Post: #1
Title: روما والخرطوم: كيف تبتلع الإمبراطوريات نفسها قبل أن يطرق الغزاة أبوابها؟ كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 11-25-2025, 01:13 AM
01:13 AM November, 24 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
11/24/2025 خالد كودي، بوسطن
الفنّ والدم: قراءة في سقوط روما وانهيار السودان من خلال نصوص السلطة ورموزها:
في 24 أغسطس عام 410 م، حين سُمح لجنود ألاريك باقتحام روما، لم يكن المشهد مجرد اقتحام عسكري لمدينة محصّنة؛ كان فضيحة أخلاقية وفكرية تُعرّي حضارة انهارت من داخلها قبل أن تُساءل من خارجها. لم يفهم الرومان كيف تمكن "البرابرة- الرعاع" من اختراق أسوار إمبراطورية حكمت أوروبا لخمس قرون، لأنهم ظلّوا أسرى صورة ذاتية متوهمة، مبتذلة عن القوة والخلود. كان الفن في روما—تماثيل الأباطرة، النقوش المعمارية، جداريات الانتصارات—يحكي قصة هيبة مصطنعة: الجسد المثالي، السلطة التي لا تُقهر، وكينونة تُقدّم نفسها بوصفها معيار الإنسانية. لكن تلك الجمالية المتعجرفة حجبت واقعاً آخذاً في الانهيار: تفكك إداري، استقطاب اثني واجتماعي، عجز اقتصادي، وتآكل أخلاقي وفساد كاسح. حين دخل جنود ألاريك بوابات المدينة، لم يقع السقوط على الأسوار؛ وقع في المخيلة الرومانية نفسها التي بدّلت الحقيقة بالرمز، والعدالة بالاستعراض، وهكذا سقطت دولة النخب المتعنطزة! ولذلك ليس غريباً أن تشهد السودان القديم- الخرطوم، في لحظة انهيار مشابهة، إدعاء فنياً يستعير المنطق ذاته: تمثال رديء لعبد الفتاح البرهان، نُحت على عجل وبمادة رخيصة، نُصِب في شارع رئيسي في الخرطوم ليظهر القائد في هيئة "المنقذ" وهو يحتضن إحدى النازحات. لم يكن الغرض من المجسم التعبير عن إنسانية القائد أو التخفيف عن معاناة الضحايا، بل تكريس خطاب مصطنع يجمّل العنف ويروّج للسلطة عبر صورة أخلاقية مسرحية. الجسد المتخشب، الملامح المبتورة، والخطوط المشوّهة ليست فشلاً فنياً فقط؛ إنها وثيقة نفاق سياسي. فالخرطوم، التي دُمّرت على أيدي من يزعمون حمايتها، تنتج نصباً تذكارياً لتطهير صورتهم، لا لذكرى الضحايا الذين شرّدوهم!
المفارقة الصادمة أن الاحتجاج الشعبي السائد لم يكن على قبح العمل أو تعارُضه مع الحقيقة الإنسانية، بل على أنه "يشبه الأصنام"، حسب المهوسين دينيا الذين يحرّمون الصورة ويحلّلون سلطة القتل. هنا يتجلّى تشابك النفاق الديني والسياسي: يُرفض التمثال باسم العقيدة، بينما يُغضّ الطرف عن المقابر الجماعية، القصف، وتجويع المدنيين لسبعين عاما. سارعت السلطات إلى إزالة المجسم واستبداله بجرّة ضخمة – "زير"، وكأن الخرطوم لم تجد بديلاً لرمز السلطة إلا وعاءً أجوفَ يُرضي ذهنية الطوطمة والتبرك. وما لا تدركه هذه السلطات أن الجرّة أقرب، من حيث اللاوعي الرمزي، إلى "جرار الكِنُوبك" النوبية القديمة التي تحفظ أحشاء الموتى بعد التحنيط. وكأن المدينة، دون قصد، اختارت رمزاً يليق بواقعها: وعاء لاحتواء ما أُفرغ من البشر، لا ما تبقّى من كرامتهم. إن هذه السخرية المظلمة ليست تفصيلاً عابراً؛ إنها طريقة المجتمع في التعبير عن حقيقة مُرّة: المليشيات الإسلامية تحت قيادة البرهان التي بقرَت البطون ومثّلت بالجثث والأعضاء البشرية، تركت خلفها ثقافة تحوّل الأحشاء إلى خطاب سياسي. ها هي الجرة—رمزياً—تحمل ما فعلته السلطة بالجسد السوداني، بينما ينعم القادة بصورتهم المنقّحة. كما في روما قبل سقوطها، لم يعد الفن خطاباً جمالياً أو أخلاقياً، بل طقساً تعبدياً للسلطة. في الحالتين، كانت التماثيل أكثر صدقاً من صانعيها؛ تكشف أن الإمبراطور عارٍ مهما تزيّن بالبرونز وبالرخام أو الجصّ، وأن المجتمعات لا تنهار فجأة، بل تتهاوى طبقةً فوق طبقة تحت وزن النفاق المتراكم.
وهكذا، يصبح المنتج الفني قراءة دقيقة للانهيار: في روما، تماثيل القوة غطّت هشاشة الإمبراطورية حتى اللحظة التي داست فيها أقدام القوط شوارعها؛ وفي الخرطوم، مجسمات السلطة الرديئة تحاول ستر فضيحة الواقع، لكنها لا تفعل سوى تسريع لحظة الحقيقة. فحين يتواطأ الفن مع الكذب والجلافة، تصبح السقطة حتمية، وتتحول المدن الكبرى إلى نصوص مفتوحة يقرأ فيها التاريخ كيف يهزم النفاق إمبراطوريات الأمس ودول اليوم بالمنطق ذاته!
روما: الإمبراطورية التي أكلت نفسها: عندما مات الإمبراطور ثيودوسيوس عام 395م، انتقلت السلطة إلى ابنه الصغير هونوريوس، آخر أبناء الإمبراطورية الذين حملوا التاج دون أن يدركوا ما يعنيه. لم يكن هذا الانتقال مجرد تبديلٍ شكلي في رأس الدولة؛ بل كان إيذاناً بأن جسم الإمبراطورية بات عاجزاً عن تجديد خلاياه. أصبح الطفل إمبراطوراً على عالم يتداعى، تحكمه نخب عاجزة عن فهم ما يجري في أطرافه، وتعيش في قلاعها السياسية بعيداً عن الدم الفاسد الذي تغلغل في جسد روما.... كانت روما، رغم عظمتها العسكرية والثقافية، كياناً متضخماً فقد القدرة على الإصلاح الذاتي. قراراتها السياسية حملت بذور فنائها: الاعتماد على الجنود المرتزقة او المغلوب علي امرهم، الذين لم يحملوا الولاء للإمبراطورية، نقل مركز الحكم من روما إلى رافينا بعيداً عن نبض العاصمة، وتوزيع الامتيازات على أساس الانتماء الإثني لا الكفاءة أو المواطنة. هذه الخيارات ليست مجرد أخطاء إدارية، بل تصدعات منهجية، كانت كما يقول المؤرخ بيتر براون: "تآكلاً بطيئاً للقلب لا يعالجه المزيد من الرخام أو الاحتفالات الإمبراطورية." هذا الفهم كان سابقاً على براون نفسه؛ في القرن الثامن عشر كتب إدوارد غيبون في تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية مايعني: "روما لم تُسقطها سيوف الغزاة، بل فساد أخلاقها، وانحطاط روحها، وزهو قادتها".
أما أوغسطين، الذي عاش لحظة سقوط المدينة، فقد وصفها في مدينة الله بأنها "حصنٌ بُني على الكبرياء، لا على العدالة"، وأن النهاية كانت نتيجة طبيعية "لحكم البشر بالدم، وليس بالعقل". أما الفيلسوف الأشهر منذ قرون، توينبي، فيرى أن الحضارات تنهار حين تفشل نخبها الحاكمة في الاستجابة للتحديات التاريخية، وتستبدل "الإبداع الاجتماعي" بالانكماش الدفاعي والإنكار! هكذا، لم يكن هونوريوس مجرد إمبراطور ضعيف، بل تجسيداً لطبقة كاملة فقدت القدرة على إدراك أزمتها. كانت روما قد تحولت من مشروع سياسي جامع إلى آلية هيمنة طبقية وعرقية/اثنية ودينية، حيث اختُزل مواطنو الأطراف إلى أدوات للمجتمع الروماني، لا شركاء فيه. كان الرومان ينظرون إلى القوط، الفاندال، والسارماتيين باعتبارهم برابرة ناقصي الإنسانية. هذا التعالي لم يكن مجرد خطاب، بل سياسة دولة ترسّخ اللامساواة، حتى لحظة الحقيقة التي انهارت فيها أسوار العاصمة من الداخل قبل أن تُقتحم من الخارج... والخرطوم لم تكن ذي بصر ولابصيرة ولاتزال!
السودان اليوم: التاريخ يعيد نفسه بأدوات العصر: ما يمر به السودان اليوم يذكّر بما أنذرت به روما قبل سقوطها: أزمة لا تأتي من "الغزاة" بل من داخل البيت. الخرطوم ليست مُحاطة بقوافل القوط، بل محاصرة بطبقة سياسية مركزية اعتقدت أن الوطن ملكية خاصة، وأن بقية القوميات والشعوب مجرد ملحقين بوظائفها الاقتصادية والعسكرية...! كما ورث هونوريوس إمبراطورية مثقلة بإرث لم يبنه، ورث السودان دولة مشوهة منذ ولادتها الحديثة:
دولة بناها الحكم التركي–المصري، ثم أعاد الاستعمار البريطاني تشكيل هياكلها لصالح نخبة محدودة، قبل أن تُختطف بعد الاستقلال بواسطة تحالف العروبة السياسية والفقه الإسلامي العسكري. هذه النخبة، التي تبادلت السلطة بين الإسلاميين والعسكر وأحزاب النخب الحضرية، فرضت هوية واحدة، ولساناً واحداً، وديناً واحداً باعتباره معيار المواطنة. التهميش في السودان ليس عرضاً جانبياً بل بنية مقصودة. شعوب جبال النوبة، دارفور، النيل الأزرق، الجنوب سابقاً، الشرق، والريف الشمالي، لم تُعترف بهم مواطنين؛ بل أُديروا باعتبارهم رعايا. هذا يشبه تماماً ما وصفه غيبون عن أواخر روما: طبقة مركزية تنظر لغيرها باعتبارهم أدنى مرتبة، وأقل ملاءمة للحكم. كما كانت القبائل الجرمانية تحارب في الجيش الروماني بلا امتيازات، ترى شعوب السودان نفسها مجندة بالوكالة، حطّابة الهامش، لا أصحاب قرار في الدولة التي تمولها بدمائها... وهكذا تفعل حركات سلام جوبا! حين انهارت الخرطوم في 2023–2024، لم يكن ذلك غزواً أجنبياً، بل انفجاراً لمظالم تراكمت عبر 70 عاماً من الكذب والاحتيال. كانت النخبة نفسها تسأل ببراءة: "كيف سقطت الدولة؟" كما سأل الرومان، دون أن يروا أن الخلل لم يبدأ عند المتاريس، بل في خطاب التمييز الذي رفعوه إلى منزلة العقيدة السياسية.
قطع أثرية، وسلاح محمول، ونصوص دينية تبرّر الجريمة: تماثيل روما، لوحاتها الجدارية، فسيفساؤها، لم تكن أعمالاً فنية محايدة؛ كانت نصوصاً سياسية ترسّخ السلم الطبقي وتؤله الأباطرة، فكان الفن معبراً عن انهيار أخلاقي. في السودان، استعاضت النخبة عن الفن الحضاري بالبنى الخرسانية القبيحة: ناطحات رخيصة، طرقات استعراضية، أحياء مغلقة في كافوري والمنشية؛ كلها واجهات لإخفاء حقيقة دولة مفلسة أخلاقياً وجماليا، يسكن هامشها الملايين بلا تعليم، بلا صحة، بلا حقوق....وبلابيوت او كرامة! كما كان اللاجئون الجرمانيون يقاتلون في صفوف روما ويُعاملون كغرَباء، كُتب على شعوب الهامش أن تكون وقود الدولة: مقاتلين بالوكالة، عمّالاً بلا امتياز، أدوات عسكرية واقتصادية. ثم جاءت حرب 2023، لحظة انفجار اجتماعي وفكري قبل أن تكون عسكرية. ليس لأن الدعم السريع حينها "خلاصا"، ولا الجيش "إبليس"، بل لأنهما—كلاهما—نتاج بنية واحدة: دولة استعمار داخلي، عُربت الهامش، وأسلمته، ثم رمت به في محرقة دون أن تمنحه صوته... تراجع الدعم السريع مع اقراره بمشروع تاسيس، ولايزال الجيش ابليسا! هنا ينبغي استحضار الهوس الديني الذي صدّرته منظومة الإنقاذ ولاتزال عبر الامبراطور الصغير: نصوصٌ تبرّر قتل الآخر بوصفه "جهاداً"، اعتقال المرأة بوصفه "حفاظاً على الأخلاق"، وإقصاء الشعوب باسم "الهوية الإسلامية". في هذا الخطاب، يتحول السوداني المختلف إلى "بربري"، كما وصف الرومان خصومهم: ناقص المواطنة، غير مكتمل الإنسانية، أدنى رتبة أخلاقية وثقافية.
المفارقة التي لا تريد الخرطوم/بورتسودان وبلهاء النخب الاعتراف بها: روما لم تسقط عندما اجتاحها ألاريك، بل حين توقفت عن كونها مشروعاً انسانياً مشتركاً. كذلك السودان لم يسقط حين اقتحمت قوات الدعم السريع، وقبلها قوات خليل إبراهيم وقبلهما قوات سعد بحر الخرطوم، او حين تمردت قوات الانانيا في جنوب السودان الي الن جاءت الحركة الشعبية، بل حين تعاملت النخب السياسية مع الوطن باعتباره ميراثاً عائلياً.
التمييز الروماني بين "حضارة" و"بربرية" كان قناعاً للنهب والاستعباد؛ والتمييز السوداني بين "عربي" و"أفريقي" و"مسلم" و"كافر"، او "رجل" و"امراه"، كان القناع ذاته، فقط مرتدياً لباس الدين واللغة. كلاهما أداة لشرعنة القمع، لتجميد التاريخ، و لاحتكار الدولة. وتكمن الكارثة في الاعتقاد الساذج لدى نخب الخرطوم أن سقوط البشير يعني سقوط السودان القديم. الواقع أن ديسمبر 2018 لم تكن ثورة مكتملة، بل لحظة تعطيل لمشروع جذري كان ينبغي أن يُبنى: مشروع يقلب الطاولة على الدولة المركزية، يعيد تعريف المواطنة، ويضع الذات السودانية في قلب خطاب جديد. ما حدث عوضاً عن ذلك كان استعادة للنخبة نفسها—بواجهة مدنية—استعادت أدوات روما القديمة: البرجوازية الحضرية، الرعاية الدولية، لغة "الانتقال"، دون أي مواجهة مع سؤال السودان الجوهري: من يملك الدولة؟ ومن يُقصى منها؟ وكما لم تُبعث روما من رمادها إلا حين تحرر الأوروبيون من ميراث الإمبراطورية المركزية، لن يولد السودان الجديد إلا بعد تحريره من الخرطوم القديمة، ولغتها، وخيالها السياسي الخرب.
الدرس الأخير: الإمبراطوريات لا تموت… بل تُقتل من الداخل، حتى إن جاء السوط من الخارج! هونوريوس لم يكن القائد الذي يقود جيشه؛ كان رجلاً يراقب الطيور في حدائق رافينا بينما روما تُنحر. لم يكن ذلك تفصيلاً تاريخياً هامشياً، بل نموذجاً صارخاً في علم الاجتماع السياسي: حين تتعرض الأوطان والأمم للاحتراق، تتعلق النخب بمرايا ذاتها، وتغرق في حسابات امتيازاتها، وتستعير لغة الأخلاق لتبرير العجز-قال حرب كرامة - قال. هذه هي اللحظة التي تتوقف فيها القيادة عن أن تكون قيادة، وتتحول إلى كارثة تمشي على قدمين...
اليوم في السودان، تتكرر المسرحية بوجوه مختلفة. يتحدث القادة العسكريون عن "الحوار- والسلام"، بينما هم يربطون البنادق بعنق الوطن، يتحدثون عن "وحدة التراب" وهم من مزقوا جنوبه، يتوسلون الدين لتبرير القتل، ويرفعون شعار "السيادة" وهم يفرون إلى بورتسودان وقد هُزمت كل أطروحاتهم في الخرطوم ودارفور وكردفان. الهوة بين خطابهم والواقع ليست سوء تفاهم سياسي، بل حالة إنكار تاريخي من النوع الذي أطاح بروما، لا بسبب القوط ال"برابرة"، بل بسبب نخبتها!
ومثلما كان سقوط روما مقدّمة لتدخل قوى خارجية رتبت المشهد من جديد، تتحرك اليوم الرباعية - الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، والإمارات - بوصفها القوة التي ستفرض السلام على الخرطوم ولو على جثث مشاريعها الإمبراطورية الصغيرة. وبين هؤلاء الأربعة تقف واشنطن تحديداً في لحظة تاريخية فارقة؛ رئيسها دونالد ترامب، الذي يضع الإسلام السياسي تحت مجهر تصنيف الإرهاب، يعلن بكل صراحة عن إرادة أمريكية لاعلان تنظيم الإخوان المسلمين كاحدي المنظمات الإرهابية. هذا التنظيم ذاته الذي حكم السودان ثلاثين عاماً: فصل البلاد، أشعل الحروب، أسس المليشيات، وصادر الدولة لصالح نخبة عقائدية ما زالت تصر اليوم على أن طريق خلاصها يمر عبر الدماء لا عبر العدالة... والمفارقة أن قادة الجيش، الذين لا يزالون يحاولون إحياء الإرث نفسه، يسيرون نحو الهزائم الواحدة تلو الأخرى، ومع ذلك يطالبون الشعب أن يزحف خلفهم إلى المحارق. كأنهم يقولون للسودانيين ما قاله قادة روما لشعبها: سنقاتل حتى آخر واحد منكم. لا مبالاة مطلقة، يقين مريض بأن الخراب طريق الخلاص، واعتقاد بأن الغباء العسكري يمكن أن يولد دولة، بينما التاريخ كله - من روما إلى بلغراد إلى كابول - يقول إن الدول تولد بالسياسة والعدالة، لا بالمدافع!
إن الخرطوم التي تحتمي اليوم ببورتسودان ستُجبَر على الجلوس على الطاولة، لا بفضل رؤيتها أو قوتها العسكرية، بل تحت عصاٍ دولية أكبر منها. وسيُمرَّغ أنفها في الوحل حين تُفرض عليها التسوية التي رفضتها بكل صلف. فالإمبراطوريات المتضخمة لا تتعلم من التاريخ؛ لذلك تُجبر عليه. لم يدرك قادة الإنقاذ أن سقوط البشير لم يكن سقوط النظام القديم بل سقوط واجهته، ولم يدرك قادة الجيش أن الحرب التي أشعلوها لن تمنحهم شرعية، بل ستسلمهم إلى نفس المصير الذي تسلم إليه كل سلطات العنف حين تعاند الحقيقة: الإخضاع الخارجي بعد الإفلاس الداخلي.
ما يفعله قادة الجيش اليوم - من تجييش المهمشين والفقراء، إرسال الأطفال إلى المحارق، طلب "التضحيات" بينما هم يراكمون الامتيازات - ليس دفاعاً عن السودان؛ إنه إعادة تخليق لأسوأ ما في التجارب الإمبراطورية: عبادة الذات، ازدراء الشعب، واستخدام قدسية الدولة كسكين لذبحها. وهذه ليست بطولة، بل انتحار سياسي واجتماعي، كما كتب الفيلسوف آرنولد توينبي:
"الأمم لا تُهزم على يد أعدائها، بل على يد النخب التي تفشل في التكيف، ثم تطلب من الشعب أن يموت كي تحيا أوهامها." إن السودان اليوم لا يحتاج لإمبراطور جديد، ولا لحرب مقدسة جديدة، بل لحقيقة قاسية:
أن الإمبراطورية الإسلامية السودانية سقطت، ولن يرفعها رصاص، بل دستور جديد، علماني ديمقراطي، ودولة جديدة لامركزية تقوم علي العدالة التاريخية وجيش وطني جديد.
كما لم ينقذ هونوريوس أسوار روما، لن ينقذ البرهان ولا جنرالاته ساحة البلاد. الذي سينقذه - إن أنقذه شيء - هو الاعتراف بأن الزمن تغيّر، وأن التاريخ لا ينتظر من يكرر أخطاءه، بل يسحقه ببطء، ثم، فجأة، دفعة واحدة...
أخيرا: لم تسقط روما لأن القوط كانوا همجاً؛ سقطت لأن روما توقفت عن أن تكون دولة عدل.
ولن يسقط السودان لأن الحرب وحشية؛ سيسقط كليا إذا أصرّت نخبته على إنكار التاريخ، ورفضها الاعتراف بأن الهوية ليست إرثاً قسرياً، وأن المواطنة لا تُمنح من المركز، وأن الدولة ليست ملكية اثنية أو دينية أو طبقية او نوعية! روما كانت درساً للحضارة البشرية. والسودان اليوم فرصة تاريخية نادرة: فرصة لإعادة التأسيس، لصياغة دولة تستوعب تعددها الإثني والثقافي، تعالج جراحها، وتتبنى مبادئ فوق دستورية تمنع عودة الاستبداد.
السؤال ليس من ينتصر بالبندقية، بل أي مشروع تاريخي يوقف دورة التهميش والعسكرة والعنصرية، والتخلف.
فالتاريخ لا يحمي من يكرر أخطاءه، لكنه يكافئ الشعوب التي تجرؤ على إعادة تعريف ذاتها - كما يجب أن يفعل السودان اليوم.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|