Post: #1
Title: 2-2رؤية السودان الجديد: المشروع الناضج والرشيد في الغرفة الجزء الثاني والأخير: كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 12-02-2025, 03:05 AM
03:05 AM December, 01 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
1/12/2025 ، بوسطن
حين لا يكفي أن تسكت البنادق: الدرس المقارن: تجارب القرن العشرين تُظهر أن سقوط الديكتاتوريات وحتي النصر العسكري لا يُنتج السلام المستدام، ما لم تُفكك البُنى التي أنجبت الصراع: - ألمانيا – 1945:
لم يكن سقوط النازية في ساحات القتال هو ما أسس للدولة الألمانية الحديثة، بل نزع النازية بوصفه مشروعاً لإعادة صياغة المجتمع: تفكيك مؤسسات الحزب، إعادة بناء القضاء والإدارة، إدماج الاعتراف بالجرائم في الوعي العام. رجل الدولة كونراد أديناور فهم أن الاستقرار لا ينتج من مدافع المنتصر، بل من دولة تتصالح مع حقيقتها وتُقصي أصحاب الإبادة من المجال السياسي. هذا ما لم تفهمه النخب ولم يفهمه الجيش السوداني: فإسقاط البشير لم يكن "فتح صفحة جديدة"، بل كشف صفحة مدمّرة كان ينبغي الاعتراف بها ومعالجتها. - اليابان – ما بعد الحرب العالمية الثانية:
لم يكن السلام نتيجة الهزيمة العسكرية، بل قَطْع معرفي مع العسكرة عبر دستور جديد يقيّد دور الجيش ويمنع عودته إلى السياسة والاقتصاد. تحوّل نموذج القوة: من سلطة السيف إلى سلطة المجتمع والإنتاج والتعليم. هنا تبرز المفارقة: الجيش السوداني، على عكس التجربة اليابانية، لم يستخلص الدرس، بل أراد أن يظل الجيش هو القائد، لا الدولة ولا المجتمع! - رواندا – بعد 1994:
لم يكن إيقاف القتل كافياً. فارتباط الهوية بالعنف كان سبب المجازر، لذلك أعادت الدولة تعريف الجماعة الوطنية، وفرضت هياكل عدالة ومحاسبة صارمة، وأغلقت الباب أمام إعادة إنتاج خطاب الكراهية.
الدرس واضح: السلام ليس إعلاناً، بل عملية تاريخية لإعادة تشكيل المجتمع.
أما في السودان، فاستُبدل مفهوم "أمة في حالة صراع" بمفهوم "صراع نخب"، وقُدّمت اتفاقيات وأوراق لطمس الواقع والتشويش عليه لا معالجته!
منظور السلام المعرفي: غالتونغ وليدرَاخ: المفكر النرويجي يوهان غالتونغ وضع قاعدة معرفية حاسمة:
السلام السلبي هو توقف إطلاق النار، أما السلام الإيجابي فهو تفكيك البنى التي ولدت الحرب - اللامساواة في الثروة، التهميش الثقافي، الاحتكار السياسي، وإفلات الجناة من العقاب.
هذه هي الجذور التي تجاهلها الجيش السوداني، وتعامل معها باعتبارها "تفاصيل إجرائية"، فوجد نفسه يكرر الانهيار. أما الباحث الأمريكي المتخصص في فض النزاعات جون بول ليدرَاخ، فيؤكد أن بناء السلام هو فعل مجتمعي لا ينتج من اتفاق النخب. السلام الحقيقي يبنى في المدارس، في الإدارة المحلية، في العدالة، في الاعتراف المتبادل لا في غرف مغلقة تنتج تفاهمات مؤقتة بين متصارعين متعالين على المجتمع.
الجيش المهزوم الذي يرفض الاعتراف: منطق المؤسسة العسكرية السودانية اليوم يشبه من يخسر المعركة لكن يصر على إعلان النصر.
هي سلطة هُزمت اجتماعياً، أخلاقياً، وسياسياً، لكنها ترفض الاعتراف بسقوطها، فتبحث عن "اتفاق جديد"، "سلام جديد"، أو "حسم جديد" - وكلها محاولات لإحياء جثة الدولة القديمة! الجيش السوداني لن ينتصر، لأنه ليس طرفاً في صراع خارجي كما يحاول وبعض النخب المغيبة ان يدعي، بل طرف في أزمة تأسيس، والوجود المسلح لا يحسم أزمة الأساس.
ما لم يُفكك البناء الذي ولّد الحرب، وتُعالج اللامساواة التاريخية، وتُعاد صياغة الدولة على أسس جديدة؛ فإن كل هدنة ليست سوى استراحة قصيرة قبل انفجار آخر! السودان لا يحتاج إلى قادة يناورون بالهزيمة، بل إلى مشروعٍ يعترف بالحقيقة:
دولة جديدة، عقد اجتماعي جديد، وجيش وطني يولد من المجتمع لا فوقه.
السودان: دولة بلا أسس للنصر: في السودان، المشكلة لا تكمن في نوع السلاح، بل في بنية الدولة نفسها. منذ ولادتها، لم تكن الدولة السودانية إطاراً سياسياً جامعاً، بل آلية سيطرة لصالح المركز النيلي.
الجيش لم يكن جيش الأمة، بل جيش النظام الاجتماعي. لم يُبن على التنوع، بل على نخبة ضيقة على قمته احتكرت القيادة واستعملت أبناء الأطراف وقوداً للحرب.
أي "نصر" يحققه هذا الجيش هو نصر على جزء من المجتمع، لا لصالح المجتمع - وهذا ليس نصراً، بل بذرة حرب جديدة! هكذا سقطت فكرة "الحسم العسكري" منذ عبود ونميري والبشير، وهكذا تتساقط اليوم. كل مرة يظن العسكر أنهم "استعادوا الدولة"، يكتشفون أنهم استعادوا الخراب، لأن الدولة ليست ثكنة؛ الدولة عقد اجتماعي. ما لم يتغير العقد، لا معنى للنصر ان وجدا أصلا! مشروع السودان الجديد: تفكيك الجذر لا ترقيع السطح: قوى السودان الجديد لم تقترح او تتبني تحسينات تجميلية، بل وضعت أسساً فوق دستورية تعالج جوهر الأزمة: ١/ علمانية الدولة: لتحييد الدين من السلطة، وإنهاء استخدامه كسوطٍ للإقصاء والهيمنة ٢/ الديمقراطية القائمة على المواطن الفرد: لا حصص جهوية ولا نخب تدير المجتمع من فوق، بل حقوق متساوية تستند إلى الإرادة العامة. ٣/ لامركزية عميقة: نقل السلطة والموارد إلى حيث يعيش الناس، لا إلى الخرطوم بوصفها "المدينة/الدولة" ٤/ عدالة تاريخية: الاعتراف بالاسترقاق، والإبادات، وتداعياتهما، والحروب ضد الأقاليم، وبناء منظومات لمحاسبة الجناة وإصلاح الأضرار، كي لا يصبح الماضي عبئاً سرمدياً. ٥/ جيش وطني جديد: لا جيش نخبة يتحكم بالمجتمع، بل مؤسسة دفاع تُبنى من المجتمع ذاته، تمثله ولا تبتلعه الاستنتاج. لا يوجد طريق عسكري لبناء السودان.
الجيش لن ينتصر، لأن ما يحاول الانتصار عليه هو المجتمع نفسه.
والنزاع مع المجتمع ليس حرباً يجري حسمها، بل انهيار دولة يجري تمديده. أي "نصر عسكري" في السودان هو هدنة خاطفة قبل انفجار أكبر، كما شهدنا بعد عبود ونميري والبشير وما بعد 2019 السودان لا يحتاج إلى جنرال جديد، بل إلى لحظة تأسيس:
دولة مدنية ديمقراطية علمانية، عدالة تاريخية، وحدة طوعية بين الشعوب، وجيش وطني يولد من رحم المجتمع لا من فوقه. من دون هذا، كل انتصارٍ عسكري هو بداية هزيمة جديدة.
رابعاً: أوهام المدنيين — قوة هشّة، رؤية قاصرة، وامتيازات مصونة: على طرف مقابل للوهم العسكري، تعيش قطاعات واسعة من القوى المدنية وهماً لا يقل طوباوية: الاعتقاد بأن الحرب ستتوقف تلقائياً، وأن الجيش وحركات الكفاح المسلح والإسلاميين سيُسلمون السلطة طوعاً إلى "حكومة مدنية" يقودها نفس النخب التي هيمنت على الدولة منذ 1956. هذا الوهم لا ينبع من قراءة واقعية للصراع، بل من سوء فهم لطبيعة الدولة السودانية نفسها: : ١/ طبيعة الحركة المدنية الغالبية الساحقة من الأحزاب التقليدية، والنقابات القديمة، والواجهات المدنية الحديثة، ليست مشاريع تغيير جذري، بل امتداد للنخب المتعلّمة في المركز النيلي. نشأت هذه النخب داخل بيئة امتيازات واضحة: تعليم في المدن، فرص مهنية مرتبطة بالبنى الاستعمارية في الخدمة المدنية والقضاء والجامعات، وشبكات اجتماعية واقتصادية تعيد إنتاج تفوقها. لم يكن مشروعها التاريخي إعادة توزيع السلطة، بل احتكارها بأدوات "مدنية." تُظهر دراسات التحول بعد سقوط البشير أن هذه النخب انشغلت بصراع الشرعية والمواقع فيما بينها أكثر مما انشغلت ببناء مؤسسات انتقالية قادرة على تفكيك دولة الهيمنة أو تحييد المؤسسة العسكرية بفعالية. تم التعامل مع المرحلة الانتقالية بوصفها فرصة لإعادة التموضع داخل مركز السلطة، لا بوصفها لحظة تأسيسية لإعادة هندسة الدولة. ونتيجة هذا العمى البنيوي، وجد الجيش الفرصة ليعود إلى قلب السلطة مجدداً، لا لأنّه قوي، بل لأن القوى المدنية لم تتجاوز حدود امتيازاتها ولم تمتلك مشروعاً قادراً على مواجهته. ٢/ غياب الرؤية الجذرية: - في الأدبيات المقارنة، تميَّزت الثورات الناجحة بوجود "مشروع تاريخي" واضح (كما في الثورة الفرنسية أو الروسية أو حركات التحرر في الجنوب الكوني)، يقدّم تصوراً مختلفاً للدولة والاقتصاد والمجتمع. - أغلب القوى المدنية السودانية اكتفت بشعار "مدنية" بوصفه نفياً للعسكر، دون تحديد طبيعة هذه المدنية: هل هي دولة علمانية؟ ما موقع حق تقرير المصير؟ ما مفهوم العدالة التاريخية؟ ما مصير الجيش القديم؟ هنا يصبح "المدني" توصيفاً إجرائياً لا مضمونا سياسياً. ولذلك يمكن أن يجد السوداني نفسه أمام "مدني" يرفض العلمانية، وينكر التهميش، ويطالب بعودة الجيش "القومي" كما هو، ويتحدّث عن ثورة بلا أي استعداد للتنازل عن امتيازاته الاجتماعية. التجارب العالمية – من جنوب إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية – تشير إلى أن التحالف المدني القادر على قيادة تحول جذري هو الذي يقطع مع بنيته الطبقية القديمة، ويتحالف مع ضحايا النظام، لا مع مستفيديه. القوى المدنية السودانية، في أغلبها، لم تقم بهذه القطيعة بعد.
خامساً: الثورة في السودان – من يثور على من، ولصالح من؟ في أدبيات الانتقال، يُفرّق بعض الباحثين بين الانتفاضة التي تغيّر النظام دون البنية، والثورة التي تعيد تشكيل الاقتصاد والمجتمع والدولة. هذا التفريق استُخدم صراحة في تحليل ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 في السودان، بوصفهما انتفاضتين أطاحتا بنظامين عسكريين دون تغيير لهيكل الدولة المركزية أو لعلاقة المركز بالهامش. في ديسمبر 2018، ظهر جيل جديد من الشباب – خاصة من الأقاليم والطبقات الفقيرة في المدن – هو الذي خاض المعارك الحقيقية: - هؤلاء هم أبناء ثلاثين عاماً من التجفيف المتعمّد للتعليم في الأقاليم، والفاقد التربوي، والهجرة القسرية إلى معسكرات النزوح والأحياء الطرفية – مايسمي بالعشوائيات واحزمة المدن السوداء. - وهم أيضاً أبناء سبعين عاماً من التهميش المركّب؛ حيث لا تمثيل في الدولة، ولا نصيب عادل في الموارد، ولا اعتراف بالثقافة والهوية. لكن لحظة سقوط البشير أعادت إنتاج النمط نفسه: - عادت الأحزاب التقليدية لتتصدر المشهد، - وعاد "التكنوقراط" من النخب ليتولوا الوزارات، - وظل الهامش – الذي دفع ثمن الثورة شهداء ودماراً – على هامش مائدة القرار. بكلمات أخرى، الثورة تحققت كممارسة شعبية ولم تتحقق كنظام جديد. وهذا هو جوهر السؤال: ثورة من ضد من؟ إن لم تتحوّل الثورة إلى مشروع يعيد توزيع السلطة والثروة والاعتراف لصالح المهمَّشين، فإنها تتحوّل إلى أداة لإعادة تدوير النخبة ذاتها.
سادساً: أوهام السلام — سلام من؟ لمن؟ وعلى أي دولة؟ يُرفع اليوم شعار "إيقاف الحرب" في السودان من دون الاعتراف بجذورها البنيوية. وكما يفرّق غالتونغ، فإن السلام السلبي هو غياب العنف، بينما السلام الإيجابي هو تفكيك ظروفه: التهميش، عدم المساواة، والاحتكار السياسي. من دون ذلك، يصبح أي نداء للسلام مجرد إعادة تعبئة للصراع. الرباعية الدولية تتحدث عن "انتقال مدني" و"حل سياسي"، لكنها تفترض وجود طرف عاقل قادر على وقف النار والقبول بالتسوية. ما يغيب عن هذه المقاربة هو أن الجيش السوداني اليوم ليس طرفاً عقلانياً، بل طرفاً مهزوماً يرفض الاعتراف بهزيمته. فبدلاً من قبول هدنة انسانية تُنقذ ما تبقى من البلاد، يتعامل الجيش مع الهدنة بوصفها إقراراً بسقوط مشروع الدولة المركزية التي بناها لعقود، ويصرّ على "خوض معركة النهاية" التي ليست إلا معركة ضد المجتمع نفسه! ... السلام هنا يصبح سؤالاً مفتوحاً: ١/ سلام من؟ هل هو صفقة بين قادة عسكريين يبحثون عن إعادة توزيع النفوذ؟ ٢/ سلام لمن؟ هل هو حماية للخرطوم وطبقاتها الوسطى، بينما تُترك دارفور، جبال النوبة، الشرق والنيل الأزرق لدوامة النزوح والفقر؟ ٣/ سلام على أي دولة؟ ترميم الخراب القديم أم تأسيس دولة المواطنة؟ السؤال الجوهري في السودان الان ليس كيف نوقف الحرب وحسب، بل على أي دولة سيتوقف القتال. فهل نحن بصدد سلام يعيد ترميم الدولة الإسلامية - العسكرية القديمة، وفق بنيتها المركزية وامتيازاتها التاريخية، أم سلام يؤسس لدولة جديدة تقوم على المواطنة المتساوية، العلمانية - حياد الدولة تجاه الدين والهويات؟ جزء واسع من النخب المدنية التي لم تختبر الحرب إلا عندما وصلت إلى الخرطوم، يتعامل معها بوصفها "صدمة مفاجئة"، لا نتاجاً تاريخياً لبنية من العنف غير المرئي. غير أنّ الألم الشخصي الذي يبنوا سرديتهم عليه - حتى حين يكون مدمّراً - لا يصلح أساساً لبناء رؤية سياسية؛ لأن ما عاشته النخب في أشهر هو ما عاشته أقاليم السودان المهمشة وانسانها لعقود. الظلم البنيوي، وليس حادثة الحرب، هو الذي أنتج الضحايا والجلادين معاً. تجاهل هذه الحقيقة تحت شعار "وقف الحرب" لا يحقق سلاماً، بل يضمن عودتها بصورة أعنف، لأن جذورها تبقى سليمة! أما الإسلاميون والقيادة العسكرية، فهم أكثر الأطراف تمسّكاً بالوهم. الإسلاميون هُزموا فكرياً وأخلاقياً، لكنهم يتصرفون كما لو أن المشروع القديم لا يزال قابلاً للحياة. والجيش، بوصفه الامتداد المؤسسي لهذا المشروع، لا يستطيع بعد اليوم فرض "دولة واحدة تحت قيادته"، ومع ذلك يرفض الاعتراف بأن الزمن تجاوزه. خطاب الجهاد، الهوس الديني، والخوف المرضي من العلمانية ليست تفاصيل جانبية؛ إنها أدوات لإدامة الامتيازات، وتعطيل إمكان أي سلام حقيقي. وعليه، فإن توقّع حلولٍ "طبيعية" غير واقعي على الإطلاق: ١/ حركات الكفاح المسلح لن تسلّم السلطة لقوى أنكرت أساساً شرعية مطالبها التاريخية. ٢/ الإسلاميون لن يتخلّوا عن مشروعهم طوعاً ما لم يخضعوا لمحاسبة سياسية وأخلاقية واضحة. ٣/ الجيش لن يتحول إلى مؤسسة وطنية محايدة دون تفكيك كامل لبنية الهيمنة التي يمثلها. في هذا السياق، تتعامل الرباعية الدولية مع الحرب بوصفها نزاعاً يمكن احتواؤه عبر هدنة مؤقتة أو ترتيبات فوقية. لكن الجيش المهزوم يرفض الهدنة، ليس ثقة بقوته، بل لأنه يدرك أن القبول بالهدنة يعني الاعتراف بانهيار الدولة التي ورثها وبنى مجده عليها. إنه يفضّل استمرار النزيف على الانكشاف أمام وطن يعرف أخيراً من هزمه. لذلك، لن يتحقق السلام في السودان عبر وقف إطلاق نار شكلي أو تسوية سياسية فوقية، بل فقط عبر مشروع تأسيسي يعيد صياغة الدولة من جذورها:
دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية، تقوم على العدالة التاريخية وحق تقرير المصير، وبجيش وطني جديد يولد من المجتمع لا يهيمن عليه.
ما دون ذلك ليس سلاماً، بل هدنة على حافة حرب أكبر.
في هذا المفصل، تصبح رؤية أنطونيو غرامشي حاسمة: التحول لا يولد من توازن الضعف بين القوى القديمة، بل من تشكّل كتلة تاريخية حرجة تجمع القوى التي تريد بناء الواقع الجديد ضد بنى الهيمنة القديمة.
في السودان، لا يمكن لهذه الكتلة أن تتشكل من نخبة المركز وحدها، ولا من حركات مسلحة معزولة؛ بل من تحالف واضح بين قوى الهامش التي دفعت ثمن التاريخ - دماءً وتشريداً وحصاراً - وبين القوى المدنية التي تدرك اليوم أن بقاءها مرهون بالخروج من دائرة الامتياز، لا باقتسام الخراب مع الجيش أو الإسلاميين. على هذه النخب المدنية أن تتخلى عن وهم استعادة مركزية الخرطوم، وعن البحث عن تسوية تحفظ مكانتها التاريخية، وأن تنحاز بجرأة إلى مشروع تفكيك دولة السودان القديم وبناء دولة جديدة تقوم على المواطنة لا الهوية، وعلى الحقوق لا الرعاية، وعلى الشراكة لا الهيمنة.
عندها فقط يصبح السلام مشروعاً تاريخياً للتأسيس، لا مجرد هدنة مؤقتة تُعقد فوق جثة وطن يواصل النزيف.
سابعاً: أوهام الإعمار – إعمار ماذا؟ ولمن؟ وعلى أي أساس؟ الحديث عن "إعادة الإعمار" قبل حسم سؤال أي دولة سنُعيد بناءها هو امتداد لوهم السلام.
إعادة الإعمار في ألمانيا واليابان لم تكن مجرد مشاريع بنى تحتية، بل كانت جزءاً من مشروع سياسي– قانوني - اجتماعي جديد! - دستور ديمقراطي علماني، - تفكيك المنظومات الفاشية والعسكرية، - تحويل الاقتصاد لخدمة قاعدة اجتماعية أوسع في السودان، يُخشى أن تتحوّل "مشاريع الإعمار" إلى: - عقود للشركات الدولية والمحلية المرتبطة بالنخب، - وإعادة إنتاج لنمط التنمية غير العادل: إعمار "العاصمة" وبعض المراكز الحضرية، وترك الأقاليم في الهامش ثم إن أي إعمار حقيقي لا بد أن يجيب عن أسئلة: - من سيدفع الكلفة؟ - من سيملك الأرض والموارد بعد الإعمار؟ - هل سيُعاد الناس إلى أراضيهم الأصلية أم سيُعاد ترسيم الجغرافيا بما يخدم مصالح جديدة؟ الرباعيات الدولية والإقليمية (أياً كان تكوينها) لن تدعم مشروع إعمار جذرياً إلا إذا وُجد شريك سوداني يحمل رؤية واضحة لدولة جديدة. وهنا تحديداً يجب ان تتقدّم رؤية السودان الجديد بوصفها الإطار الوحيد الذي يربط بين الإعمار وبين العدالة التاريخية وتفكيك دولة الحرب.
ثامناً: السودان الجديد - لماذا هو المشروع الناضج الوحيد في الغرفة؟ إذا جمعنا كل ما سبق، يتضح أن المسألة ليست "من يحكم السودان" بل "أي سودان نريد أن يُحكم أصلاً؟ وكيف يحكم؟" مشروع السودان الجديد يقدّم نفسه – نظرياً وعملياً – بوصفه المشروع الوحيد الذي يعالج جذور الأزمة لا أعراضها، عبر خمسة أركان معرفية – سياسية: ١/ العلمانية بوصفها عدالة بين الأديان والهويات
ليست العلمانية هنا صراعاً مع الدين، بل ضمانة ألا يتحوّل دين أو مذهب إلى سلاح دولة. من منظور فلسفي، هي ترجمة لمبدأ الاعتراف (عند هيغل) والعدالة كإنصاف (عند رولز)، بحيث تُبنى المواطنة على الإنسان، لا على انتمائه الديني أو العرقي. ٢/ الديمقراطية التعددية المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، الوحدة الطوعية وحق تقرير المصير،
لا تكفي صناديق الاقتراع إذا ظلت البنية الاقتصادية محتكرة في يد نخبة ضيقة. الديمقراطية في تصور السودان الجديد مرتبطة بتوزيع السلطة والثروة، على نحو يستلهم تحليلات فانون حول ضرورة إعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية، لا مجرد تبديل النخبة الحاكمة. ٣/ اللامركزية العميقة وإعادة توزيع السيادة
ليست مجرد "ولايات" شكلية، بل تفكيك لمركزية الخرطوم، ومنح الأقاليم سلطة تشريعية وتنفيذية حقيقية، مع نصيب عادل من الموارد. ٤/ العدالة التاريخية والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب
العدالة الانتقالية في صيغتها الضيقة (محاكمات محدودة وتعويضات رمزية) لا تكفي في حالة كالسودان. المطلوب هو أفق أوسع للعدالة التاريخية يشمل: - الاعتراف بجرائم الرق والعنصرية البنيوية التي ترتبت عليه، - الاعتراف بالإبادات والحروب ضد الأقاليم، - قوانين الأرض والموارد، لمصلحة المجتمعات. - وبناء ذاكرة جماعية تحفظ حق الضحايا في أن يُسمَع صوتهم. ٥/ بناء جيش وطني جديد ودولة سلام لا دولة حرب
من دون تفكيك الجيش بوصفه مؤسسة الهيمنة المركزية، وإعادة بنائه على أساس تنوّع حقيقي وتمثيل للأقاليم والمهمَّشين، سيظل أي دستور مهدَّداً بانقلاب جديد. التجارب المقارنة تظهر أن الجيوش التي لم تُمسّ بنيتها بعد الثورات (كما في كثير من دول الربيع العربي) كانت هي الأداة لقطع طريق التحول بهذا المعنى، فإن مشروع السودان الجديد هو المشروع الناضج والرشيد في الغرفة لأنه: - يواجه الانقسام الاجتماعي كمسألة بنية دولة لا مسألة "تعايش أخلاقي" فقط. - يقرأ القانون والحوكمة بوصفهما أدوات لإعادة التأسيس، لا مجرد إدارة انتقالية. - يفضح أوهام النصر العسكري وأوهام السلام الليبرالي وأوهام "المدنية" الفارغة من مضمون. - ويربط بين الثورة وفاعليها الحقيقيين – الشباب، شباب الهامش والمهمَّشين – وبين مشروع دستوري - سياسي يترجم تضحياتهم إلى قواعد جديدة للعبة لا إلى مقاعد جديدة للنخب القديمة. في النهاية، السؤال الفلسفي - السياسي الذي يفرض نفسه هو:
هل يريد السودانيون نهايةً للحرب أم نهايةً لأسباب الحروب؟
إذا كان الجواب هو الثاني، فإن كل الطرق النظرية والعملية تقود إلى مشروع السودان الجديد، لا باعتباره وصفة جاهزة، بل بوصفه إطاراً تأسيسياً يفتح الباب أمام أجيال من الفعل الثوري – الدستوري الثقافي، ليعيدوا كتابة تاريخ بلدهم على نحو أكثر عدلاً وإنسانية.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|