بين سرديات الرعب وحقائق الدولة المنهارة: قراءة في خطاب محمد جلال هاشم حول الإمبريالية كتبه خالد كود

بين سرديات الرعب وحقائق الدولة المنهارة: قراءة في خطاب محمد جلال هاشم حول الإمبريالية كتبه خالد كود


12-09-2025, 03:16 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1765250179&rn=0


Post: #1
Title: بين سرديات الرعب وحقائق الدولة المنهارة: قراءة في خطاب محمد جلال هاشم حول الإمبريالية كتبه خالد كود
Author: خالد كودي
Date: 12-09-2025, 03:16 AM

03:16 AM December, 08 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر





8/11/2025 ، بوسطن

A و B بين الخطة
و"سرديات الرعب": تفكيك خطاب د. محمد جلال هاشم حول الدور الإمبريالي لناثانيل ريموند
او بين أورويل وفنغت ورؤية السودان الجديد:

مقدمة: حين تتحوّل مناهضة الإمبريالية إلى تشويشٍ معرفي:
قبل الدخول في نقد خطاب د. محمد جلال، تجدر الإشارة إلى أنّ ما وثّقه ناثانيل ريموند وفريق جامعة ييل عبر صور الأقمار الصناعية ليس "أوهام مختبرات"، بل مادة تستقرّ حقيقتها حين تقف لجانُ تحقيقٍ دولية مستقلة على الأرض، فتمتحن الوقائع والادلة المادية ماديا، وتستمع للضحايا، ومن ثم يعاد لكل ذي حقٍّ حقَّه. فجرائم الإبادة لا يسقطها تقادم ولا يُعدمها الإنكار. غير أنّ هذا الملفّ له ساحات أخرى لمعالجته. أمّا هنا، فمحلّ النظر هو مقال استاذنا د. محمد جلال هاشم نفسه.
يقدّم د. محمد جلال في مقاله نموذجاً دقيقاً لما يُسميه فنغت: "التراجيديا التي ترتدي قناع الملهاة وهي لا تدري"
فالدكتور يظنّ أنه يفضح الإمبريالية، لكنه -على نحوٍ أورويلي خالص - ينتهي إلى إعادة إنتاج السرديات ذاتها التي استخدمتها الدولة المركزية لعقود لإخفاء مسؤوليتها البنيوية عن إنتاج الحرب، وذلك بتحويل الصراع من مأساة داخلية ممتدة إلى أسطورة كونية عنوانها:
"الغرب ضد الشعب السوداني بقيادة الدولة الوطنية."

هذه المفارقة ليست جديدة؛ فهي تمثّل النسخة المحلية من "سرديات الرعب" التي تلجأ إليها الأنظمة عندما تفقد السيطرة:
- سردية المؤامرة الكونية،
A- ثم الخطة
Bـ تليها الخطة
- وأخيراً استدعاء أسطورة "الشعب الطاهر" لحماية ما يُسمّى بـ"الدولة الوطنية" — وهي دولة لم تكن قومية ولا وطنية في أي لحظة، إلا في الخطاب الذي صاغته الخرطوم القديمة.

أولاً: إسقاطات رواية "مزرعة الحيوانات": او حين تُمنَح الخراف وجوهاً جديدة!
يشبّه د. محمد جلال جمهور ندوة هارفارد بـ "خراف أورويل".
لكنّ المفارقة، كما يسخر أورويل نفسه، أن الخراف في Animal Farmروايته
لم تكن رمزاً للغرب، او مايمثل او يعني، بل صورة للوعي الجماعي الذي تشكّله السلطة المحلية عبر التكرار والشعارات والإنكار - تماماً كما فعلت الدولة السودانية المركزية منذ 1956
وهنا ليس المقصود "القطيع" كشتيمة، بل كتحليل سوسيولوجي واضح:
القطيع هو ذلك الجمهور السوداني الذي أُقنع بأنّ الدولة المركزية تمثّله، وأنّ الأطراف مجرد "أقاليم" في مكان اخر، وأنّ الجيش فوق النقد، وأنّ السودان موحّدٌ بطبيعته، وأنّ المركز هو من يمنح الآخرين معنى.
إنّ هذا القطيع - المصنوع محلياً- يادكتور - هو الذي صَدَّق لعقود أنّ:
- الهامش "مشكلة أمنية."
ـ التعدد الإثني "خطر وجودي."
- العلمانية "استعمار فكري."
- وأنّ حماية "الدولة" أهم من حماية الإنسان.
هذا هو الوعي القطيعي الذي أنتجته السلطة المركزية، لا الغرب.
ومن هنا يصبح سؤال السودان الجديد حتمياً:
- من الذي صنع الخراف في المزرعة السودانية؟
- من الذي صاغ وعياً يرى جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور مجرد أطراف - ومكانا اخر؟
- من الذي أنكر الإبادة حين حدثت، ثم بكى "سيادة الوطن" حين اهتزّت الخرطوم؟
- من الذي موّه الحقائق وزيّف التاريخ وأعاد إنتاج الاستعلاء العرقي جيلاً بعد جيل؟
إنّ إسقاط "الخراف" على جمهور هارفارد يُضحك، نعم، لكنه يفضح أيضاً محاولة نقل المسؤولية إلى الخارج ياصاح!
فالحرب الحالية ليست نتاج مؤامرة فوق - كونية كما يروّج د. محمد جلال هاشم، بل هي حصيلة قرنٍ كامل من تفكيك السودان من الداخل على يد الدولة نفسها- وعلي يد نخبه نفسهم- قبل أن يلمسها الخارج، ولا شنو!؟
ولذلك فإنّ وصفه للحرب بأنها "مؤامرة إمبريالية لتصفية الدولة السودانية" ليس تحليلاً جدلياً ولا موضوعيا، بل بطولة خطابية زائفة تخدم الغرض ذاته الذي أراد نقده:
تبرئة الدولة المركزية القديمة من مسؤوليتها التاريخية عن الانهيار، وإعادة توزيع اللوم على الآخرين... انظر الي ورقك يادكتور!

ثانياً: منطق المؤامرة… والتفكيك الجدلي لخللٍ معرفي بنيوي:
يبني د. محمد جلال أطروحته في المقال على فرضية مفادها أنّ الإمبريالية الغربية التزمت صمتاً مقصوداً ثلاث سنوات، ثم خرجت دفعة واحدة بحملة إعلامية منسّقة تهدف - بحسب زعمه - إلى إفقاد السودانيين الأمل وتدمير إرادة شعب كامل.
هذه الحكاية، برغم جاذبيتها الدرامية، تنتمي إلى مخيلة السيناريوهات السياسية المثيرة أكثر من انتمائها للتحليل العلمي المرتكز على الوقائع.
أ‌- "الصمت" ليس مؤامرة… بل دليل على غياب الرواية الوطنية منذ 1956
ما يسميه د. محمد جلال بـ"الصمت الغربي" ليس سوى النتيجة الطبيعية لغياب خطاب وطني ناضج يستطيع تقديم تعريفٍ واضح لما يجري في السودان.
والواقع أن النخب السودانية نفسها - منذ خروج المستعمر - عجزت عن بناء سردية وطنية موحّدة لدولة حديثة. وقد كان المشهد الداخلي يعجّ بـ:
- خطاب نخبوي يرفض الاعتراف بالإبادات في الجنوب سابقاً، وفي جبال النوبة ودارفور لاحقاً.
- دولة تستخدم الميليشيات كأداة لإدارة السلطة وضبط المجال.
- إصرار رسمي على توصيف الحروب بأنها "تمرد"، واعتبار المطالب السياسية "فوضى"، لتجنّب مواجهة الحقيقة المرة: الدولة فاشلة بنيوياً يالدكتور ومن مهدها.
بهذا المعنى، "الصمت الغربي" لم يكن قراراً مركزياً مدبّراً، بل انعكاساً لصمت داخلي ممتد، ولتواطؤ بنية الدولة مع إنكار حقائقها!
ب‌- التقارير الصامتة ليست مؤامرة… بل شهادة على غياب مخاطب وطني قادر وذي مصداقية.
فما يصفه د. محمد جلال بـ"تواطؤ التقارير المستترة" لا يدل على مؤامرة، بل على غياب مخاطِب وطني موحد يمكن للمؤسسات الدولية التعامل معه. فالساحة السودانية قدّمت صورة انفجارية:
- منظمة تُنكر،
- وأخرى تُضخّم،
- حزب يبرّر،
- حركة تساوم،
- نخبٌ تصمت،
- وحكومات مجرّبة في القتل على رؤوس الأشهاد!
كيف يفهم العالم أزمة لا يتفق أصحابها على تعريفها؟
إنّ غياب الصوت الوطني الموثوق هو ما جعل "التقارير الصامتة" تُؤرشف دون أثر - لا لأنها مؤامرة، بل لأنها وصلت إلى مجتمع دولي لا يرى أمامه طرفاً وطنياً يستحق أن يسمع.
ت‌- المصالح الغربية موجودة… ولكن تحويلها إلى "خطة كونية" تهربٌ من المسؤولية الداخلية - فالتنظر يادكتور الي الدول التي نالت استقلالها مع السودان اين هي الان!

ونعم، الإمبريالية الغربية ليست قوة ملائكية، ومصالحها لا تُخفي نفسها؛ فهي تعمل - بمفهومها النيوليبرالي الحديث - بوصفها شبكة نفوذ دولية تعيد تنظيم الاقتصادات الضعيفة، وتعيد تشكيل الدول الهشّة بما يخدم منطق السوق الحرّ، وسلاسل التوريد، وأمن الطاقة، وحركة رؤوس الأموال... الخ... الإمبريالية النيوليبرالية اليوم ليست جيوشاً على الأرض فحسب، بل علاقات مالية، ومؤسسات بحثية، ووكالات مساعدات، وشركات تكنولوجيا، ودبلوماسية متحركة تتسلل عبر شقوق الدول التي لم تُنجز واجبها المدرسي في بناء دولة وطنية حديثة...
لكنّ تحويل هذه المصالح المعقّدة إلى "خطة كونية" هو تبسيط مخلّ، بل هروبٌ من مواجهة مسؤولية نخبة ما بعد الاستقلال التي فشلت في:
- بناء عقد اجتماعي،
- صياغة دولة مواطنة،
- معالجة التعدد الثقافي،
- تأسيس نظام سياسي ديمقراطي،
- وتأمين مؤسسات محاسبة ورقابة
إنّ عجز هذه النخب عن أداء دورها التاريخي هو ما فتح الباب واسعاً أمام الإمبريالية النيوليبرالية لتتسلل إلى المجال السوداني، ليس لأن القوى الخارجية خارقة القدرة، بل لأن الداخل ترك فراغاً هائلاً لا بد أن يملأه أحد وهنا يتجلّى الفرق الجوهري بين:
- التحليل العلمي الجادّ الذي تقدّمه دراسات الإمبريالية النيوليبرالية، بوصفها منظومة تُعيد إنتاج السيطرة عبر الاقتصاد والتمويل والمعرفة،
- وبين خطاب المؤامرة الشعبوي الذي يختزل الواقع في حكاية جاهزة لا تفسّر شيئاً بل تخدّر الوعي، وتُبرّئ المسؤولين الحقيقيين عن الخراب البنيوي الذي جعل البلاد مكشوفة وقابلة للاختراق!

ثالثاً: الإمارات، الإمبريالية… وخرافة النفوذ المطلق:
يقدّم د. محمد جلال سخرية لاذعة من فكرة أن الإمارات تؤثر في القرار الأمريكي، وكأننا أمام مشهد كوميدي يطيح بالمنطق.
لكن المفارقة أنّ سخريته تخفي حقيقة أصبحت اليوم جزءاً من الأدبيات الجيو- سياسية في سودان البلابسة
الإمارات ليست قوة فوق–غربية، لكنها أداة مركزية ضمن منظومة الوكالة الإقليمية.
الناظر بعمق - بعيداً عن هشاشة خطاب المؤامرة - يعرف أنّ:
- الإمارات جزء من شبكة تحالفات جيو–اقتصادية معقدة.
- والغرب يوظّف الخليج في ملفات الطاقة والأمن والموانئ والهجرة والعمليات اللوجستية... الخ..
- وحروب الوكالة أصبحت إحدى السمات البنيوية للإمبريالية النيوليبرالية
إذن فالمسألة ليست "نفوذاً مطلقاً"، بل تقاطع مصالح تُستخدم فيه الأنظمة الريعية كأذرع تنفيذيّة في مناطق النزاع.

رابعاً: خطاب "الدولة الوطنية المقدّسة"… وسوسيولوجيا الوهم:
أبرز ما يكشف ارتباك مقال د. محمد جلال هو دفاعه المستميت عن "الدولة الوطنية" بوصفها ضحية التآمر الخارجي.
لكنّ هذا التصوّر يتناقض جذرياً مع كل ما قدّمته العلوم السياسية والسوسيولوجيا عن السودان:
. ١/ السودان لم يكن دولة وطنية قط… بل دولة استعمار داخلي
منذ 1956 ترسّخت دولةٌ مركزية تستولي على السلطة والثروة، وتعيد إنتاج الهيمنة على:
- الجبال،
- الهضاب،
- السهول،
- الشعوب،
- واللغات
أي أننا أمام دولةٍ تُشبه "مزرعة الحيوانات" من حيث توزيع الامتيازات، لا أمام دولة قومية حديثة
. ٢/ الحرب لم تأتِ من الخارج… بل هي انفجار قرنٍ من التهميش البنيوي
الحرب الحالية ليست حدثاً مفاجئاً، بل نتيجة حتمية لبنية تأسست على:
١/ الاستعلاء العرقي،
٢/ الإقصاء الثقافي،
٣/ المركزية الإدارية،
٤/ رفض العلمانية،
٥/ وإنكار حق تقرير المصير
. ٣/ السودان الجديد لا ينقذ دولة قديمة… بل يؤسس دولة جديدة
" B ما تطرحه الحركة الشعبية وحلفاؤها ليس "خطة
غربية، بل مشروع تحرر وطني يسعى إلى:
١/ دولة علمانية،
٢/ ديمقراطية،
٣/ لا مركزية،
٤/ تساوي بين المواطنين عبر مبادي فوق – دستورية مبذولة.

خامساً: الحركة الشعبية… والرد على أوهام "الإسقاط الإمبريالي"
لم يكن غريباً أن يضع د. محمد جلال هاشم الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال في قلب ما يسمّيه "الخطة الإمبريالية"، وأن يصوّرها - في مفارقة لا تخلو من طرافة مرّة - بوصفها رأس حربة لتفتيت السودان. هذا الاتهام، الذي تردّده أصوات من اليمين القومي المتحجّر كما من اليسار العاطفي المأزوم والمهزوم، ليس تحليلاً، بل إعادة تدويرٍ لرواية المركز القديمة التي تُحمِّل الخارج وزر ما صنعته الدولة نفسها،
واللافت أنّ ما يجمع هؤلاء جميعاً - على اختلاف لافتاتهم - هو شيء واحد:
الخوف من المشروع الذي تطرحه الحركة الشعبية، لا من الحركة بحد ذاتها.
فالمشكلة ليست في الحركة، بل في ما تُصرّ عليه الحركة: علمانية، مساواة، إعادة تأسيس، عدالة تاريخية، جيش جديد، وحق تقرير مصير- وهي جميعها خطوط حمراء بالنسبة لمن استمرأوا امتيازات الدولة القديمة.
اتهام الحركة الشعبية بالإمبريالية إذن ليس قراءة سياسية، بل صرخة دفاعية من نخبة تعرف أن مشروع السودان الجديد يعلن نهاية دورها التاريخي.
والحقيقة التي يحاول خصوم الحركة - يميناً ويساراً، ووسطا الهروب منها هي أن الحركة الشعبية ليست ذراعاً للخارج ولا وسيطاً لأجندات سرية؛ بل هي الامتداد الأكثر اتساقاً وتاريخاً للمقاومة ضد الاستعمار الداخلي الذي صنع الخراب:
- من نمولي إلى تلودي،
- من كاودا إلى الدمازين،
- ومن جبال النوبة إلى النيل الأزرق، علي وجه التحديد!
إنها حركة نشأت من قلب الأحزمة المنسية، لا من صالونات الخرطوم؛ من معسكرات النزوح، لا من مكاتب النخبة؛ من حطب الأسر، لا من مكاتب المانحين.
ولذلك تستند الحركة الشعبية في تحليلها للصراع إلى ثلاث حقائق لا يملك خصومها إلا تجاهلها:
- الدولة السودانية فشلت بنيوياً - ولم يعد تجميلها ولا ترقيعها ممكناً.
- المركز هو منتِج الحروب، ومعامل القهر، وصانع الإقصاء ليس الغرب ولا "الخطة" التي يتخيلها أصحاب الخطابات الانفعالية بيمينهم ويسارهم.
- الحل يبدأ بإعادة التأسيس - لا بحراسة الأطلال التي يتباكى عليها د. محمد جلال وغيره، ولا بالدفاع عن دولة ماتت وشبعت موتاً.
إن الحركة الشعبية ليست خصماً للنخب لأنها "عميلة للخارج"- كما يروّجون - بل لأنها تكشف الحقيقة التي يخشونها: أن السودان القديم انتهى، وأن من يريد البقاء في التاريخ عليه أن يقبل بالتأسيس الجديد، أو يتوارى.

سادساً: البطل في رواية د. محمد جلال… دولة بلا شعب:
في سرديته، يقدّم د. محمد جلال "الشعب السوداني" لا كجماعة بشرية متعددة التجارب والهويات، بل كقناعٍ لغوي تضعه الدولة المركزية لتبدو - وفق الخيال الأورويلي - كأنها "الشعب نفسه". وكما فعلت خنازير رواية مزرعة الحيوانات حين قالت: "نحن الخنازير نمثل المزرعة"، يعيد خطاب محمد جلال إنتاج هذه الحيلة القديمة:
الدولة = الشعب، والشعب = الدولة.
لكنّ واقع السودان، بكل جروحه، يكشف أنّ ما يسميه د. محمد جلال "الدولة الوطنية" لم يكن يوماً تجسيداً لشعبٍ متنوع، بل سلطة فوقية فُرضت عليه. دولة يحرسها المركز، وتعيش على حساب الأغلبية الساحقة التي ظلّت خارج معادلة السلطة والثروة... ده كلام ده؟!
وحين يدعو د. محمد جلال السودانيين لحمل السلاح دفاعاً عن هذه الدولة، فإنه - من حيث لا يشعر -لا يدعو للدفاع عن "وطن"، بل للدفاع عن البنية نفسها التي دمّرت:
- دارفور،
- جبال النوبة،
- النيل الأزرق،
- والجنوب قبل انفصاله
إنه يطلب من الضحايا حماية جلادهم، ومن الشعوب حماية السلطة التي أقصتها، ومن المهمّشين إنقاذ الدولة التي أنكرت وجودهم.
إنه يعيد إنتاج مشهد أورويلي خالص:
السلطة تطلب من الحيوانات الدفاع عن السّيد الذي يجلدها كل صباح
هذا هو خطاب "السودان الطاهر" الذي يكشفه أورويل حين يقول:
"أسهل الأكاذيب تلك التي تُروى باسم الوطن."
ومشكلة خطاب د. محمد جلال ليست فقط أنه يخلط الدولة بالشعب، بل إنه يحوّل الدولة إلى بطل روائي، ويحوّل الشعب إلى خلفية صامتة - تماماً كما في روايات أورويل حيث يختفي الشعب داخل شعارات السلطة ويذوب في لغة التضليل
في النهاية، ما يدافع عنه محمد جلال ليس السودان، بل وهم السودان:
دولة بلا شعب، مركز بلا أطراف، وطن بلا تعدد -وكلها صور أورويلية بامتياز، محكومة بالدعاية أكثر من الواقع، وبالأسطورة أكثر من الحقيقة.

سابعاً: ما يغيب عن مقال د. محمد جلال: غياب التحليل العلمي الجدلي… وغياب الاعتراف بمسؤولية الدولة والنخب.
المفارقة الكبرى في مقال د. محمد جلال ليست في لغته العاطفية فحسب، بل في تجاهله المنهجي للأسئلة التي تفضح مسؤولية الدولة المركزية والنخب الحاكمة منذ الاستقلال. فبدون هذه الأسئلة لا يمكن بناء تحليل علمي أو جدلي؛ بل يتحوّل النقد إلى خطابٍ فضفاض يبرّئ الداخل ويلوم الخارج.
١/ غياب الجدل التاريخي: نسيان تاريخ الدولة بوصفها مُنتِجاً للعنف.
- لماذا نشأت قوات الدعم السريع أصلاً؟

لأنها امتداد مباشر لسياسة الدولة في صناعة الميليشيات منذ السبعينيات، وتحديداً منذ أن تخلّت النخب عن بناء جيش قومي مهني، وفضّلت الاعتماد على وكلاء محليين لضبط الأطراف.
- لماذا استخدم المركز الميليشيات منذ 1955؟
لأن النخب المركزية اختارت الحكم عبر "القوة المرنة القذرة" - فرقان القبائل، المراحيل، الجنجويد، حرس الحدود - كآلية لإدارة التعدد وقمع المطالب السياسية.
- كيف تحوّلت الدولة إلى مصنعٍ للعنف؟
لأنها لم تُنشئ مؤسسات، بل بنت جهاز أمن، ولم تضع عقداً اجتماعياً، بل شرعنت الحرب كوسيلة حكم
٢/ غياب الجدل البنيوي: التغافل عن انهيار البنية الداخلية للدولة
- لماذا انهارت المدينة السودانية؟
لأن التخطيط العمراني والتنمية حُصرا في المركز، بينما تُركت الأطراف لتذبل، فانهارت المدن حين حملت أعباء دولة لا تقوم بواجبها.
- لماذا فشل الاقتصاد؟

لأن النخب حكمت باقتصاد ريعي فاسد، لا إنتاجياً، ولأن الدولة لم تُبنَ على قواعد شفافية أو محاسبة بل على المحسوبية والغنيمة.
- لماذا تحطمت الهوية الوطنية؟

لأن الدولة نفسها فرضت هوية واحدة بالقوة، وألغت التعدد، وخلقت شعوباً فوق وشعوباً تحت، فصار الوطن نفسه فضاءً متشظياً.
٣/ غياب الجدل الأخلاقي: تجاهل الفشل القيمي للدولة المركزية:
- لماذا يرفض المركز العلمانية؟

لأنها تهدّد امتيازات النخب التي بنت سلطتها على الدين، لا على المواطنة.
- لماذا يُنكر حق تقرير المصير؟

لأن الدولة المركزية تخشى أن يُكشف فراغ شرعيتها، فتلجأ لقمع مطالب الشعوب باسم "الوحدة"، وهي وحدة بالقهر لا بالتعاقد.
- لماذا تُقدَّم الدولة على الإنسان دائماً؟

لأن النخب استباحت الإنسان السوداني - خاصة في الهامش - وحولته إلى رقم في معادلات سياسية، بينما حوّلت "الدولة" إلى صنمٍ مقدّس لحماية مصالحها.

بهذا يصبح واضحاً أن غياب التحليل العلمي الجدلي ليس نقصاً في أدوات د. محمد جلال وحده، بل هو امتداد لغيابٍ تاريخي هيكلي تتحمّل مسؤوليته الدولة المركزية والنخب التي حكمت البلاد دون أن تُنجز شروط الدولة الحديثة ولا أخلاق السياسة، وهو ما مهّد الطريق للحرب والانهيار والتدخلات الإقليمية والدولية.

ثامناً: رؤية السودان الجديد… وأين ينزلق خطاب د. محمد جلال؟
ترتكز رؤية السودان الجديد على قواعد تحليلية صلبة ترى بوضوح أن:
- الحرب ليست مؤامرة وليدة اللحظة، بل نتيجة بنية قديمة انهارت على نفسها
- الإمبريالية ليست فاعلاً مطلقاً، كما أنّ الداخل ليس بريئاً ولا ضحية خالصة
التحليل العلمي الجادّ لا يُبنى على الوجدانيات، بل على:
- نقد الدولة بوصفها بنية منتجة للعنف،
- إعادة تعريف المواطنة وفق مبدأ المساواة،
- الاعتراف بالتعدد اللغوي والثقافي، الديني والإثني،
- الفصل الصارم بين الدين والدولة- العلمانية،
- الجيش المهني الجديد.
- واحترام حق تقرير المصير كأداة عدالة تاريخية
في المقابل، ينحدر خطاب د. محمد جلال إلى مستوى مختلف تماماً. فهو لا يقدم قراءة نقدية، بل يعيد تدوير سردية وُلدت في خيال سياسي سوداني لم يستفق بعد من صدمة فشل مشروع الدولة القديمة. سرديةٌ تبكي على الأطلال وتحلم باستعادة "وطن" لم يكن يوماً وطنياً إلا في المخيلة المركزية.
ولهذا يقود خطابه، عن قصد أو عن غفلة، إلى:
- إعادة إنتاج سردية المركز التي تتنصل من مسؤوليتها
- الدفاع المستميت عن دولة فاشلة انهارت على وقع تناقضاتها
- إدانة الهامش المقاوم باعتباره أداة للآخر، لا ضحية لعقود من القمع
- تبرئة النخب التي صنعت الحرب ثم وقفت تبكي أمام مرآتها المكسورة
- تحويل الصراع البنيوي الداخلي إلى ملحمة كونية لا وجود لها إلا في الخيال السوداني الجريح الذي يرفض الاعتراف بأن الخراب صُنع في الداخل قبل أن يمرّ به الخارج.
إنّ خطأ د. محمد جلال ليس في نقده للإمبريالية، بل في أنه بنى هذا النقد على رواية حزينة لا تشبه التحليل بقدر ما تشبه الرثاء - رثاء دولة لم يقم لها أساس، ونخب لم تنهض بواجبها، فاختارت سردية المؤامرة بدلاً من مواجهة الحقيقة.

خاتمة: السخرية الحقيقية ليست في ناثانيل ريموند… بل في الخطاب الذي ينتقده
قدّم د. محمد جلال هاشم مقالاً حماسياً، لكنه لا ينتج معرفة.
خطاباً وطنياً، لكنه لا يخدم الوطن.
سرديةً ضد الإمبريالية، لكنها تصنع إمبريالية رمزية جديدة - إمبريالية المركز على الهامش.
ولو عاش أورويل بيننا لقال له ما قاله في "1984":
"أخطر الأكاذيب تلك التي نصنعها لأنفسنا"
ولو قرأ فنغت مقاله لابتسم ابتسامته الساخرة قائلاً:
"ليست المشكلة في المؤامرة، بل في الذين يحتاجونها ليفهموا العالم"
: Bإنّ مستقبل السودان لا يُبنى بالخوف من "الخطة
ولا بالبكاء على "الدولة الوطنية"، بل بتأسيس ما دعت إليه الحركة الشعبية بالتمام والكمال - دولة جديدة، عادلة، لا مركزية، علمانية، ديمقراطية تُعيد الإنسان إلى مركز التاريخ.
هذا… هو التحليل العلمي.
وكل ما عداه… سرديات ترفرف في الريح ...!

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)