Post: #1
Title: القوي المدنية المناهضة للحرب- نحو بناء وطن جديد: عنوان كبير ورؤية أصغر من اللحظة كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 12-19-2025, 01:46 AM
01:46 AM December, 18 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
18/12/25 ، بوسطن
أصدرت مجوعة تسمي القوى المدنية المناهضة للحرب – نحو بناء وطن جديد بيانًا صحفيًا بهذا العنوان بتاريخ 16 ديسمبر 2024 من نيروبي – كينيا، قدّمت فيه نفسها كتحالف مدني يسعى إلى إيقاف الحرب الجارية في السودان، والدعوة إلى مسار سياسي يُفضي إلى إعادة بناء الوطن على أسس جديدة! ويأتي هذا البيان في سياق تاريخي بالغ التعقيد، يتّسم بانهيار عميق في بنية الدولة السودانية، وتحوّل الحرب من صراع سياسي قابل للاحتواء إلى أزمة تأسيسية تمسّ جوهر الدولة: معناها، وحدودها، ووظيفتها، ومشروعها السياسي والأخلاقي. ينطلق هذا المقال من قراءة في بيان هذه المجموعة، لا بقصد التشكيك في نواياه المعلنة، بل بهدف تفكيك رؤيته السياسية، وتحديد حدودها، والكشف عن مواطن قصورها البنيوي. ويجادل المقال بأن البيان، رغم لغته الأخلاقية وموقفه المعلن المناهض للحرب، يتجنب الاشتباك مع جذور الأزمة التي قادت إليها، ويقع في ثلاث مفارقات مركزية:
أولها، إنكار الحاجة إلى قطيعة تاريخية واضحة مع الدولة السودانية القديمة التي راكمت شروط الحرب؛
وثانيها، حصر مسؤولية العنف في أطراف الحرب المباشرة، مع الاكتفاء بتصنيف الحركة الإسلامية وواجهاتها كمنظمات إرهابية، دون تفكيك البنية السياسية للدولة التي أنجبتها ورعتها؛ وستنتجها مرة اخري ان لم يتم تفكيكها،
وثالثها، الهروب من الأسئلة التأسيسية الكبرى المتعلقة بطبيعة الدولة والسلطة والشرعية، والاستعاضة عنها بخطاب إدانة عام لا يرتقي إلى مستوى مشروع تأسيسي يعالج أسباب الحرب بدل الاكتفاء بالدعوة لوقفها اعتمادا علي توصيف مظاهرها وتداعياتها.
البيان بوصفه عرضًا لا مرضًا: بيان خارج الزمن: نقد رؤية منقوصة في لحظة تأسيسية! لا تكمن الإشكالية الأساسية في هذا البيان في لغته أو في حدّته أو حتى في مواقفه الأخلاقية المعلنة ضد الحرب، بل في كونه نتاج رؤية سياسية مكرورة استُهلكت تاريخيًا، ولم تعد قادرة على تفسير الواقع السوداني الراهن أو التأثير فيه. فهو بيان يتعامل مع الحرب بوصفها خللًا طارئًا يمكن احتواؤه بإجراءات سياسية أو ضغوط خارجية، لا بوصفها نتيجة منطقية لانهيار بنية الدولة نفسها. بهذا المعنى، يعالج البيان الأعراض بدل الجذور، ويشتبك مع النتائج بدل البُنى التي أنتجتها، ما يحوّله من أداة تحليل سياسي إلى وثيقة إنكار تاريخي. إنّه خطاب يسعى إلى استعادة وضع سابق لم يعد موجودًا، ويتجاهل التحولات العميقة التي جعلت من الحرب تعبيرًا عن أزمة تأسيس لا أزمة إدارة. وفي هذا السياق، تبدو مقولة هيغل شديدة الدلالة: "ما لا يُفكَّر فيه، يُعاد إنتاجه على هيئة مأساة" فالبيان يرفض مواجهة السؤال الجوهري الذي لا يمكن تجاوزه:
لماذا انهارت الدولة السودانية أصلًا؟
ومن دون طرح هذا السؤال، لا تصبح الإدانة موقفًا سياسيًا، بل تعويضًا أخلاقيًا عن عجز نظري، ولا يصبح الحديث عن وقف الحرب مشروعًا للسلام، بل محاولة لإدارة الانهيار بلغة مطمئنة.
"السودان الجديد" والدولة المزعومة: حين يُستدعى المفهوم ويُفرَّغ من مضمونه: في أفق السودان الجديد، لا تُفهم "الدولة الجديدة" بوصفها شعارًا تعبويًا أو وعدًا أخلاقيًا فضفاضًا، بل باعتبارها قطيعة تاريخية واعية مع الدولة التي أنتجت الحرب، وأعادت إنتاجها عبر عقود من المركزية، وتديين السياسة، وعسكرة المجال العام. الدولة الجديدة، بهذا المعنى، ليست امتدادًا مُهذّبًا للدولة القديمة، بل نفيًا لبنيتها ووظائفها وأساطير شرعيتها غير أن البيان، رغم استدعائه المتكرر لمفهوم "بناء وطن جديد"، يقدّم تصورًا للدولة لا يخرج فعليًا عن الإطار القديم؛ دولة يُراد لها أن تتغيّر دون أن تُمسّ أسسها، وأن تُدار الأزمة فيها دون مساءلة منطقها التأسيسي. فالدولة الجديدة، كما تُلمَح في البيان، ليست دولة يُعاد فيها تعريف السلطة والمواطنة، بل دولة يُفترض أن تستعيد "عافيتها" عبر تسويات سياسية فوقية، وضغوط دولية، وعودة غير محددة إلى مسار “مدني” غامض المعالم! من منظور السودان الجديد، لا يمكن فصل فكرة الدولة الجديدة عن سؤال الحرب، لأن الحرب في السودان ليست حادثًا طارئًا، بل التعبير الأقصى عن طبيعة الدولة القائمة. هنا تستعيد مقولة كارل فون كلاوزفيتز معناها العميق: فالحرب ليست نقيض السياسة، بل مرآتها. وإذا كانت السياسة قد أُنتجت داخل دولة مركزية إقصائية، فإن الحرب ليست إلا استمرارًا منطقيًا لها! ولا شنو؟ إن تقديم تصور لـ "دولة جديدة" دون تفكيك الدولة التي أنتجت العنف، ودون إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، والدين والدولة، والمركز والأطراف، يحوّل المفهوم إلى استعارة لغوية لا مشروعًا تاريخيًا. وهو ما يعكس، في جوهره، خوفًا من القطيعة أكثر مما يعكس جرأة على التأسيس... وكما نبّه فرانز فانون، فإن النخب التي تخشى هدم البنية القديمة تفضّل دائمًا ترميمها، حتى وإن كانت تلك البنية هي المصدر الرئيسي للعنف. وعليه، فإن الدولة الجديدة التي لا تُبنى على قطيعة معرفية وسياسية مع الدولة القديمة، ليست دولة جديدة، بل إعادة إنتاج محسّنة لأسباب الحرب نفسها، ولحاضركم ان يبلغ غائبكم!
من تجريم الفاعل إلى تفكيك البنية: قراءة علي ضؤ فوكو في إنتاج الإرهاب: الخلل الجوهري في البيان لا يتمثل في إدانته للعنف، بل في طريقة فهمه له. إذ ينطلق الخطاب من تجريم الفاعل المباشر، وكأن العنف فعل معزول ارتكبه أفراد أو جماعات منحرفة، لا نتيجة منطقية لبنية دولة راكمت، عبر تاريخها، شروط إنتاج الإرهاب بوصفه أحد أشكال السياسة غير المعلنة. هذا الخلل ليس أخلاقيًا بقدر ما هو تحليلي؛ لأنه يفصل الفعل عن النظام الذي جعله ممكنًا، بل ومجديًا في أحيان كثيرة. وفق تحليل ميشيل فوكو، لا يُفهم العنف باعتباره خروجًا على النظام السياسي، بل كأحد منتجاته الداخلية، وأداة من أدوات اشتغاله. فالدولة الحديثة، حين تفشل في إدارة التنوع عبر القانون والمواطنة، تلجأ إلى آليات أكثر خشونة: الضبط القسري، عسكرة المجال العام، وتديين السلطة بوصفها مصدرًا للشرعية. في السياق السوداني، لم يكن هذا المسار طارئًا، بل تأسيسيًا؛ إذ تشكّلت الدولة على قاعدة مركزية تحتكر تعريف الوطنية، وتقصي مجتمعات بأكملها من المجال السياسي، وتدير الخلاف عبر العنف بدل التفاوض. ضمن هذه البنية، لا يظهر الإرهاب كظاهرة غريبة، بل كـ نتاج جانبي عقلاني لدولة تُغلق قنوات السياسة السلمية، وتحوّل الصراع الاجتماعي إلى مسألة أمنية. فحين تُختزل المواطنة في الانتماء الديني أو الثقافي، وحين تُدار الأطراف بمنطق الطوارئ الدائمة، يصبح العنف لغة سياسية بديلة، لا تعبيرًا عن تطرف فردي فحسب، بل عن انسداد بنيوي في النظام نفسه. إن الاكتفاء بتصنيف جماعات أو أفراد بوصفهم "إرهابيين"، من دون تفكيك هذه البنية المنتجة للإرهاب، لا يؤدي إلى القضاء عليه، بل إلى إعادة إنتاجه في أشكال أكثر تطرفًا. فالدولة التي تواصل تديين السياسة، وعسكرة الهوية، واحتكار الشرعية، إنما تخلق باستمرار شروطًا جديدة لظهور عنف أشد، مهما رفعت من شعارات مكافحة الإرهاب. وعليه، فإن أي مقاربة جادة لوقف الحرب ومواجهة الإرهاب في السودان لا يمكن أن تنجح ما لم تبدأ من تفكيك الدولة التي أنتجتهما: دولة المركز القسري، والهوية الأحادية، والشرعية المؤدلجة. فالخروج من دائرة العنف لا يتحقق عبر إدانة نتائجه، بل عبر إعادة تأسيس السياسة على قاعدة المواطنة المتساوية، والعلمانية، وتحرير الدولة من وظيفتها القمعية التي حوّلت العنف من استثناء إلى قاعدة، فارجعوا الي مشروع السودان الجديد المعلن والمبذول!
أين تتجلى معالم الدولة الجديدة؟ يستدعي البيان مفهوم "الدولة الجديدة" بوصفه أفقًا مرغوبًا، غير أنه يتوقف عند حدود التسمية، دون أن ينتقل إلى تحديد مضمونها السياسي والمؤسسي. وهنا يتبدّى الفراغ الحقيقي في الرؤية: فالدولة الجديدة لا تُعرّف بالنوايا، بل بالاختيارات التأسيسية التي تميّزها عمّا سبقها. يبقى السؤال الجوهري معلّقًا: أي دولة يُراد بناؤها؟
هل هي دولة تُعيد إنتاج العلاقة القديمة بين الدين والسلطة؟
أم دولة مركزية تُبدّل الوجوه وتُبقي البنية؟
أم دولة تُدار بذات النخب وبذات الخيال السياسي الذي قاد إلى الانسداد؟ في أفق السودان الجديد، لا تُفهم الدولة الجديدة كشعار تعبوي، بل كمشروع قطيعة تاريخية واعية، تتجسّد في إعادة تعريف أسس الحكم ذاتها: دولة محايدة دينيًا، لا مركزية في توزيع السلطة، قائمة على عدالة تاريخية تعالج جذور التهميش، وعلى مفهوم للمواطنة لا يُقاس بالهوية أو الانتماء الثقافي. من دون هذه الأسس، يغدو مفهوم "الدولة الجديدة" توصيفًا لغويًا جذابًا، لكنه يفتقر إلى القدرة على التحول إلى مشروع سياسي قابل للتحقق!
في طبيعة الحروب السودانية: لماذا تتكرر بصور مختلفة؟ لا يمكن تقييم أي رؤية لوقف الحرب من دون إدراك طبيعة الحروب التي شهدها السودان عبر تاريخه الحديث. فهذه الحروب لم تكن نزاعات حدودية، ولا صدامات إثنية محضة، ولا انفجارات قبلية عفوية، بل تعبيرًا متكررًا عن صراع بنيوي بين دولة مركزية ومجتمعاتها. من جنوب السودان إلى دارفور، ومن جبال النوبة إلى النيل الأزرق، يتكرر النموذج ذاته: مركز يحتكر تعريف الشرعية باسم الدين أو القومية، وأطراف تُدار بمنطق القوة، فتتحول المقاومة—مع انسداد الأفق السياسي—إلى عنف مضاد. هذا النمط لا يعكس فشلًا أمنيًا بقدر ما يكشف عن أزمة في بنية الدولة نفسها. في هذا السياق، تكتسب ملاحظة فرانز فانون معناها العميق حين يرى أن العنف الذي تمارسه القوى المهمّشة هو انعكاس لعنف الدولة التي أخضعتها. فالدولة السودانية، وإن لم تكن استعمارية بالمعنى الكلاسيكي، فقد ورثت منطق الاستعمار في الحكم: إدارة التنوع بالقسر، وإقصاء المجتمعات بدل انصافها، وتحويل السياسة إلى أداة سيطرة لا عقدًا اجتماعيًا عادلا. وعليه، فإن تكرار الحروب ليس صدفة تاريخية، بل نتيجة مباشرة لاستمرار هذه البنية. ومن دون تفكيكها، تظل الدعوات إلى السلام مؤقتة، وتبقى الحرب احتمالًا مؤجّلًا لا أكثر.
العلمانية، الأمن، ومصادر الإرهاب: ما الذي يتجاهله البيان؟ يُظهر البيان تردّدًا واضحًا في الاقتراب من مسألة العلمانية، رغم أنها تقع في قلب سؤال الأمن ذاته. هذا التردّد لا يعكس حيادًا سياسيًا بقدر ما يكشف عن عجز معرفي عن فهم كيفية نشوء الإرهاب في السياق السوداني. فالإرهاب لا يولد في الفراغ، ولا يظهر كفعل عدمي منفصل عن الدولة، بل يتكوّن داخل بنيات سياسية واجتماعية محددة، أبرزها الدولة التي تدمج الدين بالسلطة وتحوله إلى أداة ضبط وإقصاء. في السودان، لم يكن الإرهاب وافدًا خارجيًا فحسب، بل نتاجًا داخليًا لبنية دولة استخدمت الخطاب الديني لتبرير العنف، وقوننت الإقصاء باسم العقيدة، وشيطنت الاختلاف بوصفه تهديدًا وجوديًا. هنا يصبح العنف المؤدلج امتدادًا منطقيًا لسياسة رسمية سبقت الجماعات المتطرفة، لا انحرافًا عنها. فحين تتبنّى الدولة تصورًا واحدًا للهوية والمعنى، فإنها تفتح المجال أمام عنفٍ "أكثر نقاءً" يدّعي احتكار الحقيقة ذاتها! من هذا المنظور، فإن تجاهل العلمانية لا يعني فقط تأجيل نقاش فكري، بل تعطيلًا مباشرًا لمعالجة جذور الإرهاب. كما يبيّن جون رولز، فإن الدولة العادلة لا يمكنها أن تنحاز إلى تصور واحد للحياة الصالحة دون أن تنتج الإقصاء، ومع الإقصاء يظهر العنف بوصفه لغة بديلة. في السودان، حيث تماهت الدولة طويلًا مع خطاب ديني معيّن، تحوّل الأمن إلى مسألة عقدية، وأصبح العنف وسيلة لإعادة فرض "النظام الأخلاقي" بالقوة، ولايمكن لاي كان القفز علي هذا!
من إدارة الأمن إلى إعادة تأسيسه: شرط السودان الجديد: يرتبط السلام المستدام، من منظور السودان الجديد، بإعادة تعريف مفهوم الأمن نفسه. فالأمن لا يتحقق عبر تكثيف القبضة العسكرية أو توسيع دائرة التصنيفات الإرهابية، بل عبر تفكيك الشروط السياسية التي تجعل العنف خيارًا متكررًا. وهذا يتطلب دولة محايدة دينيًا، دولة علمانية تضمن المساواة القانونية، وتفتح المجال السياسي أمام التعدد بدل إغلاقه. غير أن البيان، في سعيه إلى تقديم رؤية "واقعية"، يتجنب هذا التحوّل الجذري، ويفصل الأمن عن بنية الدولة، وكأن الإرهاب يمكن احتواؤه بإجراءات تقنية أو توافقات ظرفية. هذا التجنّب يعكس قصورًا في قراءة المستقبل، لأن التجربة السودانية أثبتت أن كل تسوية تُبقي الدين داخل جهاز الدولة، وكل تعريف أمني لا يُراجع أسس الشرعية، إنما يؤجل الانفجار ولا يمنعه. كما نبّه أنطونيو غرامشي، فإن الواقعية التي تتجاهل ميزان القوى الحقيقي، وتحاول إدارة الأزمة بأدوات فقدت صلاحيتها، لا تؤدي إلى الاستقرار، بل إلى ترسيخ الأزمة. فالإرهاب في السودان لم يكن نتيجة غياب الدولة، بل نتيجة دولة خاطئة التأسيس. ومن دون الاعتراف بذلك، يظل الخطاب المناهض للحرب خطابًا أخلاقيًا بلا أدوات، عاجزًا عن تقديم إجابة جدية على السؤال الأمني الأكثر إلحاحًا: كيف نمنع إعادة إنتاج العنف؟
من التأسيس إلى الاستثمار السياسي: بيان وإعلان يتحرّكان في ظل منجز غيرهما: يقتضي التحليل الدقيق التمييز بين إعلان المبادئ الصادر عن هذه المجموعة وبين وثائق تحالف تأسيس بوصفها تعبيرًا عن مشروع تأسيسي مكتمل الشروط. فإعلان المبادئ المشار إليه هنا لا يمثّل إعلانًا تأسيسيًا جديدًا، ولا يعبّر عن قطيعة أصلية مع الدولة القديمة، بل هو—مع البيان—وثيقة سياسية صادرة عن المجموعة نفسها، تتحرّك في الفضاء الذي فتحه تحالف تأسيس، وتسعى إلى التموضع داخله واستثماره سياسيًا.
لا يمكن فهم توقيت البيان ولا إعلان المبادئ المصاحب له بمعزل عن التحوّل النوعي الذي أحدثه تحالف تأسيس في المشهد السياسي السوداني. فاستدعاء مفردات مثل "الوطن الجديد"، و"إنهاء الدولة القديمة"، وتصنيف الحركة الإسلامية"، ، جاء بعد أن أصبح خطاب التأسيس ممكنًا ومشروعًا سياسيًا مطروحًا، لا قبل ذلك. ومن ثم، فإن ما تقدّمه هذه المجموعة لا يمثّل انطلاقًا تأسيسيًا مستقلًا، بل محاولة لاحقة لإعادة صياغة منجز قائم بلغة أقل صدامًا وكلفة وشجاعة! يتحرّك بيان مجموعة مايسمي بالقوي المدنية المناهضة للحرب وإعلان مبادئها داخل المساحة التي فرضها مشروع السودان الجديد كما بلوره تحالف تأسيس: الاعتراف بانهيار الدولة القديمة، والإقرار باستحالة العودة إلى ما قبل الحرب. غير أن هذا التحرك يظل انتقائيًا ومحسوبًا؛ إذ يلتقط النتائج الخطابية للتحوّل، دون الالتزام بشروطه البنيوية. فالقطيعة تُستدعى لفظيًا، لكن دون تبنّي العلمانية بوصفها شرطًا تأسيسيًا؛ والدولة الجديدة تُذكر بوصفها أفقًا عامًا، دون تحديد أسسها الدستورية؛ والسلام يُطلب، دون تفكيك الدولة التي أنتجت الحرب. بهذا المعنى، فإن إعلان المبادئ لا يضيف أفقًا تأسيسيًا جديدًا، بل يعمل على إعادة تدوير مفردات التأسيس داخل إطار إصلاحي محافظ، يعيد إدخالها إلى منطق النخب التقليدية: الرهان على الرباعية، انتظار الاعتراف الدولي، والافتراض بأن التوصيف الذاتي كـ"قوى مدنية" قادر بذاته على إنتاج شرعية سياسية!
من إدارة الأمن إلى إعادة تأسيسه: الفارق بين خطاب مجموعة القوي المدنية المناهضة للحرب ومشروع التأسيس: ينعكس هذا الفارق بوضوح في مقاربة الأمن والإرهاب. فبينما ينطلق مشروع تحالف تأسيس من إعادة تعريف الأمن بوصفه نتاجًا دستوريًا–سياسيًا مرتبطًا بطبيعة الدولة نفسها، يتعامل بيان هذه المجموعة وإعلان مبادئها مع الأمن باعتباره مسألة قابلة للإدارة عبر ترتيبات سياسية وضغوط خارجية، دون مساءلة جذرية لبنية الدولة. إعلان المبادئ، رغم لغته المتقدمة نسبيًا، يفصل سؤال الأمن عن سؤال الدولة، ويتعامل مع الإرهاب كظاهرة يمكن احتواؤها بالتصنيف أو بالإجراءات، لا كنتاج تاريخي لدولة دينية–مركزية خاطئة التأسيس. وهو ما يجعل الإعلان، في جوهره، وثيقة إدارة أزمة لا وثيقة تأسيس!
إعلان بلا قطيعة: الفرق بين تبنّي اللغة وتبنّي المشروع: هنا يتضح الفارق السياسي الحاسم:
تحالف تأسيس خاض مواجهة مباشرة مع سؤال الدولة والشرعية والعنف، ودفع كلفة هذا الخيار سياسيًا وتنظيميًا.
أما هذه المجموعة، فتصدر بيانًا وإعلان مبادئ يستعيران لغة التأسيس دون خوض معركته، ويعملان على الاستثمار في شرعيته الرمزية، مع الحفاظ على مسافة أمان من تبعاته! لاعلمانية، لاجيش جديد، لاعدالة تاريخية، لاحق تقرير مصير، لا لامركزية...الخ... ومن ثم، فإن الفارق بين الطرفين ليس في النوايا، بل في موقع الفعل السياسي:
– تأسيس مقابل تموضع
– قطيعة مقابل إصلاح لغوي
– مشروع دولة مقابل إدارة انتقالية مؤجلة.
الخلاصة: إعلان مبادئ بلا تأسيس لا ينتج دولة جديدة! إن إعلان المبادئ الصادر عن هذه المجموعة، مقترنًا بالبيان، لا يمثّل خطوة تأسيسية مستقلة، بل محاولة لإعادة احتلال أفق فتحه مشروع آخر، مع تجنّب شروطه الصلبة. وهذا ما يجعل الوثيقتين—رغم لغتهما المتقدمة—تندرجان ضمن سياسة الاستثمار في منجز التأسيس لا سياسة التأسيس نفسها. من منظور السودان الجديد، لا يمكن فصل الشرعية عن الفعل التأسيسي ذاته. فالتأسيس ليس مفردات ولا إعلانات مبادئ عامة، بل قطيعة دستورية وسياسية كاملة مع الدولة التي أنتجت الحرب. وكل محاولة لتبنّي نتائجه دون الالتزام بشروطه، لا تؤدي إلى توسيع أفق التغيير، بل إلى تفريغه وإعادته إلى منطق إدارة الانهيار. في لحظات التأسيس، لا يكفي أن نتحدث عن "وطن جديد"، بل يجب أن نحدّد أي دولة، وبأي أسس، ولصالح من.
وما لم يحدث ذلك، يظل الفرق قائمًا بين من يؤسّس مستقبلًا، ومن يلتحق به متأخرًا ليستثمر لغته .
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|