Post: #1
Title: الحكومة السودانية بين خيارات محدودة وتكاليف باهظة #
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 12-23-2025, 05:12 PM
05:12 PM December, 23 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
لم تكن زيارة رئيس الوزراء السوداني الانتقالي، كامل الطيب إدريس، إلى نيويورك ومخاطبته مجلس الأمن في جلسته رقم (10077) في ديسمبر 2025 حدثاً دبلوماسياً روتينياً، بل جاءت تعبيراً صريحاً عن أزمة خيارات استراتيجية عميقة تواجه السلطة الحاكمة في الخرطوم وضعت الزيارة الحكومة أمام مرآة السياسة الدولية القاسية، حيث تتكشف الهوة الواسعة بين الخطاب السيادي من جهة، والواقع الميداني والدولي من جهة أخرى. تجسد الحكومة السودانية اليوم نموذجاً كلاسيكياً لدولة تمتلك الشرعية القانونية والاعتراف الدولي، لكنها تفتقر إلى الاحتكار الفعلي للقوة على أراضيها في المقابل، تفرض قوات الدعم السريع حضوراً ميدانياً واسعاً وقدرات عسكرية متطورة تشمل استخدام الطائرات المسيّرة والأسلحة الحديثة، مدعومة بموارد اقتصادية من النفط والمعادن وشبكات إقليمية عابرة للحدود، لكنها تظل بلا شرعية سياسية أو قانونية دولية المعضلة التي كشفتها جلسة مجلس الأمن بوضوح هي أن شرعية الدولة لا تتحول تلقائياً إلى نفوذ فعلي داخل المؤسسات الدولية حين تكون السيطرة على الأرض خارج يدها في هذا السياق، يبرز الخيار الأول أمام الحكومة القبول بالتفاوض من موقع ضعف ميداني تحت عنوان الهدنة الإنسانية. الدعوات الغربية، خاصة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لا تعكس بالضرورة رؤية لحل جذري، بقدر ما تمثل إدارة مؤقتة للأزمة بهدف كبح الانهيار الإنساني الذي يهدد الاستقرار الإقليمي ويولد ضغوطاً سياسية داخل العواصم الغربية قبول هدنة لا تتضمن شروط الخرطوم المعلنة، وعلى رأسها انسحاب الدعم السريع ونزع سلاحه، يعني عملياً تكريس واقع التقسيم الجغرافي-العسكري، ومنح هذه القوات شرعية بحكم الأمر الواقع في المناطق التي تسيطر عليها كما يفتح الباب لتحول العملية السياسية من نقاش حول تفكيك ميليشيا مسلحة إلى مفاوضات تقاسم سلطة بين طرفين عسكريين، بما يقوض فكرة الدولة المركزية نفسها. الكلفة هنا لا تقتصر على الأرض، بل تمتد إلى فقدان السردية الأخلاقية التي تقدم الحكومة باعتبارها المدافع الوحيد عن سيادة الدولة
في المقابل، يتمثل الخيار الثاني في التشدد السيادي ورفض الضغوط الدولية، مع الاتكاء على دعم كتلة A3 Plus والموقفين الروسي والصيني داخل مجلس الأمن يوفر هذا المسار غطاءً دبلوماسياً يمنع صدور قرارات عقابية حادة، لكنه يظل غطاءً محدود الفعالية فموسكو وبكين لا تبدوان مستعدتين لتعويض الخرطوم عن العزلة الاقتصادية والمالية الغربية، ولا لتقديم دعم مادي أو عسكري كفيل بقلب موازين القوى على الأرض و في المقابل، تظل أدوات الضغط الغربية، من عقوبات مالية وتجميد مساعدات وإغلاق قنوات دبلوماسية، قادرة على شل قدرة الحكومة على الحكم وتقديم الخدمات ونكلفة هذا الخيار هي تآكل “الشرعية العملية” للدولة، أي قدرتها الفعلية على حماية مواطنيها وإدارة شؤونهم فشل زيارة نيويورك في تحقيق اختراق حقيقي يعود إلى اعتمادها على خطاب أخلاقي في مؤسسة تحكمها حسابات القوة وتوازنات المصالح. الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن حال دون صدور قرار داعم قوي يفرض وقف إطلاق النار وفق شروط الحكومة، وفي الوقت نفسه حال دون فرض عقوبات قاسية عليها النتيجة كانت حالة جمود استراتيجي تصب عملياً في مصلحة الدعم السريع، لأنه يحتفظ بمكاسبه الميدانية دون أن يدفع ثمناً سياسياً دولياً حقيقياً
مع ذلك، لا يختزل المشهد في ثنائية التفاوض أو العزلة. ثمة مخرج ثالث ضيق، لكنه ممكن، يتمثل في تبني استراتيجية مرحلية ذكية تتحرك في المنطقة الرمادية بين الخيارين جوهر هذه الاستراتيجية هو الانتقال من السعي إلى هزيمة الخصم عسكرياً في المدى القصير، وهو هدف غير واقعي حالياً، إلى تفكيك مشروعيته السياسية والمالية إقليمياً ودولياً يتطلب ذلك حملة دبلوماسية نشطة لعزل داعميه الإقليميين، وفتح ملفات الانتهاكات الجسيمة وجرائم الحرب أمام آليات العدالة الدولية، بما يحرم قادته من الحركة والحصانة ويزيد كلفة استمرار الحرب بالتوازي، يصبح كسر الثنائية العسكرية أمراً حاسماً عبر إشراك حقيقي، لا شكلي، للقوى المدنية والنقابية والمجتمعية في صناعة القرار والتمثيل الخارجي. هذا التحول يعيد تعريف والصراع بوصفه مواجهة بين دولة ومجتمع من جهة وميليشيا مسلحة من جهة أخرى، لا مجرد صراع بين جنرالين. كما يتطلب تقديم تنازلات سياسية داخلية لمعالجة مظالم الأقاليم المهمشة، خصوصاً في دارفور وكردفان، لسحب القاعدة الاجتماعية التي يستند إليها الدعم السريع ضمن هذا الإطار، يمكن القبول بهدنات إنسانية تكتيكية ومحدودة زمنياً ومكانياً، مرتبطة بفتح ممرات محددة للمساعدات، مع تحويلها إلى أداة لكشف عجز الدعم السريع عن إدارة المناطق الخاضعة لسيطرته، بدلاً من أن تكون وسيلة لشرعنته ويظل من الضروري رفض أي آليات مراقبة تمنحه اعترافاً سياسياً ضمنياً، والاكتفاء بترتيبات إنسانية محايدة في المحصلة، لا تواجه الحكومة السودانية خياراً بسيطاً بين التفاوض والعزلة، بل سباقاً مفتوحاً مع الزمن. إما أن تنجح في تبني استراتيجية مركبة تعيد لها زمام المبادرة وتراكم الكلفة على خصمها وحلفائه، أو أن تستمر في إدارة الأزمة بردود فعل قصيرة النفس، وهو مسار يقود تدريجياً إلى تفكك الدولة وتحول السودان إلى نسخة أخرى من النموذج الليبي: كيانات مسلحة، شرعيات مجزأة، ولا قدرة حقيقية على إعادة البناء. كشفت زيارة نيويورك عمق الورطة، لكن الخروج منها لن يصاغ في قاعات الأمم المتحدة، بل يبدأ من الخرطوم، ويتطلب قدراً من المرونة السياسية والذكاء الاستراتيجي لم يظهر بعد بما يكفي.
|
|