Post: #1
Title: حميدتي البرهان..صوتٌ ينادي من بين الركام… وآخر يوقظ صليل الحديد كتبه الصادق حمدين
Author: الصادق حمدين
Date: 11-27-2025, 01:07 AM
01:07 AM November, 26 2025 سودانيز اون لاين الصادق حمدين-UK مكتبتى رابط مختصر
*
في ليل السودان الطويل المدلهم والمضطرب، حيث تتقاطع أصوات المدافع مع أنين البيوت المهدّمة التي تبكي هجر ساكنيها، خرج خطابان متناقضان يناهضان بعضهما كفانوسين مختلفين في الضوء والاتجاه والكثافة، أحدهما يتقدّم بخطواتٍ متعبة نحو هدنة إنسانية، والآخر يمضي واثقاً ثقة لا يسندها دليل، وكذبتها التجربة العملية على أرض الواقع، أو هكذا بدا في صولته كهر يحاكي أسداً، وهو يمضي في طريق الحرب التي أنهكت البلاد والعباد.
كان خطاب محمد حمدان دقلو أقرب ما يكون إلى محاولة لوقف النزيف الذي بات يطوّق الخرطوم الحزينة، تلك المدينةُ الجاثمةُ على ضفاف الغياب بدت وكأنها تراجعُ أنفاسَها الأخيرة في مشهد الاحتضار الأبدي. أما مدن البؤس والشقاء والاكتئاب فلم يبقَ فيها سوى صدى الأسى، وجدرانٌ تشهق غبار الحطام، وبيوتٌ تتنفس وحشة الوحدة، وأشجارٌ تدلت أغصانَها إلى الأسفل كأنها تعتذر لسماءٍ أثقلها الدخان. وحتى الحمامُ الذي كان يعانقُ المآذن تفرّق عن المكان، تاركًا خلفه ريشًا متعبًا كأثرٍ لسلامٍ رحل في صمت، تشيعه عيون أطفالنا التي "ضاقت الهزيمة".
وسط هذا الأسى، دعا محمد حمدان دقلو، إلى هدنة إنسانية تستمر ثلاثة أشهر، ينساب خلالها ضوء الأمل عبر ممرات آمنة، لتعود القوافل الإنسانية إلى قرى هجَرتها الطمأنينة وأحياءٍ فقدت القدرة على الصبر والاحتمال. بدا صوته، رغم ضجيج الحرب، كمن يسعى إلى استعادة نبض الحياة قبل أن يتحول المشهد كله إلى صحراء من اليأس. ويصبح لوحة من مأساة تزين ألوانها وجوه الجياع المتعبة الذين توقفت أياديهم عن أفواههم أو كادت.
وعلى الضفة الأخرى من النهر، وقف خطاب عبد الفتاح البرهان، محمولاً على صرامة الشروط ودفاتر الحسابات العسكرية المختلة التي لا يميل ميزانها لصالح جيشه المنهك. رفض في كلماته المرتجفة التي تكشف تردده وحيرته، أي حديث عن وقف القتال ما لم تتحقق جملة من المطالب التي يراها حتى بعض مناصريه عصية في ميزان الواقع والتطبيق، وعلى رأسها انسحاب قوات الدعم السريع من مناطق - وللمفارقة التي ترفع حاجب الدهشة - سيطرت عليها قوات الدعم السريع بعد اتفاق جدة الذي يستند عليه في حججه الواهية، رغم رفضه المطلق لبقية بنود ذات الاتفاق.
تحدّث وكأنه ينوب عن كل السودانيين، يعلن موقفهم من الحرب والسلم، رغم أن السودانيين لم تتم استشارتهم عند إشعال نار هذه الحرب، ولم يُمنحوا خياراً في حمل أوزارها. فبدا خطابه كمن يُعيد قرع طبول حرب لم يطلبها الشعب ولم يسع إليها، ويُجهّز لساحاتٍ لم يعد فيها متسع لدفن الجثث ولا للأحلام.
وتجاوز خطاب البرهان حدود اللحظة العسكرية، ليكشف ما ظل طيّ الكتمان طويلاً؛ إذ أشار بوضوح إلى شروط “الرباعية” الساعية لتفكيك الجيش الذي يُنظر إليه باعتباره امتداداً للحركة الإسلامية، وإعادة بنائه على أسس قومية جديدة. كما بدا في نبرة صوته ما يوحي بأنه لا يتحدث بوصفه قائداً للجيش فقط، بل ممثلاً لتيار سياسي كيزاني فلولي ظل يتحرك من خلاله في الظلال والخفاء، قبل أن تفضحه الكلمات التي خرجت هذه المرّة بلا رتوش.
ثم بدأ "الجنرال التائه"، يتساءل في جهل طوعي، كمن يحاول في يأس إنكار ضوء الشمس من رمد "أين هم الكيزان؟"، وهو يدري في داخله المخادع ان العالم كله يعرف انه شيخ الكيزان وإمامهم في محلية "نيرتتي" القصية. وإن الكيزان هم الدولة وإن الدولة هي الكيزان يشكلان معاً توأمين سياميين لا يمكن فصلهما إلا بالتضحية بأحدهما.
وبين خطاب يدعو إلى تهدئة الجراح، وخطاب يدعو إلى صبّ الزيت على النار، يقف الشعب السوداني متعباً، يحمل ذاكرته المثقلة بالدموع والألم فوق كتفيه، ويسأل بصوتٍ لم يعد يسمعه إلا القليل من أبناءه الشرفاء: أي الطريقين هو سبيل النجاة؟ هل ما تحتاجه البلاد اليوم هو فسحة صامتة تُلملم فيها الأرواح المكسورة، أم مزيد من جولات القتال التي لا تُبقي ولا تذر؟
إن السودان، ذلك الوطن الذي علّم أبناءه كيف يختلفون بكرامة ويتصالحون بقلوبٍ واسعة، يستحق خطاباً يعيد إليه حقه في الحياة قبل حقه في السياسة. يستحق كلمة تُطفئ النار لا تُغذيها، وتفتح الباب أمام غدٍ أقل وجعاً وأكثر إنسانية. وبين الصوتين اللذين ترددا فوق رماد المدن، يبقى صوت الشعب وإن حُجِب هو الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن ترسم ملامح المستقبل: مستقبل لا تُكتب سطوره بالرصاص، بل بسلامٍ ينبت كالعشب في الأرض الجريحة.
الصادق حمدين [email protected]
|
|