Post: #1
Title: إلى الجنرال ياسر العطا في غيبوبته الطوعية… وهل (ينّي) وحده كان يغني في سكرته؟ كتبه الصادق حمدين
Author: الصادق حمدين
Date: 11-28-2025, 07:08 PM
07:08 PM November, 28 2025 سودانيز اون لاين الصادق حمدين-UK مكتبتى رابط مختصر
**
لا أرغب في الخوض في تفاصيل الخطاب الذي أدلى به ياسر العطا بمدينة الأبيض مؤخرا، فمعظمه لم يتجاوز حدود اللغو والعبارات السوقية المبتذلة التي لا ترقى لمستوى يستحق الرد. غير أن ما لا يمكن تجاوزه هو نقطةٌ بعينها استوقفتني، إذ رأيتها فتنة تُنذر بما هو أخطر. فحين يُعاد إحياء التقسيم بين ثنائية عرب وزرقة في ظرف مشحون كهذا، فإننا نقف أمام شرارة مكتملة الشروط للاشتعال؛ شرارة قادرة على أن تجرّ البلاد إلى أتون يحرق الوطن بما فيه ومن فيه.
ومن هنا، يا ياسر العطا، يبدو أنك في غيبوبتك الطوعية خرجت علينا من ليلٍ بلا نجمة، تحاول أن تهدي الوطن طريقه وأنت لا ترى حتى موطئ قدميك. كأنك تحمل خريطة ممزقة، وتريد أن تقنع الناس أن الشقوق فيها هي حدود البلاد، وأن الفراغات هي تاريخها.
ولأن الخطاب مرآة صاحبه، فقد تحدثت لا بلسان قائدٍ يعرف ثقل الكلمة، بل بلسان رجلٍ يفتش في الرماد عن شرارة فتنة، بلسان متلعثم ضلت كلماته طريقها فألقيتها على أسماع حضورك كالسكاكين الصدأة. وزعمت أنّ بعض السودانيين أصلٌ وبعضهم طارئ، وكأنك تقيس الانتماء بالمزاج، وتوزع الهوية كما تُوزع الغنائم بعد حربٍ لا مبدأ لها. ولا ندري لك جذرا ولا أصلا، إذا كان الأمر يعتمد على المزاج وحده.
وهنا تحديداً اصطدمتَ بالتاريخ… لم تقرأه، بل راوغته. لم تحترمه، بل حاولت تطويعه بيدٍ مرتجفة وعيونٍ جاحظة غيّر لونها ما خلّفته عصارة “القزازة” المملوءة فرحاً. استسهلت الكذب، وكأنك لم تدرك أن التاريخ ليس حصاناً تجرّه برسن رغباتك، بل نهرٌ هادر يجرف من يتجرأ على ضفافه بالزيف.
ولتكتمل الدهشة، من أين جاءتك الجرأة على الادعاء بأن نضال الاستعمار كان حكراً على قبائل بعينها؟ كيف أغفلت أن شرايين هذا الوطن سالت كلها، من الشمال حتى تخوم الغرب، ومن الشرق حتى قلب الجبال؟ أحقاً تظن أن ذاكرة السودان إرثٌ يُورّث، أو دفتر حضورٍ تضع فيه أسماء وترفع أخرى؟
يا عطا… أفق يا رجل. فقد تعبنا من انتظار عقلك. رشّ عليه قليلاً من الماء لعله يكلّف نفسه بالعودة. لقد وضعت الوطن بين شفرتين: شفرةُ خطابٍ يؤجج، وشفرةُ روايةٍ تشق البلاد نصفين. وأنت تدرك أن هذه جريمة بحق الوطن مكتملة الأركان، وأن الدفع بـ”الغيبوبة الطوعية”، ليس بعذر قانوني لالتماس البراءة.
وما يزال الخطر يكبر، إذ تريد أن تقاتل التاريخ بالتلفيق والفهلوة، وأن تبني المستقبل على ركام الفتنة النائمة التي تستوجب اللعن لمن يوقظها. تمضي في غيك وكأنك لم تسمع أن الأمم لا تُهزم بالسلاح، بل تُهزم عندما يعتلي المنابرَ من يجعل من الخوف دستوراً، ومن الانقسام المجتمعي عقيدة.
على أن السودان، أيها جنرال الذي أدمن التيه، أوسع من لغتك، وأعمق من تحريضك، وأقدم من كل محاولة لإعادة صياغته على مقاس قائدٍ ضلّ طريق الدولة فأخذ يتكئ على القبيلة. السودان وطنٌ لم يولد من رحم الاصطفاف، ولن يموت بخطابٍ يتيه بين عنجهية القوة وضعف الحجة.
وفي خاتمة الكلام، هذه حقيقة لا مجاملة فيها: من يزور ذاكرة وطن ويتلاعب بحاضره، يظل منفياً عن مستقبله. ومن يزرع الفتنة بكلمة يحصدها عزلةً في نهاية الطريق. ومن يظن أن التاريخ يُقاد بالعصا والمزاج يكتشف أنه كان يقود نفسه إلى الهاوية. سيظل السودان أسمى من الخطابات المرتعشة، وأبقى من كل جنديٍّ يتوهم أن الصراخ بالكلمات يصنع مجداً.
الصادق حمدين [email protected]
|
|