سكرتير سياسي ضابط أمن .. مأزق حركة سقطت في متاهات العسكر (3-10) كتبه محمد عبدالله ابراهيم

سكرتير سياسي ضابط أمن .. مأزق حركة سقطت في متاهات العسكر (3-10) كتبه محمد عبدالله ابراهيم


12-13-2025, 07:05 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1765652754&rn=0


Post: #1
Title: سكرتير سياسي ضابط أمن .. مأزق حركة سقطت في متاهات العسكر (3-10) كتبه محمد عبدالله ابراهيم
Author: محمد عبدالله ابراهيم
Date: 12-13-2025, 07:05 PM

07:05 PM December, 13 2025

سودانيز اون لاين
محمد عبدالله ابراهيم-الخرطوم-السودان
مكتبتى
رابط مختصر







وإنني لم أمضِ بعد إلى كشف التفاصيل الأعمق، واخترت بوعيٍ تام ألا تتضمن هذه المقالات الوثائق المتاحة في الوقت الحاضر، لا لعجز عن تقديمها، وإنما لاعتبارات تمليها المسؤولية الأخلاقية، وهو اختيار مقصود يهدف إلى ترك ما هو أعمق لوقته المناسب، إذ إن هدفي في هذه المرحلة يقتصر على تسليط الضوء على سلوك وممارسات شخص فاسد وانتهازي، دون توسيع الدائرة إلى ما يتجاوز هذا الإطار المحدد.

بعد الإشارة في المقال السابق إلى الوثائق التي وصلتني، بادر السكرتير السياسي المعني باتخاذ إجراءات تهدف إلى تتبع مصدر تسريبها. غير أن المعطيات المتاحة تشير إلى أن هذه التحركات اتسمت بقدر كبير من الارتباك وغياب الثقة. فوفق إفادات متقاطعة من محيطه القريب، تباينت مواقفه بين نفي الوقائع الواردة في المقال واتهامي بادعاءات غير صحيحة، وبين إبداء شكوك داخلية طالت بعض رفاقه، في سلوك يعكس حالة من التخبط أكثر مما يعكس مساراً منظماً للتحقق أو المساءلة.

واللافت في هذه القضية لا يقتصر على مضمون الوثائق، بل يمتد إلى مصدرها. فالجهة التي قامت بإرسال هذه المستندات لا تنتمي للحركة الشعبية، ولا تربطها بها أي علاقة تنظيمية أو سياسية معلومة، وهذا المعطى دفعني، في مرحلة أولى إلى التشكيك في مصداقية الوثائق، نظراً لحساسية محتواها وصعوبة تفسير وصولها إلى طرف خارجي لا صلة له بالحركة.

وبناءً على ذلك خضعت الوثائق لعملية تدقيق وفحص منهجي شملت مراجعة الصياغات والتواريخ، والتقاطعات الداخلية، وأسفرت هذه العملية عن التأكد من أنها وثائق أصلية وغير مفبركة. كما جرت محادثات مطولة مع الجهة التي قامت بتسليمها، في محاولة لتحديد آلية حصولها على هذه المستندات، إلا أن تلك الجهة امتنعت عن كشف المصدر.

والأخطر من ذلك، أن الجهة نفسها أفادت بأن الوثائق التي أُرسلت لا تمثل سوى جزء محدود مما بحوزتها، مدعية امتلاكها لمواد أخرى أكثر حساسية وخطورة، وربطت تسليمها بمقابل مالي، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية تتجاوز هذه القضية بعينها، وتتصل بطبيعة الاختراق وسلامة منظومة حفظ المعلومات، واحتمالات تسريب الوثائق من داخل المؤسسات المعنية أو تداولها خارج الأطر المشروعة.

وعليه، فإن السؤال المركزي الذي يفرض نفسه لا ينحصر في محتوى الوثائق بقدر ما يتصل بالطريقة التي خرجت بها، والجهات التي تمكنت من الوصول إليها، والسياق الذي جرى فيه تداولها، والغايات الكامنة وراء ذلك. فهذه المعطيات تفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة لا يمكن عزلها عن السياق الأوسع الذي تناولته في مقالات سابقة، والمتصل بنمط من السلوك الانتهازي والفساد المنسوب إلى هذا السكرتير السياسي، سلوك يقوم على توظيف المواقع والمعلومات والعلاقات بوصفها أدوات قابلة للبيع أو المقايضة، متى ما خدم ذلك مصلحته الشخصية الضيقة، دون اعتبار للاعتبارات الأخلاقية أو التنظيمية أو الوطنية.

واعتقد المشكلة في جوهرها، لم تعد مشكلة أفراد، بل أزمة بنية كاملة. فحين يتراجع المشروع الفكري، يفتح الفراغ الباب تلقائياً أمام الأجهزة، وأمام "رجال البزة"، وأمام أولئك الذين لا يرون في التنظيم سوى مظلة آمنة للنفوذ والثراء والحماية، وهكذا لم يعد مستغرباً أن يتقدم ضابط أمن إلى موقع السكرتير السياسي، لا بوصفه استثناءً عابراً، بل باعتباره تعبيراً صريحاً عن اختلال الموازين داخل الحركة الشعبية.

لقد تحولت السياسة، داخل هذا السياق، من فعل تحرري جماعي إلى إدارة ملفات، ومن نقاش فكري مفتوح إلى تعليمات مغلقة، ومن مساءلة داخلية إلى تخوين صامت، ومع هذا التحول، لم يعد السكرتير السياسي مطالباً بإنتاج خطاب سياسي أو بلورة رؤية، بل بإدارة شبكة مصالح، وضبط الإيقاع الأمني، وتحييد الأصوات المزعجة التي تذكر بالماضي الثوري للحركة الشعبية.

الأخطر من ذلك أن هذا الانحدار لم يفرض على الحركة من الخارج فقط، بل تم تبريره من الداخل تحت عناوين "الواقعية السياسية، وتعقيدات المرحلة، وضرورات التحالف"، وهي عناوين طالما استخدمتها النخب العسكرية في السودان لتبرير القمع، وتأجيل الديمقراطية، واغتيال الأحلام باسم الاستقرار، وهكذا أعادت الحركة إنتاج اللغة نفسها التي كانت تقاومها، ووقعت في الفخ ذاته الذي ابتلع الأحزاب والتنظيمات قبلها.

وفي هذا المناخ، صار الاختلاف عبئاً، والنقد خطراً، والوفاء للمبادئ تهمة، وتمت إعادة تعريف "الانضباط التنظيمي" ليعني الصمت، لا الالتزام والطاعة، لا القناعة والولاء للأشخاص، لا للفكرة، وهنا بالضبط، يصبح وجود شخصية انتهازية في موقع السكرتير السياسي نتيجة طبيعية، لا حادثاً شاذاً.

إن ما جرى ليس مجرد "انحراف مسار"، بل تفكيك بطيء لمعنى السياسة والثورية ذاتها داخل الحركة الشعبية. فحين تدار التنظيمات الثورية بعقلية أمنية انتهازية، تفقد قدرتها على التجدد، وتتحول إلى هياكل خاوية تعيش على أمجاد الماضي، وتستثمر في الخوف بدل الأمل، وفي الصفقات بدل الرؤية.

وفي هذا السياق، لا يمكن فصل ما يحدث داخل الحركة الشعبية - قيادة عقار عن المشهد السوداني الأوسع، حيث هيمنت البزة على الدولة، وعلى الأحزاب، وعلى الاقتصاد، وحتى على اللغة. فالسكرتير السياسي ليس سوى نسخة مصغرة من نموذج أكبر .. نموذج يرى السودان غنيمة، والتنظيم أداة، والمشروع مجرد غطاء.



نواصل ..