Post: #1
Title: السودان عند مفترق طرق- تحولات جيوسياسية ومآلات سياسية في ظل توازنات جديدة #
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 11-28-2025, 07:21 PM
07:21 PM November, 28 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
يقف السودان، في أواخر نوفمبر 2025، أمام لحظة مفصلية تُعاد فيها هندسة المشهد السياسي والعسكري، ليس فقط عبر الصراع الأهلي الذي اندلع في أبريل 2023 بل من خلال انزياحٍ واسع لمراكز القرار نحو عواصم إقليمية ودولية تُعيد صياغة مستقبل البلاد وفق توازنات استراتيجية كبرى. فقد تحول النزاع بين القوات المسلحة السودانية (SAF) بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع (RSF) بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى أكبر أزمة نزوح عالمية معاصرة؛ حيث اضطر 18 مليون سوداني إلى الفرار من منازلهم، وواجه 25 مليون شخص الجوع الحاد. ومع هذه الكارثة الإنسانية، باتت ساحات القتال جزءًا من تنافس جيوسياسي يتصل بأمن البحر الأحمر، وطرق التجارة، والموارد (خاصة الذهب)، والقرن الأفريقي. المشهد اليوم لا تحدده فقط الخيارات المحلية، بل تتداخل فيه حسابات جديدة دفعت RSF لإعلان هدنة إنسانية من طرف واحد لثلاثة أشهر (24 نوفمبر 2025)، في مقابل رفض البرهان لمقترح وقف إطلاق نار دولي. وبين هذا وذاك، تُرسم ملامح معادلات قادمة تتجاوز الفاعلين المحليين.
المحور الأول - تراجع الفاعلية المحلية وانزياح مراكز القرار يشهد المشهد السوداني تحولًا هيكليًا يتمثل في اضمحلال نفوذ الفاعلين الداخليين لصالح قوى خارجية تُمسك بخيوط الدعم والتمويل. القوى العسكرية: خيارات محدودة واستقطاب خارجي على الرغم من سيطرة SAF على أجزاء من الشرق والشمال وتمركز الحكومة في بورتسودان تحت مسمى “حكومة الأمل”، في مقابل سيطرة RSF على مناطق واسعة من دارفور وكردفان وتشكيل “حكومة السلام والوحدة”، إلا أن الطرفين يعانيان من عجز استراتيجي واضح. لم يتمكن أي منهما من تحقيق نصر حاسم، مما أطال أمد النزاع وحول كل طرف إلى مجرد وكيل استراتيجي أصبح استمرار كل طرف مرهونًا باستجابته لشروط الرعاة الخارجيين، سواء كان ذلك عبر صفقات الأسلحة النوعية لـ SAF أو الدعم اللوجستي والمادي لـ RSF. بينما يظل هامش المناورة ضيقًا، رغم محاولات كسب الشرعية الدولية أو الإنسانية (مثل مبادرة RSF لوقف إطلاق النار أحادي الجانب التي أُعلنت مؤخرًا).
القوات المشتركة والميليشيات- على حافة الانهيار القوى المسلحة في دارفور، التي كانت تعتمد سابقًا على دعم خارجي متنوع، تواجه الانهيار. مع تفاقم النزوح في الفاشر وشمال كردفان، وتسجيل 140 ألف نازح جديد، باتت هذه القوات بين خيارين: الأول، الاندماج في ترتيبات أمنية تُفرض من الخارج ضمن عملية تفكيك وإعادة هيكلة شاملة، أو الثاني، الخروج الكامل من المعادلة وفقدان أي وزن سياسي، خاصة بعد اتهامات دولية لرموز RSF بارتكاب جرائم إبادة قد تدفع باتجاه فرض عقوبات أكثر صرامة وملاحقات قضائية. هذا الوضع يقلص عدد الأوراق المسلحة على طاولة المفاوضات الأحزاب السياسية: ----غياب الدور وتأكل الشرعية تراجعت فاعلية الأحزاب التقليدية والمدنية بصورة عميقة، مع فقدان ثقة الشارع الذي رأى في فشلها في إدارة المرحلة الانتقالية السابقة أحد أسباب الانزلاق إلى الحرب تراجع دور هذه الأحزاب يتوافق مع قناعة المجتمع الدولي بعدم قدرتها على قيادة انتقال مستقر ومنظم. أصبحت مؤسسات الوساطة الدولية تركز بشكل شبه حصري على اللاعبين العسكريين، كونهما القوتين الوحيدتين القادرتين على فرض الهدوء أو إطلاق النار، لتغيب الأحزاب عن خريطة القوة الحقيقية
المحور الثاني- الصراع الإقليمي وتشكل تحالفات جديدة شهدت الأشهر الأخيرة إعادة تشكيل دراماتيكية للنفوذ الإقليمي، حيث تحركت القوى الكبرى لملء الفراغ الذي خلفه ضعف الفاعلين المحليين، بهدف تأمين مصالحها الاستراتيجية.
صعود الدور السعودي كمهندس للتسوية تقدمت المملكة العربية السعودية إلى مركز المشهد، باعتبارها الوسيط الأبرز ضمن منصة جدة وبدافع حماية الأمن الإقليمي المرتبط بـ البحر الأحمر وتأمين مصالح الطاقة. تزايدت الدعوات الشعبية السودانية عبر منصات التواصل الاجتماعي (مثل X) إلى تدخل سعودي مباشر لوقف النزيف، مما يعكس ثقة متنامية في دور الرياض داخل الرباعية الدولية (السعودية، الولايات المتحدة، بريطانيا، والإمارات) وقدرتها على تحقيق توازن القوى اللازم للمفاوضات. هذا الدور السعودي يُنظر إليه كمحاولة لاستعادة الاستقرار في خاصرة الخليج الاستراتيجية. تراجع النفوذ المصري: من الوصاية إلى المتابعة تراجعت قدرة القاهرة على التأثير في الملف السوداني بفعالية، بعد عقود من “الوصاية السياسية” والقرب الاستخباراتي مع الخرطوم. التوازنات الجديدة تجعل مصر أقرب إلى متلقٍّ للمسارات الإقليمية والدولية بدلاً من صانعها، مع هيمنة الخط الأمريكي–السعودي على خط التسويات. يرجع هذا التراجع إلى تبدل أولويات العواصم الكبرى، التي تنظر للسودان من زاوية أمن البحر الأحمر والتنافس الدولي أكثر من زاوية أمن الحدود التقليدي. الإمارات، والإخوان: إعادة رسم الخريطة الأيديولوجية واجهت الإمارات اتهامات بدعم RSF عبر خطوط لوجستية تمر عبر ليبيا وتشاد، وهو ما جعلها في مرمى الانتقاد الدولي ويدفعها لشنّ حملة ضغط في البرلمان الأوروبي لتجنب الإدانة المرتبطة بجرائم الحرب. في المقابل، خرج تيار الإخوان المسلمين فعليًا من الحسابات السياسية الكبرى لغياب الدعم الخليجي والغربي، ولتراجع نفوذهم الشعبي وسط تحول المزاج السوداني نحو دولة خدمات ومواطنة بلا صبغة أيديولوجية، وهو ما يتوافق مع الرؤية البراغماتية للقوى الدولية والإقليمية المهيمنة. المحور الثالث- التسويات الدولية وإعادة تشكيل القرن الأفريقي المشهد الإقليمي يشير إلى تفاهمات أمريكية–روسية غير معلنة لإدارة النفوذ في أفريقيا، حيث برزت واشنطن بدور وساطة متقدم منذ 19 نوفمبر 2025. هذه التفاهمات، التي تُدار بحذر براغماتي، تستهدف تحقيق عدة أهداف استراتيجية: إدارة انتقال بلا فوضى حزبية: تتجنب القوى الدولية الفاعلة إدخال البلاد في صراعات سياسية لا نهاية لها، مع تفضيل ترتيبات عملية تضمن الاستقرار السريع.
بناء حكم مركزي قابل للتعامل: الهدف هو إيجاد سلطة مركزية قوية بما يكفي لضمان مصالح أمنية واقتصادية حيوية في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بما في ذلك تأمين الملاحة ومكافحة الإرهاب.
تقليص نفوذ اللاعبين "غير المنضبطين": يتجه الضغط الدولي نحو الحد من استقلال الميليشيات والقوى المسلحة، بما في ذلك فرض قيود على RSF التي تواجه مطالب متزايدة بالتفكيك والدمج في جيش وطني موحد.
معالجة الكارثة الإنسانية: تحذيرات الأمم المتحدة من “تكلفة الصمت العالية” أمام 12 مليون مشرد إضافي تجعل البعد الإنساني جزءًا من المعادلة الجديدة، لا مجرد نتيجة للصراع، مما يفرض ضغطًا على جميع الأطراف للقبول بحلول عملية.
أي مستقبل ينتظر السودان؟
الاجابة علي هذا التساؤل مهمة , وممكن القول أن السودان الان يعبر نحو مرحلة جديدة تتسم بالصرامة والسيولة , فالقوى الإقليمية والدولية أصبحت هي المحدد الرئيسي للمسار السياسي، بينما تراجعت قدرة الفاعلين المحليين على صياغة خياراتهم القواعد الجديدة واضحة: مراكز القرار خارج السودان، وهي التي تُحدد التمويل والدعم والتوجهات؛ الأولوية للمصالح الأمنية والاقتصادية على أي اعتبارات أيديولوجية أو حزبية؛ وإقصاء كل طرف بلا أوراق ضغط حقيقية، سواء كان حزبًا سياسيًا أو ميليشيا أو حتى دولة إقليمية.
السؤال الحقيقي ليس هل دخل السودان مرحلة جديدة — فقد دخلها بالفعل — و بل هل ستنتج الترتيبات المفروضة دولة مستقرة تُعالج جذور الأزمة الاجتماعية والسياسية، أم أنها ستعيد إنتاج الانهيار في شكل آخر عبر نظام حكم هش؟ الإجابة ستعتمد على قدرة السودانيين على صياغة قيادة وطنية صلبة تستوعب دروس الكارثة، وتحوّل التوازنات القاسية إلى فرصة لإعادة بناء الدولة المدنية، خارج تحكم العواصم الخارجية وتحت سلطة إرادة الشعب.
|
|