Post: #1
Title: الأفندي والمعاشي في الخرطوم… دولة بلا موظفين ومؤسسات بلا ذاكرة
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 12-09-2025, 12:43 PM
12:43 PM December, 09 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
في تاريخ السودان الحديث، لم يكن الموظف الحكومي مجرد عامل في مؤسسة عامة، بل كان هو صورة الدولة نفسها. نشأت الحداثة السودانية على كتف هذا الرجل، وعلى كتف هذه المرأة، اللذين حملا الملفات وسهرا على الدفاتر، وبنوا بالقلم ما لم تستطع الحكومات المتعاقبة أن تبنيه بالقوة. الأفندي كان رمز العهد الإداري الذي قامت عليه المدرسة، والمستشفى، والقضاء، والخدمات، والنظام. كان هو "الدولة المرئية" وسط شعب يتعامل مع السلطة عبر الموظف أكثر مما يتعامل معها عبر السياسي الحرب تفكيك صورة الدولة من جذورها حين أعلن مدير ديوان شؤون الخدمة بولاية الخرطوم، عمر خلف الله، أن عدد العاملين بالولاية يبلغ 70,801 موظفاً، كانت الأرقام اللاحقة هي التي كشفت حجم الكارثة 10,022 موظفاً في "إجازة بدون راتب"، و17,670 نازحاً، و3,141 متوفياً هذه ليست أرقاماً إدارية فحسب، بل هي شهادة تفكك لصورة الدولة نفسها الحرب نسفت هذه الصورة من جذورها. غاب الموظف عن مكتبه، وغاب المكتب نفسه أحياناً من كان يأتي في السابعة صباحاً بالبدلة المكوية والحقيبة الجلدية، صار يحمل أوراقه داخل كيس بلاستيكي ويبحث عن اتصال هاتفي ليجري عملاً حكومياً من مدينة نزح إليها أو من دولة لجأ إليها. ومن كان يدوّن سجلات التعليم والصحة أصبح مشغولاً بتسجيل موقع جديد للنزوح أو البحث عن مصدر دخل مؤقت المعاشيون- الذاكرة الحية التي تُنسى وإذا كان الموظف النشط يعاني اليوم من غياب الراتب والأمان الوظيفي، فإن المعاشي يعيش مأساة مضاعفة هؤلاء الذين صنعوا مؤسسات الدولة بأيديهم، يُتركون في مواجهة المرض وغلاء المعيشة ورواتب معاشية لم تصلهم منذ سنوات كانوا يمثلون ذاكرة الدولة الحديثة، وحلقة انتقال المعرفة فيها، واليوم أصبحوا مجرد ملفات تنتظر أن يفتحها موظف جديد لا يعرف حتى وجوه من سبقوه هذه الأرقام معاً - غياب الموظف النشط ونسيان المعاشي - ترسم صورة دولة تفقد حاضرها وماضيها في آن واحد ولاية الخرطوم التي كانت تعج بموظفين يمسكون تفاصيل الخدمات اليومية، تجد نفسها اليوم أمام فراغ إداري بينما ذاكرتها المؤسسية (المعاشيون) تعيش على هامش الاهتمام الدولة بلا أساس عندما ينهار العمود الفقري الدولة الحديثة لا تُقاس بالميزانيات ولا بإعلانات الوزراء، بل بنوعية موظفيها واستمرارهم وقدرتهم على أداء أعمالهم بكفاءة وأمان. حين ينهار هذا الجسم، ينهار كل ما فوقه الحرب لم تُسقط المباني وحدها، بل أسقطت الفكرة التي قامت عليها الدولة السودانية: أن الموظف هو ضمانة الاستمرارية، وأن الخدمة المدنية هي الرافعة الأساسية للحداثة
الأفندي الجديد يدير ما تبقى من "عمل حكومي" عبر الموبايل، والمعاشي ينتظر حقوقه المؤجلة منذ ثلاث سنوات. هذا هو المشهد السوريالي لدولة فقدت قدرتها على حماية خدامها، سواء كانوا في الخدمة أو بعد التقاعد الخرطوم من مدينة الأوراق المختومة إلى مدينة الغياب غياب الموظفين عن العمل ليس غياب أفراد، بل غياب الدولة نفسها. وانهيار حقوق المعاشيين ليس مجرد قصور إداري، بل هو جرح في ذاكرة السودان الحديثة، التي صنعتها أجيال من العاملين الذين حافظوا على بقاء المؤسسات حين كان السياسيون يتغيرون عاماً بعد عام اليوم، أصبحت الخرطوم التي عُرفت بالأوراق المختومة والتوقيعات الرسمية مدينة بلا موظفين، وبلا ذاكرة مؤسسية، وبلا ضمانات لعودة الجهاز الإداري كما كان. ويمكن إعادة بناء الجسور والمباني في زمن قياسي لكن إعادة بناء ثقة الموظف في دولته، وإعادة بناء احترام الدولة لمن خدموها، هي المهمة الأصعب والأطول والأكثر خطورة شرط البقاء إنقاذ ما تبقى من الخدمة المدنية ليس ترفاً ولا خياراً مؤجلاً. إنه شرط بقاء السودان نفسه. فالدولة التي تفقد موظفيها تفقد قدرتها على الحكم، وحين تفقد ذاكرتها (معاشييها) تفقد مستقبلها. والوفاء للعاملين والمعاشيين ليس مجرد خطوة إجرائية بل هو اعتراف بأن الدولة الحديثة تُبنى بالبشر… وتنهار حين يُهمَل هؤلاء البشر ربما سيأتي يوم تعود فيه الدولة كدولة، ويعود معها الأفندي، ويعود الاعتبار للمعاشي. لكن هذا اليوم لن يكون قريباً ما دامت الدولة تعجز عن رؤية أن إنقاذها يبدأ بإنقاذ من يمثلونها، حاضراً وماضياً. .
|
|