أثر "الشِلّة" على السياسة السودانية والعقل الجمعي- قراءة في جذور الأزمة وتحولاتها

أثر "الشِلّة" على السياسة السودانية والعقل الجمعي- قراءة في جذور الأزمة وتحولاتها


12-03-2025, 06:48 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1764787689&rn=0


Post: #1
Title: أثر "الشِلّة" على السياسة السودانية والعقل الجمعي- قراءة في جذور الأزمة وتحولاتها
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 12-03-2025, 06:48 PM

06:48 PM December, 03 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





تُعدّ ظاهرة الشِلّة واحدة من أخطر البُنى غير المرئية التي شكّلت السياسة السودانية منذ الاستقلال وحتى اللحظة
وبرغم أنها تبدو للوهلة الأولى مجرد تجمعات اجتماعية أو شبكات علاقات شخصية، فإن أثرها السياسي يتجاوز كثيراً هذا التصور البسيط، لتصبح الشلة آلية موازية للدولة، تقرر وتُقصي وتتحكم، وتعيد إنتاج الفشل الوطني جيلاً بعد جيل
وفي ظل حرب 2023 وما تبعها من انهيار اقتصادي وإنساني وسياسي، ازدادت الشلة حضوراً وتوغلاً، حتى صارت واحدة من المفاتيح الرئيسة لفهم تعثّر السودان في الوصول إلى دولة مؤسسات ومواطنة.

من النخبة إلى الشللية… كيف بدأ الانحراف؟
تُفرّق أغلب الدراسات بين النخبة التي تنشأ من داخل المؤسسات وتستند إلى معايير الكفاءة والتمثيل، وبين الشلة التي تستمد قوتها من الولاء الشخصي والمصلحة المشتركة
في السودان، حدث التحول حين فشلت المؤسسات الحديثة—من أحزاب واتحادات ونقابات—في تأسيس قواعد ديمقراطية مستقرة، وترك الاستعمار خلفه جهاز دولة شديد المركزية، قائم على العلاقات الشخصية والولاءات الضيقة
ومع دخول الجامعات بقوة في الحياة السياسية منذ الستينيات، تطورت "ثقافة الدفعة" إلى رأس مال اجتماعي، سرعان ما تحول إلى تحالفات سياسية مغلقة، تتوارث النفوذ عبر العلاقات لا عبر البرامج. وهذه الظاهرة تكرست في الأنظمة الشمولية
التي جعلت الشلة وسيلة للبقاء، وليست انحرافاً أخلاقياً فقط.

الحرب 2023–2025… صراع شلل لا صراع رؤى
يظهر حضور الشلة اليوم بوضوح في الصراع بين الجيش والدعم السريع. فالنزاع لم يعد صراعاً حول مشروع وطني أو رؤية لإدارة الدولة، بل أصبح—في جوهره—صراع شلل عسكرية واقتصادية تتنافس على الموارد والشرعية
شلة البرهان تضم عناصر من النظام السابق وشبكات بيروقراطية وإعلامية أعيد تدويرها بعد انقلاب 2021، وتمارس نفوذاً كبيراً رغم أنها لا تحمل تفويضاً شعبياً، وتعتمد في بقائها على خطاب سيادي وصارم، وعلى آليات إقصاء تبرر الحرب
بوصفها "معركة وجود"
أما شلة حميدتي فتمثل شبكة صغيرة لكنها غنية بالموارد، تستند إلى الذهب، وتحالفات إقليمية، ومراكز قوة قبلية، حيث أعادت تعريف السياسة كإدارة موارد وولاءات، بعيداً عن أي إطار مؤسسي. ومع الوقت، أصبح مصير ملايين النازحين
والأسواق والموارد رهينة نزاع بين شلتين، لا بين مؤسستين حكوميتين شرعيتين
الشلة داخل القوى المدنية… الوجه الآخر للمأزق
لم تكن القوى المدنية بمعزل عن الظاهرة. فمنذ سقوط البشير، تحولت مجموعات صغيرة داخل الأحزاب والكيانات المهنية إلى "شلل سياسية" تُقصي بعضها البعض، وتتنافس على التمثيل في المفاوضات أكثر من تنافسها على تقديم مشروع وطني
برزت أيضاً "النخبوية المعكوسة" التي تتحدث بلغة الديمقراطية بينما تمارس داخلها الإقصاء والولاء الشخصي
هذا ما أدى إلى ضعف الجبهة المدنية في إدارة المرحلة الانتقالية، وتفككها في لحظة الاختبار الحقيقي مع اندلاع الحرب. لقد ظهرت عيوب الشللية غياب الرؤية، تضخم الذات، وتحويل العمل العام إلى صراع مواقع داخل مجموعات صغيرة
بعيداً عن هموم المواطنين.
أثر الشلة على العقل الجمعي السوداني
للشللية أثر عميق في تشكيل الوعي العام؛ فهي تُنتج شخصنة للسياسة (يصبح القائد أهم من البرنامج)، وتطلق خطاباً تعبوياً عاطفياً يعزز الانقسام ويستثمر في الكراهية، وتؤدي إلى تفتيت الثقة إذ يرى المواطن
أن كل فصيل هو "مجموعة أصحاب" لا مؤسسة وطنية، وتضمن استمرار الأزمات لأن القرارات تُصنع خارج الأطر الرسمية وبحسب مصلحة الشلة. ومع انفجار الحرب، تحول خطاب بعض الشلل السياسية والإعلامية إلى أدوات لبث الكراهية
وتبرير العنف، مما عمّق الجروح المجتمعية، وأفقد المجتمع القدرة على إنتاج رأي عام عقلاني
التداعيات الراهنة وكيف نتجاوز الشلة؟
أدت هذه الظاهرة إلى تعطيل الإصلاح، تفكيك الأحزاب، وإضعاف عملية بناء الدولة. واليوم، يعيش السودان مأساة إنسانية هي الأكبر في تاريخه الحديث: 12 مليون نازح، 25 مليون على حافة الجوع، واقتصاد منهار، ومؤسسات شبه غائبة
كل ذلك يحدث بينما تتحكم الشلل في الموارد، وتتفاوض باسم الشعب دون تفويض، وتعيد إنتاج نفس بنية الأزمة، مما يفسر سبب بقاء السودان في مرحلة "الانتقال الطويل".
إن تجاوز الظاهرة ليس أمنية مثالية، بل ضرورة وجودية
ويتطلب ذلك بناء مؤسسات واضحة وشفافة تعتمد على الكفاءة لا على الولاء، وتفكيك ثقافة الدفعة التي تعيد إنتاج الشلل داخل الجامعات والأحزاب، وتطبيق ديمقراطية داخلية حقيقية في الأحزاب والقوى المدنية
الأهم من ذلك، يتطلب الأمر حواراً وطنياً شاملاً يقود إلى وقف الحرب، وإعادة الاعتبار للمواطنة كأساس للحقوق والمسؤوليات، لا للانتماء للشلل
السودان اليوم يقف على حافة تحوّل تاريخي، وتجاوز الشلة ليس مجرد إصلاح سياسي
بل هو إعادة بناء للعقل الجمعي، وتأسيس لفضاء وطني جديد يضع السودان—لا الشلة—في مركز المعادلة