Post: #1
Title: السودان بين المعسكرين: مناورة محسوبة أم قفزة في الظلام؟ كتبه د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 12-14-2025, 00:25 AM
00:25 AM December, 13 2025 سودانيز اون لاين د. ياسر محجوب الحسين-UK مكتبتى رابط مختصر
أمواج ناعمة
تخيّل بلداً يقف على جرفٍ هارٍ تدفعه حربٌ ضارية إلى الهاوية، وجيشاً يقاتل على جبهاتٍ متشعبة، واقتصاداً ينهار طبقةً بعد أخرى، بينما تتنازع قوى عالمية على أرضه وموانئه وذهبه وموقعه الاستثنائي. وفي قلب هذا المشهد يقف رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، محاولاً أن يمسك بالعصا من وسطها: يلوّح للغرب بإمكانية الشراكة، ويشدّ في الوقت نفسه خيوط الارتباط بالشرق الصاعد.
ليس ذلك تقلباً سياسياً ولا انتقالاً عشوائياً بين المحاور، بل مناورة وجودية فرضتها الجغرافيا القاسية، وحربٌ أنهكت الدولة والمجتمع، وتوازنات دولية تجعل من السودان ساحة اختبار كبرى في صراع النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وفي هذا السياق تحديداً، برزت آخر رسائل البرهان إلى الغرب عبر مقاله الذي اختار له بعناية صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية بتاريخ 25 نوفمبر 2025؛ رسالة لم تكن مقال رأي عابراً، بل مذكرة سياسية مشفّرة، صيغت بقدرٍ محسوب من الإيحاء لتصل مباشرة إلى دوائر صناعة القرار.
الرسالة السياسية والصفقة غير المعلنة
في مقاله المثير، حمّل البرهان قوات مليشيا السريع مسؤولية الحرب، رافضاً توصيف الصراع بأنه “صراع جنرالين”، ومؤكداً أنها حرب تمرد على الدولة. لكنه لم يكتفِ بهذا التوصيف؛ بل بنى المقال كله على فكرة واحدة: إذا ساعدتموني على تفكيك مليشيا الدعم السريع وإنهاء التمرد، سأكون جاهزاً للمضي في مسار التطبيع وتقديم صيغة حكم مدني ترضيكم.
لوّح البرهان بالانتقال الديمقراطي، وذكّر الغرب بأن الصراع يهدد مصالحه في البحر الأحمر، وفتح باب الشراكة الاقتصادية، مشيراً إلى دور للشركات الأمريكية في إعادة الإعمار. بدا المقال أقرب إلى عرض تفاوضي مكتمل الأركان: دعم عسكري وسياسي مقابل شرعية واستقرار وتعاون أمني.
هذه الرسالة ليست معزولة؛ فهي تأتي في وقت تتنامى فيه تحركات برهان على الساحة الدولية - خطابات في الأمم المتحدة، إشارات إيجابية في الملفات الإنسانية، وانفتاح محسوب على المؤسسات الغربية.
لكن هذه الإشارات لا تعني انقلاباً استراتيجيّاً نحو الغرب، بل هي جزء من لعبة أكبر توازن فيها القيادة السودانية بين مكاسب اللحظة ومخاطر الاصطفاف الحاد.
بين القيمة الجيوسياسية وكلفة الاصطفاف
يحتل السودان موقعاً استثنائياً. فهو بوابة البحر الأحمر، وممر التجارة العالمية، وخزان ضخم للمعادن والأراضي الزراعية.
ولهذا تتصارع عليه القوى الكبرى اليوم كما لم تفعل من قبل.
الصين ترى في السودان امتداداً لطريقها التجاري نحو أفريقيا. استثماراتها الضخمة في الموانئ والبنية التحتية والزراعة تجعلها تبحث عن طريقة لتفادي انهيار كامل قد يبتلع مصالحها. وبكين، رغم هدوئها المألوف، تدرك أن الفوضى في السودان تعني خسارة سنوات من العمل الاقتصادي والاستراتيجي، ولذلك تتحرك بدقة: دعم محدود للجيش، وضغط خلفي لتثبيت الاستقرار دون الاصطدام بالغرب مباشرة.
أما روسيا فقد استعادت أدواتها غير النظامية عبر “أفريكا كوربس”، البديل الجديد لفاغنر، بهدف ترسيخ وجود استراتيجي دائم على البحر الأحمر. بالنسبة لموسكو، السوداني ليس مجرد شريك استراتيجي، بل مفتاح لدخول القرن الأفريقي بعمق، وتحقيق توازن مع الضغوط الغربية في أوكرانيا وأوروبا.
الغرب من جهته يراقب بقلق تمدد الشرق.
لكن لديه شرطاً واحداً لم يتغير: لا دعم اقتصادياً حقيقياً دون التقدّم في ملف التطبيع وهندسة المسرح السياسي الداخلي واستبعاد تيارا بعينه.
هكذا يجد السودان نفسه أمام معادلة مستحيلة:
• الانحياز إلى الشرق يعني سلاح متاح لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة.
• الانحياز إلى الغرب يعني دعم اقتصادي محتمل لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري وخطر الانفجار الداخلي.
ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلاً، والمناورة بين الشرق والغرب أشبه بخيط نجاة رفيع، لكن لا بدّ من السير عليه.
عدم الانحياز الذكي ورهان الداخل
ضمن هذه الحسابات الدولية المعقدة، يبرز مسار ثالث يفرض نفسه بقوة:
عدم الانحياز الفعّال - وهو ليس حياداً سلبياً كما في الستينيات، بل استراتيجية قائمة على مزيج من الانفتاح الانتقائي والمداورة الدبلوماسية.
هذا المسار يعني:
• تعاوناً اقتصادياً عميقاً مع الصين، دون الارتهان لها.
• شراكة أمنية مع روسيا، دون التحول إلى بوابة لها على البحر الأحمر.
• انفتاحاً على الغرب، دون الوقوع في فخ الشروط الثقيلة التي قد تشعل الداخل.
• بناء دور إقليمي يعتمد على الجغرافيا لا على الأيديولوجيا.
بهذه المقاربة، يتحول السودان من ساحة صراع إلى لاعب يجيد توظيف الصراع لصالحه.
بيد أن كل هذا لن ينجح إذا لم يتم حسم المعركة الأهم: معركة الداخل. فالرهان الحقيقي ليس على واشنطن ولا بكين ولا موسكو، بل على قدرة القيادة السودانية على:
• توحيد الجبهة الداخلية،
• إعادة بناء المؤسّسات،
• وقف النزيف الاقتصادي،
• وفرض إرادتها على القوى الإقليمية المتدخلة.
فمن دون جبهة داخلية متماسكة، تصبح المناورة الخارجية مجرد لعبة خطرة قد تسقط عند أول هزّة. ومن دون قرار وطني صارم، لن تستطيع الخرطوم تحويل ثقلها الجيوسياسي إلى قوة حقيقية.
الخلاصة: المناورة ليست خياراً.. بل قدر سياسي
ما يقوم به البرهان اليوم ليس استسلاماً للغرب ولا انحيازاً للشرق، بل مناورة إجبارية تهدف إلى جمع السلاح من منطقة، والشرعية من أخرى، والمساعدات من ثالثة، دون دفع الأثمان كاملة لأي طرف. هي محاولة لاستثمار موقع السودان الفريد في معركة الهيمنة على البحر الأحمر، وتحويل الأزمة إلى ورقة تفاوض كبرى. غير أن هذه اللعبة الخطرة لن تجدي نفعاً إذا لم يُستعاد الداخل أولاً.
ففي النهاية، لا تحدد الدول الكبرى مصائر الأمم بقدر ما تحددها إرادة أبنائها.
وقدرة السودان على الخروج من النفق لا تتوقف على لعبة التوازن الدولية فحسب، بل على قوة البيت الداخلي، وتمكن القيادة من فرض رؤيتها على من يحاولون تشكيل مستقبل السودان من الخارج.
|
|