إلى عبد الرحمن عمسيب:السخرية من تراث غرب السودان ادّعاءٌ من يريد أن يطفئ نور الشمس بنفخة كتبه الصاد

إلى عبد الرحمن عمسيب:السخرية من تراث غرب السودان ادّعاءٌ من يريد أن يطفئ نور الشمس بنفخة كتبه الصاد


12-21-2025, 03:24 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1766330658&rn=0


Post: #1
Title: إلى عبد الرحمن عمسيب:السخرية من تراث غرب السودان ادّعاءٌ من يريد أن يطفئ نور الشمس بنفخة كتبه الصاد
Author: الصادق حمدين
Date: 12-21-2025, 03:24 PM

03:24 PM December, 21 2025

سودانيز اون لاين
الصادق حمدين-UK
مكتبتى
رابط مختصر



*إلى عبد الرحمن عمسيب:*
*السخرية من تراث غرب السودان ادّعاءٌ من يريد أن يطفئ نور الشمس بنفخة*
      
(الجزء الثاني)
بقلم: الصادق حمدين

ليس الرقص التراثي الشعبي في غرب السودان، كما يتبدّى في مخيّلة عبد الرحمن عمسيب، فعلاً بدائياً أو عنفاً أجوف يستدعي السخرية والازدراء، بل هو نص جسديّ مكتمل، يفضح ضيق الرؤية حين تُحاكم الثقافات بميزان التعالي والعنصرية. ففيما يراه عمسيب، حركات عشوائية فارغة المحتوى والمضمون، تنطق الأجساد بتاريخ طويل من التواصل الإنساني النبيل، وتستعيد الإيقاعات ما عجزت الثقافة المهيمنة عن احتوائه.

هناك، في ساحات “اللعب”، تتهاوى الحدود التي أقامها الوهم "الذكوري"، بين الرجال والنساء، وتتماهى الأجساد في حلقات دائرية يغمرها الغبار " الكدو"، والضجيج، و"الوغر"، - تعني التعَرَقْ بما يقابلها من فصيح اللغة - بينما تتوشّح ألوان أزياء الراقصين الزاهية بذاكرة الأرض، أزهاراً وظلال أشجار وشيء من لون العشب. وعلى صوت ايقاع النقارة،التمبل، والبَرْدية، والفرنقبية، والأندنقا، ينهض هذا الرقص شاهداً حيّاً على ثقافة كاملة، لا يمكن اختزالها في نظرة استعلائية، ولا إقصاؤها بخطاب يُخفي عنصرية مغيتة خلف ادّعاء العقلانية والحداثة التي تقطع بين الماضي والحاضر وتجعل من المستقبل فضاء بلا هوية .

هذه الدائرة، رغم ما قد يبدو عليها من فوضى خادعة، ولكنها في حقيقتها ليست إلا لغة الجسد التي تتحدث حين تعجز الكلمات عن التعبير، ومكاناً تتشارك فيه القلوب نبضا واحدا وفرحا واحدا. الرقص الشعبي في غرب السودان إذن ليس مجرد حركات آلية بلا مضمون، بل هو انعكاس حي للهوية والثقافة والروح الجماعية، وهو تحد صامت لكل من يسخر من تراثنا، ليذكّرنا بأن جماله يكمن في معناه العميق وقدرته على جمع البشر في فرح واحد يتجاوز الكلمات.

وحين يضرب الرجال الأرض بأقدامهم بكل ما فيهم من قوة مثل رقصات المردوم، والكرنق، فليست الغاية استعراض العضلات أو لفت أنظار النساء كما قد يتوهم البعض المسكونين بالثقافة ما تحت "السراويلية"، بل هي رسالة تُرسل إلى الأرض ذاتها، وإلى من يتربّص بها، نحن هنا، قادرون على حمايتك من الأعداء، ثابتون في وجه الريح والعدو، هكذا يأتي ردهم على من يتسائل متهكما ما هذا العنف غير الضروري في حضرة الفرح؟

أغاني ورقصات التراث لا تنبت من فراغ كما تعلم، يا من لا يرى الأشياء إلا انعكاساً لذاته؛ فهي ابنة الحياة بكل تفاصيلها. هناك أغنيات للزواج، وللختان، وللزراعة، والتيراب، وللحصاد، وللقدوم، والرحيل، وللمولود الجديد، ولوداع المسافر وللفزع وإغاثة الملهوف. لا كلمة بلا روح، ولا لحن بلا معنى. حتى الآلات البسيطة ـ مثل “أم كيكي” و“الزمبارة” ـ ليست نقصا في الإبداع، بل انسجام مع إيقاع الطبيعة. كل ضربة نقارة نبضة حياة، لا ضوضاء فارغة كما يرى من تمحور حول ذاته، حين يختزل كل هذا العمق في سخرية عابرة تعقبها ابتسامة باهتة.

وهنا تتداعى إلى الذهن موسيقى “الوازا” من نواحي النيل الأزرق: “يا موسى متين جيتا من الغربة سلامة عليك”. كلمات قليلة، ولكنها تغوص في الوجدان لتقول الكثير. فالتراث الغنائي الراقص ليس طقسا أجوف كما يلمّح عمسيب بما يشبه التصريح، بل سجلّ حياة كاملة، يحمل الماضي على كتفيه ويمنح الحاضر نبضه.

حين يتطوّع عمسيب للسخرية من الرقصات التراثية في غرب السودان، فإنه لا يعبّر عن ذائقة فنية، بل يفضح خواءً معرفياً مريعاً. فالاستهزاء هنا ليس موقفاً نقدياً، بل جهلٌ متنكر في هيئة رأي. أيُسخر من الرقص لأنه لا يفهمه؟ أم لأنه عاجز عن قراءة التاريخ حين يُكتب بالجسد لا بالحبر؟

فالرقصة في غرب السودان ليست حركات بلا معنى، كما يتخيّلها أصحاب النظر القصير، بل أرشيف حيّ يمشي على الأقدام، وذاكرة جماعية تتجسّد في الإيقاع والخطوة والنَفَس. هي انتماء يُمارَس لا يُشرح، وهوية تُعاش لا تُستعرض. أما تحويلها إلى مادة تهكّم، فليس سوى إعلان صريح عن قطيعة مع الجذور، وعن استعلاء فارغ لا يستند إلا إلى الجهل الواعي.

كما تبرز رقصة الكدنداية مثالاً حياً على هذا المعنى. فرغم منبتها وجذورها في قبيلة حَمر، لم تبقَ حكرا عليها، بل أصبحت جسرا للتواصل بين قبائل السودان المختلفة. وقد تبنّتها قبيلة المعاليا في شرق دارفور، وأضافت إليها ملامح من بيئتها حتى يكاد المشاهد يظن أنها نشأت هناك. هذه قدرة التراث على الاتساع والتجدد، لا “بدائية”، يجب النظر إليه بنظرة الحداثة القاصرة.

تماما كما هي رقصة السنجك التي تتقاسمها معظم قبائل غرب السودان، في تجسيد واضح لوحدة الموروث الثقافي وعدم انحصاره في جماعة بعينها. فالموسيقى، بما تحمله من إيقاع وروح، تظل اللغة الأوسع نفاذاً إلى قلوب الناس وأداة تواصل تجمع بينهم مهما تباعدت أصولهم.

النقارة حين “تدنقس” ليست آلة حرب فحسب، بل نداء يجمع الناس في الفرح والفزع والنفير والحرب والسلام. إنّها صوت الأرض حين تتكلم، وصوت الإنسان وهو ينسجم معها. أما الأغاني التي ترافق الرقصات فليست كلمات سطحية جوفاء، بل شهادات على حضارة لم تُكتب بالحبر، بل بالإيقاع والصفقة والعرض والشرف والتجربة اليومية.

السخرية من التراث، كما يفعل عمسيب - وكأنما الأمر في حضرة لهو صبياني - ليست إلا سخرية من ذات منبتّة عن أصلها وجذرها. فغرب السودان بغناء وتنوع تراثه لم ينتظر شهادة أحد ليثبت عمق ثقافته، فهي حاضرة في الوجدان السليم، في أصوات الحكامات والهدايين، والدلالين، في القرى والدوامر والفرقان والبوادي. هذا التراث لا يعتذر لأحد لأن ذوقه يعاني من اضطراب وجداني، وعطباً فنياً مزمناً في أحكامه الجمالية، ولا ينحني لنظرة متعجرفة تظن أن هذا الكون بمن فيه وما فيه يتحرك وفق ما تهوى وتريد.

إن الرقص الذي يصفه البعض بـ “المجون”، هو في الحقيقة إعلان حياة، وقسمٌ ضمني على البقاء. فالأمم لا تُقاس بالحداثة وحدها، بل بما تحفظه من إرث يشهد على عمقها الإنساني. وتراث غرب السودان ليس بقايا ماض، بل نبض يسري في الحاضر، يذكّر بأن الجمال لا يحتاج إلى بهرجة، وأن الصدق لا يطلب إذنا ليُقال.

وهنا يبرز موسى قوتار، ليس ملكاً ولا سلطاناً، ولا ####################اً كما قد يظنه جاهل، بل فنان تراثي جميل يحمل فرقة “أبقزة” عنوان هويته ووثيقة تعريفه. وحين يصدح ويتبعه الصوت النسائي الشجي: “أبقزة قريب ما لمينا سوى يا…تًسّة أقعد ساكت”، تهتز مدينة نيالا البحير وأحياؤها طرباً. هذا الغناء ليس ترفاً، بل وجدان يعكس كرامة أهل الغرب وعزتهم، وهذا ما لم يفهمه المُتَمرّكِز حول نفسه حين اختار السخرية طريقا لاقصاء الآخر وعزله في ركن قصي من عالم الإنسانية الرحب الذي يسع الجميع، بما فيهم "عمسيب" وثقافته.

ليت الساخرين يصغون قليلًا. ففي الرقصات التي يحتقرونها تختبئ فلسفة الإنسان حين عاش منسجماً مع الأرض: صادقًا في حزنه وفرحه، وهمومه اليومية البسيطة، وفي مواجهته للعالم بلا زيف. وهكذا يبقى تراث غرب السودان شاهدا على أن الثقافة ليست زينة للعرض، بل جذرٌ للحياة نفسها. ومن لا يرقص مع الأرض، لن يسمع نبضها أبداً.

الصادق حمدين – هولندا
[email protected]

Sent from Outlook for iOS