Post: #1
Title: المداخن الصامتة: كيف يغرق الغزو المستورد ما تبقى من أحلام الصناعة السودانية؟ كتبه محمد سنهوري الفكي
Author: محمد سنهوري الفكي الامين
Date: 12-13-2025, 12:04 PM
12:04 PM December, 13 2025 سودانيز اون لاين محمد سنهوري الفكي الامين-UAE مكتبتى رابط مختصر
[email protected]
تقف المداخن الصامتة للمصانع السودانية اليوم شاهدة على معركة وجودية يخوضها قطاع حيوي، كان من المفترض أن يكون قاطرة التنمية والاعتماد على الذات. يجد هذا القطاع نفسه محاصراً بين شقي رحى: الدمار الهيكلي الذي خلفته الصراعات الداخلية، والموجة العارمة من المنتجات المستوردة التي تغرق الأسواق وتجعل من فكرة “المنتج المحلي” مجرد ذكرى بعيدة. إنها ليست مجرد منافسة تجارية عادية، بل هي صراع غير متكافئ يهدد بتصفية ما تبقى من أحلام السودان الصناعية، ويحول الدولة من منتج محتمل إلى سوق استهلاكي ضخم لمنتجات الغير.
لقد وجهت الحرب الأخيرة ضربة قاصمة للنسيج الصناعي الهش أصلاً، حيث تشير التقديرات إلى تضرر نحو 90% من المنشآت الصناعية في ولايتي الخرطوم والجزيرة، أي ما يقارب 6,450 مصنعاً من أصل 6,660، بخسائر مباشرة تُقدر بـ 50 إلى 70 مليار دولار، مما أدى إلى تشريد آلاف العمال المهرة. لكن التحديات لم تبدأ مع صوت الرصاص؛ فالصناعة السودانية كانت تعاني منذ عقود من ضعف هيكلي مزمن. فمن ناحية، هناك أزمة التمويل التي تجعل الحصول على قروض بشروط ميسرة أمراً شبه مستحيل، مما يعيق تحديث الآلات واستيراد المواد الخام الأساسية. ومن ناحية أخرى، يواجه المنتج المحلي ارتفاعاً جنونياً في كلفة التشغيل، مدفوعاً بأزمة الطاقة المزمنة التي تفرض الاعتماد على مولدات باهظة الثمن، وتعدد الرسوم والجبايات المحلية التي تزيد من الأعباء التشغيلية. يضاف إلى ذلك، غياب المراكز الصناعية المتكاملة والبنية التحتية اللوجستية الفعالة، مما يرفع كلفة النقل والتخزين، ويجعل المنتج المحلي يولد مثقلاً بأعباء لا يستطيع تحملها في السوق المفتوحة.
في خضم هذا الوهن الداخلي، يبرز التحدي الأكبر والأكثر فتكاً: الغزو المستورد. فبمجرد توقف عجلة الإنتاج المحلي، فتحت الأسواق على مصراعيها أمام سيل جارف من السلع الأجنبية، التي غالباً ما تصل بأسعار أقل بكثير من تكلفة إنتاج نظيرتها المحلية. هذا التناقض الغريب يرجع إلى عوامل متعددة، أبرزها الدعم الحكومي السخي الذي تتمتع به هذه المنتجات في بلدان المنشأ، أو الاستفادة من وفورات الحجم الهائلة وسلاسل الإمداد العالمية الأكثر كفاءة، أو حتى ممارسات الإغراق التجاري المتعمد. والنتيجة واحدة ومأساوية: يجد المستهلك السوداني نفسه أمام خيار “أرخص” و”أسرع” يلبي حاجته الفورية، بينما يلفظ المصنع المحلي أنفاسه الأخيرة، غير قادر على المنافسة السعرية أو حتى الزمنية.
إن سيطرة المنتجات المستوردة لا تقتصر على السلع الكمالية أو الترفيهية، بل امتدت لتشمل حتى أبسط المنتجات الغذائية الأساسية والأدوات الزراعية، في مفارقة مؤلمة لدولة تملك مقومات أن تكون سلة غذاء العالم. هذا الإغراق يمثل حلقة مفرغة وخطيرة؛ فكلما تراجع الإنتاج المحلي، زاد الاعتماد على الاستيراد، مما يستنزف العملات الصعبة النادرة ويزيد من هشاشة الاقتصاد الوطني أمام تقلبات الأسواق العالمية. كما أن هذا الاعتماد يقتل روح الابتكار والجودة في الصناعة المحلية، حيث لا تجد الشركات حافزاً للاستثمار في التطوير في ظل المنافسة غير العادلة.
إن إنقاذ الصناعة السودانية يتطلب أكثر من مجرد وقف لإطلاق النار؛ إنه يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لتبني استراتيجية وطنية شاملة لإحلال الواردات. يجب أن تبدأ هذه الاستراتيجية بتوفير حماية جمركية مدروسة للمنتج المحلي، لا لرفع الأسعار، بل لتوفير هامش تنافسي عادل. كما يجب العمل على تسهيل التمويل بشروط ميسرة، وتوفير البنية التحتية اللازمة من طاقة مستدامة ومناطق صناعية مجهزة بالكامل. ويجب بشكل عاجل تيسير إجراءات استيراد المواد الخام وقطع الغيار والآلات الجديدة، عبر تخصيص النقد الأجنبي اللازم وإزالة العقبات البيروقراطية، لتمكين المصانع القائمة من استئناف الإنتاج والمصانع المتضررة من إعادة الإعمار. والأهم من ذلك، يجب إعادة بناء الثقة بين المستهلك والمنتج المحلي من خلال آليات صارمة لضمان الجودة والمطابقة للمواصفات. إن دعم الصناعة المحلية ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو ركيزة أساسية للأمن القومي والتعافي الاقتصادي المستدام. فإما أن تنتصر الإرادة الوطنية على الغزو المستورد، وتعود المداخن للدوران، أو أن تظل المداخن الصامتة شاهداً على ضياع فرصة النهوض .
مُرسل من بريد Yahoo لجهاز iPhone
|
|