قصف منطقة كُمو المدنية: حين يتحوّل العنف إلى عقيدة دولة كتبه خالد كودي

قصف منطقة كُمو المدنية: حين يتحوّل العنف إلى عقيدة دولة كتبه خالد كودي


11-30-2025, 08:24 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1764534286&rn=0


Post: #1
Title: قصف منطقة كُمو المدنية: حين يتحوّل العنف إلى عقيدة دولة كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 11-30-2025, 08:24 PM

08:24 PM November, 30 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر



قصف منطقة " كُمو" المدنية: حين يتحوّل العنف إلى عقيدة دولة:

30/11/2025 خالد كودي، بوسطن

في صباح السبت الموافق 29 نوفمبر، نفّذ الجيش الخاضع لسلطة بورتسودان هجوماً بطائرات مسيّرة على منطقة كُمو في جنوب كردفان/جبال النوبة، وهي منطقة محررة تحت إدارة الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال. لم يستهدف القصف موقعاً عسكرياً أو هدفاً مشروعاً وفق قواعد الاشتباك والقانون الدولي الإنساني، بل ضرب منطقة مدنية مكتظة بالطلاب والمدنيين بما في ذلك الأطفال والنساء.
أسفر الهجوم عن اغتيال 45 مدنياً -غالبيتهم من طلاب المدارس - وإصابة أكثر من ثمانية آخرين بجروح خطيرة. لم يكن ذلك "خطأً فنياً" ولا "واقعة حرب" بالمعنى التقليدي؛ بل عملية متعمدة تقتل المدنيين مرتين: حين يُستهدفون مباشرة، وحين يُستهدف من يحاول إنقاذ من بقوا أحياء.
وبحسب شهادات العيان، جرى تنفيذ الهجوم عبر طلعتين متتاليتين لطائرتين مسيّرتين؛ استهدفت الأولى تجمعاً للمدنيين وطلاب المدارس مباشرة، فأوقعت قتلى وجرحى، ثم تبعتها الثانية لتعميق حصيلة الضحايا وحرمان المصابين من أي فرصة للإنقاذ. لم يكن ذلك استثناءً أو خللاً فنياً، بل تنفيذاً حرفياً لعقيدة قتالية تعتبر المدنيين جزءاً مشروعاً من بنك الأهداف.
تكشف هذه الواقعة الحقيقة التي حاولت الدولة المركزية وجيشها إخفاءها لعقود طويلة:
لا يوجد في استراتيجيات الحرب التي تعتمدها الخرطوم/بورتسودان خط فاصل بين الهدف المدني والهدف العسكري.
ففي مناطق الهامش على وجه الخصوص، يُعامَل المجتمع بأكمله - مدارس، أسواق، قرى، طرق - كأهداف قابلة للضرب دون تمييز، في استمرار مباشر لسياسة ممنهجة تهدف إلى تفكيك الروح المدنية وإخضاع السكان عبر الرعب، ولكن هيهات!
وما حدث في كُمو ليس حادثاً عابراً، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من العنف المقصود، الذي يجعل المدنيين الهدف الأول في حسابات الدولة. فالغاية ليست هزيمة خصم عسكري، بل تحطيم مستقبل المجتمع نفسه وإرغامه على الخضوع بالقوة.

١/ العنف الجوي كسياسة دولة لا كخيار عسكري:
القصف الارعن علي منطقة "كُمو" بالامس ليس استثناءً. فمنذ عقود اعتمدت الأنظمة التي حكمت الخرطوم - من الإنقاذ إلى حكومة بورتسودان - القصف الجوي للأعيان المدنية أداةً لتأديب المجتمعات الخارجة عن السيطرة، ومعاقبة الهامش على وجوده.
ليس الهدف العسكري لوحده هو ما يُحرك هذه الهجمات، بل "تأثير الصدمة". فنظام البرهان كغيره من قادة أنظمة المركز يهدف الي:
- قتل التلاميذ لكسر الأمل.
- ضرب المدارس لشل التعليم.
- اختراق المجال المدني لإرسال رسالة مفادها: لا سيادة لكم إلا ما تمنحه الخرطوم وحاليا بورتسودان.
هذه ليست قراءة عاطفية، بل حقيقة موثقة ومتكررة في سجل الجيش السوداني. ففي يوم الخميس من مارس 2024، قصف الجيش بطائرة أنتونوف مدرسة قرية الهدرا في مقاطعة دلامي بجبال النوبة، ما أدى إلى استشهاد 11 تلميذاً واثنين من المعلمين، وإصابة 45 آخرين بجروح متفاوتة. وقبل ذلك، استُهدِف أطفال هيبان بشكل مباشر، وتعرضت مدارس القرى في كاودا للقصف المتكرر، كما طال القصف المتعمد طرق المدارس في أم دورين.
لقد كان هذا القصف، آنذاك كما اليوم، أداة للإرهاب ولإخضاع المجتمع، يقوم على معادلة ثابتة رسختها الدولة المركزية لعقود:
التعليم = خطر، والمجتمع المستقل = تهديد وجودي.

٢/ الأعيان المدنية وجرائم الحرب: ما يقوله القانون الدولي:
بحسب اتفاقيات جنيف، وبروتوكولاتها الإضافية (1977)، يحظر استهداف المدنيين والأعيان المدنية بشكل مطلق، سواء في نزاع دولي أو غير دولي.
ويُعدّ الهجوم المتعمد على المدارس والمستشفيات والأسواق والقرى جريمة حرب مكتملة الأركان.
القصف بالطائرات المسيرة لا يُغير شيئاً من هذا الحكم؛ فالقانون ينظر إلى النتيجة والقصد لا إلى نوع السلاح
إن ضرب منطقة كُمو، وهي منطقة معروفة بأنها مأهولة بالمدنيين وغير عسكرية، ليس "انحرافاً تقنياً"، بل إعلان صريح بأن المدنيين جزء من استراتيجية المواجهة.
وهذا ما يجعل الجريمة مستمرة وليست عرضية – هذا القصف ليست "عملية خاطئة"، بل منهج سياسي أُنتج في الخرطوم قبل ثلاثة عقود، ويُنفَّذ اليوم بلا خجل من بورتسودان.

٣/ الصمت كتقنية قمع: أبواق النظام والنخب المتواطئة:
لماذا لا نسمع الأصوات المدنية تدين، وتنادي بفتح لجان تحقيق؟ لماذا لا تتحول هذه المجزرة إلى قضية وطنية؟
الجواب بسيط ومؤلم:
لأن الضحايا ليسوا من مفردات المركز ولايخدم موتهم او حياتهم سردية النخب المركزية او بورتسودان.
هم ليسوا "أبناء الخرطوم" أو "حماة العاصمة"، بل أطفال جبال النوبة؛ أفراد مجتمع لا يرى فيه النظام سوى بشرٍ فائض عن الحاجة، أو كتلة سكانية يجب ترويضها بالقوة.
الأخطر من القتلة، هم أولئك الذين يصمتون حين تقتل الدولة وينوحون حين يتضرر خصومهم منها.
هذا الصمت - سواء صدر عن أبواق استخباراتية تتغذى على توجيه الدولة، أو عن نخب تبيع المواقف لمن يدفع سياسياً - هو جزء من الجريمة لا أقل من الطائرات المسيرة.
إن منابرهم التي تُطلِق العويل إذا أصيب حيّ في العاصمة، وتخرس إذا أُبيد أطفال النوبة، كفيلة بأن تُعرّي حقيقة التحالف الاجتماعي مع آلة الحرب الذي ظللنا نقول به لعقود.

٤/ منظمات حقوق الإنسان السودانية أو تلك التي يعمل داخلها سودانيون: حيادٌ يتحوّل إلى انحياز:
قد يبدو "الحياد" موقفاً إنسانياً في الظاهر، لكنه في سياق الجرائم الممنهجة يتحوّل إلى شكلٍ من أشكال التواطؤ. كثير من منظمات حقوق الإنسان - محلية كانت أو دولية يعمل فيها سودانيون - لا تتحرك إلا عندما يتوافق الانتهاك مع أجندتها أو حين تتوفر له قيمة رمزية أو إعلامية أو تمويلية، بينما تصمت تماماً عندما يكون الضحايا بلا وزن في السوق الحقوقي، أو بلا حضور في فضاء الخطاب العام.
لا يطالبها أحد بأن تنحاز لجيش أو ميليشيا، بل أن تنحاز للحياة، وأن تتعامل مع الدماء البشرية بمعيار واحد.
لكن حياة أطفال كُمو لم تكن "قابلة للاستثمار الحقوقي"، ولم تمنح سردياتٍ أو مكاسب دعائية، وان اتخذوا موققا فلن يتعدي بيانا سينتهي أمره في البيانات الهامشية التي لا تتحرك إلا إلى المكان الذي يحترق بالنار، لا إلى المنابر التي تصنع أثراً أو مساءلة.

٥/ الجيش السوداني: عقيدة ضرب المجتمع قبل العدو:
القصف ليس خطأ؛ إنه لغة سياسية.
لغة تقول للمجتمع المحلي:
"لن تُبنوا مدارس، لن تُنشئوا مجتمعاً مدنياً، لن تملِكوا زمناً خارج هيمنتي."
فجيش الدولة لم يُربَّ ليحمي الوطن - بل ليدافع عن امتيازات النخب المركزية.
ومنذ 1989، كانت الطائرات الحربية من الميج والسوخوي والأنتونوف وسيلة حكم لا وسيلة دفاع؛
تُدار بها الأقاليم كما تُدار المستعمرات:
بالرعب، بالإبادة البطيئة، وبقتل الروح قبل الجسد.

: ٦/ ما بعد الضمير: سقوط معيار النخب
قصف كُمو ليس مجرد جريمة حرب؛ إنه اختبار أخلاقي صارخ يكشف انهيار معيار النخب في السودان. فهؤلاء الذين يوثّقون جرائم العنف بانتقائية خدمةً لأجنداتهم الدعائية، ويصمتون أمام الانتهاكات الممنهجة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق لأنها لا تناسب رواياتهم السياسية، هم أنفسهم الذين يتباكون اليوم على "الدولة السودانية"، بينما يعبرون مروراً بارداً على جثامين أطفال كُمو...
هذه ليست ازدواجية فكرية أو اختلاف في زاوية الرؤية؛
إنها ازدواجية ضمير:
ضمير يصنّف البشر طبقات، يرى الأعمار مراتب، ويُخضِع قيمة الإنسان لمكان ميلاده، لا لكرامته.
في نظر هؤلاء، الإنسانية ليست حقاً شاملاً، بل امتيازاً يُمنح ويُسحب وفق المصلحة السياسية - وحين يصبح الدم خارج نطاقهم الرمزي، لا يعود مأساة، بل "خبر لا يلزم التعليق عليه."

أخيراً،
إن قصف منطقة كُمو ليس حادثاً عابراً، ولا خطأً تقنياً، ولا "رد فعل عسكرياً" يمكن تبريره. هو امتداد واضح لسياسة راسخة تعاقب المجتمعات التي تختار أن تبني إرادتها خارج قبضة المركز، وتستهدف مستقبل الأطفال الذين يرفضون الخضوع لخطاب الدولة القديمة.
الدولة التي تقصف المدنيين و المدارس لا تسعى إلى حسم معركة، بل إلى قمع الأجيال القادمة؛ فهي لا تحارب خصماً عسكرياً، بل تحارب الزمن، التعليم، والقدرة على صناعة مستقبل حر. تلك ليست دولة، بل منظومة فاشية ترى في الطفل تهديداً، وفي المدرسة جبهة، وفي المجتمع المستقل عدواً يجب كسره.
وإذا استمر صمت النخب، وتواطؤ المنظمات المشبوهة التي تتعامل مع الدماء بانتقائية، واستمرت الحرب بلا مساءلة، فإن أطفال كُمو لن يكونوا آخر الشهداء، بل أول فصل في سلسلة أطول من الحروب - فلاشييء يكسر شباب السودان الجديد!
في السودان، ظل التاريخ واضحاً:
حين يهاجم الجيش المناطق المحررة، فهو يهاجم فكرة التحرر ذاتها.
والسلطة التي تقتل الطلاب لا تخشى الجيوش، بل تخشى ما هو أعمق:
التعليم، الحياة، والقدرة على كتابة مستقبل لا يمر عبر بواباتها.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)