1-2رؤية السودان الجديد: المشروع الناضج والرشيد في الغرفة كتبه خالد كودي

1-2رؤية السودان الجديد: المشروع الناضج والرشيد في الغرفة كتبه خالد كودي


12-01-2025, 11:17 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1764587853&rn=0


Post: #1
Title: 1-2رؤية السودان الجديد: المشروع الناضج والرشيد في الغرفة كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 12-01-2025, 11:17 AM

11:17 AM December, 01 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر





29/11/2025 ، بوسطن

يشترك السودانيون اليوم - على اختلاف مواقعهم وانقساماتهم ومشاربهم السياسية - في توق عميق إلى سلام مستدام وحكم مدني ديمقراطي ينهي عقوداً من الانقلابات والحروب والتسلّط العسكري. كما لا تخلو بيانات المنظومة الإقليمية والدولية، بما فيها الرباعية وسائر الشركاء الدوليين، من تأكيد متكرر على أن الحل المستدام في السودان لا يتحقق إلا عبر انتقال مدني ديمقراطي. غير أن هذا الإجماع الظاهري يخفي خلفه اختلافاً جذرياً في تعريف السلام، الديمقراطية بل و"المدنية" نفسها: هل هي مجرد إبعاد الجيش عن السلطة؟ أم هي إعادة تأسيس للدولة على أسس جديدة؟
المجتمع الدولي يفترض- نظرياً- أن الحكم المدني الديمقراطي يعني بناء دولة حديثة تُحقّق المواطنة المتساوية، وتقرّ بالشروط البنيوية للديمقراطية الحقّة: علمانية الدولة، فصل الدين عن الدولة تشريعا ومؤسسات، عدالة تاريخية تعالج اختلالات الماضي، وحق تقرير المصير بوصفه ضمانة للسلطة الشعبية والوحدة الطوعية. هذه هي مرتكزات الدولة الديمقراطية في التجارب الحديثة، وهي الأسس التي تُصان عبرها الأوطان متعددة الشعوب والثقافات والأديان ولا طريق اخر ولو بالاحتيال.
لكن داخل السودان، تتعامل النخب النيلية المدنية التقليدية بيمينها ويسارها مع مفهوم الحكم المدني بطريقة مختلفة تماماً: فهي ترى نفسها "الوارث الطبيعي" للسلطة بعد إبعاد العسكر، وربما بعد ابعاد الإسلاميين، وترسم تصوراً لديمقراطية شكلانية تحافظ على البنية القديمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ ديمقراطية تُبعد العسكر وربما بعض الإسلاميين ولكن لا تمسّ الامتيازات التاريخية، ولا تعترف بالعلمانية بوصفها الشرط الأول للمواطنة المتساوية، ولا تنفتح على العدالة التاريخية بوصفها أساساً لإعادة الثقة بين الدولة ومواطنيها، كما لاتريد ان تري الوحدة الطوعية وحق تقرير المصير. إنهم يطالبون بديمقراطية "منزوعة العلمانية"، أي دولة مدنية في الشكل ودينية "بدرجة ما" - ومركزية في الجوهر، تُبقي على سودان قديم يعيد توزيع السلطة داخل النخبة نفسها دون أي قطيعة معرفية أو مؤسسية
هذه النخبة تريد إعادة تشكيل "مدنية" علي مقاسها، وهم بالضرورة علي راسها. مدنية تناسب تصوّراتها القديمة للوطن:
١/ دولة مركزية؛
٢/ محكومة بثقافة واحدة؛
٣/ تستبعد المجموعات المهمّشة من تقرير مستقبلها ؛
٤/ وتُبقي الامتيازات في يد الطبقة ذاتها التي استفادت تاريخياً من البنية الاستعمارية ثم من دولة ما بعد الاستقلال الا من بعض التمثيل الرمزي هنا وهناك!
تلك مقاربة تختزل الديمقراطية إلى حريات صورية وهندسة انتخابية شكلية لا إلى مشروع للتحرر والمساواة البنيوية.
في المقابل، برزت قوى السودان الجديد - قوى سياسية ومجتمعية وحركات مقاومة وكفاح مسلح - دفعت ثمن المواطنة المتساوية دمًا وتشردًا وحروبًا ومقاومة. هذه القوى لن تقبل وصفة "مدنية بلا علمانية"، ولن تقبل أن تُعاد صياغة الدولة مرة أخرى دون الاعتراف بحقوقها الكاملة والغير منقوصة في الأرض والموارد والهوية واللغة والتمثيل والمعني. لقد أصبح الوعي السياسي في الهامش أكثر نضجاً ووضوحاً: لا ديمقراطية من غير علمانية، ولا دولة حديثة من دون تفكيك بنية الامتياز القديمة، ولا معنى للتحول المدني ما لم يشمل جذور السلطة والهوية والثقافة.
وفي هذا السياق يظهر تيار آخر يرفع شعارات "الثورية" و"الجذرية" كالحزب الشيوعي، لكنه يتجنب مواجهة السؤال الجوهري نفسه الذي تواجهه القوي المدنية الليبرالية: كيف تكون ثورياً دون تبنّي العلمانية التي هي الشرط البنيوي الأول لأي ثورة ديمقراطية؟ هؤلاء يريدون من الذين ضحّوا من أجل دولة علمانية أن يتنازلوا عن جوهر مشروعهم ليُقدّموا لهم القيادة؛ يريدون ثمار الثورة دون أن يتحملوا أثمان التأسيس!
من هنا تتشكّل المفارقة الأساسية في الحقل السياسي السوداني اليوم:
١/ قوى مدنية ليبرالية موهومة تمثلها تحالفات مثل صمود وغيرها تتحدث عن الحكم المدني والديمقراطية، لكنها ترفض العلمانية بوصفها أساس المواطنة؛
٢/ وقوى تدّعي الثورية تجمعت علي مايسمي بالتحالف الجذري وعلي راسه الحزب الشيوعي لكنها تهرب من الشرط الجذري الاساسي لبناء دولة المواطنة والمساواة - العلمانية!
٣/ بينما تقف قوى السودان الجديد، التي دفعت أثماناً فادحة، رافضة أن يُختطف مستقبلها مرة أخرى لصالح نخبة مرتبكة ومشوشة ولا تزال تعيش في زمن السودان القديم ترديد الحفاظ علي مراكز القوي التاريخية عبر الاحتيال علي المستقبل.


ومن هنا يتّضح لنا الإطار التحليلي الضروري لفهم طبيعة الصراع حول "الحكم المدني" اليوم: فالمسألة ليست مواجهة ثنائية ميكانيكية بسيطة بين عسكر ومدنيين، بل هي صراع جدلي مركّب تتقاطع فيه البنى الاجتماعية التاريخية والامتيازات الطبقية والنوعية ومشاريع إعادة التأسيس. في هذا الوقت، السودان أمام مشروعين متعارضين للدولة: مشروعٌ يسعى إلى إعادة إنتاج جوهر السودان القديم بعد إزاحة العسكر فقط، مع الإبقاء على البنية المركزية والامتيازات القديمة؛ ومشروعٌ آخر يستهدف تأسيس سودان جديد يقوم على المساواة الكاملة، والعلمانية بوصفها الضامن للمواطنة، والعدالة التاريخية، والوحدة الطوعية بين الشعوب، وبناء جيش وطني جديد يعكس التعدد لا الهيمنة. كلا المشروعين، داخلهما قوي اجتماعية متقاطعة بدورها،
بين هذين المشروعين يتحدد مستقبل السودان، ويتشكّل مآل الدولة نفسها: هل تعود إلى بنيتها القديمة بعد تجميل إصلاحي طفيف، أم تدخل في لحظة تأسيسية تعيد تعريف السلطة والهوية والانتماء؟ ولنفهم ذلك بعمق، لا بد من مناقشة بعض هذه التقاطعات الجوهرية.

أولاً: التشظّي الاجتماعي والاستقطاب الحاد – قراءة سوسيولوجية في بنية التهميش:
الانقسام السوداني اليوم ليس مجرّد خلاف سياسي بين قوى متكافئة، بل هو حصيلة قرنٍ كامل من العنف البنيوي (structural violence)
كما عرّفه يوهان غالتونغ: عنفٌ تمارسه البُنى الاقتصادية والثقافية والقانونية حين تُوزَّع الفرص والموارد والرمزية بشكل لا متكافئ، فيُقصى جزءٌ من المجتمع من حقوقه الأساسية دون حاجة إلى رصاصة واحدة.
منذ تأسيس الدولة الاستعمارية ثم "استقلال" 1956، تشكّل في السودان مركزٌ اجتماعي - سياسي في الوادي النيلي احتكر اللغة الرسمية، والتعليم والجيش والخدمة المدنية، وعرّف نفسه بوصفه "وجه السودان"، بينما حُوِّلت الأقاليم – دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق، شرق السودان، الأقاليم الجنوبية سابقاً – إلى مخزون للعمالة الرخيصة، والموارد، والجنود، ومسرح لحروب "الأمن القومي"- والمقصود "امن النخب والمركز."
من منظور سوسيولوجي يمكن قراءة هذا عبر ثلاث طبقات متقاطعة:
١/ طبقة الاقتصاد السياسي:
- تركز الاستثمار والخدمات في المركز (الخرطوم – الجزيرة - الشمالية) مقابل إفقار الأطراف
- تحويل موارد الأقاليم (أراضٍ، مياه، ذهب، بترول صمغ، اخشاب...الخ) إلى ريع يغذّي الطبقات البيروقراطية بيمينها ويسارها والعسكرية في المركز.
٢/ طبقة الثقافة والهوية:
- تراتبية رمزية وضعت "العربي – المسلم - النيلي- الذكر" في أعلى السلم، وجرّدت الهويات الإفريقية غير العربية من الاعتراف والتمثيل، وهو ما وصفه فانون بأنه تشويه بنيوي للذات، ناتج عن استعمار يفرض معاييره العنصرية على المُستعمَر حتى بعد "الاستقلال."
٣/ طبقة العنف المباشر:
- حين تهتز شرعية المركز، يُعاد إنتاج السيطرة عبر الحرب، من الجنوب في الستينيات والسبعينيات، إلى دارفور في بدايات القرن الجديد، وصولاً إلى الحروب الحالية التي دمّرت الخرطوم ومدني وأعادت إنتاج "دارفورات" جديدة في الوسط والشمال.
حراك ديسمبر 2018 فضح هذه البنية. بعكس ثورتي 1964 و1985، التي انطلقت من العاصمة وأسقطت نظامين عسكريين دون المساس بجوهر الدولة، جاءت شرارة ديسمبر من الأقاليم الهامشية (الدمازين، عطبرة، دارفور، كردفان) قبل أن تصل الخرطوم، فظهرت لأول مرة ثورة تبدأ من الأطراف وتفرض نفسها على المركز... ليسرقها!

هذا التشظي إذن ليس "خلافاً سياسياً" عابراً، بل انقسامٌ عميق بين دولة هيمنة موروثة عن الاستعمار، وأغلبية مهمَّشة تطالب بإعادة تأسيس الدولة على أسس جديدة. هنا بالضبط يظهر مشروع السودان الجديد بوصفه محاولة واعية وناضجة لتحويل هذا الصراع من حرب أهلية مفتوحة إلى مشروع تاريخي لإعادة تعريف الدولة، لا مجرد تبديل للحكام.

ثانياً: النضج في القانون والرشد في الحوكمة – بين النظرية وفشل التجربة السودانية:
الدولة الناضجة قانونياً ليست تلك التي تمتلك دستوراً جميلاً على الورق، بل تلك التي تترجم ثلاثة مستويات من "النضج":
١/ سيادة قانون على الجميع، لايستثني المؤسسة العسكرية ولا النخب الحزبية.
٢/ عقد اجتماعي جديد يُعاد فيه تعريف من هو "الشعب" ومن يملك السيادة، كما ناقش ذلك هوبز ولوك وروسو، ثم طوّره هابرماس في فكرة الشرعية التواصلية.

٣/ الحوكمة الرشيدة: الدولة بوصفها مؤسّسة للصالح العام لا غنيمة للنخب:
ترتكز الحوكمة الرشيدة على مبدأ أساسي مفاده أن الدولة ليست ملكية خاصة لجماعة أو طبقة أو مركز اجتماعي بعينه، بل هي مؤسسة عمومية تُدار وفق قواعد القانون، وتُسخّر مواردها وآلياتها لخدمة المجتمع ككل. وبحسب هذا المنظور، تُقاس جودة الحكم بمدى قدرة مؤسسات الدولة على تحقيق العدالة، وتوزيع السلطة والموارد بصورة عادلة، وضمان حماية الحقوق على أسس المواطنة لا الامتيازات.
إلا أنّ التجربة السودانية، منذ الاستقلال، اتخذت مساراً مضاداً لهذا المبدأ. فالدساتير والاتفاقيات السياسية المتعاقبة - من نصوص الاستقلال الأولى مروراً باتفاقيات وقف الحروب والانتقال السياسي وصولاً إلى الوثيقة الدستورية بعد 2019- وان تضمّنت بنوداً جيدة على مستوى النص، لكنها انهارت في التطبيق بسبب عوائق بنيوية عميقة يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور:
١/ هيمنة المؤسسة العسكرية والأمنية وخروجها من منظومة المحاسبة العامة:
لم تُعامل المؤسسة العسكرية بوصفها جهازاً مهنياً خاضعاً لسلطة الشعب، بل ككيان سيادي يعلو على الدولة ذاتها. احتكرت تعريف "الأمن القومي"، وامتلكت حق الاعتراض على المسارات السياسية، وأصبحت أداة لإعادة إنتاج السلطة، وهو ما جعل الانتقال السياسي هشّاً ومشروطاً بإرادتها لا بإرادة المجتمع.
٢/ تملّك النخب المدنية للقانون بوصفه أداة لإعادة إنتاج السيطرة لا عقداً لإعادة التأسيس:
لم يُنظر إلى الدستور في السودان، بما في ذلك الوثيقة الدستورية بعد سقوط عمر البشير، بوصفه تعاقداً مجتمعياً يعيد تعريف الدولة ويؤسس لتوازنٍ جديد بين مكوّناتها، بل باعتباره آلية إجرائية تسمح للنخب العسكرية والمدنية - على اختلاف مواقعها الأيديولوجية - بالعبور إلى دورة جديدة من النفوذ. تحوّل القانون من نصٍ تأسيسيٍ يهدف إلى كسر تاريخ الاستبداد، إلى أداةٍ لتجديد الامتياز الرمزي والمادي لتلك النخب، في استمرارية فجّة لسياسات المركز وتهميش الأقاليم.
وعوض أن تكون المرحلة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر لحظة تأسيسية لبناء مؤسسات الدولة وإعادة هندسة بنيتها وتفكيك إرث السلطة الأحادية، تحولت إلى سوق تنافسي مغلق: صراع على الوزارات، المقاعد البرلمانية، ومواقع التمثيل الخارجي. جرى اختزال الثورة إلى معركة مناصب، وتُركت البنية العميقة للاستبداد كما هي - جيش فوق المجتمع، جهاز أمني فوق القانون، تراجع عن تفكيك النظام القديم بجدية، ومركز متغوّل على المحيط.
لقد غابت الرؤية الاستراتيجية التي تُحوّل الانتقال من استبدال الحكام إلى استبدال قواعد الحكم، فظلّ السودان أسير دولته القديمة، ولم يخرج من منطق الهيمنة الذي أنجب الإنقاذ والحكومات التي سبقتها. وكانت النتيجة الحتمية لهذا العمى السياسي: انفجار الحرب الحالية بوصفها رد فعل تاريخي لغياب التأسيس، لا مجرد أزمة ظرفية.
٣/ غياب الاعتراف بالجرائم التاريخية وما صاحبه من ترسيخ للامتيازات وبناء دولة بلا شروط تأسيس:
ظلّ النظام القانوني في السودان منفصلاً عن ذاكرة البلاد العميقة، عاجزاً عن الاعتراف بالمحرّمات المؤسسة للدولة الحديثة: تاريخ الاسترقاق وآثاره البنيوية على البنية الاجتماعية المعاصرة، الإبادات والتطهير العرقي ضد جماعات بعينها، وسياسات الإفقار والتهميش الممنهج التي حُوِّلت فيها الأقاليم إلى مناطق استنزاف لا مواطنة. لم يُترجم هذا التاريخ إلى قواعد قانونية أو مؤسساتية ملزمة، فغاب الاعتذار، وغابت العدالة، وغابت إعادة توزيع السلطة كحق، لا كمنّة.
في ظل هذا الإنكار، تحوّل القانون من أداة لإنصاف المجتمع إلى آلية لصيانة الامتيازات الموروثة: امتيازات النخب الجهوية والطبقية والدينية التي احتكرت مؤسسات الدولة والمركز السياسي. وبغياب شروط التأسيس الحقيقية - العلمانية التي تحمي المجال العام من الهيمنة العقائدية، والمدنية التي تقيم السلطة على الإرادة الشعبية لا على العنف المؤسسي، واللامركزية التي تُعيد السيادة للأقاليم، والعدالة التاريخية التي تُعيد الحقوق لأصحابها، وحق تقرير المصير كضمانة لمجتمعات طال قهرها -صار القانون غطاءً للاستمرارية، لا منصة لتجاوزها.
ولأن الدولة لم تُبنَ على عقد اجتماعي جديد ومنصف، بل على هندسة امتيازات، ظلّ مفهوم "الجيش الواحد" وسيلة للهيمنة لا للوطنية، جيشاً يرسخ سلطة نخبة محددة ويمارس الحرب على المجتمع بدلاً من حمايته. إن غياب مشروع جيش وطني جديد يُعاد تشكيله من قمته الي قاعدته وفق تنوع السودان وقيم مواطنته، جعل احتكار السلاح جزءاً من منظومة الامتياز ذاتها، لا خطوة نحو الأمن والوحدة.
هكذا، وبدلاً من أن يكون القانون مدخلاً إلى تأسيس دولة عادلة، أصبح أداةً لإعادة إنتاج السودان القديم. فغياب الاعتراف بالجرائم التاريخية ليس خطأً أخلاقياً فقط، بل هو انقطاع تأسيسي منع قيام دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية، وأبقى حق تقرير المصير والمواطنة المتساوية خارج المجال السياسي، بوصفهما مطالب "طارئة"، لا شروط وجود لوطن تعددي.
وبحسب أدبيات الحكم الرشيد والتنمية المؤسسية، فإن الرشد لا يتحقق إلا بتوافر أربعة أعمدة متكاملة: الفعالية في الأداء، الشفافية في اتخاذ القرار، المساءلة الصارمة للمؤسسات، والعدالة في توزيع الموارد والفرص. غير أن التجربة السودانية عكست نموذجاً مضاداً؛ إذ تحول "الانتقال المدني" إلى محاصصات داخلية بين قوى المركز مع بعض التمثيل الترميزي للهامش، وتقدّمت المصالح الفئوية على الثورية والبنيوية. لم تُعد هيكلة المؤسسة العسكرية، لم تُبنَ سلطة قضائية مستقلة، ولم تُنشأ آليات رقابية معنية بمحاربة الفساد وتأمين الحقوق كالبرلمان او المجالس التشريعية او مجالس التحرير كما في السلطة المدنية للسودان الجديد المطبقة في المناطق المحررة التي تحت سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال..
وبات السودان أسيراً لما تصفه أدبيات التحول السياسي بـ"تغيير النظام دون تغيير الدولة": تتبدل الوجوه، وتسقط الأنظمة، لكن البنية العميقة - المركز المتحكم، والأطراف المقهورة، والامتيازات المتوارثة - تبقى كما هي.
على الضفة الأخرى، يطرح مشروع السودان الجديد نفسه بوصفه أول محاولة واعية لتغيير الدولة لا السلطة فقط.
إذ يقوم على:
١/ مبادئ فوق دستورية تؤسس للمواطنة بوصفها القيمة العليا، وتحميها من تقلبات التحالفات السياسية؛
٢/ إعادة تعريف السيادة باعتبارها ملكاً للمجتمع لا للمؤسسة العسكرية؛
٣/ إعادة بناء الجيش الوطني ليجسد التعدد السوداني، ويخضع للمساءلة المدنية؛
٤/ إصلاح إداري شامل ينقل الدولة من منطق الريع والمحاصصة إلى منطق الخدمة العامة والحقوق المتساوية
وعليه، فإن الحوكمة الرشيدة المنتجة في السياق السوداني ليست عملية ترميم لما تبقى من الدولة القديمة، بل مشروع تأسيسي يعيد صياغة علاقة الدولة بالمجتمع والسلطة والذاكرة، ويؤسس لنظام سياسي قادر على إنتاج عدالة مستدامة لا امتيازات متوارثة.

ثالثاً: أوهام العسكر - استحالة النصر العسكري في دولة منكوبة بنيوياً ومفككة اجتماعيا:
تقوم العقيدة السياسية للقيادة العسكرية في السودان على وهم عميق: أن النصر العسكري يمكن أن يعيد تشكيل الدولة ويضمن لها السيطرة من جديد، وأن "الضربة الحاسمة" قادرة على استعادة مركزية الحكم، وفرض "سلام الدولة" على الأطراف كما حدث في اتفاقيات شكلية من قبل. غير أن ما تتجاهله المؤسسة العسكرية هو الحقيقة المؤلمة: لا توجد إمكانية لانتصار عسكري في دولة مكسورة بنيوياً، ومفككة اجتماعيا، ولا توجد حرب أهلية تنتهي بحسم لصالح طرف منفرد داخل مجتمع ممزق الهوية والسلطة والتاريخ.
الجيش السوداني لن ينتصر، لأن الانتصار العسكري يفترض وجود دولة مستقرة وشرعية موحدة ومجتمع مقبول ومتحد تحت مظلة مؤسسات، بينما السودان - منذ الاستقلال - لم يمتلك أياً من هذه الشروط!

أوهام ما بعد سقوط الإنقاذ: جيش مهزوم يتظاهر بالانتصار:
عقب سقوط نظام الإنقاذ، لم تنشأ عملية تحول سياسي حقيقية، بل تجددت أوهام المؤسسة العسكرية بأن مجرد إزالة رأس النظام تكفي لإعادة ضبط الدولة. تصوّر قادة الجيش أن "تغيير الحاكم" هو ذاته "تغيير الدولة"، وأن السيطرة على مسار المفاوضات وجرّ الحركات المسلحة إلى اتفاقات جزئية سيؤدي إلى استعادة مركزيتهم، كما فعلوا مراراً منذ 1956. لكن ما لم يدركوه - أو رفضوا إدراكه - هو أن الدولة التي يحكمونها منذ عقود قد هُزمت قبل أن يُهزم خصومها: هُزمت أخلاقياً بالتمييز، مؤسسياً بالفساد، واجتماعياً بالتهميش، وجغرافياً بانسلاخ الأطراف عن مشروعها الوطني.
"سلام جوبا" مثلا، كان التعبير الأوضح عن مكابرة المؤسسة العسكرية. فقد بُني على تصورٍ يرى الصراع نزاعاً بين النخب، وليس أزمة في بنية الدولة ذاتها. تفاوضت النخب العسكرية مع نخب مسلحة ونخب سياسية، وجرى توزيع السلطة على طاولة مغلقة، بينما ظلت جراح المجتمعات المهمّشة مفتوحة بلا اعتراف أو معالجة. حُوّلت بعض حركات الكفاح المسلح إلى رموز ديكورية داخل المسرح السياسي، بينما بقيت جذور الأزمة - الهوية، الموارد، اللامساواة التاريخية، والعنف البنيوي -دون مساس. كانت نتيجة هذه العملية أن انفجر المشهد مجدداً: حرب أكبر، وأكثر شمولاً، وأعمق اجتماعياً، لأن الصراع لم يكن على من يجلس على كرسي الحكم، بل على شكل الدولة ولمن تُبنى.
سقوط الإنقاذ ليس انتصاراً للعسكر بل سقوط لشرعيتهم!
في عقول قيادات الجيش، سقوط البشير بدا وكأنه إثبات لفاعلية "الحسم". لكن من منظور العلوم السياسية، كان ذلك هزيمة عميقة للمؤسسة العسكرية نفسها: فحكومة الإنقاذ كانت الابن الشرعي لثقافة الجيش السياسي، وشراكة امتدت لعقود بين السلطة العسكرية والدينية والبيروقراطية. حين سقط رأس النظام، انكشف أن الجيش بلا مشروع، بلا قاعدة اجتماعية، وبلا شرعية أخلاقية أو سياسية. لذا لجأ إلى تدوير نفس الوصفة القديمة: تفاوضٌ انتقائي، إقصاءٌ من أعلى، وإنتاج سلامٍ بلا مؤسسات - وهو ما أعاد إنتاج الحرب لا إيقافها.

نواصل في الجزء الثاني:

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)