السودان… عندما يصبح أخذ الحق باليد بديلاً عن الدولة كتبه الطيب محمد جادة

السودان… عندما يصبح أخذ الحق باليد بديلاً عن الدولة كتبه الطيب محمد جادة


12-09-2025, 11:04 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1765278255&rn=0


Post: #1
Title: السودان… عندما يصبح أخذ الحق باليد بديلاً عن الدولة كتبه الطيب محمد جادة
Author: الطيب محمد جاده
Date: 12-09-2025, 11:04 AM

11:04 AM December, 09 2025

سودانيز اون لاين
الطيب محمد جاده-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





صحفي مستقل
في خضمّ الفوضى التي يمرّ بها السودان منذ اندلاع الحرب الأخيرة، برز مشهد خطير يتجاوز صدى الرصاص ودخان المعارك، ويتمثل في تحوّل كيانات المجتمع – قبائل، مجموعات محلية، جماعات مسلّحة – إلى مرجعيات بديلة عن الدولة. هذه الظاهرة ليست مجرد نتيجة عابرة للحرب، بل هي انعطافة بنيوية تهدد ما تبقى من الرابط الوطني، وتفتح الباب واسعًا أمام انهيار منظومة القانون، وتفكك الدولة إلى جزر نفوذ منفصلة.
لقد أصبح "أخذ الحق باليد" سلوكًا يوميًا في مناطق كثيرة. ومع تراجع مؤسسات الدولة، بات الشخص أو المجموعة التي تمتلك السلاح والقوة هي صاحبة الكلمة العليا. في هذا الواقع، لم تعد حقوق الأفراد تُنتزع عبر مؤسسة قضائية أو شرطة أو نيابة، بل عبر دروب الانتقام والثأر والقوة المجرّدة. وهنا تكمن الخطورة الأكبر: حين يتطبع المجتمع مع غياب القانون، يصبح الخروج من دائرة العنف مهمة مضنية.
عندما تعلو القبيلة على الدولة
لطالما كانت القبيلة في السودان جزءًا من النسيج الاجتماعي، ومصدرًا للهوية والدعم. لكن عندما تضعف الدولة، تتحول القبيلة من إطار اجتماعي إلى سلطة سياسية وأمنية موازية للدولة، تغطي فراغها أو تتجاوزها. وما نراه اليوم في العديد من الولايات هو أشبه بعودة الثقافة التقليدية للتحالفات القبلية كبديل للسلطة الرسمية، وهو وضع يعيد إنتاج منظومة ما قبل الدولة الحديثة.
وما يُعزّز هذا التحوّل هو غياب آليات العدالة الرسمية. في حالات كثيرة، يدخل الناس في نزاعات حول الأراضي أو الموارد أو الانتقام، فلا يجدون مؤسسة يمكن اللجوء إليها، فينحاز كل طرف لقبيلته، وتتحوّل المشكلة الصغيرة إلى صراع واسع. هذه ليست ظاهرة جديدة كليًا، لكنها اليوم أصبحت أكثر حدة واتساعًا بفعل هشاشة الوضع الأمني وانتشار السلاح بكثافة غير مسبوقة.
القوي يأكل الضعيف… قاعدة غير مكتوبة ولكنها سائدة
في بيئة يغيب فيها القانون، لا يبقى سوى قانون القوة. ومع الانهيار المؤسسي، أصبح من يملك السلاح والمال والنفوذ قادرًا على فرض إرادته على الأفراد والمجتمعات الأضعف. هذا التحول يعكس تآكل العقد الاجتماعي الذي يفترض أن الدولة فيه هي الضامن الأساسي للحقوق.
لقد أدّت الحرب إلى زعزعة كل البنى التي كانت تضبط العلاقات بين الناس: الشرطة لم تعد فاعلة، القضاء مشلول في مناطق واسعة، المؤسسات الإدارية تعمل بقدرات منهارة، والاقتصاد بدوره بات أسير المجموعات المسلحة ومراكز القوى. هذه التركيبة تنتج مجتمعًا يعيش على حافة الخوف الدائم، لا يثق في أي جهة، ويعتمد على نفسه وحده.
العنصرية والكراهية… وقود إضافي يزيد النار اشتعالًا
في ظل غياب الدولة، تتكاثر الخطابات المتطرفة كالفطر السام: خطاب الكراهية، العنصرية، التعبئة القبلية، التجييش الرقمي، والاتهامات المتبادلة. ومع توسع منصات التواصل الاجتماعي، تحولت هذه الخطابات إلى وقود يُغذّي العنف على الأرض.
حين تتحول وسائل التواصل إلى ساحات صراع، يصبح الفرد جزءًا من معركة نفسية لا تقل تأثيرًا عن المعركة العسكرية. خطاب الكراهية يخلق صورة “العدو” ويبرر العنف ضده، ويجعل تجاوز خطوط التعايش مسألة وقت فقط. وما يزيد الوضع تعقيدًا هو غياب أي رقابة فعلية أو تدخل مؤسساتي يوقف هذا الانحدار.
إلى أين نحن ذاهبون؟
السؤال الذي يطرحه السودانيون اليوم بقلق حقيقي: إلى أين نمضي؟
فالمشهد الراهن لا يشير إلى نهاية وشيكة للأزمة، بل إلى تعقيد أكبر إن لم يتم التدخل بحلول واقعية. أي دولة تتعرض لحرب تفقد جزءًا من مؤسساتها، لكن أن تتحول مكونات المجتمع إلى بدائل للسلطة الرسمية فهذا يشير إلى أزمة أعمق: أزمة ثقة، وأزمة إدارة، وأزمة هوية وطنية مشتركة.
الطريق الذي يسير عليه السودان الآن خطير، ليس فقط بسبب الحرب، بل بسبب التفكك الاجتماعي والسياسي الذي يرافقها. الحرب يمكن أن تتوقف باتفاق سياسي، لكن إعادة بناء الثقة وإحياء مؤسسات الدولة يحتاجان لسنوات من العمل المنظم.
ما الذي يجب فعله؟
هناك خطوات أساسية يمكن البناء عليها:
1. إحياء مؤسسات العدالة والأمن تدريجيًا، ولو في نطاقات محددة، لأن وجود سلطة قانونية حتى لو كانت محدودة أفضل من فراغ كامل.
2. إشراك القيادات المجتمعية والقبلية في مسارات المصالحة ولكن تحت مظلة الدولة، وليس كبديل عنها، لضمان عدم تحول المصالحات إلى اتفاقات محاصصة.
3. مكافحة خطاب الكراهية والعنصرية عبر برامج إعلامية ومجتمعية، والضغط على المنصات الرقمية لتطبيق سياسات أكثر صرامة تجاه التحريض.
4. تعزيز المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية لأن الحرمان يولّد الصراع، وكلما توفر الحد الأدنى من الاستقرار تقل فرص الاحتقان.
5. وضع رؤية سياسية واضحة تعطي السودانيين أملًا وتحدد كيف ستتم إعادة بناء الدولة، فغياب الرؤية يفتح الباب لتمدّد الفوضى.
ما يعيشه السودان اليوم ليس مجرد حرب بين طرفين، بل لحظة تاريخية اختبارية قد تحدد شكل الدولة لسنوات طويلة. فإذا استمر الوضع الحالي، حيث تعلو القبيلة على الدولة، ويسود قانون القوة على قانون العدالة، وتنتشر الكراهية بلا رادع، فإن المجتمع نفسه هو من سيدفع الثمن الأكبر.
غير أن التاريخ يثبت أن الشعوب القادرة على مواجهة أخطائها والاعتراف بجذور أزماتها هي وحدها التي تجد الطريق نحو الخروج من النفق. السودان يمتلك رصيدًا من التنوع الثقافي والاجتماعي، ومن التجارب السياسية، يمكنه أن يكون قاعدة لإعادة البناء. لكن البداية الحقيقية تكون بالاعتراف أن هذا الوضع لا يمكن أن يستقيم، وأن الاستمرار فيه ليس خيارًا.