العبودية المختارة كتبه الطيب الزين

العبودية المختارة كتبه الطيب الزين


12-23-2025, 11:20 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1766488848&rn=0


Post: #1
Title: العبودية المختارة كتبه الطيب الزين
Author: الطيب الزين
Date: 12-23-2025, 11:20 AM

11:20 AM December, 23 2025

سودانيز اون لاين
الطيب الزين-السويد
مكتبتى
رابط مختصر



*العبودية المختارة*

يستدعي هذا المقال عنوانه من كتاب العبودية المختارة للفيلسوف الفرنسي "اتيان دو لا بويسي"،
النص الذي حاول فيه المؤلف تفسير كيف يمكن لجماعات بشرية كاملة ان تخضع طوعا لسلطة تستبد بها وتقهرها رغم قدرتها على التحرر. الفكرة المركزية في الكتاب تقوم على ان الاستبداد لا يعيش بقوة السلاح وحده، بل بقبول الناس به، او تواطؤ بعضهم معه، او اعتيادهم على بنيته حتى يصبح الخضوع نمطا مألوفا.
هذه الفكرة تنطبق بصورة لافتة على الحالة السودانية، حيث ظل جزء من النخب السياسية والاجتماعية يبرر هيمنة المؤسسة العسكرية المختطفة، ويعيد انتاج خطاب يشرعن استمرار البنية التي عطلت تطور الدولة منذ الاستقلال. يتكشف عمق الازمة السودانية اليوم بصورة تجعل الاصطفاف خلف السلطة العسكرية ليس مجرد خيار سياسي، بل فعلا من افعال العبودية المختارة، خضوعا طوعيا لبنية سلطوية عطلت مسار الدولة منذ الاستقلال. فالمؤسسة العسكرية التي كان يفترض ان تكون جهازا مهنيا لحماية الوطن، تحولت عبر عقود الى مركز احتكار للعنف والقرار، والى اداة استخدمتها النخب الحاكمة لاجهاض كل محاولة لبناء دولة حديثة قائمة على المشاركة والشرعية والمؤسسات. وحين تختار بعض القوى السياسية والحركات ان تقف خلف هذه البنية تحت شعار الدفاع عن الجيش، فانها لا تدافع عن الدولة، بل عن المنظومة ذاتها التي صنعت الانسداد الوطني وابقت السودان اسيرا لدائرة الاستبداد والحرب. لقد سعى المشروع الاسلاموي منذ بداياته الى اختراق المؤسسة العسكرية لانها مركز القوة الحقيقي في الدولة، فبدلا من بناء شرعية سياسية عبر المجتمع، اختار السيطرة على الجيش، واعادة تشكيل قيادته، وتسييس عقيدته، وربط مصالحه بشبكات اقتصادية وامنية تابعة للنظام. وهكذا تحولت المؤسسة العسكرية الى اداة لفرض مشروع سياسي ضيق، لا لحماية الوطن او خدمة المجتمع. ان تجاهل هذه الحقيقة او الصمت عنها يعني عمليا القبول باستمرار الازمة، وتبرير اعادة انتاج نفس البنية التي عطلت تطور السودان لعقود، فالمعركة ليست مع الجيش كمؤسسة وطنية، بل مع تسييس الجيش وتحويله الى مركز احتكار للسلطة. وفي سياق الازمة السودانية، برزت ظاهرة لافتة تتمثل في تبني بعض النخب والمثقفين خطابا يبرر الدفاع عن المؤسسة العسكرية المختطفة، رغم ان هذه المؤسسة كانت عبر عقود احد اهم اسباب تعثر الدولة السودانية منذ الاستقلال، ولا سيما بعد ثورة ديسمبر المجيدة التي فتحت الباب امام امكانية اعادة تأسيس الدولة على اسس جديدة. ان الدفاع عن مؤسسة تم استخدامها مرارا من قبل القوى المعادية لمشروع الدولة الوطنية، في الداخل والخارج، لافراغ الاستقلال من مضامينه السياسية والاقتصادية والثقافية، يثير اسئلة عميقة حول طبيعة هذا الانحياز. فكيف يمكن لمن يصفون انفسهم بالمثقفين ان يتبنوا موقفا يتناقض مع دور المثقف العضوي الذي يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. ان هذه المواقف تعكس نمطا من التفكير يفضل الاصطفاف خلف القوة المسيطرة، حتى لو كانت هذه القوة هي ذاتها التي عطلت مسار الدولة واعاقت تشكل مشروع وطني جامع. ان التحليل العلمي لازمة السودان يكشف ان جذور الخراب ليست في الخلافات الحزبية، بل في العلاقة المختلة بين المجتمع ومؤسسة عسكرية فوق مدنية ظلت تتدخل في السياسة والاقتصاد والثقافة وتمنع تشكل دولة المواطنة. ومن هنا يصبح من الضروري تحديد مكمن الازمة المتمثل في هيمنة المؤسسة العسكرية على المجال السياسي، وغياب مشروع وطني جامع، وتكوين اقتصادي ريعي، وتهميش اجتماعي واسع. ثم يأتي تفكيك الازمة عبر تفكيك البنية العسكرية السياسية، وشبكات الامتيازات الاقتصادية، والخطاب الايديولوجي الذي يبرر الهيمنة. وبعد ذلك تقديم الحل عبر مشروع وطني جديد يعيد تأسيس الدولة على اسس المشاركة والشرعية والمؤسسات، ويعزز اندماج المجتمع في الفعل السياسي، ويرفع مستوى الوعي النظري لدى النخب، ويعيد تعريف دور المؤسسة العسكرية بوصفها جهازا مهنيا خاضعا للسلطة المدنية لا مركزا للسلطة نفسها. ان مواجهة العبودية المختارة ليست معركة لغوية او رمزية، بل هي معركة وعي واعادة تأسيس، فالسودان لن ينهض الا حين تختار نخبته الحرية بدل الخضوع، والمستقبل بدل اعادة تدوير الماضي، والدولة المدنية بدل دولة البندقية، وعندها فقط يمكن ان يبدأ مشروع وطني حقيقي يفتح الطريق نحو استقلال مكتمل وديمقراطية راسخة وسودان يستعيد مكانه بين الامم.

الطيب/ كاتب وباحث في قضايا الاصلاح المؤسسي.