أصوات من الركام: هل ينجو السياسيون من محكمة الوعي السوداني؟ كتبه الطيب محمد جادة

أصوات من الركام: هل ينجو السياسيون من محكمة الوعي السوداني؟ كتبه الطيب محمد جادة


12-01-2025, 10:46 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1764629178&rn=0


Post: #1
Title: أصوات من الركام: هل ينجو السياسيون من محكمة الوعي السوداني؟ كتبه الطيب محمد جادة
Author: الطيب محمد جاده
Date: 12-01-2025, 10:46 PM

10:46 PM December, 01 2025

سودانيز اون لاين
الطيب محمد جاده-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





صحفي مستقل
في فضاءٍ يضجّ بالأسئلة ويزدحم بالقلق، يقف السودانيون اليوم على عتبة لحظة تاريخية ثقيلة، لحظة لا تشبه ما سبقها إلا بقدر ما يشبه الرمادُ النار. فالحرب التي انفجرت في قلب البلاد لم تُسقط فقط البنى المادية للدولة، بل كشفت أيضاً هشاشة المشهد السياسي، وعرّت كثيراً من القوى التي اعتقد الناس يوماً أنها تحمل مفاتيح الخلاص. وهكذا، وجد الشارع نفسه في مواجهة سياسيين بدا أنهم يتوارون خلف ستارٍ ضبابي، يترددون في اتخاذ الموقف، أو يتقنون فنّ الوقوف بين خطين.
هذا المقال محاولة للاقتراب من الراهن السياسي السوداني، وتلمّس الطريق نحو مستقبلٍ قد يكون أقرب مما نتخيّل… أو أبعد مما نرجو.
الراحل والمقیم في المعادلة السياسية
على امتداد سنوات ما بعد الثورة، تعوّد السودانيون وجود طيف واسع من الفاعلين السياسيين: أحزاب تقليدية ذات جذور عميقة، حركات مسلحة تملك قواتها ورؤاها، تيارات مدنية صاعدة، وشباب خرجوا من أحياء المدن يحملون شعارات لا تشبه قاموس السياسة القديم. غير أن الحرب الأخيرة قلبت الطاولة على الجميع، فاختلطت الأوراق وانكمش المجال السياسي إلى حدّ الاختناق.
كثير من القوى السياسية وجدت نفسها عاجزة عن اتخاذ موقف صريح. بعضها حاول اللعب على حبال متعددة، وبعضها تحوّل إلى متفرجٍ يراقب الدخان من بعيد، وآخرون حاولوا الحديث بصوتٍ خافت لا يعلو فوق هدير المدافع. هذا التردد جاء بنتائج عكسية: فالشارع الذي ظلّ طوال سنوات يتابع المشهد بشغف، شعر بأن القوى التي ظنّها يوماً حليفة له قد تركته وحيداً وسط الرماد.
لكن الحقيقة أعقد من ذلك. فالمشهد السياسي خلال الحرب كان محكوماً بظروف قاسية: انقسام جغرافي، انعدام الأمن، غياب المؤسسات، وانهيار قنوات التواصل. ومع ذلك، يبقى سؤال الشارع قائماً: لماذا بدا معظم السياسيين وكأنهم فقدوا القدرة على الإمساك بزمام المبادرة؟
مستقبل القوى السياسية: ولادة جديدة أم أفول؟
من الصعب اليوم رسم خريطة نهائية لمستقبل القوى السياسية في السودان، لكن يمكن رصد ثلاثة مسارات محتملة، وكلها تعتمد على ما سيحدث خلال الأشهر المقبلة من تطورات عسكرية ومجتمعية:
1. المسار الأول: إعادة التشكل
قد تعيد الأحزاب التقليدية صياغة خطابها، وتعمل على بناء تحالفات جديدة تستجيب لنبض الناس. لكن هذا يتطلب نقداً ذاتياً حقيقياً، ودخولاً في مراجعات لا مجاملات فيها. العودة بوجوهٍ قديمة وخطاب قديم قد لا تجد لها مكاناً في بلد تغيرت ملامحه جذرياً.
2. المسار الثاني: صعود قوى جديدة
الحرب أفرزت واقعاً مغايراً، وفي ثنايا هذا الألم تولد حركات شبابية ومدنية أكثر تنظيماً وقدرة على تمثيل المواطن. هذه القوى قد لا تملك تاريخاً طويلاً، لكنها تحمل خطاباً أكثر التصاقاً بالناس، وخاصة أولئك الذين اكتووا بنار الحرب في أطراف البلاد ومدنها الكبرى.
3. المسار الثالث: انزواء بعض القوى
بعض الأحزاب والحركات التي فشلت في تقديم موقف واضح قد تجد نفسها خارج اللعبة السياسية مستقبلاً. فالمجتمعات الخارجة من الحروب عادة ما تكون أقل صبراً على التردد وأكثر ميلاً إلى القوى الحاسمة والواضحة.
هل يتصالح الشعب مع السياسيين؟
هذا السؤال يبدو كأنه قادم من قلب شارعٍ متعب، لكنه أيضاً سؤال عادل. فالشعب السوداني، رغم الجراح، يمتلك قدرة عجيبة على الصفح حين يرى الصدق ويشمّ رائحة التغيير الحقيقي. التصالح ممكن، لكنه غير مجاني. هناك شروط لا يستطيع السياسيون القفز فوقها:
الاعتراف بالأخطاء: على القوى السياسية أن تعترف بأنها أخفقت في لحظات حرجة، وأن الصمت أو الغموض كان مؤذياً للناس. الاعتراف يفتح الباب أمام التصالح، ويعيد شيئاً من الثقة التي تكسّرت.
الالتصاق بالشارع: لا مستقبل لأي حزب أو تيار لا يسمع صوت النازحين واللاجئين وأسر الشهداء ومن فقدوا منازلهم وأحلامهم. هؤلاء ليسوا أرقاماً في تقرير؛ هم معيار الشرعية القادم.
خطاب جديد يناسب بلد ما بعد الحرب: السودان بعد الحرب ليس هو السودان قبلها. الحديث عن السلطة أو المشاركة السياسية فقط لم يعد كافياً؛ الناس تريد خطاباً يضع حياتهم، أمانهم، وتعافيهم النفسي في المقدمة.
دورٌ حقيقي في إنهاء الحرب: القوى التي ستجد لها مكاناً في المستقبل هي تلك التي تعمل بجدية من أجل إنهاء الحرب، وليس تلك التي تكتفي بالتعليق من بعيد.
السودان اليوم يشبه مدينةً تُطفأ أنوارها ثم تُضاء من جديد. بين هذا الانطفاء وهذا التوهج، يتغيّر كل شيء: الوجوه، الخطابات، التحالفات، وحتى اللغة التي نتحدث بها. القوى السياسية التي تقف الآن على حافة المشهد لن تستطيع العودة كما كانت؛ فزمن الحرب يخلق ذاكرةً لا تُمحى بسهولة.
ومع ذلك، فإن هذا البلد الذي طالما قاوم الأعاصير يعرف كيف يعيد بناء نفسه. ربما يتصالح الناس مع بعض السياسيين، وربما يطوون صفحة آخرين، لكن المؤكد أن الوعي الشعبي صار أكثر حدّة، وأكثر قدرة على التمييز بين من يصنع الخطاب من فوق، ومن يصنع المستقبل من بين الركام.
في نهاية المطاف، ليست الحرب هي التي تحدد مصير السياسة، بل الناس الذين ينهضون من آثارها. والسودانيون، كما نعرفهم، أهل نهوض.