله أن يصيب الفيروس الطيب في هذه الزيارة القصيرة ولينتقل إلى دار البقاء بعد بضعة أسابيع أمضاها في مصارعته. ألا رحم الله الطيب النعيم رحمة واسعة وأنزله منه منازل القرب مع الصالحين المجتبين الأخيار. لم أعرف فيمن عرفت شخصا مهتما اهتماما أصيلا مبرأ من أي غرض بمشاكل الناس، مثلما عرفت ذلك في الطيب النعيم. وما أعرفه مما ظل يقوم به الطيب النعيم طيلة حياته في مساعدة المحتاجين، من غير من ولا أذى، يمثل أضعافا مضاعفة لجهوده التي ظهرت له مؤخرا في العمل العام الطوعي.
لقد دشن الطيب النعيم حقبة الإصلاح من الجذور استنادا على الجهد والتضامن الشعبي الخالصين. قال وهو يخاطب الناس في قرية ابو سنون قبل أسابيع من وفاته داعيا الجميع للانخراط في العمل الذي تقوم به منظمتهم لأنه حسب عبارته: "فيه خير الدنيا والآخرة" . لقد أنجز الطيب النعيم بين عامي 2018 و 2020 إنجازات مذهلة بدأت من الصفر. ولقد ختم حياته شهيدا وهو يسعى في خير الناس وفي إصلاح أحوالهم. كان الطيب النعيم ممدودا بعلم هو قبس من علم الأنبياء النافع، وبهمة هي قبس من همم المرسلين أولي العزم. فسلام عليه في أعلى عليين.
|
Post: #224
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-13-2020, 09:51 PM
Parent: #223
حكومة الحي وحكومة القرية 1 من 2 النور حمد صحيفة التيار 14 ديسمبر 2020 كتب مرات عن الحكم المحلي وعن ضرورة إصلاحه وجعله فاعلا وممثلا حقيقيا للجماهير، ومحققا لما يصبوا إليه الناس في مضمار تحسين أحوالهم. فالقرارات الديموقراطية الحقيقية التي تلمس واقع الناس، ليست تلك التي يتخذها البرلمان المركزي في قمة الجهاز التشريعي، ولا تلك التي يتخذها البرلمان الولائي، أو مجلس المدينة، بقدر ما هي تلك التي يتخذها مجلس الحي ومجلس القرية، في ما يتعلق مباشرة بشؤون حيهم أو قريتهم. فمجلس الحي ومجلس القرية هم الحكومة التي ينبغي أن تكون قائمة وفاعلة، في قاعدة الهرم. فمنذ عقود طويلة، كتب المتخصصون في علم السياسة وعلم الإدارة أدبيات ثرة في نقد الديموقراطية التمثيلية، وبينوا الكثير من ثقوبها وعوارها. فالظن بأن النائب المنتخب من القواعد إلى البرلمان المركزي هو ممثل حقيقي للجماهير، ظن خاطئ. وهو ظن أثبتت خطأه التجارب العملية، وهي لا تزال مستمرة في إثباته كل صبح جديد. فالنواب البرلمانيون في أرسخ الديموقراطيات الغربيات يصبحون، في كثير من الأحيان، أدوات في أيدي مجموعات المصالح التي تتناقض مصالحها، إلى حد كبير جدا، مع مصالح الجماهير. ومع ذلك، ليس هناك نظام أصلح من النظام الديموقراطي. لكن، لابد من الانتباه والتدقيق في ثقوبه وعيوبه البنيوية ورفده بما يسد ثقوبه.
من العبارات الجامعة، مما كتبه الأستاذ محمود محمد طه، قوله: "إن آجلا لا يبدأ عاجله اليوم، ليس بمرجو". فلابد أن يكون لكل آجل صحيح البنية، عاجل يجد الناس طعمه في أفواههم، الآن. فإن لم يجدوا، من الناحية العملية، طرفا من ذلك الآجل المرجو، في التو والحين، فإنه يصبح محض وهم، لا أكثر. لذلك، علينا أن ننتبه إلى أن الديموقراطية التي نحلم بتحققها عقب الفترة الانتقالية، ينبغي أن يبدأ طرف منها في التحقق في حياتنا اليوم، وإلا فإنها ليست بآتية أبدا. فنحن في السودان، إلى جانب العلل البنيوية التي تعتور نظام الديموقراطية التمثيلية في أصله، نعاني، أيضا، من علل بنيوية عديدة مندغمة في ثقافة مجتمعنا. منها، على سبيل المثال: وصول غير المؤهلين وغير الأكفاء إلى المواقع القيادية، بسبب أنظمتنا الحزبية وعلاقتنا العشائرية وانتماءتنا الطائفية. يضاف إلى ذلك تفشي المحسوبية والفساد الإداري وانعدام الشفافية. ولكي تصبح الديموقراطية فاعلة، لابد أن تقوم على نظام لامركزي، يفتت السلطات، ويمنح سلطة اتخاذ القرار والمتابعة والمحاسبة للقواعد، في تناغم مع مجمل هرم السلطة في جميع مستوياته.
لقد حول نظام الإنقاذ البائد الحكم المحلي إلى أداة حزبية محضة. وأصبح بذلك أداة قامعة ومغيبة لدور الجماهير ومنكرة لحقها في رعاية مصالحها ورافعة ومعلية لمصلحة نظام الحكم وحزبه المسيطر، "المؤتمر الوطني"، على كل شيء. فاتساخ الأحياء والأسواق وتردي أحوال الشوارع والاعتداء عليها بالاضافات العشوائية من أصحاب المنازل والمحلات التجارية، وما تسميه ولاية الخرطوم: "التشوهات البصرية"، سببها الأساسي نظام الحكم المحلي الفاسد بنيويًا العاجز عن الفعل الصحيح، وليس سلوك الجمهور وحده. بل لا توجد مقارنة من حيث ثقل اللائمة والتبعة، بين دور المحليات الكبير جدا في هذا الخراب العام، ودور الجمهور. فالإدارة المدركة الحازمة تضبط جمهورها ولا تتيح له مجالا للتفلت. وقد كان الجمهور منضبطا حين كانت الإدارات المحلية منضبطة، منذ فترة الحكم الاستعماري، وإلى أن حل الخراب والفساد بحلول نظام جعفر نميري ونظام البشير. كان الضباط الإداريون وضباط الصحة وغيرهم من الطاقم الإداري حاضرين في الميدان بصورة شبه يومية، ولم يكونوا جلوسا في المكاتب جل وقتهم. كانوا يطوفون ويضبطون إيقاع الحياة اليومية، بمثابرة لا تني، ولا يتركون المخالفات تتفاقم وتزمن حتى تصبح طابعا عاما. ما يجري حاليا من فورات وحملات مؤقتة للنظافة ولضبط المشهد العام لا جدوى منها. فهي حملات علاقات عامة لا أكثر. وهي أكبر دليل على ذلك الفشل الإداري المزمن المتراكم. (يتواصل)
|
Post: #225
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-14-2020, 11:15 PM
Parent: #224
حكومة الحي وحكومة القرية ٢ من ٢ النور حمد صحيفة التيار ١٥ ديسمبر ٢٠٢٠ التعريف الشائع للديموقراطية هو أنها: "حكم الشعب، بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب". ولما لم يكن حكم كل الشعب، لنفسه بنفسه، ممكنا من الناحية العملية، فقد جرى اختراع الديموقراطية التمثيلية، التي تنتخب فيها المجموعة فردا أو أفراد يمثلونها. وقد أوضحت في المقالة السابقة عيوب التمثيل، وأجملتها في تحول الممثلين إلى أدوات في يد أهل المصالح. إضافة إلى انصرافهم عن خدمة مصالح من اختاروهم، إلى خدمة أنفسهم، أو أحزابهم. أيضا يدخل في الحؤول بين الشعب وبين حكمه لنفسه بنفسه، الجهاز البيروقراطي المكتبي، الذي يتولى شؤون التخطيط والتنفيذ والإدارة. ولابد من القول هنا إن الحكومة من حيث هي، وبطبيعتها، جهاز قامع ومصادر، لصوت الشعب، بقدر من المقادير. ينطبق ذلك، بدرجات متفاوتة، حتى على أكثر الديموقراطيات رسوخا. أما الجهاز البيروقراطي، في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فيصبح، بالضرورة، حاضنة ومفرخة للفساد. ولقد حولت سنوات حكم جعفر نميري الستة عشر، وسنوات حكم البشير الثلاثون الجهاز البيروقراطي إلى جهاز فاشل، وموبوء ببؤر الفساد. والوعي بهذه الحقائق، هو الذي يفتح الباب للإصلاح، ويضع نهج إشراك القواعد الشعبية في السلطة على رأس مصفوفة الأولويات.
ينبغي أن يكون هدف الديموقراطية المركزي أن يتعلم الناس كيف يحكمون أنفسهم بأنفسهم. وبما أن عامة الناس غير ملمين بالكثير من الأمور المتعلقة بالسياسة وبالإدارة، فقد تولت الدولة، نيابة عنهم، عبر ممثليهم في الحكومة وعبر الجهاز البيروقراطي، مهمة حكمهم. غير أن هذا الوضع، المتسم بالفوقية، ينبغي أن يكون وضعا إعدادي، مرحليا، أملاه قصور معارف عامة الناس وخبراتهم، وليس وضعا دائما. لكن بما أن التعليم قد انتشر، وشاعت الثقافة السياسية والإدارية، فقد تهيأ الظرف الآن لكي يشرك الناس على مستوى القواعد الشعبية في حكم أنفسهم بأنفسهم. وقد تجد، حاليا، في غالبية أحياء المدن، وفي أكثرية القرى، من يفهمون في السياسة وفي الإدارة بقدر يؤهلهم لكي يكونوا ممثلين للأحياء والقرى في مؤسسة الحكم المحلي، نيابة عن مواطني الأحياء والقرى. وليصبحوا صلة وصل بين الدولة وجهازها البيروقراطي، من جهة، والمواطنين، من الجهة الأخرى.
لكن، تعودت الحكومة وجهازها البيروقراطي على الوصاية على الشعب. لذلك، هناك مقاومة شديدة لعودة السلطة إلى أهلها. فمنذ نجاح الثورة قبل عامين، لم يتغير شيء في أحوال الأحياء والقرى التي تنطق أحوالها العامة بالإهمال الشديد وبالفوضى. فالأوساخ في كل مكان، والمدارس تحولت إلى خرائب، والتعدي على الشوارع من جانب السكان والأعمال التجارية في تزايد. والمواطنون يدلقون ماء النظافة على الشوارع فيخلقون بركا يتوالد فيها البعوض، كما يخربون بذلك الشوارع المسفلتة ولا أحد يراقب أو يحاسب. أيضا يترك المواطنون أنقاض البناء ومواده في الشارع لتبقى هناك شهورا بل وسنينا. كما أن تحويل الساحات العامة لصالح أفراد أو منظمات لا يزال دون مساءلة. والتصديق للورش وللمقاهي، وبعض الأماكن المشبوهة، ونشوء الأسواق العشوائية وسط الأحياء السكنية لم تجر له مراجعة تذكر. كما أن كثيرا من المخابز تعمل بطريقة غامضة. ولقد حاولت لجان المقاومة في عديد الأحياء، محاولات مستميتة، ليصبح لها صوت في إدارة شؤون حيها، غير أن محاولاتها ظلت ترتضم بصخرة صلدة.
خلاصة القول، لا مناص من إنشاء مجالس منتخبة للأحياء والقرى في صورة "حكومات مصغرة"، لتصبح الأداة التي تعين المحلية على إدارة شؤون الحي. إذ لابد من إحكام الرقابة الشعبية على أعمال المحليات بواسطة هذه الحكومات المصغرة التي لها صلاحية المشاركة في وضع الخطط والميزانيات وتحديد أوجه صرفها. وكذلك، التأكد من سلامة صرفها، إضافة إلى الاطلاع على مراجعات الحسابات فيما يخص أوجه الصرف. وكلما ابتعد تشكيل هذه الحكومات المصغرة عن الأغراض الحزبية الضيقة، وانحصر في اختيار القادرين على وضع الخطط والبرامج النهضوية، وعلى أحكام الرقابة على القرارات والميزانيات، كلما أمكننا مغادرة مربع العجز والفشل المزمن. فإذا لم تظهر لهذه الثورة ثمرة تتمثل في تغيير ظاهر على مستوى الجذور، فإن انتظار أن تأتي ثمارها من الديموقراطية التمثيلية ومؤسساتها في أعلى هرم السلطة، ومن الجهاز البيروقراطي الذي ينضح عداء لمصالح الجمهور، محض عبث. فإن آجلا لا يبدأ عاجله اليوم، ليس بمرجو.
|
Post: #226
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-16-2020, 10:51 PM
Parent: #225
حانت الفرصة للابتعاد عن المحاور الإقليمية النور حمد التيار 17 ديسمبر 2020 برفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، تدخل البلاد مرحلة جديدة. وقد بدأت بشائر هذه المرحلة الجديدة واضحة في نبرة خطاب السيد رئيس الوزراء، الذي أظهر فيه ثقة بنفسه وبشعبه الذي أنجز الثورة، وبمستقبل البلاد، أكثر مما عهدناه عنه في كل خطاباته السابقة. يضاف إلى ذلك، التحول الكبير في موقف الإدارة الأمريكية تجاه السودان وإقبالها، من جديد، لوضع السودان في دائرة اهتمامها المباشر. بعد أن كانت تعتمد في ذاك، إلى حد كبير، على شركائها الإقليميين. وقد ازدحمت الصحف ومختلف الوسائط الإعلامية في اليومين الماضيين بمختلف صور الحراك الأمريكي الإيحابي تجاه السودان. وأرى، من ناحيتي، أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب قد فتح بابا ظل مغلقا، إلى حد كبير، منذ عقود، بسبب الزوبعة السياسية التي اتسمت بالغوغائية تجاه مشروع المعونة الأمريكية في نهاية عقد الخمسينات. وقد تكررت تلك الزوبعة، مرة أخرى، عقب الهزيمة العربية الكبرى في حرب 1967. فقد وقفت حكومة الديموقراطية الثانية (1965 - 1969)، في صف العرب في مقاطعتهم لأمريكا. وانعقد مؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم، وجرى طرد الأمريكيين الذين كانوا يشيدون طريق الخرطوم مدني. فتركوه في منتصف المسافة، عند مدينة الكاملين، وغادروا البلاد. فأكملته وزارة الأشغال التي تدربت طواقمها على يد الأمريكيين، وبلغ الطريق ودمدني في عام 1969 مع بداية انطلاق الدورة الأفريقية في كرة القدم التي انعقدت حينها بمدينة ودمدني.
برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب انغلقت دورة من التشاكس الذي وقفت وراءه المراهقة السياسية السودانية، لينفتح الباب لدورة جديدة من التعاون. وهو تعاون نرجو أن يكون مثمرا، وأن يكون حاديه وهاديه النضج السياسي، والتصور الاستراتيجي السليم. فلولا الانجرار الغر وراء وهم القومية العربية، ووراء شعارات ووعود الشيوعية الدولية السرابية، لكان السودان قد قطع شوطا كبيرا جدا في التنمية الاقتصادية عبر التعاون مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أظهر الأمريكيون اهتمامها كبيرا بالسودان لحظة نيله الاستقلال. وأقبلوا عليه بكليتهم لمعرفتهم لأهميته الجيواستراتيجية بالنسبة لهم، وكذلك لموارده الطبيعية الضخمة وفرص الاستثمار الثرة الواعدة فيه. لكن الماعون السياسي السوداني بنخبه التابعة لمصر الناصرية، وعنترياتها المصادمة للغرب، بدعوى الاستعمار والصهيونية العالمية، وتغنيها الفج بصداقة الاتحاد السوفييتي، كان أضيق بكثير من أن يستثمر في ذلك الإقبال. وهاهي الفرصة تلوح مرة أخرى، بعد أكثر من ستين سنة. فهل سنكرر خطأنا الذي ارتكبناه من قبل، أم أننا وعينا الدرس، وأصبحنا قادرين على أن نمخر بسفينة بلادنا بمهارة، ووفق وعي جديد، في بحر العلاقات الدولية وأمواجه المتلاطمة، بصورة تجعل التنمية الاقتصادية أولوية؟
تتسم هذه المرحلة الجديدة، فيما ألمح من المؤشرات، بتهيؤ الفرصة لكي نخرج من منزلق الانجرار وراء المحاور الإقليمية. فهو انجرار غير مثمر بل ومضر. هذه القوى التي شكلت المحاور الإقليمية العربية لا تملك سوى المال، وهو في طريقه إلى النضوب. هي لا تملك معارف ولا تقنيات لتكون مفيدة لمن يدورون في فلكها، بل هي لا تعرف غير تعطيل غيرها. ينبغي أن يكون التحالف مع القوى الكبرى. وفي حالتنا، فإن الخيار المطروح لنا من حيث القدرة على الإعانة، وعلى خلق ارتباط بمنظومة مصالح جيواستراتيجية مشتركة، تتسم بالعضوية، هو الولايات المتحدة الأمريكية. ولا ينبغي أن يمنعنا ذلك من التعاون مع أي جهة أخرى، وفق ما تقتضيه مصالحنا الوطنية، لكن مع مراعاة التقاطعات والحسابات الدقيقة. لكن الملاحظ الآن أن السلطات الحاكمة في بلادنا في هذه الفترة الانتقالية، تعاني من انقسامات. ولا مخرج إلا بأن يتسق كلا المكونين؛ المدني والعسكري، في نظرتهم الجيواستراتيجية. ويحتاج هذا لحوار شفاف تشارك فيه إلى جانب المكونين؛ المدني والعسكري للسلطة الراهنة، الأكاديميون والمفكرون وقادة الطيف السياسي. وهذا ما لا نراه حادثا منذ بداية الفترة الانتقالية. لقد جاءت اللحظة الدقيقة الفارقة لإعادة ترتيب الحسابات الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكية. وهي فرصة أرى أن اهتبالها يعتمد على تناغم المكون العسكري والمدني وتضافرهما لخدمة أهداف الثورة وتطلعات جماهيرها . .
|
Post: #227
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-18-2020, 02:06 AM
Parent: #226
نقض غزل الوثيقة الدستورية أنكاثا النور حمد صحيفة التيار 18 ديسمبر 2020 مما اعتادت عليه القوى السياسية عبر مرحلة ما بعد الاستقلال هو نقض العهود". وقد وثق لطرف من هذه الخلة السياسية السيئة، مع آخرين، كل من المثقف والسياسي الجنوبي، أبيل ألير، في كتابه" جنوب السودان: التمادي في نقض العهود والمواثيق"، ويوسف محمد علي، في كتابه" السودان: الوحدة الوطنية الضائعة". سبب هذه الخلة السياسية السيئة، هو الحرص على النفع الشخصي، والجهوي، والفئوي، والتنكر المستمر لنداءات الصالح العام. وما جرى عبر العام والنيف المنصرمين من نقض لغزل الوثيقة الدستورية أنكاثا، ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل نقض العهود والمواثيق، الذي ساد حياتنا السياسية منذ الاستقلال. أيضا، لهذه الخلة السياسية السيئة جذورها في التاريخ السياسي العالمي، منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا. ولو أننا، على سبيل المثال، تأملنا التاريخ الإسلامي، منذ الفتنة الكبرى، لوجدناه تاريخا حافلا بالمكيدة و الغدر والوقيعة والدسيسة والتآمر. ويدل هذا على أن تعاليم الإسلام قد جرى وضعها جانبا، منذ الفتنة الكبرى، وحل محلها المكر والدهاء، والشطارة الشيطانية، الموظفة لخدمة المصلحة. ولا تزال تعاليم الإسلام يجري توظيفها، إلى يومنا هذا، بطرق شيطانية، بالغة السوء، كارثية المردود، لخدمة الجشع والطمع واستدامة الاستبداد. ويمثل الاستبداد الأداة الرئيسة لخدمة أغراض من امتلأت عقولهم وقلوبهم بحب المال والشهوات والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
لقد كانت الوثيقة الدستورية معيبة في عدد من جوانبها. والسبب أن غالبية من وقفوا وراء تدبيجها وتسويقها، من المدنيين، كانوا من الهواة، والديماغوجيين، والحزبيين من أصحاب الأغراض الضيقة، الذين طفوا على سطح الأحداث. والآن نرى أن ثلة من هؤلاء ارتضت أن تكون جزءا من مجلس شركاء الانتقال، الذي خرج للناس فجأة. وتسللت طائفة من انتهازيي قحت إليه، ليصبح الشركاء المتشاكسون، وللغرابة، هم أنفسهم الحكماء والوسطاء. هذا في حين وقف رئيس الوزراء وحكومته موقفا متحفظا من الصيغة التي ظهر بها هذا المجلس. ثم ما لبث أن عاد ليظهر في أول اجتماع يلتئم للمجلس، معلنا بصورة ضمنية مباركته.
أحد أطراغ التنازع القائم هو المكون العسكري في الشراكة، الذي جر إلى جانبه الحركات المسلحة، أما الطرف الآخر فيمثله المكون المدني الذي يضم حكومة حمدوك ومدنيي المجلس السيادي، إضافة إلى جماعة قحت. أما جماهير الثورة فقد أصبحت غاضبة على الفريقين. وبما أن الوضع جاء منذ المفاوضات بهذه الصورة المنقسمة، لا يصح أن يكون الشركاء المتشاكسون هم أنفسهم الحكماء والوسطاء، وكأن البلاد عدمت غير هؤلاء. وكما أشار د. إبراهيم الأمين، فإن رئاسة الفريق البرهان للمجلس، وجعل أعضاء المجلس السيادي من المدنيين، مجرد مراقبين، لا يملكون حق التصويت، يضع الأمر كله في يد الشق العسكري. فرئاسة الفريق البرهان للمجلس طيلة الفترة الانتقالية تمثل في حد ذاتها خرقا جديدا للوثيقة الدستورية، التي أضحت خرقة مهترئة مليئة بالثقوب. وكلنا يذكر أضحوكة المصفوفة التي رسمت جدولا زمنيا لإنجاز ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، ثم تبخرت.
تنص الوثيقة الدستورية على أن رئاسة المجلس السيادي ينبغي أن تنتقل في النصف الثاني من الفترة الانتقالية إلى المدنيين. وأكثر ما نخشاه أن يحدث خرق آخر للوثيقة الدستورية، أكثر فداحة مما سبق، فيجري لها تعديل جديد، يستمر به المكون العسكري في رئاسة المجلس السيادي، حتى نهاية الفترة الانتقالية. وهو أمر يشير كثير مما يجري الآن إلى كونه غير مستبعد.
إن أفضل ما يمكن أن نصف به ما ظل يجري منذ توقيع الوثيقة الدستورية وإلى الآن، هو أنه مجرد "خرمجة". ورغم أنني محب، حد العشق والوله، للحرية وللديموقراطية وللسلام وللعدالة ولحكم الشعب بواسطة الشعب لمصلحة الشعب، إلا أنني لست شخصا حالما ينقاد للتفكير الرغبوي. فما يجري حاليا غالبا ما سيضع الأمور، جميعها، في يد العسكر. فحين يتنازع المدنيون أمرهم ويصعد للقيادة الأدعياء والهواة، وأصحاب الأغراض، تؤول مقاليد الأمور إلى العسكر بصورة تلقائية. هكذا كان تاريخنا السياسي، ولا يبدو أننا خرجنا من حفرة ذلك التاريخ المخزي. نحن الآن في انتظار الولادة المتعسرة للتشكيل الوزاري الجديد، وللمجلس التشريعي وللمفوضيات. من ذلك سنعرف هل انتهت ثورتنا إلى مجرد محاصصات يجري تقديمها لعشاق المناصب والوجاهة، لإسكات حناجرهم "اللعلاعة"، والاستجابة لأساليبهم الانتهازية الزلقة، أم أنها تتجه بجد نحو بناء وطن كل شيء فيه منهار.
|
Post: #228
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-21-2020, 10:37 PM
Parent: #227
هل العالم الذي نعرفه يتصدع؟النور حمدصحيفة التيار 22 ديسمبر 2020 هناك احتمال، ولو كان ضئيلا، ألا يستمر العالم الذي عرفناه ونعرفه، على ما هو عليه، في الشهور القليلة المقبلة. ولهذا الاحتمال، رغم ما يمكن أن يدور حوله من جدل، مؤشراته. الشاهد، يوجد حاليا مؤشران رئيسان يشيان باحتمال حددوث هزة ضخمة غير مسبوقة في حياتنا المعاصرة، وهما: فيروس كورونا الذي أخذ يضيق الخناق على نمط الحياة العادية الذي ألفناه منذ بزوغ فجر الحداثة، ومنذ نشوء الديموقراطيات التعدديات. وكذلك الاختبار العسير الذي ينتظر الديموقراطية الأمريكية، في الأسابيع المقبلة. فالرئيس الأمريكي، المنتهية ولايته، دونالد ترمب يحاول بكل السبل البقاء في سدة الرئاسة. فهو لم يعترف، حتى الآن، اعتراف صريحا بفوز الرئيس المنتخب جو بايدن. هذا على الرغم رفض المحاكم الأمريكية لكل الطعون التي تقدم بها، زاعما أن تزويرا جرى في الانتخابات، به تقرر أن بايدن هو الفائز، في حين أنه هو الفائز. وهذا هو ما ظل يردده منذ إعلان النتيجة. أوردت قناة MSNBC، الداعمة للحزب الديمقراطي، أن الرئيس ترمب ربما يكون يعد لإعلان ما يسمى martial law، أي قانون الأحكام العرفية، الذي يعلق كل أنشطة الحياة المدنية، ويجعل الجيش هو الآمر الناهي. ويبدو أن إقالة ترمب لوزير الدفاع، في آخر شهر له قبل انتهاء ولايته، وكذلك استقالة النائب العام، إنما كانتا بسبب رفضهما اقتراحه بفرض الأحكام العرفية. لقد صوت لترمب أكثر من 70 مليون ناخب، وفي هذا دليل على أن شعبيته ضخمة، رغم خسارته. وقد سير أنصاره، قبل حوالي أسبوعين، تظاهرات في العاصمة واشنطن احتجاجا على نتيجة الانتخابات، شهدت بعض أعمال العنف. يبدو أن خطة ترمب واليمين المتطرف العمل على إحداث أعمال شغب وعنف، واسعة النطاق، في الخامس من يناير، موعد الإعلان الرسمي بفوز بايدن. ويبدو أن ترمب يرى أن إحداث فوضى وعنف واسعي النطاق سوف تمنحانه تمنح حق فرض الأحكام العرفية. ويتوقع ترمب، فيما يبدو، أن تتدخل المحكمة العليا، المكونة من قضاة معروفين بمحافظتهم وميولهم إلى الحزب الجمهوري، لإلغاء نتيجة الانتخابات، ليبقى ترمب في سدة الرئاسة لدورة ثانية، درءا للفتنة وللانشقاق المجتمعي الحاد، المتسم بالعنف. غير أن المحاكم الأمريكية، بما فيها المحكمة العليا نفسها، رفضت قبل أيام طعونه المتعلقة بتزوير الانتخابات. وكان ترمب قد عين اثنين من القضاة المعروفين بميولهما المحافظة عقب موت قاضيين من قضاة المحكمة العليا، ليضمن لنفسه وقوف المحكمة العليا إلى جانبه في حالة نشوب نزاع. ويبدو أن ترمب قد بدأ يستعد لمجابهة احتمال خسارته الانتخابات، منذ فترة طويلة. ويؤشر هذا الاحتقان الحاد، أن الديموقراطية الأمريكية تواجه الآن، بسبب وصول شخص بنزق وشوفينية ولا أخلاقية دونالد ترمب الى دست الحكم، أعسر اختبار تواجهه في تاريخها. فإذا حدث وأن اهتز النظام الأمريكي وتصدع نتيجة لحرص ترمب على البقاء في السلطة، بسبب ذاته المتضخمة، وتجنبا للقضايا العديدة التي يتوقع أن تنتظره في المحاكم، فإن تداعيات ذاك التصدع ستنعكس على العالم برمته. الأمر الآخر هو فيروس كورونا الذي أخذ يفاجئ الناس بتحورات جديدة. فقد أعلنت بريطانيا عن تحور جديد للفيروس، جعله أكثر شراسة وأكثر قدرة على الانتشار. وقد دفع هذا بدول أوروبية إلى إيقاف حركة الطيران بينها وبين إنجلترا. بل تردد في الأنباء إن الفيروس بدأ في الظهور فعلا، في بلدان أخرى في غرب أوروبا. معضلة دونالد ترمب ومعضلة الكورونا اللتان تشيان باحتمال حدوث تصدع غير مسبوق في نمط الحياة التي ألفناها، ربما تكونان قد حدثتا في هذا التوقيت مصادفة. وربما تكون أن نتيجة لتدبير وتخطيط طويل الأمد، من جانب ما يراها البعض حكومة سرية، ظلت منذ قرون ترسم للعالم وجهته التي تجعل الجميع خاضعين لمركز واحد. وقد بدأ كثيرون يقولون إن فرض لبس الأقنعة الواقعية، والحث على التباعد الاجتماعي، وانهيار الأعمال التجارية الصغيرة لصالح المؤسسات الضخمة، وفقدان الملايين لوظائفهم. والدعوة لانهاء استخدام العملة الورقية واستبدالها ببطاقات الدفع الإلكتروني. وانتظار العون المالي من الدولة، واحتمال فرض أخذ لقاح على الجميع، لم تعرف آثاره الممتدة بعد، تقود كلها، إلى خلق قطيع واحد مطيع، في طول الكوكب وعرضه. أو على الأقل في جزء كبير مؤثر منه. عموما، يبدو أن علينا أن نستعد لمجابهة تغير صورة العالم في أخلادنا. وهي صورة سبق أن بنينا عليها أحلامنا وآمالنا وتطلعاتنا. فربما نصبح غدا ونجد أنفسنا في عالم جديد تماما، لا نعرف عنه شيئا. لذلك، علينا ربط الأحزمة جيدا، أذ يبدو أن ليل العام 2021 سيكون ليلا طويلا، مليئا بالمطبات الهوائية.
|
Post: #229
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-23-2020, 09:21 PM
Parent: #228
"دغمسة" مريبة في منح الحصانة
النور حمد صحيفة التيار 24 ديسمبر 2020
هللت حكومتنا بقرار منح الحصانة الذي أصدره الكونغرس الأمريكي، رغم ما فيه من "دغمسة" مريبة. استثنى ضحايا 11 سبتمبر من الحصانة، ومنحهم، من ثم، حق تقديم شكاوى أمام المحاكم الأمريكية، ومطالبة حكومة السودان بتعويضهم. وكان محامو هذه الأسر جاهزون لرفع مظالم ضحايا سبتمبر 11. غير أنهم عرضوا في مقابل ألا يذهبوا إلى لقضاء لقاء أن تدفع حكومة السودان مليارات الدولارات، كتسوية خارج المحاكم، ويجري من ثم، اسقاط القضايا، لكن جرى رفض ذلك الطلب. ولكي ينقذ الرئيس ترمب خطته لجر السودان إلى إكمال التطبيع مع إسرائيل، عرض مبلغ 900 مليون دولارا لأسر الضحايا هؤلاء، بدلا عن مبلغ المليارات المطلوبة. لكن رفض عرضه. كان غرض ترمب، فيما أحسب، إرضاء اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي لاسناده في مجريات الراهن المعقد الذي يحيط به، وفي خططه المستقبلية. فترمب، رغم أنه لم يعترف بفوز بايدن، حتى الآن، وأنه يعتقد، فيما يبدو، أنه لا يزال قادرا على قلب الطاولة على الجميع، إلا أن تقارير رشحت، من ناحية أخرى، تشير إلى أنه يخطط لخوض انتخابات 2024.
كان من الممكن أن يمنح السودان حصانة كاملة، لا استثناء فيها، لولا اعتراض كل من السيناتور شومر والسيناتور منيندز وإصرارهما على أن تحصل الأسر المتضررة من حادثة سبتمبر 11 على تعويض من حكومة السودان، مثلما حصل على ذلك متضررو تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام. وكذلك متضررو تفجير المدمرة الأمريكية كول على سواحل عدن. ويبدو أن استخدام جوازات سفر سودانية بواسطة بعض الأجانب الضالعين في تلك التفجيرات، جعلت حكومة السودان ترضخ للتسوية. خاصة أن المفاوضين السودانيين نجحوا في خفض المبلغ المطلوب من مليارات إلى بضعة مئات من الملايين من الدولارات. يضاف إلى ذلك ما يترتب على الرضوخ من إعفاء للديون وادماج للبلاد في الاقتصاد العالمي. لكن يبدو أن هذا القبول بالمسؤولية عن تفجيرات السفارتين في شرق أفريقيا والمدمرة كول، فتح شهية أسر ضحايا سبتمبر 11 المحامين الذين يسيل لعابهم لما يدره عليهم هذا النوع من القضايا من أموال طائلة، للعمل من أجل الحصول على تعويضات مليارية من حكومة السودان. والذريعة هي أن السودان سبق أن آوى بن لادن في تسعينات القرن الماضي. ويمكن القول بكل ثقة أن هذه محض "سلبطة". فأسامة بن لادن صناعة أمريكية سعودية مشتركة. كان الغرض منها مجابهة الغزو الروسي لافغانستان، عسكريا، بواسطة المتطرفين الإسلاميين. يضاف إلى ذلك أن تفجيرات الخبر في السعودية كانت من فعل تنظيم القاعدة. أما من قاموا بضرب برجي التجارة في سبتمبر 11 فأكثريتهم الغالبية سعوديون. ورغم ذلك. لم نر إلى الآن مطالبة أمريكية للسعودية بتعويضات. أكثر من ذلك عرضت حكومة البشير على الأمريكييين استلام بن لادن حين كان في الخرطوم، لكنهم تقاعسوا.
يرى محامو حكومة السودان أن فرصة إضعاف دعوى تعويض متضرري سبتمبر 11 أمام المحاكم الأمريكية مسألة ميسورة. فسبتمبر 11 قام بها أفراد غالبيتهم العظمى من حاملي الجنسية السعودية. ولم تثبت التحقيقات أن من بينهم سوداني واحد. لكن لا ينبغي أن نعول على مثل هذه النظرة المتفائلة. فلو حكمت المحاكم الأمريكية لصالح الضحايا، وهذا محتمل، فإن كل هذه الجولة الطويلة في محاولة فك القيد الأمريكي عن الأقدام السودانية غالبا، ما ستذهب أدراج الرياح. لقد أثبت مسلك النخب السياسية الأمريكية باستمرار أنها لا تحفل كثيرا بالتحول نحو الديموقراطية في العالم النامي. بل لقد دعمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الأنظمة الديكتاتورية مرات عديدة. يضاف إلى ذلك هناك اختلالا مريعا في ميزان القيم بدرجة تجعل بعض النخب السياسية الأمريكية تحفل بالكسب السياسي، عبر تعويض بضعة آلاف من الناخبين، مليارات الدولارات، وبطرق لا تخلو من التلفيق، على حساب أربعين مليون سوداني يعانون قسوة العيش ولا يجد أطفالهم الحليب والدواء، وهم الخارجون لتوهم من ظلمات ثلاثين عاما من القهر والكبت، وقد بدأوا يتطلعون إلى تحول ديموقراطي يرسي دعائم الاستقرار والنمو في بلادهم.
|
Post: #230
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-25-2020, 11:42 PM
Parent: #229
معضلة الاستيراد ومعايير المستورد النور حمد صحيفة التيار 25 ديسمبر 2020 لقد أشرت مرات عديدات إلى أننا ننشغل بالسياسة عن السياسات. فالسياسة politics تختلف عن السياسات policies. فالأولى يسودها التنافس بين القوى السياسية المختلفة من أجل الوصول إلى كراسي الحكم. وقد تجري ممارستها بأخلاق، أو بغير أخلاق. خاصة، حين ينحصر هم السياسي في الكرسي والوجاهة والفرص التي تجلب الثراء الشخصي، له ولمحاسيبه. أما السياسات فهي الخطط التنموية والإصلاحية، إضافة إلى القوانين والقواعد والضوابط التي تضبط أداء جهاز الدولة ليكون خادما للصالح العام. ويدخل إحكام تطبيق معايير صارمة على ما نستورد من سلع ،في إطار السياسات الراشدة.
سبب اختيار هذا الموضوع لعمود اليوم، هو ملاحظتي رداءة الصنعة في كثير مما نستورده من سلع. فنحن نستورد السلع بالعملة الصعبة. واستيرادنا سلعا متدنية الجودة، يعني المزيد من إهدار العملة الصعبة. يضاف إلى ذلك، إثقال كاهل المستهلك المحلي باستنزاف جيبه باستبدال تلك السلعة بسلعة أخرى ردئية الصنع، أو القيام بصيانة مستمرة لتلك السلعة التي اشتراها. لهذا السبب أنشأت الدول هيئات لمعايير الجودة، للتأكد من أن كل سلعة مستوردة مستوفية لمعايير الجودة الموضوعة. فالصانع يهمه تحقيق أكبر هامش ممكن للربح. وإنتاج سلع متدنية الجودة يتيح ذلك الهامش الكبيرا للربح. كما يتيح أيضا انتشارا أوسع للسلعة. لأن تدني ثمن السلعة، بسبب قلة جودتها، يجعلها في متناول قطاع أوسع من المشترين. كما أن السلعة جيدة الصنع تدوم طويلا، ويتسبب هذا في إبطاء معاودة انتاجها. وقد أدرك المنتجون ذلك وأصبحوا يتعمدون إنتاج سلع لا تدوم طويلا. وبما أن المشتري ليس خبيرا في معايير الجودة، ولا يستطيع أن يجري اختبار للجودة بنفسه، فهو يعتمد على حكومته في الحماية.
من إحسان السياسات، قفل باب استيراد السلع التي يمكن أن يجري إنتاجها محليا. فكثيرا ما يجري فتح باب الاستيراد لسلع يمكن أن يجري إنتاجها محليا، ما يوفر على البلاد عملات حرة، ويمنح الصناعات الوطنية فرصة للتطور. لكن حين يكون الاستيراد خادما للثراء الشخصي، وفق منظومة التحالف المعروفة بين السياسيين وأصحاب العمل، تجري التضحية بالصالح العام، لكي تمدد فرص الصالح الخاص. بل يجري قتل الصناعات المحلية عمدا، لتتسع دائرة الاستيراد للمستفيدين من الاستيراد. الأمر الذي يعيق التطور الصناعي للبلاد. ولقد استشرى هذه التوجه في حقبة الإنقاذ البائدة، التي أصبحت فيها المصالح الشخصية المتحكم الرئيس في السياسات وعلى رأسها سياسات الاستيراد والتصدير. وامتلأت متاجر البلاد بطائفة ضخمة من المصنوعات ردئية الصنع. من ذلك، على سبيل المثال، الأدوات الكهربائية، من مصابيح إضاءة، ومفاتيح، قصيرة العمر، ووصلات كهربائية تتلف بسرعة او تشتعل أحيانا. ومن سيارات لا توفر أي حماية لسائقيها في الحوادث المرورية. ومن ذلك أيضا الأبواب الصينية التي تتلف أقفالها ومقابضها بصورة لافتة وأصعب صيانتها. وهذا غيض من فيض من السلع متدنية الجودة التي تزحم أرفف متاجرنا المختلفة. وفي هذا دليل على أن معايير الجودة لدينا ليست وافية، او انها لا يجري تطبيقها بصورة دقيقة على كل ما نستورد.
لا تدخل صناعة الأثاث وصناعة الأبواب والشبابيك في باب الصناعات التي تتطلب تكنولوجيا عالية. وكان من الممكن أن تتجه سياستنا على التضييق على المستورد وتشجيع المحلي، لتنهض صناعتنا فنكتفي محليا، بل ونصبح مصدرين لدول الجوار. وعلى سبيل المثال، ظل طلاب كلية الفنون ينتجون، منذ منتصف القرن الماضي، خزفا لا يقل جودة عن الخزف الصيني، يجري استخراجها من جبل المرخيات ومن مروي. لكن أحدا لم يستثمر في ذلك. ولكلية الفنون قسم للتصميم الصناعي منذ سبعينات القرن الماضي، ربما لم يسمع به أكثرية السودانيين. خلاصة الأمر أن مواردنا مهدرة ومعارفنا ومهاراتنا مهدرة. وسياساتنا بلا بوصلة. والمشكلة تكمن في السياسيين ضامري الخيال، محدودي المعارف، الذين ظلوا يقودننا من الاستقلال وحتى يومنا هذا.
|
Post: #231
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-27-2020, 09:36 PM
Parent: #230
معذرة المقال المرسل من قبل معاد وجرى إرساله خطآ هذا هو المقال الجديد
سلة الغذاء تستورد الغذاء! النور حمد صحيفة التيار 27 ديسمبر 2020 نبهني الصديق العزيز صلاح الأمين، في تبادل للرسائل بيننا، بعد أن قرأ عمودي ليوم أمس، حول معايير الاستيراد ورسم السياسات، إلى جانب مهم يتعلق باستيراد السلع الكمالية. ومنها سلع غذائية تستهلكها الشرائح المسيورة الحال، التي ربما لا تتعدى 3٪ من مجموع السكان. ومسألة استيراد السلع الكمالية مسألة قديمة، لطالما احتدم حولها النقاش في برلمانات الديموقراطيات الثلاث التي وأدتها الانقلابات العسكرية. حينها كان الناس يتجادلون حول استيراد السجائر والخمور والمعلبات والأقمشة الفاخرة والعطور، وغيرها. ولم يدخل المجتمع السوداني آنذاك في حالة الجنون الراهنة بمستحضرات التجميل، التي ملأت الأسواق حد التخمة. وأخذت تأكل مقادير كبيرة جدا من العملات الحرة. وهذه لا تمثل سوى جانب واحد من جوانب هدر العملات الحرة على السلع الكمالية. وليس من حق الدولة أن تمنع ميسوري الحال تماما من الحصول على السلع الغذائية الفاخرة، لكن ما معنى استيراد برتقال مصري، على سبيل المثال، أو أجبان ولبن بدرة يمكن صناعتها محليا، وفقا لمعايير الجودة العالمية؟ وقس على ذلك.
لابد من القول هنا أن السياسات الراشدة لا تكون إلا في ظل نظام ديمقراطي، يقوم فيه الجهاز التشريعي بدوره كاملا؛ في رسمها، ومراقبة تطبيقها. وكل الانفلات الذي حدث فيما يتعلق بسياسات الاستيراد، إنما حدث بسبب الأنظمة العسكرية الديكتاتورية. ولابد من القول هنا، إن دكتاتورية عبود كانت أرشد وأنضج في هذا الجانب، من ديكتاتوريتي نميري والبشير. في عهد عبود كانت النظم التي ورثناها من البريطانيين، لا تزال في محلها. كما اهتم القطاع العام بالتصنيع، فكانت مؤسسة التنمية الصناعية. وقامت، حينها، مصانع عديدة، منها: مصنع البلح في كريمة، ومصنع البصل في كسلا، ومصنع الألبان في بابنوسة، ومصنع الكناف في أبو نعامة، ومصنع الكرتون في أروما. إضافة إلى مصنعي السكر في الجنيد وخشم القربة. ونشط القطاع الخاص، أيضا، في مجال التصنيع. وبدأ، حينها، وكأن البلاد تسير نحو تحقيق توازن بين المنتجات المحلية والمستوردة، سعيا نحو تغليب المنتجات المحلية على المنتجات المستوردة. غير أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح. وفي هذا مبحث خصب للباحثين.
جرى تسويق السودان للمستثمرين الأجانب، في فترة حكم نميري، بوصفه سلة غذاء العالم الموعودة. غير أن عدم الاستقرار الداخلي وتقلب السياسات الذي تتسم به عادة الأنظمة الديكتاتورية، جعلت من ذلك النداء صرخة في خلاء قفر. تجنب المستثمرون البلاد بسبب عدم الاستقرار السياسي ونزق السياسات وفساد المسؤولين. وحين نشط الاستثمار العربي في السودان، في أخريات فترة حكم الإنقاذ، جرى وفقا لاتفاقيات مجحفة في حق السودان. لقد كان إهدارا لمياه البلاد الجوفية وإنهاكا لتربتها، بلا عائد يصب في محصلة الصالح العام. وقد جرى ذلك في الخفاء، نظير عمولات ورشاوى لرئيس فاسد ولبعض الولاة الفاسدين. قضت الإنقاذ على الدولة بالمعنى المتعارف عليه، فأصبحت قوفعة فارغة. كانت الدولة عقب الاستقلال وحتى جزء من حكم نميري، هي المتحكم الرئيس في العملات الحرة. وكانت هي التي تمنحها للمستوردين، بعد استيفاء الشروط الموضوعة. لكن حين انهار تماسك الدولة الاقتصادي، وأصبح المستورد هو الذي يحصل على العملة الحرة بنفسه، من السوق الموازي، داخل البلاد، تحت سمع وبصر الدولة، بل وبمباركتها، فقدت الدولة نتيجة لاتساع منظومة الفساد والترهل الإداري العام القدرة على ضبط الاستيراد. وهكذا أصبحت التجارة مع الخارج عالما قائما بذاته يمتع بحرية واسعة . بل، أصبحت ركنا ركينا لما سبق أن أسميته منذ سنوات "الدولة الموازية" . فالسودان اليوم ليس به دولة، ولا يمكن إطلاق إسم دولة، على حالة البلاد الراهنة، إلا مجازا.
كل شيء يجري الآن في السودان تتحكم فيه المصالح الخاصة. فليس للمصلحة العامة أي نصيب في ما آلت إليه سياساتنا الاقتصادية والمالية. فاصحاب المصالح الذين يبنون ثرواتهم على الاستيراد هدفهم الربح. ولا يهمهم أن يتحول المجتمع السوداني إلى مجتمع مستهلك لا ينتج شيئا. وواضح أن الدولة فقدت قدرتها على ضبط المال العام وقوى السوق. وسيبقى شعار سلة غذاء العالم، بل شعار سلة غذاء العالم العربي، أو سلة غذاء نفسه ،مجرد شعار معلق في الهواء. نحن لا تزال نستورد أغذبتنا الأساسية. ومشكلتنا المزمنة هي الغرق في جدل السياسة العقيم، والانصراف عن رسم السياسات الراشدة وتطبيقها بإحكام.
|
Post: #232
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 12-31-2020, 07:11 AM
Parent: #231
عبد الخالق محجوب في كتاب متميز النور حمد صحيفة التيار 31 ديسمبر 2020 عنوان هذا الكتاب المتميز: "عبد الخالق محجوب: الوعي وأزهار القناديل". اسم مؤلفه: حسن محمود الريح. الناشر: دار المصورات - الخرطوم. تاريخ النشر: 2020. عدد الصفحات 265، من القطع المتوسط، متضمنة قائمة المراجع.
عالج هذا الكتاب أحداث انقلاب يوليو 1971 ابتداء من هروب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب من معتقله بميز الضباط بمصنع الذخيرة في المنطقة العسكرية بالشجرة، جنوبي الخرطوم، وحتى حدوث الانقلاب. وقد منح الكاتب اهتماما خاصا للأيام الخمسة الأخيرة في حياة هذا الزعيم والنجم السياسي البارز، التي أمضاها وهو مطارد، عقب فشل انقلاب يوليو 1971.
أورد المؤلف تفاصيل تلك الأيام المفعمة بالحزن والأسى، التي حاول فيها الزعيم إيجاد مخبأ لنفسه،، في عديد البيوت، فتعذر عليه إيجاده. وظل يتنقل من بيت لبيت طالبا الملجأ، وهو بين الرجاء واليأس. فقد اعتذرت له عدد من البيوت عن منحه مخبأ. وربما كان السبب الغالب وراء ذلك، أن وسائل إعلام نميري ظلت تكرر النداءات للإرشاد عليه. وتنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، كل من تحدثه نفسه بإخفائه. خرج الزعيم من الخرطوم، حين تأكد له فشل الانقلاب. واتجه إلى أمدرمان، حيث منزل القيادي الشيوعي المعروف، حسن الطاهر زروق، في الحارة الثانية بمدينة الثورة. وقد كان حسن الطاهر زروق وقتها غائبا في بلغاريا. وكان هناك شاب قريب لحسن الطاهر يعيش في المنزل. في لحظة ما سمع عبد الخالق ومضيفه الشاب من التلفزيون، التهديد الشديد والوعيد المزلزل لكل من يؤي الزعيم الهارب. أحس الزعيم أن الشاب قد اعتراه قلق واضطراب. فغافله لحظة ذهابه إلى جزء آخر من المنزل، وخرج ميمما شطر الحارة السادسة سيرا على الأقدام، مستخدمها الشوارع الداخلية، قاصدا بيتا آخر لأحد الرفاق. وهناك صده صاحب الدار على عقبيه. فسار راجلا مرة أخرى، عبر الشوارع الداخلية من الحارة السادسة، عبر الحارة الثانية، عبر مقابر أحمد شرفي ثم سار شمال كلية التربية شرقا عبر حفر القمار والكبجاب وصولا إلى أبوروف، حيث منازل الأقارب.
في بيوت أقاربه آل حسن وحسين الكد، في حي ابوروف العريق، وهي بيوت معروفة بانتماء بعض أفرادها للحزب الشيوعي السوداني، وضح أن الاختباء فيها غير مناسب. فخالد الكد، ابن هذه الأسرة، كان هو الآخر مطاردا. كما أن نسوة تلك البيوت شعرن بالخطر الداهم الذي يتهدد ابن الأسرة خالد الكد وخاله زعيم الحزب الشيوعي، وبالفجيعة القادمة، فانخرطن في العويل والبكاء. وهو ما كان سيلفت نظر الجيران وسكان الحي. حاول الزعيم المطارد أن يجد مخبأ لدى رفاقه من أعضاء الحزب في حي أبو روف، بدلا عن بيوت أقاربه. لكن كثيرين منهم كانوا حينها قد نزلوا تحت الأرض، كعادة الشيوعيين ساعات الخطر، أو آثروا النجاة بأنفسهم. تحت وطأة الشعور بالتنكر والخذلان أملى الزعيم على قريبه طه الكد، هذه العبارة المفعمة بالأسى: "الذين كانوا يتمنون تقبيل حذائي تخلوا عني الآن". ولقد وقف طه الكد، وهو الأقرب إلى الإسلاميين، موقفا اتسم بالشهامة والنبل مع خاله، زعيم الحزب الشيوعي المطارد. فقد كان هو الذي رافقه، طيلة رحلة البحث عن مخبأ، عبر أزقة أبوروف.
أورد الكاتب سعي الزعيم المطارد في البحث عن مخبأ بتفاصيل دقيقة، عبر بحث دؤوب وتوثيق لشهادات أخذها من مختلف الشهود. ومن أهم ما وثق له هذا الكتاب إثباته لحقيقة تخطيط عبد الخالق محجوب للهروب من معتقله بالشجرة إلى منزل قائد الحرس الجمهوري في داخل القصر الجمهوري. وكذلك تخطيطه لإنقلاب 19 يوليو مع الجناح العسكري للحزب، من غير علم اللجنة المركزية للحزب، بإستثناء قلة قليلة. وكان ذلك حرصا على إحكام السرية حول الانقلاب المخطط له. ومما يؤكد تلك الحقائق ممارسة عبد الخالق محجوب في أيام الانقلاب القليلة مهام رجل الدولة، من مقره في الخرطوم. فقد تولى المقابلات الرسمية، ومنها مقابلة القائم بالأعمال العراقي، والصحفي المصري، أحمد حمروش الذي بعثه الرئيس السادات.
تميز هذا الكتاب بسرد روائي ممتع بلغة بسيطة واضحة، كما تميز بأمانة علمية. فرغم تعاطف الكاتب مع الزعيم الخالد، وربما تماهيه مع أفكار الزعيم وتجربة الحزب الشيوعي ودوره في الحياة السياسية والثقافية السودانية، فإن ذلك لم يخرجه من الحياد التوثيقي. فقد أجلى هذا الكتاب حقائق أحداث جسام طالما لفها غموض والتباس. وسيبقى هذا الكتاب مرجعا متميزا، لا غنى عنه، لكل من يتناول أحداث انقلاب 19 يوليو 1971.The
|
Post: #233
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 01-01-2021, 11:13 PM
Parent: #232
هل نحن مستقلون حقا؟. (١ - ٢) النور حمد صحيفة التيار 2 يناير 2021 في البدء التهنئة لكل السودانيين والسودانيات بعيد الاستقلال المجيد، و أيضا، ببداية العام الميلادي الجديد. جعله الله عام خير وأمن وسلام واستقرار في البلاد. ونرجو أن يشهد هذا العام الجديد انقشاع وباء الكورونا الفتاك، الذي حصد الكثير من الأرواح في أرجاء المعمورة، وأربك إيقاع الحياة اليومية في كل مكان، وتسبب في ضوائق اقتصادية حادة، لقطاع كبير جدا من سكان الكوكب .
علينا، ونحن نحتفل بالذكرى 65 لإعلان استقلال بلادنا من الحكم الثنائي، البريطاني المصري، من داخل البرلمان عام 1955، أن نقوم بجرد حساب لهذه السنوات الخمس والستين، لمعرفة إلى أي مدى تحققت لنا فيها معاني الاستقلال. فهل يعني الاستقلال، وهل تعني الحرية مجرد خروج الجيوش والادارة الأجنبية، أم أن للاستقلال تجليات أخرى، ينبغي أن تتجسد في إنجازات ملموسة تنتظم كل أوجه حياتنا؟ فخروج الجيوش الأجنبية، والإدارة الأجنبية، من بلادنا لا ينبغي أن يمثل سوى العتبة الأولى في السير نحو تلك الانجازات. وأي جرد أمين لتجربة الحكم الوطني السوداني، على مدى الخمس وستين عاما الماضية، لا يصل إلا إلى نتيجة واحدة. مفاد تلك النتيجة أننا لم نحقق، لا وحدة وطنية، ولا استقرارا سياسيا، ولا سلاما، ولا تنمية اقتصادية، بل ولا حتى استقلالا يذكر في قرارنا السياسي. فقد بقي تأثير الخارج على سياستنا أكبر من تأثير الداخل. ولا تزال أيدي الخارج ظاهرة في كل ما تأتي نخبنا المتنفذة، من عسكريين ومدنيين، وما تدع.
لقد كان مفهوم الاستقلال لدى آبائنا المؤسسين غائما منذ البداية. فهم لم يروا بأسا، بادئ الأمر، أن يخرج البريطانيون لينضوي السودان، تحت التاج المصري تحقيقا لشعار "وحدة وادي النيل". فقد جاء في خطاب السيد إسماعيل الأزهري، رئيس مؤتمر الخريجين، الذي أرسله إلى لجنة المؤتمر الفرعية بودمدني، في 4 أبريل 1945، ما يلي: "إن الوضع الذي يفصح عن رغبات البلاد الحقيقية والذي يحقق لها مصالحها ويكفل لها حريتها ورفاهيتها هو قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري". (راجع: معتصم أحمد الحاج، بعض وثائق مؤتمر الخريجين، الجزء الثالث، ص 152). ولا يخفى أن هذا التوجه نحو تذويب الدولة السودانية في الدولة المصرية، قد عكس تجاهلا لحقيقة أن التاج المصري، في الأصل، هو تاج خديوي، متجذر في تركيا. بل، وقبلها في ألبانيا، التي أتى منها محمد علي باشا، حاكم مصر الأجنبي، الذي غزا السودان عام 1821. فاستعبد رجاله ووضعهم في سلك جنده قسرا، وهو يسعى لبناء امبراطوريته في وادي النيل والجزيرة العربية. وأيضا، لينهب ثرواته وعلى رأسها الذهب. وليذيق شعب السودان الأمرين بالضرائب الباهظة والعسف والتعذيب والتنكيل، إلى أن خلصتهم منه الثورة المهدية.
لم يستحضر آباء الاستقلال تلك الحقائق، وهم ينادون بوحدة وادي النيل. ولقد خرج السودان من منزلق التبعية المطلقة لمصر، بمحض العناية الإلهية. فقد غير السيد إسماعيل الأزهري ورهطه توجههم في آخر لحظة، 180درجة. وهكذا جرى أعلان الاستقلال عن كل من بريطانيا ومن مصر، من داخل البرلمان. ولربما كان لوجود تيار استقلالي مناهض لتيار الوحدة مع مصر، ولتناميه وبروزه في المفاوضات مع المصريين والبريطانيين، إضافة إلى حرص بريطانيا ألا يقع السودان في القبضة المصرية، أثره في أن يغير الزعيم الأزهري ورهطه توجههم الاتحادي، إلى توجه استقلالي.
لكن لم يسلم السودان، في عموم تجربة ما بعد الاستقلال، من التبعية. رغم أعلانه جرى بوصفه قطرا مستقلا. وعموما، لم تخل أغلبية أقطار العالم من تبعية، بقدر ما، لقطر من الأقطار ينطبق هذا بصورة أكبر على أقطار العالم النامي، التي كانت واقعة تحت نير الاستعمار. فلقد أطلق مفكرو العالم النامي على الهيمنة الاقتصادية الغربية، التي بقيت عقب استقلال المستعمرات، ثم تنامت، مصطلح: "الاستعمار الحديث". وإلى جانب الهيمنة الاقتصادية كانت هناك التبعية الأيديولوجية الاختيارية لواحدة من بؤر الأيديولوجيا الكبيرة، كالمعسكر الغربي والمعسكر الشيوعي. وكانت هناك، أيضا، التبعية للبؤر الأيديولوجية الإقليمية كالقومية العربية، أو المنظومة الإخوانية الإسلامية العابرة للأقطار. (يتواصل)
|
Post: #234
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 01-03-2021, 05:45 AM
Parent: #233
هل نحن مستقلون حقا؟ ( 2 - 2 ) النور حمد صحيفة التيار 3 يناير 2021
قلت في المقال السابق أننا غير مستقلين حقا، بسبب جرنا واستقطابنا، بمختلف القوى الخارجية، في مختلف مراحل تكوين الدولة السودانية الحديثة. وكانت ضربة البداية الملموسة للانجرار والاستقطاب، الغزو الخديوي المصري للسودان في عام 1821. كتب طه جابر العلواني، في مقدمته لكتاب غريغوار مرشو، الموسوم: "من الاستتباع إلى الاستبداد: حفريات في آليات احتلال العقل"، أن الأمم التي توسعت على حساب غيرها شيدت حقولا معرفية كاملة بغرض استخدامها كأداة مسوغة لفرض الهيمنة والاستتباع. من ذلك تدبيج خطاب جديد من المعارف التاريخية والجفرافية والجيوسياسية والأيديولوجية، ليصبح ذلك الخطاب ذراعا ثقافية قاهرة، تسير في مقدمة مكونات القوة الغازية، كالتجارة والجيش. وهذا هو ما قام به محمد علي باشا حين غزا السودان. فقد أرسل مع جيشه الغازي ثلاثة من علماء الدين، يمثلون المذاهب الإسلامية، بإستثناء المذهب الحنبلي. هؤلاء العلماء الثلاثة هم من بذروا بذور المؤسسة الدينية الرسمية الداعمة للحاكم، والحاضة على طاعته وقبول استبداده. هذا الأثر الخديوي ظهر جليا حين عارض العلماء السودانيون، الذين تعلموا على أيدي علماء الخديوي، الدعوة المهدية الاستقلالية التحررية، وانحازوا إلى صف المحتل الأجنبي. ولقد استمر هذا التأثير، إلى يومنا هذا، في المؤسسة الدينية الرسمية السودانية، المنحازة دوما للحاكم المستبد، المبررة لتجاوزاته. وكان الخطاب الديني الفقهي الأزهري، الذي غير المزاج الديني السوداني الصوفي السناري، بمثابة التربة الصالحة التي نبتت عليها لاحقا حركة الإخوان المسلمين السودانية، التي أربكت الحياة السياسية السودانية، وأضاعت على السودان والسودانيين ثلاثين عاما عزيزة، حين وصلت إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري. كما جاءتنا مم مصر، أيضا، الحركة الشيوعية. لتصبح بؤرة أخرى من بؤر الانجرار إلى الخارج.
حين فقدت مصر فرصة انضمام السودان إليها عقب خروج البريطانيين ونيل الاستقلال، اتجهت إلى القوة الناعمة وتكثيف جهودها من أجل مواصلة الاحتلال العقلي للسودانيين. فأنتج الأكاديميون المصريون، (الموجهون استخباراتيا)، أدبيات ثرة، ركزت على إثبات عروبة السودان. وبما أن مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية قد أسند البريطانيون تدريسها في كلية غردون للمصريين، فقد نتج عن ذلك صياغة عقول طلائع المثقفين السودانيين عروبيا ومصريا. وهذا هو الذي جعل انقياد نخبنا للمصريين سلسا، بعد أن ترسخت فيهم عقدة الدونية والشعور بالتبعية. أيضا، كان منهج اللغة العربية والتربية الإسلامية في المدارس الثانوية والمتوسطة السودانية، منهجا مصريا صرفا. أضف إلى ذلك إنشاء البعثة التعليمية العربية الممولة والمدارة مصريا، مدارس ثانوية في غالب المدن السودانية الكبرى . كما جرى إنشاء جامعة القاهرة فرع الخرطوم. وجرى تقديم منح دراسية بالغة الكثرة، على مدى عقود، للسودانيين في الجامعات المصرية. وفي مجال الإعلام الموجه، جرى انشاء إذاعة ركن السودان من القاهرة. كل ذلك كان امتدادا للجهد الخديوي في احتلال العقل السوداني واستتباعه. وهو احتلال آتى أكله، فقد جعل النخب السياسية السودانية تعمل في خدمة مصر والأمة العربية، بأكثر مما تعمل في خدمة السودان. من أمثلة ذلك ترحيل أهالي حلفا، وغمر الآثار السودانية والمدن والقرى ومئات الآلاف من أشجار النخيل، لتنشئ مصر السد العالي. ومن ذلك الانشغال بمآسي الفلسطيين وإغاثة أهل غزة أكثر من الانشغال بمآسي مشردي دارفور وإغاثتهم. وغير ذلك كثير. وحتى بعد أن احتلت مصر بالقوة حلايب وشلاتين، صمتت نخبنا المتنفذة، صمت القبور. والسبب في تقديري هو هذا الاحتلال العقلي، والتخدير المستمر بالجيرة والأخوة الكذوبة. وحين جيشنا الجيوش لوضع ايدينا على أراضينا في الفشقة، لم نجرؤ حتى على طلب التحكيم الدولي في احتلال مصر لحلايب وشلاتين.
لقد انجررنا لعقود وراء جمال عبد الناصر والقومية العربية. وقد قادنا ذلك إلى الانجرار في إلى مخططات الشيوعية الدولية. تراجع اليسار العربي وصعدت الدول العربية النفطية، فأصبحنا، بفعل الفشل الاقتصادي والحاجة للعون الخارجي، منجرين وراء السعودية. ومؤخرا وراء المحورين القطري التركي، الداعم للحركة الإسلامية السودانية، والمحور الإماراتي السعودي المصري، المناهض لحركات الإسلام السياسي. وبين هذا وذاك جرنا نظام البشير إلى ركب إيران لسنوات. وحاليا يمكن القول بلا تردد أن السياسة الخارجية السودانية يجري رسمها خارج الحدود. بل هناك طمع خارجي حتى لرسم السياسة الداخلية للسودان، أيضا. نحن بحاجة لمراكز بحوث مستقلة حقا، ولتعليم جديد غير مفخخ بحبائل الاستتباع، ولإعلام يعرف حقيقة وظيفته. إلى جانب ذلك، نحن بحاجة إلى نهضة اقتصادية تعصمنا من مد أيدينا للأجانب. فقديما قالوا: "الحاجة رق"، كما قالوا: "من لا يملك قوته لا يملك قراره". وبعبارة أخرى: لا يملك استقلاله.
.
|
Post: #235
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 01-06-2021, 04:42 AM
Parent: #234
05 يناير 2021 محمد حلفاوي خبير اقتصادي: موازنة "سرية صادمة" تعتزم الحكومة تطبيقها الشهر القادم
قال المحلل الاقتصادي وعضو لجان مقاومة وزارة المالية حسام الدين إسماعيل إن "الكابينة الاقتصادية" بين مجلس الوزراء والمالية أعدت موازنة سرية لعرضها على وفد البنك الدولي وتنفيذها في شباط/فبراير القادم. وكشف إسماعيل في تصريحات لـ"الترا سودان" أن الموازنة السرية اعتمدت سعر صرف (260) جنيهًا مقابل الدولار، وزيادة سعر الدولار الجمركي من (18) جنيهًا إلى (55) جنيهًا مع زيادات شهرية بنسبة (30)% إلى جانب تحرير أسعار الأدوية والقمح تدريجيًا علاوة على تنفيذ زيادة سعر الكهرباء بنسبة (600)% مؤخرًا. وأشار إسماعيل إلى أنه شارك مع اللجان الفنية في إعداد الموازنة بوزارة المالية وعلم بوجود موازنة سرية وأن الموازنة التي ستجاز بعد أيام هي صورية لخداع الرأي العام. وطبقًا لمشروع موازنة 2021 حصلت وزارة الدفاع على (89.818) مليار جنيه بينما حصلت في العام 2020 على (32.010) مليار جنيه، بزيادة بلغت (173)% أما قوات الدعم السريع فحصلت في مشروع موازنة 2021 على (37.010) مليار جنيه بينما حصلت على (14.500) مليار جنيه في العام الماضي وبلغت الزيادة (155)%. فيما خصصت موازنة 2021 لوزارة الداخلية مبلغ (52.535) مليار جنيه بينما حصلت العام الماضي على (17.370) مليار جنيه بزيادة بلغت (202)% وحصل جهاز الأمن والمخابرات على (22.100) بينما حصل العام الماضي على (9039) مليار جنيه وبلغت الزيادة (145)%. أما القطاعات السيادية والحكومية فخصص مشروع موازنة 2021 مبلغ (5.680) مليار جنيه فيما حصل القطاع العام الماضي على (2.513) مليار جنيه بزيادة بلغت (126)% بينما حصل مجلس الوزراء (2.628) مليار جنيه فيما حصل العام الماضي على (298) مليون بزيادة (782)% وخصص مشروع موازنة 2021 للسلطة القضائية (10.700) مليار جنيه وحصلت العام الماضي على (3.660) مليار جنيه وبلغت الزيادة (192)% وحصلت وزارة الخارجية في مشروع موازنة 2021 على (328) مليون جنيه من (182) مليون جنيه العام الماضي وبلغت الزيادة (80)%. أما القطاع الصحي فحصل على (42.385) مليار جنيه من (21.049) مليار جنيه العام الماضي وبلغت الزيادة (105)% وحصل قطاع التعليم في مشروع موازنة 2021 على (6.235) مليار جنيه متراجعًا عن (14.869) مليار جنيه العام الماضي، وانخفضت المبالغ المخصصة للتعليم هذا العام بنسبة (58)% عن العام الماضي. بينما بلغت الأموال المخصصة للقطاع الزراعي في مشروع موازنة 2021 (11.320) مليار جنيه من (6.148) مليار جنيه العام الماضي بزيادة بلغت (84)% فيما حصل قطاع النقل والبنى التحتية على (3065) مليار جنيه من (1.927) مليار جنيه العام الماضي بزيادة بلغت (59)%. وجاءت ميزانية التنمية للعام 2021 شحيحةً مقارنة مع الانفاق الحكومي والعسكري إذ حصلت التنمية على (78.363) مليار جنيه من (57.975) مليار جنيه العام الماضي بزيادة بلغت (35)%. من جهته انتقد عضو لجنة مقاومة وزارة المالية والمحلل الاقتصادي حسام الدين إسماعيل إخفاء الموازنة الحقيقية بواسطة الكابينة الاقتصادية بين مجلس الوزراء ووزارة المالية مشيرًا إلى أن الموازنة السرية تحرر سعر الصرف للجنيه من (55) جنيها إلى (260) جنيهًا مقابل واحد دولار، ما سيؤدي إلى ارتفاع الدولار في السوق الموازي إلى (720) جنيها إذا نفذت الموازنة السرية في شباط/فبراير القادم. ورأى إسماعيل أن الحكومة الانتقالية المدنية لم تستغل قانون الانتقال الديمقراطي والشفافية المالية الصادر عن الكونغرس الأمريكي فيما يتعلق بالشركات العسكرية والأمنية موضحًا أن مجلس الوزراء ووزارة المالية يتحاشون إجراء نقاشات مع المكون العسكري حول شركات المنظومة الأمنية. وأضاف: "اقترحنا طلب تمويل الموازنة من المكون العسكري بقيمة خمسة مليار دولار بسداد (300) مليون دولار شهريًا للموازنة لكنهم لا يبلغون العسكريين بهذه المقترحات والأطراف المخولة بلقاء العسكريين هي وكيلة المالية والوزيرة فقط". واتهم حسام الدين إسماعيل الطاقم الاقتصادي بالحكومة الانتقالية بالضغط على المواطن لتغطية العجز الذي بلغ في الموازنة الرسمية خمسة مليار دولار، فيما يبلغ العجز في الموازنة السرية مليار دولار. وتابع إسماعيل: "الطاقم الاقتصادي ينتظر وفد البنك الدولي الشهر القادم لعرض الموازنة السرية عليه والتي تحتوي على تحرير سعر الصرف والدواء والقمح وحال تطبيقها سيحدث صعود كبير للأسعار والدولار في السوق الموازي". وأضاف: "اتحاد أصحاب العمل متحالف مع الطاقم الاقتصادي وجميع هذه الأطراف لا ترى سوى جيب المواطن لتمويل الموازنة". واستبعد إسماعيل تراجع الحكومة عن التعرفة الجديدة التي نفذتها على الكهرباء وقال إن الحكومة تقوم بهذه الإجراءات لأنها تعول على ضخ منح وقروض غير موجودة سوى في مخيلتها، لأن المجتمع الدولي لا يدفع لحكومة تتردد ألف مرة في إبلاغ المكون العسكري بتمويل عجز الموازنة. ورجح حسام الدين إسماعيل اندلاع اضطرابات شعبية بسبب الضائقة الاقتصادية التي ستنتج عن تنفيذ الموازنة السرية الشهر القادم موضحًا أن السودانيين قادرين على فرض إرادتهم التي فرضوها قبل عامين وأجبروا الرئيس المعزول على الرحيل.
|
Post: #236
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 01-10-2021, 08:04 PM
Parent: #235
التاريخ : 10 يناير 2021م ثورة ديسمبر : تكون أو لا تكون مستقبل أطفالنا والسودان على المحك محمد الأمين أحمد التوم 1- مقدمة يتطلب الفهم الصحيح لبيان السيد / رئيس مجلس الوزراء، الصادر بتاريخ 06/1/2021م، والمتعلق بالمناهج النظر في السياق العام الذي ظهر فيه. 2- السياق العام لو حاولنا رصد التحديات الكبرى التي تواجه الثورة، لما وجدنا من بينها صورة لوحة مايكل أنجلو أو خطر الفكر الجمهوري على الأمن القومي. • فالسلام لم يُستكمل بعد. ليس ذلك فحسب، بل إنَّ الحكومة وحاضنتها السياسية ليست لديهما رؤية واضحة لاستكماله. ولا ندري حتى هذه اللحظة إجابة واضحة عن السؤال التالي : هل ستتولى الحكومة قيادة التفاوض أم ستتركه لمجلس السيادة؟ • والحكومة مطالبة بمخاطبة الشعب بشفافية، موضحة له رؤيتها لمعالجة معاناته من قسوة الأوضاع المعيشية التي تزداد شدة مع مر الساعات. وهي مطالبة بالتنسيق مع اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير (قحت) لتحديد هذه الرؤية. • إنَّ قوى الثورة تتجاوز كثيرا المجموعات التي يمثلها المجلس المركزي لقحت. وقحت مطالبة بإعادة النظر في هياكلها لتتمكن من استيعاب القوى الموقعة على الاعلان، إضافة إلى التوافق على برنامج حدٍ أدنى لما تبقى من المرحلة الانتقالية. أمَّا الحاضنة الشعبية ( لجان المقاومة بصورة أساسية)، فتحتاج إلى تمتين تنظيماتها على مستوى القرى والأحياء والمحليات والولايات وإلى تأسيس قيادة ديمقراطية لها. • يلزم الحكومة أن تنظر جادة في مطالب الجماهير التي رفعتها إليها في عدد من المسيرات المليونية المتتالية، لا سيما ما تعلق منها بملف العدالة. أما كان الأجدر بالحكومة أن تُمعن النظر في هذه التحديات وفي توسيع دائرة الحوار بشأنها بدلاً من أن ينصرف اهتمامها إلى صورة لمايكل آنجلو على نحو أغرق البلاد في متاهات المتاجرين بالدين؟ 3- سياق التربية والتعليم تشكَّلت لديّ، منذ سنوات مضت، رؤية واضحة عن نظام التعليم ( العام والعالي) في السودان تقوم على فرضية أنَّه غدا وطناً ديمقراطياً يحتفي بتنوع أعراقه وثقافاته ويلتزم بحقوق الانسان وينشد التنمية المستدامة ويسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية وإلى امتلاك القدرة على المساهمة في تطوير الحضارة الإنسانية. وقدمتُ ملامح هذه الرؤية، إضافة إلى راهن التعليم العام، في مؤتمر صحفي عقدته وكالة سونا في 19 نوفمبر 2019م. ودعوت المسؤولين عن التعليم في جميع الولايات لتنظيم مؤتمرات لأصحاب المصلحة في التعليم (أولياء الأمور والتلاميذ والطلاب والمعلمون والإداريون والتربويون ومنظمات المجتمع المدني والحكومة) يتفاكرون فيها في راهن التعليم العام ومستقبله. وشاركت، خلال فترة يناير- فبراير من العام الماضي، في مؤتمرات لأصحاب المصلحة بجميع الولايات، ما عدا ولايتي الشمالية والنيل الأزرق وذلك لأسباب لوجستية. وعقدنا مؤتمر ثورة ديسمبر للنهوض بالتعليم في أغسطس 2020م اسفيرياً في جميع الولايات. ونظر المؤتمرون في توصيات الولايات، فبتنا نمتلك الآن مشروعاً قومياً متكاملاً لتغيير التعليم العام تغييرا جذريا. ويمكن الاتصال بمكتبنا للتعرف على ما تم إنجازه في مجالات القوانين والتشريعات والمناهج ووضع المعلمين المادي والمهني والبيئة المدرسية ومجانية التعليم والتعليم الالكتروني. إنَّ بيان السيد/ رئيس الوزراء، بتجاوزه وزير التربية والتعليم في أمر يقع ضمن اختصاصات وزارته الحصرية وبإلغائه جهود اللجان التي أعدَّت المناهج دون إخضاعها للدراسة، إنمَّا يدفع الوزير ومدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي دفعا إلى الاستقالة الفورية. وثمة جانب آخر في هذا البيان ينبغي أن يُشار إليه ألا وهو: من هو صاحب هذه الفكرة أساساً؟ ومن الذي انتقى هذه المجموعات الدينية؟ ولماذا رتب لها مكتب السيد / رئيس الوزراء أمر مقابلته بدلاً من توجيهها بمقابلة مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي إبتداءً، ثم مقابلة الوزير إن تعذر التوصل لحل مقبول لقضيتها؟ ويقال أنَّ المجموعات ذاتها التقت أيضاً السيدين / رئيس مجلس السيادة الانتقالي ونائبه للغرض ذاته. وإن صح ذلك، فهل لمجلس السيادة اختصاص في المناهج ؟ وثمة دلائل تشير إلى أنَّ هذا التحرك من قِبل هذه المجموعات الدينية ينبغي أن يُنظر إليه على أنَّه يندرج في إطار المخطط الناعم لفلول النظام المباد لإجهاض الثورة. فإيقاف مشروع التغيير الجذري في وزارة التربية والتعليم إنما يمثل الخطوة الأولى فحسب في هذ المخطط. لقد جربت هذه الفلول الحل العسكري وأجهض الشعب مسعاها. وهاهي الآن تجرب الأساليب الناعمة. ولا بد لنا جميعا من التصدي لها بقوة. فليذهب الوزير وليذهب المدير وليبقى مشروع التغيير الجذري . 4- مأزق قحت إنَّ المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، بإفساحه المجال أمام عناصر الحركة الإسلامية المعادية للثورة لولوج مواقع متقدمة في الجهاز التنفيذي، يكون قد أصاب الثورة في مقتل. إنَّ مستقبل أطفال السودان ومستقبل الوطن يرتبطان ارتباطاً متينا بمشروع التغيير الجذري في نظام التعليم. وتقع على عاتق المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير مسؤولية الخروج من المأزق الذي أوقع نفسه فيه والعمل على ضمان بقاء هذا المشروع. وختاماً، أعتقد أنني نهلت، كغيري، من النبع الصافي لقيم الشعب السوداني والإنسانية ومن ضمنها العزوف عن السعي وراء المناصب والنأي عن التشبث بها والوقوف في وجه الظلم والسعي وراء الحقيقة والجهر بها. لذلك، أجد نفسي جزءاً من المعركة الدائرة الآن من أجل الإنتصار لثورة ديسمبر المجيدة.
|
Post: #237
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 02-14-2021, 10:25 AM
Parent: #236
بعض مما فضحه التشكيل الوزاري الجديد النور حمد صحيفة التيار 14 فبراير 2021
يمكن القول، بكل بساطة، أن ما ظل يعتمل داخل الوسط السياسي، منذ اقتلاع نظام الإنقاذ وبداية التفاوض مع العسكر ، قد كانت سمته الرئيسة التدليس المستمر، المتمثل في نقض العهود والمواثيق. من أمثلة ذلك، عدم الالتزام بما نصت عليه الوثيقة الدستورية. فقد مر على إعلان الوثيقة الدستورية عام ونصف، ولم نر مجلسا تشريعيا. وإنما رأينا ما سمي "مجلس الشركاء"، الذي نبت فجأة وجرى تشكيله بسرعة البرق. هذا، في حين ظل كل ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من استحقاقات يسير بسلحفائية قاتلة، أضحت تشير بوضوح إلى التعمد في تأخير تلك الاستحقاقات، بل، وربما التنكر لها بصورة نهائية. وعموما، لا ندري من أين جاءت فكرة "مجلس الشركاء" هذه، التي أضحت واقعا بين يوم وليلة. وأصبح قياديو قوى الحرية والتغيير أعضاء فيه، وهم المفترض فيهم أن يكونوا حراس الثورة وحراس وثيقتها الدستورية. أيضا لم نر تشكيلا لمفوضية الانتخابات وغيرها من المفوضيات. ولم يكن كل هذا المطل والتباطؤ ممكنا لولا أن الذين استلموا مقود عربة الثورة قد كانوا قوما بلا مبادئ وبلا صدقية.
أحدث الوزير السابق، مدني عباس مدني، أول خرق لما ألزمت به قوى الحرية والتغيير نفسها، وهو عدم تولي أي فرد منها منصبا تنفيذيا أثناء الفترة الانتقالية. والآن سار الجميع على نهج مدني، فجاء إلى المناصب التنفيذية كل من إبراهيم الشيخ، وخالد عمر يوسف، ومريم الصادق، وحمزة بلول، ويوسف آدم الضي، وغيرهم. ويبدو أن حرص الجبهة الثورية على نهج المحاصصة في المناصب أثناء الفترة الانتقالية، الذي كان بندا من بنود المفاوضات التي جرت لإبرام إتفاقية السلام في جوبا، قد فتحت شهية الأحزاب السياسية وقيادييها للاستوزار أثناء الفترة الانتقالية، شأنهم شأن رصفائهم في الجبهة الثورية. وقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي في الأسبوع المنصرم بإعادة تدوير أحاديث إبراهيم الشيخ وخالد عمر يوسف من على منصات الاعتصام، التي أكدوا فيها نأيهم بأنفسهم عن تسنم أي منصب تنفيذي في الفترة الانتقالية. وقد أظهرت مقاطع الفيديو تلك مدى تناقض المواقف لدى سياسيينا، بل ومدى عدم اكتراثهم بأن يناقضوا أنفسهم. وهذه جانب واحد من جوانب "تخانة الجلد"، التي ظلت السمة الرئيسة لسياسيينا منذ الاستقلال. ويبدو أن حلمنا بأن تنشأ من بين قوانا السياسية قامات ذات مبادئ ومصداقية وانحياز لنبض الشارع، لا يزال حلما طوباويا معلقا في الهواء.
كان من الأفضل في نظري أن تكتفي الجبهة الثورية بمناصب في السيادي، إضافة إلى تولي مفوضية السلام لتشرف على تنفيذ اتفاقية السلام، وتنصرف بكليتها إلى تحويل نفسها إلى حراك مدني تنشغل عبره بالاستعداد لخوض الانتخابات، عقب الفترة الانتقالية. أيضا، كان على الأحزاب، فيما أرى، أن تنأى بنفسها عن المناصب التنفيذية، وتنشغل هي الأخرى بتوسيع قواعدها الجماهيرية، وتمتين هياكلها التنظيمية، لخوض الانتخابات. غير أن الفريقين هرعا إلى المناصب التنفيذية، ظنا منهما أن هذا النهج يوصلهما إلى موارد الدولة، فيستغلانها في تمتين بنيتيهما. خلاصة القول أن عقلية الإنقاذ في تجيير موارد الدولة للصالح الحزبي ليست وقفا على الإنقاذ وحدها، وإنما تشمل أيضا من يظنون أنهم البديل للإنقاذ. سوف تنقضي الفترة الانتقالية إن عاجلا أم آجلا. ولسوف تجد الأحزاب الصغيرة، قصيرة النظر، التي تتسيد حاليا هذا المشهد المتشظي، نفسها، عقب الفترة الإنتقالية، منفية خارج دائرة القرار السياسي. وسيكون كل ما كسبته هو استوزار بعض منسوبيها لبضع سنوات، غالبا ما لا تبلغ أجلها المكتوب. فكل المؤشرات تشير إلى أن الحكومة الجديدة ربما واجهت أوضاعا أعسر بكثير مما واجهته سابقتها. لكن يبدو أن المناصب تعمي البصائر.
|
Post: #238
Title: Re: Re:مقالات دكتور النور حمد في جريدة التيار
Author: Salah Musa
Date: 02-16-2021, 08:16 AM
Parent: #237
ظاهرة النهب والتخريب والحرق النور حمد صحيفة التيار 16 فبراير 2021
ما من ثورة في التاريخ إلا ونشأت في مواجهتها ثورة مضادة. ولكل ثورة مضادة عدة أذرع تعمل من خلالها لإرباك الأوضاع الجديدة وإفشالها، أملا في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة. ولقد أبدع الكاتب المصري، علاء الأسواني، في توصيف أساليب القضاء على أي ثورة عبر ست خطوات. من أذرع الثورة المضادة، شديدة الفعالية، المنافذ الإعلامية، التي كانت قبل الثورة في قبضة النظام القديم. يضاف إلى ذلك وسائط التواصل الإجتماعي التي أضحت متاحة للجميع بفضل ثورة المعلومات. تستخدم الثورة المضادة مختلف هذه القنوات الإعلامية في بث الأكاذيب والشائعات لبلبلة الرأي العام وشق الصف الثوري، عبر خلط الأوراق. وقد ذكر علاء الأسواني أن من الأساليب الفعالة في إرباك الثورات، تبني الثورة المضادة لذات الشعارات التي جاءت بها الثورة، وتحريك جمهور الثورة، أو قطاع منه، ليصبح هو نفسه أداة لهدم الثورة التي قام بها.
ما من شك أن العام الأخير قد شهد أزمات خانقة في السلع الاستهلاكية؛ من دقيق ووقود وغاز طبخ وغيرها. كما شهد تصاعدا في كل أسعار السلع في الأسواق، بلغ في بعض السلع 600%، بسبب التراجع غير المسبوق في سعر العملة المحلية. الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لمخاوف التجار ولجشعهم. فجنحوا إلى المغالاة في رفع الأسعار فيما يعرف ب price gouging. اهتبلت الثورة المضادة التي تديرها عناصر المؤتمر الوطني وجمهرة المنتفعين من النظام القديم داخل أجهزة الدولة، فرصة السيولة التي اتسمت بها مجمل الأوضاع فأعملت معاولها في كل شيء. وقد كان السبب الرئيس في تلك السيولة، من وجهة نظري، كراهية المكون العسكري للمكون المدني، ولكل ما يمثله وما يرمز إليه. وكذلك، ابتعاد المكون المدني، من جانبه، عن نبض الشارع الذي أتى به. يضاف إلى ذلك حالة الارتباك التي وسمت أداء التنفيذيين الذين جاءت بهم الثورة، بسبب ضعف الكفاءة وقلة الخبرة، وعدم القدرة على إبعاد عناصر الإنقاذ في أجهزة الدولة عن المجاري التي تتنزل بها القرارات.
ازدحم العام المنصرم من عمر حكومة الفترة الانتقالية بسلسلة متصلة الحلقات من الاضطرابات. فقد جرى اقتتال إثني الطابع في بورتسودان. وجرت اضطرابات في كسلا بسبب اختيار الوالي. وتفاقمت حالة الانفلات الأمني في مختلف المدن، بما في ذلك العاصمة. فلا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعان إلا وينشأ اضطراب ما، في مكان ما. إلى أن وصلنا إلى قطع الطرق القومية، وإلى مأساة مدينة الجنينة، ثم اندلاع مسلسل النهب والتخريب والحرق الذي طال كبريات المدن في مختلف الولايات، تحت ذريعة الغلاء والندرة. ويبدو أن الثورة المضادة قد ظنت أنها قد أوصلت الحالة الأمنية عبر مسلسل الاضطرابات الطويل إلى نقطة التحول. فجاءت خطوة التحريض على النهب والحرق والتخريب ليصل الانفلات الأمني التي تحتم حدوث انقلاب عسكري. غير أن ذلك حساب خاطئ يحركه الغرض الأعمى وقصر النظر وعدم أخذ المزاج الشعبي الغالب والأوضاع الدولية والإقليمية في الاعتبار.
لقد ظل الثوار مرابطين في الشوارع لأربعة أشهر عصيبة، ظلوا يتلقون فبها رصاص قناصة الأمن وكتائب الظل بصدور مكشوفة. ومع ذلك، لم يفكروا في العنف وحافظوا على سلميتهم حتى انتصرت ثورتهم، فأذهلوا بذاك العالم كله. خلاصة القول إن النهب والحرق والتخريب الذي جرى مؤخرا لا صلة له بالثورة ولا بنهجها. هذا فعل وضيع يوضع عند عتبة الفلول. وهكذا هي أخلاق الفلول. ولقد شهدنا كيف افتعلوا حرق محطات الوقود في انتفاضة سبتمبر 2013 ليتخذوا من ذلك ذريعة لحصد الثوار بالرصاص. لقد أرادوا بالتخريب والحرق والنهب أن يقولوا إن العوز والجوع والمسغبة ألجأت الناس لهذه الأفعال الشنيعة. غير أننا لاحظنا من لقطات الفيديو المتداولة أن من قاموا بهذه الأعمال كانوا في الغالب من صبية وصبيات المدارس، ومن هم في سنهم ممن تركوا المدارس. وهؤلاء بحكم السن عرضة للاستدراج. إن الإنقاذيين كعهدهم لا يبالون إن هم دمروا أخلاق الأمة وقيمها وأفسدوا تربية النشء. الهدف الأوحد لهؤلاء الدجاجلة هو أن يعودوا إلى مراتع السحت التي طالما ولغوا فيها.
|
|