أين الحكمة في الخطاب الإعلامي؟! كتبه د. أنور شمبال

أين الحكمة في الخطاب الإعلامي؟! كتبه د. أنور شمبال


12-24-2025, 10:37 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1766615821&rn=0


Post: #1
Title: أين الحكمة في الخطاب الإعلامي؟! كتبه د. أنور شمبال
Author: أنور شمبال
Date: 12-24-2025, 10:37 PM

10:37 PM December, 24 2025

سودانيز اون لاين
أنور شمبال-السودان
مكتبتى
رابط مختصر




د. أنور شمبال*
إنّ الحكمة ضالّة المؤمن، أين وجدها أخذ بها، أو أنّى وجدها فهو أحقّ بها، أو حيث وجدها جذبها. قولٌ مأثور، بل هو حديث شريف؛ يعني أنّ المؤمن يأخذ بالحكمة والمعرفة المفيدة من أيّ وعاء خرجت، وعلى أيّ لسان قيلت، ومن أيّ مصدر وُجدت، وإن أتت من عدوٍّ، أو ناقصٍ، أو قاصرٍ، أو من أيّ دابة من دواب الأرض؛ كذاك الراعي الذي لاحظ أنّ فأراً ينقل صغاره من جحورها إلى كراكير الشجرة، فقال لمن حوله إنّ سيلاً سيأتي المنطقة، فاخرجوا وماشيتكم من مجرى السيل، فخرجوا، فكان ما كان من سيلٍ جارفٍ، نجوا منه، وغرق آخرون، وألحق أضراراً بليغة بالمنطقة.
الحق أحق أن يُتبع:
هناك ربطٌ متلازمٌ في التوصيف القرآني بين الحقّ والنفع، والحقّ أحقّ أن يُتبع؛ بمعنى أنّ في قول الحقيقة نفعاً للبشرية في الدنيا أو في الآخرة، والعكس صحيح في المكر السيّئ والكذب والتضليل، حيث يكون الضرر بليغاً، ويكون الجزاء من جنس العمل. كما أنّ هناك ربطاً متلازماً بين العلم والعمل الصالح، وبالمقابل اقتراناً بين الجهل والعمل غير الصالح (الفساد في الأرض والغرر).
فالحكمة إذن هي مزيج من الحقّ، والنفع، والعلم، والعمل الصالح، مع صفاء النيّة والسريرة؛ فالأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى، بنصّ الحديث الشريف.
خذوا الحكمة:
وقد تأتي الحكمة على لسان من لا يكون من أهلها، وتقع – على قول المثل – «خذوا الحكمة من أفواه المجانين». ولكن من الذي يعمل بالحكمة؟ يعمل بها المؤمن؛ فهذه الميزة وخاصية الأخذ بها هي للمؤمنين فقط لا غيرهم. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
والمعلوم بالضرورة أنّه ليس كل مسلم مؤمناً، قال تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، (14) سورة الحجرات. وهذا يعني أنّ كثيراً من الذين يتشدّدون ويتظاهرون بأنّهم أحرص الناس على إقامة الدين، ويتمسّحون بمسوحاته، لا إيمان لهم ولا حكمة، ولا يأخذون بها إن عثروا عليها. وأولئك هم المنافقون، السمّاعون للكذب، ولمن يؤتمرون بأمرهم، والأكّالون للسحت، يقولون ما لا يفعلون، ثم لا يعون ما يتفوّهون به.
ليس كل ناقل واعياً:
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع معدّداً المحرّمات على المسلمين، ثم قال: (... اللهم فاشهد، فليبلّغ الشاهد منكم الغائب فإنّه ربّ مبلغٍ أوعى له من السامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض...).
فالشاهد أنّه ليس كل ناقلٍ لخبرٍ أو حديثٍ يعيه، في دلالة بيّنة على الفرق بين العلم بالشيء وفهمه والوعي بمدلولاته. وقال تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(17)، سورة الحجرات).
فأولئك النفر يبلّغون النبيّ عليه الصلاة والسلام بإسلامهم من غير مواجهة دامية، أي من غير حرب، لكنّهم لا يعون أنّ الإيمان تصديق وسلوك (إدراك ومشاعر)، إيمان وعمل صالح، لا ألفاظاً مجرّدة.
أين الرشد السياسي؟
إذا حاولنا مطابقة الخطاب الإعلامي لأجهزة الحكومة بتلك المعايير في فترة الحرب هذه (حرب 15 أبريل 2023م)، نجد أنّ البون شاسع، ويكاد لا يوجد خطابٌ فيه حكمة أو رشد سياسي، مع تقدير ظروف الحرب والتحدّيات الكبيرة التي واجهت الحكومة.
كما لعبت الأجهزة الإعلامية دوراً سالباً في هذا الإطار، باعتبار أنّها لم تسعَ إلى تقويم الأمور بطريقة مهنية، وكانت تعمل – على قول المثل السوداني – (مرة الفكي مجبورة على الصلاة) أو (خادم الفكي مجبور على الصلاة)، بكل تفاصيله واختلالات المثل نفسه.
محدودية الصدقية:
نعم، ركّزت الحكومة في خطابها الإعلامي، عبر منابرها الرسمية، على تقديم روايتها للأحداث وفق رؤيتها السياسية والأمنية، والتأكيد على شرعية مؤسسات الدولة ووحدة البلاد في مقابل ما وصفته بالتمرّد والفوضى، وهذا من حقّها ومسؤوليتها.
لكن أجهزة الإعلام عجزت عن التعامل بحكمة، واعتراها ضعف الصدقية والشفافية، خاصة في ما يتصل بالواقع الميداني والإنساني الذي يعيشه المواطنون.
الانكفاء:
وعليه أقول إنّ الانكفاء على سياق ثقافي واحد، في ظلّ سياقات ثقافية متعدّدة ومتنوّعة عند إعداد الرسالة الإعلامية، يضعف من تأثيرها، ويبعثر الجهود المبذولة لأجلها. فالاستغلال غير الواعي لوسائل الاتصال، ومواقع التواصل الاجتماعي خاصة، أثّر سلباً على الخطاب الإعلامي الرسمي، وعلى النسيج الاجتماعي، والنظام الثقافي للفرد والمجتمع، وهو ما نلاحظه في ضعف اهتمام المجتمع السوداني بأجهزة الإعلام الرسمية.
الطير في الباقير:
فقد أتاحت وسائط التواصل الاجتماعي فرصاً للجميع لنقل كل شيء، بفهم أو بلا فهم، أو إدراك واعٍ. وكشف ذلك ظهر أجهزة الإعلام الرسمية، فصارت كـ(الطير في الباقير)، وجعلها في موقف لا تُحسد عليه، وأمست تغرّد خارج السرب، ولا يعتني بها إلا القليل، من بينهم الذين تُنقل عنهم الرسائل نفسها.
فكم من خبير يحلّل واقع الحال السوداني بالتمنّي والأشواق، ويكذب ويتحرّى الكذب مع التكرار وسبق الإصرار والترصّد؛ وكم من مسؤول ينكر الوقائع ويحلف بأغلظ الأيمان أنّه يقول الحق ولا شيء غير الحق، وهو يكذب، ثم تنقل وسائل الإعلام المحلية عنهم كل ذلك بلا تمحيص ولا تحقّق. وهو أمرٌ، وإن كان له مردود تعبوي آني، فقد يكون له مردود عكسي وخطير على المدى البعيد، خاصة مع تطوّر تقانات التوثيق وإعادة تدوير المعلومات.
طاقم متطوّع:
يبدو أنّ سبب ذلك يرجع إلى توقّف الأجهزة الإعلامية القومية تماماً بعد نشوب الحرب مباشرة ولفترة طويلة، ثم عودتها من غير ترتيب من أهلها، وبطاقم متطوّع والحرب في أوج تفاعلاتها، من غير أن تضع في حسبانها التحوّلات التي طرأت في فترة غيابها.
حيث احتدم الصراع بين القديم والجديد، وتسارعت التغيّرات الثقافية والاقتصادية والسياسية والإعلامية والتكنولوجية، من غير اكتراث بالدين أو العقيدة، الأمر الذي عقد المشهد أكثر من ذي قبل.
تدحرج الإيمان:
السمة الغالبة للخطاب الإعلامي أنّه خطاب انفعالي، متعالٍ، وناكر للوقائع على الأرض، وللظروف القاسية والمعاناة التي يعيشها المواطن السوداني. ونادراً ما تجد خطاباً إعلامياً فيه حكمة، أو يحضّ على الرشد، والأخذ بالحكمة وإن جاءت من صديق أو عدو، أو من غير أهلها، أو من دابة من دواب الأرض. فلماذا يتجاهل إعلامنا خطاب الحكمة والرشد؟ أم نقص الإيمان وتدحرج إلى الشقّ الآخر؟
* صحفي وأستاذ الصحافة بكلية الآداب – جامعة الفاشر