Post: #1
Title: تفكيك المركزية الغربية: قراءة في مشروع الاستغراب كتبه الدكتور حسن العاصي
Author: حسن العاصي
Date: 12-22-2025, 11:32 AM
11:32 AM December, 22 2025 سودانيز اون لاين حسن العاصي-الدانمرك مكتبتى رابط مختصر
الدكتور حسن العاصي
باحث أكاديمي في الأنثروبولوجيا
منذ قرون طويلة، ظلّ الغرب يحتل موقع “المركز” في الخريطة الفكرية للعالم، ليس فقط بوصفه قوة سياسية واقتصادية، بل باعتباره المرجعية العليا للمعرفة، والمعيار الذي تُقاس عليه الحضارات، والنموذج الذي يُفترض أن تتجه نحوه بقية الشعوب. هذا التمركز لم يكن مجرد نتيجة لتفوق مادي أو علمي، بل كان أيضاً بناءً رمزياً ومعرفياً تشكّل عبر خطاب طويل من التمثيلات، والتأويلات، والكتابات التي رسّخت صورة الغرب باعتباره “العقل” و“الحداثة” و“العالمية”، في مقابل شرق يُقدَّم غالباً كـ“آخر” تابع أو هامشي أو خارج التاريخ. في هذا السياق، ظهر مشروع الاستغراب بوصفه محاولة فكرية جريئة لإعادة النظر في هذه البنية غير المتوازنة، ولتفكيك ما يُسمّى بـ المركزية الغربية التي حكمت علاقة الشرق بالغرب عبر قرون من الهيمنة الرمزية.
إن الاستغراب، في جوهره، ليس مجرد ردّ فعل على الاستشراق، ولا هو مشروع انتقامي أو خطاب مضاد يسعى إلى قلب المعادلة فحسب، بل هو جهد معرفي يسعى إلى فهم الغرب من خارج ذاته؛ أي من منظور لا يخضع لسلطته الرمزية ولا لهيمنته الثقافية. إنه محاولة لاستعادة القدرة على النظر إلى الغرب بوصفه موضوعاً للدراسة والتحليل، تماماً كما فعل الغرب مع الشرق، ولكن دون الوقوع في فخ التعميم أو التشويه. فالاستغراب لا يهدف إلى إنتاج “غرب متخيّل” جديد، بل إلى تحرير المعرفة من أحادية المركز، وإعادة توزيع الضوء على خرائط الفكر بحيث لا يبقى الغرب هو المقياس الوحيد لما هو عقلاني، أو متقدم، أو إنساني.
تنبع أهمية هذا المشروع من كونه يطرح سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن للثقافات غير الغربية أن تفهم الغرب دون أن تقع تحت تأثير خطابه عن نفسه؟ هذا السؤال يفتح الباب أمام قراءة نقدية للحداثة الغربية، وللنموذج الليبرالي، وللفكر الفلسفي والسياسي الذي شكّل العالم الحديث. لكنه في الوقت نفسه يدعو إلى تجاوز ثنائية “نحن/هم”، وإلى بناء معرفة أكثر توازناً تقوم على الحوار لا على التبعية، وعلى النقد لا على الانبهار، وعلى الفهم لا على الاستلاب.
وفي زمن العولمة الرقمية، حيث تتدفق الصور والأفكار عبر الشاشات بسرعة غير مسبوقة، يصبح تفكيك المركزية الغربية أكثر إلحاحاً. فالعالم اليوم لا يعيش فقط تحت تأثير القوة الاقتصادية أو العسكرية للغرب، بل تحت تأثير هيمنته الرمزية التي تتجلى في الإعلام، والسينما، والمناهج التعليمية، والخطاب السياسي، وحتى في اللغة التي نستخدمها لوصف العالم. وهنا يبرز الاستغراب كمشروع يسعى إلى إعادة التوازن في فضاء معرفي اختلّ طويلاً، وإلى فتح أفق جديد لفهم الغرب بعيداً عن هالته الأسطورية التي صنعها لنفسه.
بهذا المعنى، فإن قراءة مشروع الاستغراب ليست مجرد تمرين فكري، بل هي خطوة نحو إعادة بناء علاقة أكثر نضجاً بين الشرق والغرب، علاقة تقوم على الندية لا التبعية، وعلى النقد المتبادل لا على الانبهار الأحادي، وعلى الاعتراف المتبادل بالإنسانية المشتركة بعيداً عن أوهام التفوق الحضاري.
مفهوم المركزية الغربية
تُعدّ المركزية الغربية إحدى أكثر البُنى الفكرية حضوراً في تشكيل الوعي العالمي الحديث، فهي تقوم على تصور يجعل الغرب في موقع القلب الحضاري والمعرفي للعالم، ويمنحه دور المعيار الذي تُقاس عليه بقية الثقافات في العلم والفلسفة والسياسة ونماذج التطور. هذا التصور لم ينشأ صدفة، بل تبلور تاريخياً مع صعود أوروبا الحديثة التي أعادت كتابة تاريخها بوصفها الوريثة الشرعية للعقل اليوناني والنهضة والتنوير، مقدّمة نفسها باعتبارها النموذج الأرقى للتقدم الإنساني. ومع توسع الاستعمار الأوروبي، لم يقتصر الأمر على السيطرة المادية، بل امتد ليشمل إنتاج معرفة تُعيد تعريف الشعوب الأخرى من منظور غربي، فتظهر تلك الشعوب بوصفها بدائية أو غير عقلانية أو بحاجة دائمة إلى التحديث. ومع ترسخ الحداثة، تحولت التجربة الأوروبية إلى نموذج عالمي يُفترض أن تسير عليه كل المجتمعات، بينما تُقدَّم المسارات الحضارية الأخرى باعتبارها ناقصة أو متأخرة. ومع القرن العشرين، جاءت الهيمنة الثقافية عبر الإعلام والسينما والمناهج التعليمية لتعمّق هذا التمركز، فترسخت صورة الغرب كفضاء للعقلانية والتقدم، في مقابل صورة “الآخر” الذي يُنظر إليه من خلال عدسة الاختزال والتبسيط. وهكذا، أنتجت المركزية الغربية رؤية مزدوجة: رؤية تمجّد الذات الغربية وتمنحها شرعية القيادة، ورؤية تُهمّش الآخر وتجعله موضوعاً للتمثيل لا شريكاً في إنتاج المعرفة، مما خلق علاقة غير متوازنة بين الغرب وبقية العالم، علاقة تتحدث فيها جهة واحدة بينما تُصمت الأخرى أو يُعاد تعريفها من الخارج.
نشأة مشروع الاستغراب
ظهر مشروع الاستغراب في سياق فكري وثقافي معقّد، جاء كردّ معرفي على قرون طويلة من التمثيل الأحادي الذي مارسه الغرب على بقية العالم، وعلى رأسه الشرق. فبعد أن رسّخت المركزية الغربية نفسها بوصفها المرجعية العليا للمعرفة، بدأ عدد من المفكرين في العالم العربي والإسلامي وآسيا وإفريقيا يتساءلون عن إمكانية قلب زاوية النظر، وعن ضرورة فهم الغرب من خارج خطابه عن ذاته. لم يكن الاستغراب مجرد رد فعل انفعالي على الاستشراق، بل محاولة واعية لإعادة التوازن إلى العلاقة المعرفية المختلّة بين المركز والهامش. وقد تبلور هذا المشروع مع اتساع الوعي النقدي في النصف الثاني من القرن العشرين، حين أدركت المجتمعات غير الغربية أن فهم الغرب لا يمكن أن يظل محصوراً فيما يقوله عن نفسه، ولا فيما يفرضه من نماذج جاهزة للتقدم والحداثة. ومع صعود دراسات ما بعد الاستعمار، بدأ يتشكل وعي جديد يرى أن الغرب ليس كتلة واحدة متجانسة، بل تاريخ معقد من الأفكار والتجارب والتناقضات، وأن قراءته من منظور غير غربي ليست فقط حقاً معرفياً، بل ضرورة لفهم العالم المعاصر. وهكذا، جاء الاستغراب كمشروع يسعى إلى دراسة الغرب بوصفه موضوعاً للتحليل، لا باعتباره مركزاً مطلقاً، وإلى مساءلة الأساطير المؤسسة لحداثته، وإلى تحرير المعرفة من هيمنة النموذج الواحد الذي فرض نفسه على العالم. لقد كان الاستغراب، منذ بداياته، محاولة لإعادة توزيع الضوء على خرائط الفكر، بحيث لا يبقى الغرب هو المتحدث الوحيد باسم العقل والإنسانية، بل يصبح جزءاً من تعددية حضارية أوسع، يمكن النظر إليها من زوايا متعددة لا تخضع لسلطته الرمزية.
نشأة مشروع الاستغراب
نشأ مشروع الاستغراب في لحظة تاريخية اتّسمت بتصاعد الوعي النقدي في المجتمعات غير الغربية، حين بدأت هذه المجتمعات تدرك أن علاقتها بالغرب لم تكن علاقة تبادل معرفي متكافئ، بل علاقة تشكّلت داخل فضاء من الهيمنة الرمزية التي جعلت الغرب يتحدث باسم العالم، ويقدّم نفسه بوصفه النموذج الأرقى للتقدم والعقلانية. ومع تراكم التجارب الاستعمارية، وما رافقها من إنتاج معرفي ضخم صاغ صورة الآخر من منظور غربي خالص، بدأ عدد من المفكرين العرب والمسلمين والآسيويين يشعرون بالحاجة إلى قلب زاوية النظر، وإلى دراسة الغرب كما هو، لا كما يقدّم نفسه. وهكذا ظهر الاستغراب كمشروع يسعى إلى تحرير المعرفة من أحادية المركز، وإلى إعادة النظر في الأساطير المؤسسة للحداثة الغربية التي طالما قُدّمت باعتبارها مساراً كونياً لا بديل عنه.
لقد جاء هذا المشروع في لحظة كان فيها العالم يشهد تحولات كبرى: نهاية الاستعمار المباشر، صعود حركات التحرر الوطني، انتشار الجامعات الحديثة في الشرق، وتزايد الاحتكاك الثقافي بين الشعوب. في هذا السياق، لم يعد الغرب مجرد قوة سياسية أو اقتصادية، بل أصبح أيضاً قوة معرفية تفرض رؤيتها للعالم عبر المناهج، والإعلام، والعلوم الاجتماعية، والفلسفة. ومع هذا التوسع، بدأ يتشكل وعي جديد يرى أن فهم الغرب من داخله لا يكفي، وأنه لا بد من مقاربة نقدية تنظر إليه من موقع مستقل، وتفكك بنيته الفكرية، وتعيد قراءة تاريخه بعيداً عن السرديات التي كتبها لنفسه.
ومع انتشار دراسات ما بعد الاستعمار، اتسعت مساحة التفكير في الاستغراب بوصفه مشروعاً مضاداً للهيمنة المعرفية، لا بهدف إنتاج “غرب متخيل” جديد، بل بهدف إعادة التوازن إلى العلاقة بين الثقافات. فالغرب، في منظور الاستغراب، ليس كتلة واحدة متجانسة، بل تاريخ طويل من التناقضات، والنهضات، والأزمات، والاختيارات الفكرية التي تستحق أن تُقرأ بعيون غير غربية. ومن هنا، أصبح الاستغراب محاولة لإعادة تعريف الغرب خارج هالته الأسطورية، ولتحرير الذات غير الغربية من الانبهار أو الاستلاب، ولإعادة بناء علاقة معرفية تقوم على الندية لا على التبعية.
وهكذا، يمكن القول إن مشروع الاستغراب لم يولد من رغبة في مواجهة الغرب أو رفضه، بل من رغبة في فهمه فهماً حقيقياً، وفي استعادة القدرة على إنتاج معرفة مستقلة عنه، وفي إعادة كتابة العلاقة بين الشرق والغرب على أسس أكثر عدلاً وتوازناً. إنه مشروع يطمح إلى إعادة توزيع الضوء على خرائط الفكر، بحيث لا يبقى الغرب هو المتحدث الوحيد باسم العقل والإنسانية، بل يصبح جزءاً من تعددية حضارية أوسع، يمكن النظر إليها من زوايا متعددة لا تخضع لسلطته الرمزية.
أهداف مشروع الاستغراب
حين بدأ مشروع الاستغراب يتبلور في الفكر العربي والآسيوي والإفريقي، لم يكن مجرد محاولة لتقليد الاستشراق أو إنتاج خطاب مضاد له، بل كان سعياً واعياً إلى إعادة ترتيب العلاقة المعرفية بين الشرق والغرب على أسس أكثر توازناً. لقد أدرك المفكرون الذين انشغلوا بهذا المشروع أن العالم لا يمكن أن يستمر في الدوران حول مركز واحد، وأن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تُختزل في نموذج واحد مهما بدا قوياً أو ناجحاً. ومن هنا، أصبح الهدف الأول للاستغراب هو تحرير الوعي من تلك الهيمنة الرمزية التي جعلت الغرب يبدو وكأنه المصدر الوحيد للمعنى، والمرجع النهائي للحقيقة، والمرآة التي يجب أن تنعكس فيها كل التجارب البشرية. كان الاستغراب يسعى إلى استعادة القدرة على النظر إلى الغرب من موقع مستقل، موقع لا يخضع لسطوة النموذج الغربي ولا لسلطة خطابه عن ذاته، بل ينطلق من رؤية نقدية ترى الغرب كحضارة لها إنجازاتها وإخفاقاتها، قوتها وضعفها، تناقضاتها الداخلية وصراعاتها الفكرية.
وفي عمق هذا المشروع، كان هناك هدف آخر لا يقل أهمية، وهو إعادة الاعتبار للذات غير الغربية، وإخراجها من موقع التابع الذي يكتفي بتلقي المعرفة من الخارج. فالاستغراب لم يكن موجهاً ضد الغرب بقدر ما كان موجهاً نحو الذات، نحو تحريرها من الانبهار الأعمى، ومن الشعور بالنقص، ومن تلك الرغبة الدائمة في محاكاة الآخر دون وعي. لقد أراد الاستغراب أن يفتح أمام المجتمعات غير الغربية أفقاً جديداً لفهم العالم، أفقاً يسمح لها بأن تكون شريكاً في إنتاج المعرفة لا مجرد مستهلك لها، وأن تمتلك القدرة على مساءلة النماذج السائدة بدلاً من الخضوع لها.
كما كان الاستغراب يسعى إلى تفكيك الأساطير التي أحاطت بالحداثة الغربية، تلك الأساطير التي صُوّرت وكأنها قدر تاريخي لا بديل عنه، أو مسار واحد يجب على الجميع اتباعه. لقد حاول هذا المشروع أن يبيّن أن الحداثة ليست ملكاً حصرياً للغرب، وأن التجارب الحضارية الأخرى تمتلك إمكانات مختلفة للتطور، وأن العالم أكثر اتساعاً من أن يُختزل في نموذج واحد. ومن هنا، أصبح الاستغراب دعوة إلى التعددية المعرفية، وإلى الاعتراف بأن الحقيقة ليست حكراً على جهة واحدة، وأن الحضارات تتقدم بالحوار والتفاعل لا بالهيمنة والإقصاء.
وفي النهاية، كان هدف الاستغراب الأكبر هو إعادة بناء علاقة جديدة بين الشرق والغرب، علاقة تقوم على الندية والاحترام المتبادل، لا على التبعية أو الصراع. علاقة تسمح لكل طرف بأن يرى الآخر كما هو، لا كما تصوّره الخطابات المسبقة، وأن يشارك في صياغة مستقبل إنساني مشترك يتجاوز ثنائية المركز والهامش. وهكذا، يصبح الاستغراب مشروعاً لتحرير المعرفة، وتحرير الذات، وتحرير العلاقة بين الحضارات من كل أشكال التمركز والهيمنة.
أدوات ومنهجيات الاستغراب
لم يكن مشروع الاستغراب مجرد إعلان رغبة في فهم الغرب من منظور مختلف، بل كان أيضاً سعياً إلى تطوير أدوات معرفية جديدة تسمح بقراءة هذا الغرب قراءة نقدية لا تقع في فخ الانبهار ولا في فخ الرفض الأعمى. وقد أدرك المفكرون الذين انشغلوا بهذا المشروع أن فهم الغرب يتطلب الاقتراب من بنيته الفكرية العميقة، لا الاكتفاء بسطح الظواهر أو الانطباعات العامة. لذلك، اعتمد الاستغراب على منهجيات متعددة تتداخل فيها قراءة النصوص الفلسفية الكبرى مع تحليل الخطابات السياسية والإعلامية، ومراجعة التاريخ الأوروبي من زوايا غير مألوفة، وفهم التحولات الاجتماعية التي شكّلت التجربة الغربية الحديثة. لقد كان الهدف من هذه المنهجيات هو تفكيك الصورة التي رسمها الغرب لنفسه، تلك الصورة التي تُظهره باعتباره مركز العقلانية والتقدم، وكأن تاريخه كان سلسلة متصلة من الإنجازات الخالصة، بينما هو في الحقيقة تاريخ مليء بالصراعات، والحروب، والتناقضات، والاختيارات التي لم تكن دائماً عقلانية أو إنسانية.
ومن بين أهم أدوات الاستغراب القدرة على قراءة الغرب من الداخل، أي التعامل مع نصوصه ومفاهيمه ومؤسساته بوصفها موضوعاً للتحليل لا بوصفها مسلمات. فالفلسفة الغربية، مثلاً، لم تعد تُقرأ باعتبارها التعبير الأعلى عن العقل الإنساني، بل باعتبارها نتاجاً لسياق تاريخي وثقافي محدد، يحمل في داخله رؤى معينة للإنسان والكون والمعرفة. وكذلك الأمر بالنسبة للعلوم الاجتماعية التي صاغت مفاهيم مثل التقدم والتطور والديمقراطية، إذ أصبح من الضروري مساءلة هذه المفاهيم، وفهم كيف تحولت إلى أدوات لتبرير الهيمنة أو فرض نموذج واحد على العالم. ومن هنا، كان الاستغراب يسعى إلى كشف ما وراء الخطاب الغربي، إلى تلك الطبقات العميقة التي تُظهر كيف تُنتج المعرفة وكيف تُستخدم، وكيف تتحول أحياناً إلى أداة للسيطرة الرمزية.
كما اعتمد الاستغراب على مقارنة التجارب الحضارية دون افتراض تفوق مسبق لأي منها، وهو ما سمح بإعادة النظر في العلاقة بين الشرق والغرب بعيداً عن ثنائية المركز والهامش. فبدلاً من النظر إلى الغرب باعتباره النموذج الذي يجب أن تُقاس عليه بقية الحضارات، أصبح من الممكن النظر إليه كواحد من نماذج متعددة، لكل منها مساراته الخاصة في التطور، ولكل منها رؤيته للعالم. هذا التحول في زاوية النظر كان جوهرياً، لأنه حرّر المعرفة من هيمنة النموذج الواحد، وفتح الباب أمام التفكير في بدائل حضارية ومعرفية أكثر تنوعاً.
وفي النهاية، يمكن القول إن أدوات ومنهجيات الاستغراب لم تكن مجرد تقنيات بحثية، بل كانت جزءاً من مشروع أوسع لتحرير الوعي، ولإعادة بناء علاقة جديدة مع الغرب تقوم على الفهم النقدي لا على التبعية، وعلى الحوار لا على الاستلاب. إنها منهجيات تسعى إلى إعادة الإنسان غير الغربي إلى موقع الفاعل في إنتاج المعرفة، وإلى إعادة صياغة العلاقة بين الحضارات على أسس أكثر عدلاً وتوازناً.
الاستغراب في الفكر العربي المعاصر
حين انتقل مشروع الاستغراب من مستوى الفكرة إلى مستوى النقاش الفكري داخل العالم العربي، وجد نفسه في قلب معركة معرفية تتجاوز مجرد فهم الغرب، لتلامس أسئلة الهوية، والحداثة، والنهضة، وموقع الذات العربية في عالم يتغير بسرعة. فقد تعامل المفكرون العرب مع الاستغراب بوصفه فرصة لإعادة النظر في علاقتهم بالغرب، تلك العلاقة التي تراوحت طويلاً بين الانبهار المطلق والرفض القاطع، دون أن تنجح في بناء موقف نقدي متوازن. ومع اتساع دائرة الوعي بتاريخ الهيمنة الغربية، بدأ عدد من المفكرين العرب يلتفتون إلى ضرورة قراءة الغرب قراءة جديدة، قراءة لا تنطلق من عقدة النقص ولا من عقدة التفوق، بل من رغبة في الفهم والتحليل وإعادة التقييم.
وقد ظهر هذا الوعي في كتابات مفكرين حاولوا تفكيك الأساطير التي أحاطت بالغرب في المخيال العربي، سواء تلك التي جعلته نموذجاً مثالياً للتقدم، أو تلك التي صوّرته كقوة شر مطلقة. فبعضهم رأى أن الاستغراب هو السبيل الوحيد للخروج من أسر المركزية الغربية التي جعلت الفكر العربي يدور في فلك النموذج الأوروبي، بينما رأى آخرون أن الاستغراب هو خطوة ضرورية لفهم أسباب تعثر مشاريع النهضة العربية، لأن هذه المشاريع غالباً ما استوردت مفاهيم الحداثة الغربية دون مساءلة أو نقد. وهكذا، أصبح الاستغراب جزءاً من النقاش حول سؤال النهضة نفسه، لأنه يطرح على العرب سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن بناء مشروع حضاري مستقل إذا كانت أدوات التفكير نفسها مستعارة من الغرب؟
وفي هذا السياق، لم يكن الاستغراب مجرد نقد للغرب، بل كان أيضاً نقداً للذات العربية التي كثيراً ما تعاملت مع الغرب إما بوصفه خلاصاً أو تهديداً، دون أن تحاول فهمه كحضارة لها تاريخها وتعقيداتها. وقد ساهم هذا المشروع في كشف التناقضات داخل الخطاب العربي نفسه، إذ أظهر كيف أن بعض القراءات العربية للغرب كانت في الحقيقة امتداداً للمركزية الغربية، حتى حين كانت تتظاهر بمعارضتها. فالتبعية لا تكون دائماً في الموقف السياسي، بل قد تكون أيضاً في طريقة التفكير، وفي المفاهيم المستخدمة، وفي زاوية النظر إلى العالم.
ومع تطور وسائل الإعلام والاتصال، اكتسب الاستغراب بعداً جديداً، إذ أصبح من الضروري فهم كيف تُنتج صورة الغرب في الإعلام العربي، وكيف تُعاد صياغتها في الفضاء الرقمي. فقد أظهرت التجارب أن صورة الغرب في المخيال العربي ليست ثابتة، بل تتغير بتغير الأحداث، وتتأثر بالخطابات السياسية، وبالتحولات الاجتماعية، وبالاحتكاك المباشر عبر الهجرة والتعليم والتواصل الرقمي. وهذا ما جعل الاستغراب مشروعاً مفتوحاً، لا يقتصر على قراءة الماضي، بل يمتد إلى تحليل الحاضر، وإلى فهم كيف تتشكل صورة الغرب اليوم في زمن العولمة.
وهكذا، يمكن القول إن الاستغراب في الفكر العربي المعاصر لم يعد مجرد مشروع نظري، بل أصبح جزءاً من معركة أوسع لإعادة بناء الوعي، ولتحرير الفكر من التبعية، ولصياغة علاقة جديدة مع الغرب تقوم على الفهم النقدي لا على الاستلاب أو القطيعة. إنه مشروع يسعى إلى إعادة تعريف الذات والآخر معاً، وإلى فتح أفق جديد للتفكير في المستقبل بعيداً عن ثنائية الانبهار والرفض التي حكمت العلاقة بين الشرق والغرب طويلاً.
نقد المركزية الغربية في زمن العولمة
مع دخول العالم عصر العولمة، بدا في البداية وكأن الحدود الثقافية تنهار، وأن المعرفة أصبحت متاحة للجميع، وأن العالم يتجه نحو فضاء مفتوح تتساوى فيه الأصوات. غير أن هذا الوهم سرعان ما تلاشى حين اتضح أن العولمة لم تُلغِ المركزية الغربية، بل أعادت إنتاجها بأدوات أكثر نعومة وفاعلية. فقد تحولت الهيمنة من السيطرة العسكرية والسياسية المباشرة إلى سيطرة رمزية تُمارَس عبر الإعلام، والتكنولوجيا، والمنصّات الرقمية، والاقتصاد المعرفي. وهكذا، أصبح نقد المركزية الغربية في زمن العولمة أكثر تعقيداً، لأنه لم يعد يواجه خطاباً صريحاً عن التفوق، بل يواجه منظومة كاملة من القيم والمعايير التي تُقدَّم بوصفها “عالمية”، بينما هي في جوهرها امتداد للنموذج الغربي.
لقد كشفت العولمة عن قدرة الغرب على إعادة تشكيل العالم وفق رؤيته، ليس عبر القوة الصلبة، بل عبر القوة الناعمة التي تتسلل إلى الوعي دون مقاومة. فالإعلام العالمي، الذي تهيمن عليه مؤسسات غربية كبرى، يعيد إنتاج صورة الغرب باعتباره مركز الحداثة والتقدم، بينما يصوّر بقية العالم من خلال عدسة الانتقاء: إما مناطق أزمات، أو فضاءات غريبة، أو ثقافات تحتاج إلى “تطوير”. وحتى في الفضاء الرقمي، الذي يُفترض أنه أكثر ديمقراطية، نجد أن الخوارزميات نفسها تعمل وفق منطق يعيد إنتاج المركزية الغربية، من خلال ترتيب المحتوى، وتحديد ما يظهر وما يُخفى، وصياغة صورة العالم وفق معايير لا يشارك في وضعها سوى عدد محدود من الشركات والمؤسسات الغربية.
وفي هذا السياق، يصبح نقد المركزية الغربية ضرورة معرفية لفهم كيف تُعاد صياغة الوعي العالمي اليوم. فالعولمة لم تُلغِ التراتبية بين الثقافات، بل جعلتها أكثر خفاءً، وأكثر قدرة على التأثير. لقد أصبح الغرب حاضراً في كل تفاصيل الحياة اليومية: في اللغة التي تُستخدم في التكنولوجيا، في المعايير التي تُقاس بها جودة التعليم، في النماذج الاقتصادية التي تُفرض على الدول، وفي الصور التي تُنتج عن “الآخر” في السينما والإعلام. وهذا الحضور الكثيف يجعل من نقد المركزية الغربية عملاً لا يقتصر على الأكاديميين، بل يمتد إلى كل من يسعى إلى فهم موقعه في عالم شديد التعقيد.
ومن هنا، يكتسب مشروع الاستغراب أهمية مضاعفة في زمن العولمة، لأنه لا يكتفي بتفكيك الخطاب الغربي التقليدي، بل يسعى إلى كشف آليات الهيمنة الجديدة التي تعمل تحت غطاء “العالمية”. إنه مشروع يحاول أن يفتح أعيننا على حقيقة أن العالم لا يزال يُرى من زاوية واحدة، وأن التعددية الثقافية التي تُرفع شعاراتها في كل مكان لا تتحقق فعلياً ما دام الغرب يحتفظ بحق تعريف ما هو عالمي وما هو هامشي. ولذلك، فإن نقد المركزية الغربية اليوم ليس مجرد تمرين فكري، بل هو محاولة لاستعادة القدرة على رؤية العالم من زوايا متعددة، وعلى بناء معرفة لا تخضع لسلطة النموذج الواحد، وعلى إعادة الاعتبار للثقافات التي طالما وُضعت في موقع التابع أو المختلف أو الأقل شأناً.
إمكانات بناء معرفة بديلة
إذا كان نقد المركزية الغربية يكشف حدود النموذج المعرفي السائد، فإن الخطوة التالية تتمثل في التفكير في إمكانات بناء معرفة بديلة، معرفة لا تقوم على نفي الغرب ولا على استنساخه، بل على تجاوز الثنائية التي حكمت علاقة الشرق بالغرب طويلاً. فالعالم اليوم، رغم كل أشكال الهيمنة الرمزية، أصبح أكثر انفتاحاً على التعددية الثقافية، وأكثر استعداداً للاعتراف بأن المعرفة ليست ملكاً حصرياً لحضارة واحدة، وأن التجارب الإنسانية، مهما اختلفت، تمتلك القدرة على الإسهام في بناء فهم أوسع للعالم. ومن هنا، يصبح مشروع الاستغراب مدخلاً لإعادة التفكير في كيفية إنتاج المعرفة، وفي كيفية تحريرها من سلطة النموذج الواحد الذي فرض نفسه على العالم منذ قرون.
إن بناء معرفة بديلة يبدأ أولاً باستعادة الثقة في الذات، في قدرتها على التفكير والإبداع والتحليل، بعيداً عن عقدة النقص التي زرعتها المركزية الغربية في وعي الشعوب غير الغربية. فالمعرفة لا تُنتج فقط في الجامعات الكبرى أو المراكز البحثية الغربية، بل تُنتج أيضاً في التجارب اليومية، وفي التراث الثقافي، وفي الفلسفات المحلية، وفي طرق العيش التي طوّرتها المجتمعات عبر تاريخها. وهذا يعني أن بناء معرفة بديلة لا يتطلب قطعاً مع الغرب، بل يتطلب التحرر من هيمنته الرمزية، ومن تلك الرغبة الدائمة في قياس كل شيء بمعاييره. إنه دعوة إلى النظر إلى العالم من زوايا متعددة، وإلى الاعتراف بأن الحقيقة ليست واحدة، وأن العقل الإنساني أكثر ثراءً من أن يُختزل في نموذج واحد.
كما يتطلب بناء معرفة بديلة إعادة قراءة التراث المحلي، ليس بوصفه بديلاً عن الغرب، بل بوصفه مصدراً لإثراء التفكير، ولتقديم رؤى مختلفة للعالم. فالتراث ليس مجرد ماضٍ جامد، بل هو مخزون من التجارب والأفكار التي يمكن أن تُسهم في صياغة نماذج جديدة للتفكير، إذا ما قُرئ قراءة نقدية واعية. وفي هذا السياق، يصبح الحوار بين الثقافات ضرورة لا غنى عنها، لأنه يسمح بتبادل الخبرات، وبناء جسور معرفية، وتجاوز الانغلاق الذي يحول دون تطور الفكر.
ومن جهة أخرى، تتيح التكنولوجيا اليوم إمكانات واسعة لإنتاج معرفة بديلة، لأنها كسرت احتكار المؤسسات التقليدية للمعرفة، وفتحت المجال أمام أصوات جديدة كانت مهمّشة أو غير مرئية. فالمجتمعات غير الغربية لم تعد مضطرة إلى انتظار اعتراف الغرب بها، بل أصبحت قادرة على إنتاج خطابها الخاص، وعلى تقديم رؤيتها للعالم عبر منصات متعددة. وهذا التحول يمنح مشروع الاستغراب فرصة جديدة، لأنه يسمح له بالانتقال من مستوى النقد إلى مستوى البناء، ومن مستوى تفكيك الهيمنة إلى مستوى اقتراح نماذج معرفية جديدة.
وهكذا، فإن إمكانات بناء معرفة بديلة ليست مجرد حلم نظري، بل هي مشروع قابل للتحقق، إذا ما توفرت الإرادة الفكرية، والقدرة على التحرر من التبعية، والاستعداد للانفتاح على التعددية. إنها دعوة إلى إعادة التفكير في موقع الذات في العالم، وإلى بناء علاقة جديدة مع الغرب تقوم على الندية، وعلى الاعتراف المتبادل، وعلى الإيمان بأن المعرفة الإنسانية لا تتقدم إلا حين تتعدد أصواتها، وتتقاطع مساراتها، وتتفاعل تجاربها دون أن يهيمن أحدها على الآخر.
نحو أفق معرفي متعدد: إعادة توازن العلاقة بين الشرق والغرب
في نهاية هذا المسار التحليلي، يتضح أن مشروع الاستغراب ليس مجرد محاولة لفهم الغرب من زاوية مختلفة، بل هو خطوة أساسية نحو إعادة بناء الوعي العالمي على أسس أكثر عدلاً وتوازناً. فالعالم الذي صاغته المركزية الغربية عبر قرون من الهيمنة الرمزية لم يعد قادراً على استيعاب التعددية الثقافية التي تفرضها تحولات العصر، ولا على احتكار تعريف الحقيقة أو رسم حدود العقلانية. ومن هنا، يصبح الاستغراب مشروعاً لتحرير المعرفة من أحادية المركز، ولإعادة الاعتبار للثقافات التي طالما وُضعت في موقع الهامش، ولإعادة صياغة العلاقة بين الشرق والغرب بعيداً عن ثنائية التفوق والدونية.
إن ما يكشفه هذا المشروع هو أن الغرب، رغم قوته وتأثيره، ليس النموذج الوحيد الممكن، وأن التجارب الإنسانية الأخرى تمتلك من العمق والثراء ما يجعلها قادرة على الإسهام في بناء معرفة عالمية متعددة الأصوات. كما يكشف أن نقد المركزية الغربية لا يعني رفض الغرب أو القطيعة معه، بل يعني تحرير العلاقة معه من التبعية، وتحويلها إلى علاقة ندّية تقوم على الحوار والتفاعل لا على الاستلاب أو الانبهار.
وهكذا، فإن الاستغراب يفتح الباب أمام أفق معرفي جديد، أفق يسمح للذات غير الغربية بأن ترى العالم بعينها لا بعين الآخر، وأن تشارك في صياغة المستقبل بوصفها فاعلاً لا تابعاً. إنه دعوة إلى إعادة التفكير في موقعنا داخل العالم، وإلى بناء معرفة تتسع للجميع، وتمنح كل حضارة حقها في التعبير عن ذاتها، وفي الإسهام في تشكيل الوعي الإنساني المشترك. وفي هذا الأفق، يصبح تفكيك المركزية الغربية ليس نهاية، بل بداية لمرحلة جديدة من التفكير، مرحلة تتجاوز حدود الهيمنة نحو عالم أكثر توازناً وتعدداً وثراء.
|
|