Post: #1
Title: الغربة بين الضغوط والأوهام: كيف أضاع السودانيون دروس الحضارة وركبوا قطار القبيلة؟ كتبه الطيب محمد ج
Author: الطيب محمد جاده
Date: 12-12-2025, 10:56 PM
10:56 PM December, 12 2025 سودانيز اون لاين الطيب محمد جاده-السودان مكتبتى رابط مختصر
الطيب محمد جادة
صحفي مستقل
في السنوات الأخيرة، أخذت قضية تدهور العلاقات الزوجية والاجتماعية وسط السودانيين في دول المهجر مساحة متزايدة من النقاش بين الجاليات، بعد أن أصبحت ظاهرة تستحق الوقوف عندها بجدية. فالتحوّل من مجتمع متعدد الروابط التقليدية إلى حالة من الانكفاء تحت راية القبيلة، وانتقال الأزواج من ضغط الوطن إلى ضغوط الغربة، أسهم بصورة واضحة في خلق واقع اجتماعي جديد لا يشبه تلك الصورة المأمولة لمهاجرٍ قصد بلاد الحضارة بحثاً عن فرص أفضل.
أولاً: العلاقات الزوجية… حين تصبح الغربة سيفاً ذا حدّين
الغربة، بطبيعتها، قد تكون فرصة للتقارب بين الأزواج، لأنهما يكونان في مواجهة تحديات مشتركة. لكن في حالات كثيرة، تحولت إلى ساحة صراع بسبب الضغوط الاقتصادية، اختلاف نمط الحياة، غياب الشبكات الأسرية، وتباين التوقعات. كثير من الأزواج الذين كانوا يظنون أن السفر سيجلب لهم الاستقرار وجدوا أنفسهم أمام واقع جديد لم يُحسِبوا له حساباً: وظائف مرهقة، بيئة اجتماعية مختلفة، وشعور داخلي بالاغتراب.
إحدى المشكلات الأساسية تكمن في غياب الحاضنة الاجتماعية التقليدية التي كانت تلعب دور الوسيط والمصلح والمخفف للضغوط. ففي السودان، كان تدخل الأهل والجيران والأصدقاء يشكل خط دفاع أول أمام أي خلاف زوجي، لكن في الغربة يجد الزوجان نفسيهما بلا سند إلا بعضهما. ومع ضغوط العمل ومشكلات اللغة والاندماج، تتفاقم الخلافات الصغيرة لتصبح أزمات قد تقود إلى انفصال أو عنف نفسي وربما مادي.
كما أن تغير الأدوار الاجتماعية يلعب دوراً محورياً. في بيئة الغربة، قد تضطر الزوجة للعمل خارج المنزل، وقد يجد الزوج نفسه في موقع جديد لم يألفه، فتظهر صراعات حول سلطة القرار داخل الأسرة، وحول مفهوم الشراكة الحقيقية. كثيرون لم يستطيعوا التحول من نموذج “المعيل الوحيد” إلى نموذج “الأسرة الشريكة”، فحدثت صدامات كرست الفجوة بدلاً من أن تبني جسور التفاهم.
ثانياً: العلاقات الاجتماعية… حين تنتصر القبيلة على الوطن
الغربة كان من المفترض أن تكون فرصة لإعادة اكتشاف الذات السودانية بهويتها الجامعة، بعيداً عن الانتماءات الضيقة. لكن المفارقة المحزنة أن كثيراً من السودانيين لجأوا إلى القبيلة والانتماء الضيق كدرع حماية نفسية، بدلاً من بناء روابط جديدة أكثر اتساعاً وانفتاحاً.
ظاهرة “الشلليات القبلية” في المهجر أصبحت واضحة في مناسباتنا، وفي تجمعاتنا اليومية، وحتى في مجموعات التواصل الاجتماعي. واللافت أن بعض القبائل التي لم تكن تمتلك حضوراً واضحاً في المشهد الاجتماعي داخل السودان، أصبحت في الخارج تمارس دوراً أكبر مما ينبغي، لأنها باتت المؤوى النفسي الوحيد لبعض الأفراد.
في مجتمع يفترض أنه يتعلم معنى المواطنة الحديثة والتعايش واحترام الاختلاف، نجد أن هذا الانكفاء يعيدنا خطوات إلى الوراء. بدلاً من أن نتطور داخل دولة تحترم القانون وتقدر العمل وتمنح الأفراد فرصاً متساوية، انغمس البعض في إعادة إنتاج صراعات الماضي بلغة جديدة، مع أنهم يعيشون في دول قطعت شوطاً طويلاً نحو بناء مجتمع قائم على الفرد لا القبيلة.
ثالثاً: بين الحضارة والسلوك… أين المشكلة؟
وصف بعض المراقبين هذه الظاهرة بأنها “تراجع حضاري”، لأن شعباً انتقل إلى بيئة متقدمة لكنه لم يستفد منها بالشكل المطلوب. فالحضارة ليست مباني جميلة ولا قطارات سريعة فحسب، بل هي منظومة قيم تقوم على احترام الوقت، الانضباط، المسؤولية الفردية، قبول الآخر، وفصل الخاص عن العام.
المشكلة الأساسية أن البعض تعامل مع الغربة كوسيلة للعيش فقط، لا كفرصة لاكتساب قيم جديدة. لم يتعلم الكثيرون فلسفة العمل الجماعي، ولا احترام القوانين، ولا أهمية التخطيط للمستقبل. وبدلاً من أن يكونوا سفراء لوطن متنوع وغني، حملوا معهم كل جراح الماضي وخلافاته، ثم أعادوا إنتاجها في بيئة لا علاقة لها بها.
إن المقارنة بين ما كان يجب أن يكون وما هو واقع الآن مؤلمة، فبدلاً من أن نشهد مجتمعاً سودانياً متطوراً في المهجر، نرى في بعض الأحيان سلوكيات أقرب إلى “العصر الحجري” من حيث الانغلاق، التعصب، ورفض النقد.
رابعاً: ما العمل؟
مع ذلك، لا يعني هذا أن الصورة قاتمة بالكامل. فهناك نماذج مشرقة لسودانيين بنوا أسرًا ناجحة، ونجحوا في الاندماج، وأسهموا في مجتمعاتهم الجديدة بفاعلية وتميز. وهناك مبادرات شبابية تعمل على تعزيز الروابط الوطنية بعيداً عن القبلية.
ولتحسين الوضع، لا بد من خطوات واضحة:
1. التوعية الأسرية: عبر منصات الجاليات ومراكز الاستشارة للحد من تراكم الخلافات.
2. إحياء الهوية الوطنية الجامعة: من خلال الأنشطة الثقافية والفعاليات المشتركة.
3. تعليم وسائل إدارة الخلافات: لأن المشكلة ليست في الخلاف نفسه بل في طريقة التعامل معه.
4. الاستفادة من قيم المجتمعات المتقدمة: مثل احترام القانون، العمل بروح الفريق، وقبول الآخر.
في النهاية، الغربة ليست قدراً قاتماً ولا مفتاحاً سحرياً للنجاح. هي اختبار حقيقي لقوة الإنسان وقدرته على التكيف والتطور. ومن المؤسف أن نخرج إلى العالم ولا نحمل معنا إلا أسوأ ما فينا، بينما الفرصة ما زالت متاحة لنصبح أفضل وأكثر نضجاً. الفريق الحقيقي هو الذي يتعلم من الحضارة لا الذي يعيش على هامشها.
|
|