احتيال المدنية في السودان: بين خطاب النخب وواقع الثورة التأسيسية كتبه خالد كودي

احتيال المدنية في السودان: بين خطاب النخب وواقع الثورة التأسيسية كتبه خالد كودي


12-12-2025, 11:15 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1765581314&rn=0


Post: #1
Title: احتيال المدنية في السودان: بين خطاب النخب وواقع الثورة التأسيسية كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 12-12-2025, 11:15 PM

11:15 PM December, 12 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر




احتيال "المدنية" في السودان: بين خطاب النخب وواقع الثورة التأسيسية

12/12/2025 خالد كودي، بوسطن

مقدمة: حين تتحوّل المدنية إلى قناع
منذ اندلاع الحرب الأخيرة، برز في الخطاب العام السوداني تكرارٌ مُكثَّف لعبارة: "السودان يجب أن يُحكم مدنياً". وقد اكتسبت هذه المقولة طابعاً مسلّماً به، حتى غدت كلمة "مدني" معياراً أخلاقياً في ذاتها، بغضّ النظر عن مضمون البرنامج السياسي أو وجهة المشروع الوطني الذي يحمله هذا "المدني".
لكن الحقيقة التي يكشفها الواقع السوداني اليوم أكثر تعقيداً مما تروّجه هذه الخطابات؛ فليس كل من قدّم نفسه "مدنياً" كان حاملاً لمشروع دولة حديثة و"مدنية"، ولا كل من حمل السلاح كان عقبة أمام المدنية.
إن الأخطر من ذلك هو تحوّل شعار "الحكم المدني" إلى آلية للاحتيال السياسي تمكّنت عبرها نخب الخرطوم—التي ورثت بنية دولة 1956—من إعادة تدوير امتيازاتها، وتسويق ذاتها للعالم بوصفها الطرف الوحيد الذي يستحق أن يقود "الانتقال المدني!"
أما على الضفة الأخرى من المشهد، فتبرز قوى ثورية مسلّحة ضمن تحالف تأسيس لم تحمل السلاح نقيضاً للمدنية، بل دفاعاً عنها منذ البداية. فقد نشأت هذه القوى من مقاومة دولةٍ أغلقت المجال المدني، وصادرت السياسة، واحتكرت السلطة باسم الدين والجيش. ومن هذا الموقع، تتبنى وتطرح اليوم برنامجاً مدنياً متكاملاً يقوم على: دستور تأسيسي، ومبادئ فوق دستورية، وعلمانية صريحة، وديمقراطية واضحة المعالم، ولامركزية فعلية، وعدالة تاريخية، وبناء جيش وطني جديد يعكس التعدد ويخضع للسلطة المدنية.
وهنا تطرح الأسئلة نفسها بحدة:
كيف أصبح المشروع الأكثر مدنية في السودان مطروحاً من قوى حملت وتحمل السلاح؟
وكيف غدت القوى التي لا تطرح علمنة الدولة كشرط للديمقراطية القائمة علي المواطنة، ولا إعادة بناء الجيش، ولا العدالة التاريخية، ولا إعادة توزيع السلطة والثروة، هي القوى التي تسوق ويُعترف بها بوصفها "مدنية"؟
هذه المفارقة ليست عابرة ولا مصادفة؛ بل هي نتاج بنية تاريخية من الخداع السياسي، جرى فيها اختزال "المدنية" في الهوية والشكل، لا في البرنامج والمضمون. وهي بنية تستدعي تفكيكاً نقدياً عميقاً، إذا أُريد للسودان أن يخرج من دائرة إعادة إنتاج أزماته.

أولاً: النخب المدنية… مدنيّة على ورق، ومركزية في الجوهر
تتجذر جذور المشكلة في أن غالبية القوى المدنية التي تقدم نفسها اليوم بوصفها "بديل الحكم العسكري" هي امتدادٌ عضوي لنخب المركز النيلي التي حكمت السودان منذ الاستقلال.
هذه النخب—بحسب دراسات علم الاجتماع السياسي والتحليل الطبقي—تستمد شرعيتها من:
١/ الامتياز التاريخي في التعليم والخدمة المدنية
٢/ الهيمنة الرمزية والثقافية
٣/ القدرة على احتكار الخطاب الوطني في الإعلام والمؤسسات الدولية
لكنها لم تتجاوز يوماً بنية الدولة القديمة، بل كرّستها:
- رفضت العلمانية لأنها تنهي امتيازاتها الرمزية
- رفضت اللامركزية الحقيقية لأنها تهدد سيطرتها على الموارد
- رفضت العدالة التاريخية لأنها تكشف مسؤوليتها البنيوية عن إنتاج التهميش
- رفضت حق تقرير المصير لأنه يحدّ من هيمنة المركز
- وتمسّكت بـ الجيش القديم لأنه جزء من معادلة السلطة التي صنعتها
هكذا أصبحت "المدنية" التي تطرحها هذه القوى مدنية شكلية لا تمس جوهر دولة 1956، بل تعمل على تجميلها وإعادة إنتاجها.

ثانياً: مشروع السودان الجديد… مدنيّة تُعيد بناء الدولة، لا مدنيّة تُجمّل القديم
على الضفة المقابلة للمدنية الخطابية "البايظة" التي تروّجها نخب المركز، يقدّم تحالف تأسيس نموذجاً مختلفاً تماماً:
مشروعاً مدنياً بالمعنى المؤسسي والفلسفي، حتى وإن تضمن جناحاً مسلّحاً.
فالميثاق التأسيسي والدستور الانتقالي لا يعيدان توزيع السلطة فحسب، بل يعيدان تعريف ماهية الدولة ذاتها عبر خمس ركائز تأسيسية:
١/ علمانية صريحة تفصل بين الدين ومؤسسات الدولة، حمايةً للمواطنة لا لحراسة الامتيازات التاريخية
٢/ ديمقراطية تعددية تُبنى على الفرد كمركز للحقوق، لا على محاصصات تُدار من فوق
٣/ لامركزية تنقل السيادة الإدارية والمالية إلى الأقاليم، وتُنهي احتكار المركز لمقدّرات البلاد
٤/ عدالة تاريخية تعترف بالاسترقاق والإبادة والتطهير العرقي والإفقار الممنهج، وتضع إطاراً لمحاسبة وبناء جديد
٥/ جيش وطني جديد يمثل التعدد السوداني ويخضع للسلطة المدنية فوق الدستورية، لا للعقائد العسكرية التي صنعت الخراب.
هكذا المدنية بمعناها الجوهري: مدنية تصنعها المؤسسات والقيم والبنى القانونية، لا مجرد أشخاص يرتدون الثياب المدنية.
لكن ما يتحاشاه الكثيرين عمدا عن التحليل هو أن تحالف تأسيس لا يحمل هذا المشروع عبر القوي المسلّحة وحدها؛
بل عبر كتلة مدنية واسعة وفاعلة تشكّل اليوم إحدى أعمق وأصدق التعبيرات عن المدنيين في السودان:
- أكاديميون، قانونيون، خبراء إدارة، نساء فاعلات بوعي، شباب منخرطون في التنظيم المجتمعي،
- قادة محليون من مناطق الهامش،
- ومنظمات مجتمع مدني نشأت في ظروف الحرب لا في رفاه المركز
هؤلاء ليسوا مدنيي الامتياز، بل مدنيين تكوّنت رؤيتهم من الاحتكاك المباشر مع الدولة المنهارة والدولة الغائبة، ومن خبرة بناء مؤسسات بديلة في مناطق السودان الجديد—تعليم، إدارة، قضاء مجتمعي، خدمات، وحوكمة ذكية.
لماذا يملك تحالف تأسيس برنامجاً مدنياً متقدماً بينما تعجز النخب المدنية التقليدية؟
لأن قوى الهامش، بخلاف نخب المركز، حملت الأسئلة الحقيقية لبناء الدولة:
١/ كيف نؤسس دولة لا تُقصي أحداً؟
٢/ كيف تُعاد السلطة والثروة إلى مجتمعات صودرت حقوقها؟
٣/ كيف تُبنى دولة قانون لا سلطة عسكرية ولا مركزية بيروقراطية؟
٤/ كيف تُستعاد الكرامة لا عبر المعونات بل عبر الحقوق؟
في المقابل، تَشَكَّل خطاب النخب المدنية التقليدية انطلاقاً من سؤالٍ مغاير في جوهره للسؤال التأسيسي للدولة، هو:
كيف يمكن استعادة السلطة دون المساس بالبنية التي أنتجت الامتيازات التاريخية؟
ومن هنا تتبدّى المفارقة بوضوح علمي لا لبس فيه:
القوى التي حملت السلاح ضد دولة الإقصاء تمتلك اليوم برنامج الدولة المدنية الحديثة،
بينما تعجز القوى التي ترفع شعار "المدنية" عن طرح مشروعٍ يتجاوز منطق دولة 1956، أو يلامس جذور الأزمة البنيوية التي قادت إلى الحروب.
وهذه الحقيقة—على وضوحها—لا تعني أن الطريق أمام تحالف تأسيس سيكون سهلاً أو ممهَّداً. فالمهمة المطروحة أمامه مزدوجة ومعقّدة:
من جهة، بناء وطن من الأساس، أي إعادة تأسيس الدولة ومؤسساتها وقيمها على أسس جديدة؛
ومن جهة أخرى، خوض مواجهة فكرية وسياسية واعية مع ما يمكن تسميته بـ"المدنية الزائفة"— القشنك"، مدنية النخب التي تتزيّا بلباس الديمقراطية بينما تعمل فعلياً على حماية بنية الامتياز والتهميش.
هذا الاحتيال السياسي باسم المدنية ليس عارضاً، بل منظومة متكاملة من الخطاب والعلاقات والشرعنة المحلية والإقليمية وفي أحيان كثيرة الدولية، ولن يُفكَّك إلا بعمل مدروس، طويل النفس، وصريح في تسميته للأشياء بأسمائها.
موضعة المدنيين في تحالف تأسيس: من يجب أن يُقدَّم اليوم؟
في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة تعريف من هم "المدنيون" الذين ينبغي تقديمهم في الإعلام، وفي التفاوض، وفي المخاطبة الإقليمية والدولية.
المدنيون الجديرون بالتمثيل اليوم هم:
- المدنيون الذين يؤمنون بمشروع السودان الجديد لا كخطاب تعبوي بل كبرنامج دولة؛
- الذين تبنّوا الدستور التأسيسي والمبادئ فوق الدستورية بوصفها أساس العقد الاجتماعي الجديد؛
- الذين يدافعون بوضوح عن العلمانية الديمقراطية، واللامركزية، والعدالة التاريخية، وماتعنيه؛
- الذين خبروا الحرب واقعاً معاشاً، لا خبراً من شرفات الخرطوم أو قاعات المؤتمرات؛
- والذين يتطلعون إلى دولة الحقوق والمواطنة المتساوية، لا دولة الرعاية والامتيازات الموروثة
هؤلاء لا يمثلون الهامش فحسب، بل يمثلون جوهر مدنية السودان الجديدة:
مدنية لا تخشى المواجهة الفكرية، ولا تختبئ خلف شعارات إصلاحية سطحية،
مدنية ترى في تفكيك الدولة القديمة شرطاً للسلام، لا تهديداً له،
وتدرك أن بناء الوطن ليس إعادة ترتيب للسلطة، بل إعادة تعريف لمعناها من الأساس.

ثالثاً: كيف احتالت النخب المدنية على مفهوم "الحكم المدني"؟
لم يكن اختطاف مفهوم الحكم المدني في السودان حدثاً عفوياً، بل جرى عبر آليات سياسية وخطابية واضحة يمكن تلخيصها في أربع نقاط مترابطة:
١/ اختزال المدنية في الشعار لا في البرنامج:
جرت معاملة "المدنية" بوصفها توصيفاً شكلياً، لا مضموناً سياسياً. كأن يكفي أن تعلن القوى نفسها "مدنية" لتُعدّ ديمقراطية ومؤهلة للحكم، بغضّ النظر عن غياب أي تصور جدي لإعادة بناء الدولة أو تفكيك بنيتها الموروثة.
٢/ توظيف السردية الدولية انتقائياً:
نجحت النخب المدنية في مخاطبة العواصم الغربية بلغة مألوفة، الانتخابات، الانتقال، الإصلاح الدستوري، دون التطرق إلى جذور الأزمة البنيوية: طبيعة الدولة، مركزية السلطة، بنية الجيش، والعدالة التاريخية. وهكذا تحوّل الخطاب الدولي إلى أداة شرعنة لا أداة مساءلة.
٣/ تزييف الصراع في ثنائية "مدني مقابل عسكري":
جرى تبسيط الصراع إلى مواجهة شكلية بين مدنيين وعسكريين، بينما السؤال الحقيقي هو:
هل البرنامج المطروح يؤسس دولة جديدة، أم يعيد إنتاج منظومة الامتياز نفسها بواجهة مدنية؟
بهذا التزييف، أُخفي الفارق الجوهري بين مشروع تأسيسي ومجرد تداول للنخب داخل الدولة القديمة.
٤/ اختزال قوى الهامش في صورة "مجموعات مسلحة":
سُوِّقت قوى الهامش، وخصوصاً تحالف تأسيس، بوصفها فاعلين عسكريين فقط، مع تجاهل متعمّد لوجود كتلة مدنية واسعة داخلها: أكاديميون، نقابيون، خبراء إدارة وتنمية، قوى شبابية، ومؤسسات مدنية قائمة فعلياً في مناطق السودان الجديد. هذا الإقصاء الخطابي حجب حقيقة أن أحد أكثر المشاريع مدنية في السودان يُدار من خارج المركز.
بهذه الآليات، تحوّل مفهوم الحكم المدني من مشروع لإعادة تأسيس الدولة إلى واجهة لغوية تُستخدم لإدامة النظام القديم، لا لتفكيكه.

رابعاً: مسؤولية النخب المدنية في إدامة جذور الحروب:
تُظهر التجارب المقارنة للدول ذات الصراعات الممتدة—من رواندا إلى يوغسلافيا السابقة وإثيوبيا—أن النخب الحاكمة التي ترفض الاعتراف بالطابع التمييزي البنيوي للدولة تتحول، بحكم الواقع، إلى شريك في إنتاج العنف. فالإنكار لا يعني الحياد، بل يُعيد إنتاج الشروط التي تولّد الحرب: اختلال توزيع السلطة، الإقصاء الرمزي، وانسداد أفق العدالة.
تؤكد أدبيات النزاع أن الحروب الأهلية لا تستمر بالسلاح وحده، بل بفشل النخب في إعادة تعريف الدولة بوصفها إطاراً جامعاً. وعندما تتمسك النخب المدنية ببنية الدولة القديمة حتي وهي تعارض العسكر والديكتاتوريات، فانها تسهم في ادامة الصراع بدل تفكيكه.
في السودان، تتجلى هذه المسؤولية البنيوية في أربعة خيارات مركزية:
١/ رفض العلمانية وإدامة الصراع الهوياتي:
لم يكن رفض العلمانية موقفاً ثقافياً محايداً، بل خياراً سياسياً حافظ على تسييس الدين داخل الدولة. وقد حوّل ذلك الانتماء الديني إلى معيار للشرعية السياسية، وأنتج منطق الأغلبية العقائدية في مواجهة الأقليات. علمياً، يؤدي غياب حياد الدولة دينياً إلى تآكل شرعيتها، وتحويل الخلاف السياسي إلى صراع وجودي، وتسويق العنف باسم الدفاع عن الهوية—وهو ما أعاد إنتاج صراعات دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق بوصفها صراعات "هوية" لا حقوق وحسب!
٢/ رفض اللامركزية وترسيخ التهميش والفقر الممنهج:
تمسّكت النخب بالمركزية بدعوى "الوحدة الوطنية"، لكنها عملياً أبقت احتكار السلطة والموارد في المركز. ومن منظور الاقتصاد السياسي، يمنع هذا النمط الأقاليم من التحكم في مواردها، ويعمّق التفاوت التنموي، ويحوّل الدولة إلى جهاز استخراج لصالح المركز. هذا الفقر الممنهج ليس عرضاً جانبياً، بل شرطاً مولِّداً للعنف في ظل انسداد القنوات السياسية.
. ٣/ رفض إعادة بناء الجيش وإبقاء العنف فوق المجتمع:
لم يكن التمسك بالجيش القديم بدافع الواقعية، بل نتيجة تحالف بنيوي بين الدولة المركزية والمؤسسة العسكرية. تشير أدبيات التحول الديمقراطي إلى أن الجيوش المبنية على عقيدة أيديولوجية وولاءات جهوية واحتكار تعريف "الأمن القومي" تتحول إلى فاعل سياسي مستقل، دولة داخل الدولة. وبرفض إعادة بناء الجيش على أسس مهنية، بقيت أدوات العنف فوق المجتمع، ما جعل الانقلابات والحروب نتيجة بنيوية لا استثناء.
. ٤/ رفض العدالة التاريخية وإغلاق أفق المصالحة:
أدى إنكار جرائم الاسترقاق والإبادة والتطهير العرقي والحروب ضد الأقاليم إلى إبقاء الذاكرة الجمعية مفتوحة على الجراح. ومن منظور علم النفس الاجتماعي، فإن المجتمعات التي لا تعترف بماضيها العنيف تعيد إنتاجه، وتفقد الثقة في الدولة، وتحوّل العنف إلى وسيلة للاعتراف. وبرفض العدالة التاريخية، مُنع قيام عقد اجتماعي جديد قائم على الاعتراف وجبر الضرر.
بهذه الخيارات، لم تعد النخب المدنية مجرد شاهد على الأزمة، بل أصبحت جزءاً من آليتها المنتِجة. فهي لم تحافظ على الدولة القديمة فحسب، بل حافظت على الشروط العميقة والبنيوية التي تجعل الحرب خياراً متكرراً.
إن كسر دائرة العنف في السودان لا يتحقق باستبدال العسكر بمدنيين يحملون الرؤية ذاتها، بل بتفكيك البنية الفكرية والسياسية التي حكمت منذ 1956. ودون هذا التفكيك، ستبقى "المدنية" الخالية من المضمون جزءاً من المشكلة، لا من حلّها.

خامساً: المدنيون الحقيقيون في مشروع السودان الجديد — نحو تعريف علمي للمدنية
يقتضي النقاش الجاد حول الحكم المدني في السودان إعادة تعريف مفهومي “المدني” و“المدنية” بعيداً عن الاستخدام النخبوي الشكلي الذي اختزل المفهوم في الانتماء المهني أو في نزع الزي العسكري.
فمن منظور علم السياسة وبناء الدولة، المدني لا يُعرَّف بما ليس هو عليه (أي: ليس عسكرياً)، بل بما يحمله من تصور للدولة والمجتمع والعلاقة بين السلطة والحقوق.
وعليه، فإن المدني—بالمعنى الموضوعي—هو الفاعل السياسي الذي:
- يلتزم بمبدأ حياد الدولة دينياً (العلمانية) بوصفه شرطاً للمواطنة المتساوية؛
- يقبل اللامركزية السياسية والاقتصادية باعتبارها آلية لتفكيك الهيمنة وإعادة توزيع السلطة؛
- يعترف بتاريخ المظالم البنيوية، بما في ذلك الاسترقاق، والإبادة، والتهميش، ويدعم معالجتها عبر العدالة التاريخية؛
- يؤمن بضرورة إعادة بناء المؤسسة العسكرية كجيش وطني مهني خاضع لسلطة مدنية فوق دستورية؛
- ويحمل مشروع دولة حديثة يقوم على الحقوق والمؤسسات، لا على الامتيازات الطبقية أو الجهوية أو الرمزية
وفق هذا التعريف، فإن مشروع السودان الجديد لا يعاني نقصاً في المدنيين، بل يزخر بهم.
ففي قلب هذا المشروع تقف كتلة مدنية واسعة تضم: أساتذة جامعات، خبراء قانون وإدارة، قادة مجتمعات محلية، نساء في مواقع قيادية، شباباً منخرطين في العمل العام، وناشطين مدنيين يشاركون يومياً في بناء مؤسسات الحكم والخدمات في المناطق المحررة.
هؤلاء المدنيون لا يكتفون بالتنظير من قاعات المؤتمرات، بل يمارسون المدنية بوصفها فعلاً مؤسسياً يومياً، ويختبرون عملياً معنى إعادة بناء الدولة من القاعدة.
ومن هذا المنطلق، فإنهم يمثلون القوى المدنية المؤهلة لقيادة الانتقال التأسيسي، لا نخب الصالات التي ورثت خطاب المدنية دون أن تتحمل استحقاقاتها البنيوية.

سادساً: نحو سلام مستدام ودولة جديدة — السودان الجديد
إن تحقيق سلام حقيقي وبناء دولة مؤسسية حديثة يقتضي أن يستند أي دعم دولي أو داخلي إلى معايير موضوعية واضحة، لا إلى توصيفات خطابية أو اصطفافات تقليدية. وفي هذا الإطار، تبرز الأولويات الآتية:
- تقييم القوى السياسية وفق برامجها التأسيسية، لا وفق هويتها المعلنة.
المعيار ليس ادعاء "المدنية"، بل الالتزام الصريح بالعلمانية، وبناء جيش وطني جديد، واللامركزية الفعلية، والعدالة التاريخية، وإعادة توزيع السلطة والثروة.
- دعم الكتلة التاريخية الجديدة لا نخب الامتياز.
أي الانحياز لقوى الهامش، والشباب، والنساء، والنازحين، والقوى المدنية المؤمنة بمشروع السودان الجديد، بوصفها القوى الاجتماعية القادرة على إنتاج دولة مختلفة لا إعادة القديم .
- تفكيك خطاب "المدنية الاحتيالية".
فليس كل من يرفع شعار المدنية ديمقراطياً بالضرورة؛ إذ لا يجوز مساواة اللافتة المدنية بالمضمون الديمقراطي، ولا استبدال مشروع الدولة ببلاغة الخطاب.
اعتماد مشروع السودان الجديد إطاراً لأي مسار تفاوضي.
فلا يمكن بناء دولة قابلة للحياة على دستور 1956 أو على تسويات فوقية، بل على مشروع تأسيسي يعترف بالتعدد، ويؤسس للعدالة والمواطنة المتساوية.

خاتمة: المدنية ليست شعاراً… بل مشروع دولة
إن جوهر الصراع في السودان ليس مواجهة شكلية بين عسكريين وحسب ومدنيين كما يصوّره الخطاب السائد، بل صراع عميق بين مشروعين متناقضين:
- مشروع يسعى إلى تأسيس دولة جديدة عادلة، علمانية، ولا مركزية؛
- ومشروع مدني–عسكري–ديني يعمل على حماية امتيازات الدولة القديمة وإعادة إنتاجها
من هذا المنظور، فإن مشروع السودان الجديد—حتى وإن حمل بعض أطرافه السلاح—هو الأكثر مدنية بمعناها السياسي والمؤسسي، لأنه يستهدف إعادة بناء الدولة لا مجرد إدارة السلطة.
أما "المدنية" التي تتجاهل شروطها البنيوية فليست بديلاً للدولة القديمة، بل امتداداً لها.
إن السودان لا يحتاج إلى مدنيين يحملون امتيازاً، بل إلى مدنيين يحملون مشروع دولة.
ولا يحتاج إلى إصلاح تجميلي، بل إلى ثورة تأسيسية تعيد تعريف السلطة، والحقوق، والمواطنة
بهذا وحده يصبح السلام ممكناً، والدولة قابلة للحياة، والمستقبل حقاً مشتركاً للجميع.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)