Post: #1
Title: هل يمكن للسودان أن ينهض؟ بل: متى وكيف؟ كتبه الطيب محمد جادة
Author: الطيب محمد جاده
Date: 12-16-2025, 00:53 AM
00:53 AM December, 15 2025 سودانيز اون لاين الطيب محمد جاده-السودان مكتبتى رابط مختصر
صحفي مستقل
رغم صعوبة الحرب ودمار البنية التحتية ونزوح الملايين من منازلهم بين نازحين في الداخل ولاجئين في الخارج، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل انتهت الحكاية؟ هل كُتب على السودان أن يعيش في دائرة مغلقة من الصراعات والانهيار؟ أم أن ما يجري، مهما بلغ قسوته، ليس سوى فصلٍ مؤلم في مسيرة أمة قادرة على النهوض من تحت الركام؟ ما يعيشه السودان اليوم ليس مجرد حرب بين أطراف مسلحة، بل هو اختبار قاسٍ لفكرة الدولة ذاتها. المدن التي كانت تضج بالحياة تحولت إلى ساحات قتال، والمستشفيات خرجت عن الخدمة، والمدارس أُغلقت، والاقتصاد شُلّ، بينما وجد المواطن نفسه وحيدًا في مواجهة الخوف والجوع وانعدام الأمان. ملايين الأسر فُرض عليها النزوح القسري، تاركة خلفها بيوتًا وذكريات وأحلامًا مؤجلة، فيما تحولت معاناة الإنسان السوداني إلى أرقام في تقارير المنظمات الدولية. غير أن اختزال السودان في مشهد الدمار وحده ظلمٌ لحقيقته وتاريخه. فهذا البلد، الذي عرف الحضارات القديمة، واحتضن تنوعًا ثقافيًا وإنسانيًا نادرًا، ليس كيانًا هشًا عابرًا. الشعوب العظيمة تمرض لكنها لا تموت، تتعثر لكنها لا تستسلم. والسودانيون، رغم كل ما مرّوا به من انقلابات وحروب وفقر، أثبتوا مرارًا أن في داخلهم طاقة صبر وقدرة على التماسك تفوق التوقعات. المشكلة الحقيقية لم تكن يومًا في الشعب، بل في غياب المشروع الوطني الجامع. لعقود طويلة، ظل السودان رهينة لنخب سياسية وعسكرية قدّمت مصالحها الضيقة على مصلحة الوطن، وأدارت خلافاتها بالسلاح بدل الحوار، وبالإقصاء بدل الشراكة. فكانت النتيجة دولة ضعيفة، ومؤسسات هشة، ونسيج اجتماعي يتآكل مع كل أزمة جديدة. ومع كل جولة صراع، كانت الفرصة تضيع لبناء دولة حديثة تقوم على المواطنة لا على الولاءات الضيقة. الحرب الحالية كشفت عيوب النظام السياسي السوداني بأقسى الطرق. فقد انهارت مؤسسات الدولة بسرعة، وغابت سلطة القانون، وتحوّل السلاح إلى لغة التخاطب الوحيدة. وفي ظل هذا الفراغ، دفع المواطن الثمن الأكبر، لا لأنه طرف في الصراع، بل لأنه الحلقة الأضعف في معادلة العنف. ومع ذلك، لم يغب التضامن الشعبي، حيث ظهرت مبادرات أهلية لتقديم الغذاء والدواء، وحماية الأحياء، ومساعدة الفارين من جحيم القتال. هذه الروح، التي تتجلى في أحلك الظروف، هي رأس المال الحقيقي للسودان. السؤال إذن ليس: هل يمكن للسودان أن ينهض؟ بل: متى وكيف؟ الإجابة تبدأ بالاعتراف الصريح بالأخطاء. لا يمكن بناء مستقبل جديد بعقلية قديمة، ولا يمكن الحديث عن سلام دائم دون مساءلة حقيقية لمن تسببوا في الخراب. العدالة ليست شعارًا أخلاقيًا فقط، بل شرط أساسي لأي استقرار مستقبلي. فالدول التي تتجاوز جراحها دون مواجهة الحقيقة، سرعان ما تعود إلى دائرة العنف من جديد. إلى جانب العدالة، لا بد من إرادة سياسية تضع مصلحة الوطن فوق الحسابات الفئوية. السودان يحتاج إلى قيادة تستحق هذا الشعب، قيادة ترى في التنوع مصدر قوة لا سببًا للصراع، وتؤمن بأن الدولة لا تُدار بالغلبة بل بالتوافق. كما يحتاج إلى رؤية واضحة لبناء مؤسسات قوية، وجيش مهني واحد، واقتصاد منتج، ونظام حكم يضمن المشاركة العادلة لكل الأقاليم. الدور الإقليمي والدولي مهم، لكنه لا يمكن أن يكون بديلًا عن الحل الوطني. فالتجارب أثبتت أن السلام المفروض من الخارج هش وقابل للانهيار. ما يحتاجه السودان هو حوار سوداني صادق، لا يُقصي أحدًا إلا من اختار العنف، ولا يساوم على وحدة البلاد أو كرامة مواطنيها. حوار يضع أسس دولة القانون، حيث يكون الجميع متساوين أمام العدالة، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجهة. ورغم سوداوية المشهد، فإن التاريخ يعلمنا أن الأمم تولد من رحم الأزمات. كثير من الدول التي تعيش اليوم في استقرار وازدهار مرت بظروف أشد قسوة مما يمر به السودان. الفارق كان في قدرتها على تحويل الألم إلى درس، والدمار إلى فرصة لإعادة البناء على أسس جديدة. والسودان، بما يملكه من موارد طبيعية هائلة، وموقع جغرافي استراتيجي، ورصيد إنساني غني، ليس استثناءً من هذه القاعدة. إن بداية الخروج من النفق ليست معجزة، بل خيار. خيار الاعتراف بأن طريق الحرب مسدود، وأن السلاح لا يصنع وطنًا. خيار الإيمان بأن السودان يستحق مستقبلًا أفضل من تاريخه القريب. وحين تتقدم الإرادة الوطنية على المصالح الضيقة، وحين تُبنى الدولة على أساس المواطنة والعدالة والمساواة، فقط حينها يمكن أن نتحدث عن وطن يعود واقفًا على قدميه. قد تكون الطريق طويلة ومؤلمة، لكن الحكاية لم تنتهِ بعد. فالسودان، رغم الجراح، لا يزال حيًا في قلوب أبنائه، ينتظر لحظة الصدق مع الذات، ولحظة الشجاعة في اتخاذ القرار الصحيح. وفي تلك اللحظة، يمكن للظلام أن ينقشع، وللحلم المؤجل أن يجد طريقه إلى النور.
|
|