السودان بين أنقاض الدولة وما تبقي من الإنسان كتبه ماجد عرمان

السودان بين أنقاض الدولة وما تبقي من الإنسان كتبه ماجد عرمان


11-21-2025, 04:19 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1763741960&rn=0


Post: #1
Title: السودان بين أنقاض الدولة وما تبقي من الإنسان كتبه ماجد عرمان
Author: عبد الماجد سعيد عرمان
Date: 11-21-2025, 04:19 PM

04:19 PM November, 21 2025

سودانيز اون لاين
عبد الماجد سعيد عرمان-السودان
مكتبتى
رابط مختصر







في قلب الحرب اللعينة، حيث تتشظي البلاد بين الخوف والنجاة، وبين الدعاية والدم، تبدو أفكار مدرسة فرانكفورت كأنها كتبت لهذا الزمن تحديدا، زمن تتداخل فيه السلطة بالسلاح، والحقيقة بالإعلام، والإنسان بغريزة البقاء المحض. فهؤلاء المفكرون الذين شهدوا صعود الفاشيات في أوروبا، ورأوا كيف يعاد تشكيل الوعي تحت القمع والدعاية، لم يقدموا نظريات بعيدة، بل مرايا تكشف آليات الخراب حين يتحول المجتمع إلى ساحة مفتوحة للهيمنة. وفي سودان اليوم، تظهر صناعة الوعي كما وصفها أدرونو وهوركهايمر في أوضح تجلياتها، فالحرب لا تدار على الأرض فقط، بل تدار أيضا في العقول. تتوالد حقائق جاهزة عبر الفيديوهات والصفحات الممولة والتسجيلات الصوتية، ويتحول الرأي العام إلى مادة تصنع، لا موقف يفكر فيه. كل طرف يقدم روايته بوصفها قدرا لا جدال فيه، حتى يحاصر الناس داخل سرديات مغلقة، يرون العالم بعيون من يحملون السلاح، لا من تجربة الألم اليومية التي يعيشونها. وهكذا تتآكل القدرة على الحكم الأخلاقي الحر، لتحل محلها طاعة غير واعية، شبيهة بما وصفه ماركوز حين تحدث عن الإنسان الحديث الذي يختزل إلى بعد واحد لا يرى إلا ما فرض عليه أن يراه.
ومع تعمق العنف، تتحول السياسة نفسها إلى امتداد للمعركة، ويفقد الحوار قيمته، وهو ما يجعل أفكار هابرماس حول التواصل العقلاني تبدو بعيدة المنال. فلا طاولة يمكن أن تجمع أطرافا تحرّكها الحسابات الميدانية والاقتصادية أكثر مما تحركها فكرة العيش المشترك. ومع تراكم الانهيارات، يصبح المواطن أقرب إلى نموذج الاغتراب الذي تحدث عنه إريك فروم، فرد محاصر بين فقدان المكان وفقدان المعنى. يعيش الناس اليوم واقعا لا يشبههم، ووطنا منقوصا، وحاضرا بلا يقين، ومستقبلا بلا وعد، فينزلقون نحو أشكال من الولاء لا تُمنح لأنها عقلانية، بل لأنها تمنح وهم الأمان. ومع كل يوم تتباعد فيه البلاد عن سلمها الداخلي، يتآكل الحد الأدنى من الأخلاق الذي تحدث عنه أدرونو، ذلك الحد الذي يطرح السؤال المر،كيف نحتفظ بإنسانيتنا حين تنهار كل البُنى من حولنا؟ فالحرب لا تسلب الأرض فقط، بل تسلب القدرة على رؤية الآخر كإنسان لا كتهديد.
تبدو الحرب حين تُقرأ بعيون مدرسة فرانكفورت، ليست عبارة عن نزاع على السلطة، بل اختبارا قاسيا للوعي نفسه، اختبارا يكشف كيف يمكن للدعاية أن تسبق الحقيقة، وللعنف أن يطغى على العقل، وللخوف أن يخنق الأخلاق، وكيف يمكن لمجتمع بأكمله أن يقاد إلى الهاوية حين تضيع المسافة بين الواقع وما يراد له أن يصدق. ومع ذلك، يبقى الرهان الأخير كما قال أدرونو، أن نبحث عن فتات من الإنسانية وسط الخراب، وأن نعيد بناء الوعي قبل أن نعيد بناء البلاد، لأن الخراب الحقيقي يبدأ حين تهزم الروح قبل أن تهزم المدن.