لماذا يجب أن تكون المساءلة أولوية في أي تسوية سياسية سودانية؟ كتبه محمد عبدالله ابراهيم

لماذا يجب أن تكون المساءلة أولوية في أي تسوية سياسية سودانية؟ كتبه محمد عبدالله ابراهيم


12-05-2025, 09:59 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1764971947&rn=0


Post: #1
Title: لماذا يجب أن تكون المساءلة أولوية في أي تسوية سياسية سودانية؟ كتبه محمد عبدالله ابراهيم
Author: محمد عبدالله ابراهيم
Date: 12-05-2025, 09:59 PM

09:59 PM December, 05 2025

سودانيز اون لاين
محمد عبدالله ابراهيم-الخرطوم-السودان
مكتبتى
رابط مختصر







منذ اندلاع شرارة الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، انزلق السودان إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان في التاريخ الحديث. فبينما تتحدث الأرقام عن مقتل عشرات الآلاف، وأكثر من 12 مليون نازح ومهجر. تتكشف يومياً قصص موجعة وفصول مروعة من العنف الجنسي الممنهج، وقتل بدوافع عنصرية وعرقية، واستهداف متعمد للبنية التحتية المدنية، في مشهد يلخص عمق المأساة التي يعيشها الشعب السوداني.

إن هذه الحرب المدمرة، بكل ما تحمله من فظائع، لم تنشب فجأة، بل جاءت كنتيجة حتمية وطبيعية لعقود طويلة من الإفلات الراسخ من العقاب. لقد سمح هذا الإفلات التاريخي، الذي يعود جذوره إلى جرائم دارفور في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مروراً بفض اعتصام القيادة العامة في 2019، للقادة العسكريين والميليشيات المتحالفة معهم بالاعتقاد بأنهم فوق المساءلة وفوق القانون، وأن دماء المدنيين لا ثمن لها، بل ويمكن انتهاكها بلا تبعات. ولهذا فإن أي مسعى حقيقي ومحاولة جادة لإنهاء دوامة العنف وبناء سلام مستدام في السودان لا يمكن أن يتجاوز مطلب العدالة. فالمساءلة ليست بنداً ثانوياً على طاولة التفاوض، بل هي حجر الأساس الذي يبنى عليه مستقبل آمن وعادل لكل السودانيين.



العدالة الشاملة .. مطلب لا يقبل التجزئة

يتميز النزاع الحالي في السودان بكون ان جميع أطرافه قد انتهكوا بصورة صارخة القوانين والمواثيق الدولية التي تهدف إلى حماية المدنيين أثناء النزاعات. فقد ارتكبت انتهاكات جسيمة وواسعة النطاق، وثقتها بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، من قبل كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، ويرقى العديد منها إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وانطلاقاً من هذه الحقائق فإن المطالبة بالعدالة لا يمكن أن تكون انتقائية أو مجزأة. فهي مطالبة شاملة يجب أن تطال كل المسؤولين عن الانتهاكات دون استثناء، وتشمل هذه المساءلة قادة قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها المتورطين في الجرائم الخطيرة التي حدثت في الخرطوم ودارفور، بما في ذلك أعمال العنف ذات الطابع العرقي والانتهاكات الموجهة ضد المدنيين، وتشمل كذلك قادة القوات المسلحة السودانية والمليشيات المرتبطة بها المسؤولين عن الانتهاكات ضد المدنيين، بما في ذلك القصف العشوائي للمناطق السكنية واستهداف المدنيين، وانتهاكات القانون الدولي الإنساني.

وتكمن النقطة الأكثر حساسية والأشد أهمية في دور الإسلاميين وقادة نظام المؤتمر الوطني السابق، فالحرب الحالية ليست حدثاً معزولاً، بل امتداد مباشر لجرائم الماضي، ومن هنا تأتي ضرورة المطالبة بتقديم جميع قادة نظام المؤتمر الوطني المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية، بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور، وعلى رأسهم الرئيس المعزول عمر البشير، إلى العدالة الدولية من أجل إنصاف الضحايا وإرساء أساس حقيقي للمساءلة، وعلى قادة الجيش السوداني، الذين ينكرون وجود نفوذ لقادة الإسلاميين على قرارات الجيش خاصة فيما يتعلق بإدامة الحرب وعرقلة جهود وقفها، أن يثبتوا جديتهم. فإذا كانوا صادقين بالفعل، فعليهم الكف عن حماية قادة النظام السابق، وتسليمهم فوراً ودون أي شروط إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأنا على قناعة راسخة بأن تسليم هؤلاء المطلوبين سيكون خطوة محورية نحو وقف الحرب وتحقيق السلام والاستقرار. أما الإبقاء عليهم طلقاء أو السماح لهم بالعودة إلى المشهد السياسي، فهو ليس سوى مكافأة غير مستحقة على ما ارتكبوه، ورسالة خطيرة مفادها أن الإفلات من العقاب ما زال ممكناً. بالإضافة الى ذلك فإن أي تسوية سياسية للازمة السودانية الراهنة لا تتعامل بجدية مع هذا الإرث الإجرامي ستظل مجرد هدنة مؤقتة، تبقي جذور العنف دون معالجة وتمهد لجولة جديدة من المآسي.



العدالة .. عامل الردع الوحيد والضمانة للمستقبل

إن الادعاء بأن "السلام أولاً، ثم العدالة" هو طرح مضلل وخطير في السياق السوداني. فقد أثبتت التجارب السابقة أن التنازل عن العدالة لصالح سلام هش لا يحقق الاستقرار، بل يؤجل الانفجار القادم. فحين يخرج مرتكبو الانتهاكات من أي تسوية سياسية دون محاسبة، فإنهم يتلقون الضوء الأخضر لتكرار انتهاكاتهم وجرائمهم في المستقبل دون خوف من العواقب، ولذلك يجب الاخذ بأن العدالة ليست ترفاً ولا مطلباً مؤجلاً، بل إنها عامل الردع الوحيد الذي يمكن أن يكسر الحلقة الجهنمية الشريرة للعنف. لا سيما ان غياب المحاسبة هو ما سمح لميليشيا الجنجويد، المتهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة في دارفور، بأن تتحول إلى قوة نظامية تحت اسم "قوات الدعم السريع"، لتقود اليوم فصلاً جديداً من الانتهاكات والمعاناة بحق المدنيين، ولذلك فإن ملاحقة القادة والأفراد المسؤولين عن الجرائم الجسيمة، بما في ذلك القتل، العنف الجنسي، والاختفاء القسري، ترسل رسالة واضحة لا لبس فيها مفادها ان الجرائم والانتهاكات الانسانية لن تمر دون عقاب، وأن سيادة القانون هي الأساس الذي سيبنى عليه السودان الجديد.

لا تقتصر أهمية العدالة على محاسبة الجناة فحسب، بل تمتد لتشمل أدواراً أساسية في إعادة بناء المجتمع والدولة، خاصة ان العدالة تمثل الخطوة الأولى نحو الاعتراف بمعاناة الضحايا وذويهم، وتفتح الباب أمام آليات جبر الضرر التي تعيد للمجتمعات المتضررة كرامتها وثقتها في الدولة، ولا يمكن الحديث عن مصالحة مجتمعية حقيقية بين مكونات الشعب السوداني ما لم تعالَج الجروح العميقة التي خلفتها الحروب والانتهاكات المتراكمة، وعليه؛ فأن أي تسوية سياسية قادمة تسعى للانتقال نحو حكم مدني ديمقراطي لا بد أن تقوم على مؤسسات قضائية مستقلة وفعالة. فإعطاء الأولوية للمساءلة يعني إعادة بناء هذه المؤسسات وتحصينها من نفوذ الأطراف المتورطة في الانتهاكات، بما يضمن أن تكون الدولة الجديدة قادرة على حماية مواطنيها، وصون حقوقهم، ومنع تكرار الفظائع والمآسي، وتصبح العدالة ليست مجرد مطلب قانوني، بل ركيزة لإصلاح المجتمع وترميم الدولة وبناء مستقبل يقوم على الكرامة والإنصاف. فبدون عدالة شاملة وحقيقية، سيظل كل حديث عن سلام مجرد وهم، وستبقى جذور العنف قادرة على إنتاج مزيد من الازمات والمآسي.



خارطة طريق للمساءلة .. تفعيل الآليات الدولية

لتحقيق عدالة شاملة وحقيقية، لا بد للمجتمع الدولي والقوى المدنية السودانية من العمل المشترك على تفعيل آليات المساءلة وتعزيزها، ويبدأ هذا المسار بالتعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية، حيث تقع على عاتق سلطات الأمر الواقع وقيادة الجيش السوداني مسؤولية تسليم عمر البشير وبقية المطلوبين في قضايا دارفور فوراً إلى المحكمة، والانخراط في تعاون غير مشروط مع مكتب المدعي العام في تحقيقاته المتعلقة بالجرائم المرتكبة منذ أبريل 2023. فهذه الخطوة ليست فقط استحقاقاً قانونياً، بل مدخلاً أساسياً لأي عملية عدالة حقيقية، ويتكامل هذا المسار مع دعم البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان. فجمع الأدلة وتوثيق الانتهاكات هو حجر الزاوية لأي محاكمات مستقبلية، ولذلك فإن تمكين هذه البعثة من الوصول الكامل إلى مختلف مناطق النزاع، وتوفير الموارد الكافية لها، يمثل ضمانة ضد طمس الحقائق أو ضياع الأدلة، لا سيما انه من دون هذا التوثيق لن يكون من الممكن بناء ملفات قضائية قوية تحاسَب بموجبها الأطراف المتورطة.

ولأن نطاق الجرائم المرتكبة منذ اندلاع الحرب يتجاوز حدود دارفور، فإن الضغط على مجلس الأمن لتوسيع ولاية المحكمة الجنائية الدولية يصبح ضرورة عاجلة لا يمكن تجاهلها. فالاقتصار على ملف دارفور وحده يترك فجوات واسعة في منظومة العدالة، ويترك عدداً كبيراً من الجرائم والانتهاكات خارج نطاق المساءلة، وفي الوقت ذاته، يجب النظر بجدية في إنشاء آلية قضائية مختلطة (سودانية - دولية) لمعالجة القضايا التي تقع حاليا خارج اختصاص المحكمة الدولية، لا سيما إن دمج الخبرة الدولية مع قضاة سودانيين مستقلين، مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، يضمن محاسبة شاملة ومحاكمات عادلة، ويعزز ثقة السودانيين في القدرة على تأسيس منظومة عدالة وطنية، يضع الأساس لإنهاء الإفلات من العقاب، وهذه الخطوة تمهد الطريق نحو انتقال مستقر ودولة مؤسسات تحترم وتحمي حقوق جميع المواطنين، وتضمن منع تكرار الانتهاكات في المستقبل.

إن السلام الذي يبنى على التنازل عن العدالة هو سلام زائف وقصير الأمد، لا يتجاوز كونه صفقة سياسية تمنح الإفلات من العقاب للقادة العسكريين على حساب مستقبل السودان واستقراره، وإننا، كمدافعين عن حقوق الإنسان، نؤكد على أن المساءلة يجب أن تكون شرطاً غير قابل للتفاوض في أي حوار أو اتفاق سلام قادم، سواء على المستوى الوطني أو من خلال مبادرات الوسطاء الإقليميين والدوليين، ويجب أن تكون رسالتنا واضحة لا لبس فيها: "لا يمكن أن يكون مرتكبو الجرائم، من أي طرف كانوا، جزءاً من الحل"، بل يجب تقديمهم للعدالة والمحاكمة، والطريق الوحيد لضمان أن تكون هذه الحرب الأخيرة في السودان يمر عبر قاعات المحاكم، حيث تتحقق العدالة للضحايا، وتوضع حد نهائي لدائرة الإفلات من العقاب التي دمرت البلاد وهددت استقرارها لعقود.



محمد عبدالله ابراهيم

مدافع عن حقوق الإنسان

[email protected]