إجماع الشعب السُّوداني.. لكن أي إجماع! كتبه الدكتور عمر مصطفى شركيان

إجماع الشعب السُّوداني.. لكن أي إجماع! كتبه الدكتور عمر مصطفى شركيان


11-21-2025, 04:17 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1763741842&rn=0


Post: #1
Title: إجماع الشعب السُّوداني.. لكن أي إجماع! كتبه الدكتور عمر مصطفى شركيان
Author: عمر مصطفى شركيان
Date: 11-21-2025, 04:17 PM

04:17 PM November, 21 2025

سودانيز اون لاين
عمر مصطفى شركيان-UK
مكتبتى
رابط مختصر




[email protected]

حديثاً برز بعض ممن أسموا أنفسهم بالخبراء الاستراتيجيين، وشرعوا يردِّدون في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئيَّة مفاهيم مضلِّلة بأنَّ الشعب السُّوداني أجمع على الوقوف مع الجيش تحت شعار جيشٌ واحد.. شعبٌ واحد، ولا يقبل بوقف الحرب الحاليَّة إلَّا بهزيمة قوَّات الدعم السريع، ودحرها في حرب الكرامة التي يقودها، وذلك حفاظاً على السيادة الوطنيَّة، وعدم التفريط في تراب الوطن، والتمسك بوحدة البلاد. كما ظل يردِّد آخرون من شيعتهم بـأنَّ الشعب السُّوداني شعب مسالم يحب السَّلام، وذلك دون الإتيان بمنطق سليم، أو إعمال العقل في توصيف الأشياء، أو حتى استظهار البيان والتبيين بالعمل فيما هم قائلون. لعلَّ من يردِّد هذه المقولات دون التفكُّر فيما يقوله، والتدبُّر في أمره ببصيرة، فإنَّ مثله كمثل الببغاء الذي عقله في أذنه. في واقع الأمر، إنَّه لأزمة التوصيف. في ظل تلك المقولات تبرز ثلاث أغلاط مفاهيميَّة نذكرها على النحو التالي: إجماع الشعب السُّوداني، ومسألة السيادة الوطنية، وحب الشعب السُّوداني للسَّلام والتعايش السلمي.
بادئ ذي بدء، في مسألة إجماع الشعب السُّوداني يبرز التساؤل البديهي ألا وهو متى كان الشعب السُّوداني موحداً، وعلى قلب رجلٍ واحد، أو امرأة واحدة! إذ لم يتم استفتاء أهل السُّودان في يومٍ ما، أو حتى القيام بإجراء استطلاعات الرأي العام حول إجماع الشعب السُّوداني ووحدته، حتى يتم قياس معيار وحدة هذا الشعب. نحن نعلم بأنَّ الاستفتاء الذي كان من المفترض أن يتم قبيل إعلان استقلال السُّودان لم يتم، بل تم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان (الجمعيَّة التأسيسيَّة) في جلسة 19 كانون الأول (ديسمبر) 1955م، وكان هذا أول خرق للمواثيق والعهود قبل أن يجف المداد الذي كُتِب به ذاك الدستور. هكذا لم يكن هذا الشعب مجمع حتى على كيفيَّة إعلان استقلال السُّودان، وما صاحبه من تداعيات وخيمة وبيلة. فبينما فرح أهل شمال السُّودان بهذا الاستقلال العام ١٩٥٦م، استهل أهل الجنوب ذاك العهد بتمرُّد دموي استمرَّ سنيناً عدداً (١٩٥٥-١٩٧٢م)، ونالوا ما نالوا من القتل والتشريد، والاغتصاب، والإهانة في وطنهم، والنزوح الداخلي، ومكثوا ما يقارب حقبتين لاجئين في دول الجوار. ثمَّ عادت الحال إلى سيرتها الأولى – أو بالأحرى لنقل أفظع وأوجع – في الفترة ما بين (١٩٨٣-٢٠٠٥م)، مما اضطروا إلى التصويت إلى خيار الانفصال في تموز (يوليو) 2011م، وذلك بعد فقدان أرواح كثيرة من أبناء الوطن الواحد، الذي ظلَّ شعبه غير مجمع على كلمة سواء.
كذلك من المهم أن ندرك بأنَّ هذا الشعب السُّوداني مغلوب على أمره في أمر الحرب التي أشعلتها الحركة الإسلامية في 15 نيسان (أبريل) 2023م لتجنِّب قادتها المحاسبة، بل من أجل العودة إلى السلطة عن طريق الجيش الذي أدجلته طيلة سنوات حكمها. برغم مما نعلم، ويعلم غيرنا، من خطب الاستنفار الشقشقيَّة (الشقشقة تشير إلى لهاة البعير التي تخرج من فمه عند الهيجان لإظهار الهيمنة)، التي كانت تُردَّد في المنابر العامة والإفطارات الرمضانيَّة، والتي سبقت الحرب من قبل قادة الحركة الإسلاميَّة يتوعَّدون أهل السُّودان بأنَّ الحرب آتية لا ريب فيها، إلَّا أنَّهم أنكروا مسؤوليتهم في إشعال أوارها، وكذَّبوا تكذيباً كُبَّاراً، والكذب لا يوقظ عندهم مشكلاً أخلاقيَّاً أبداً، أو أي شعور بالذنب، وإنَّما مشكلاً من نوع استطيقي (Aesthetic Attitude)، إذا أدخلنا في اعتبارنا أنَّ الكذب بالنسبة إليهم شيء شبيه بتحفة فنيَّة لا تتطلَّب سنة من التحضير والإعداد لكي تصير كاملة. إذاً، أين إجماع الشعب السُّوداني في كل هذا؟
اليوم نجد الشعوب، التي تعيش تحت إدارة الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان-شمال في إقليم جنوب كردفان (جبال النُّوبة) وإقليم الفونج الجديد لا تتفق أمانيهم وتطلعاتهم مع أهل الشمال النيلي؛ أولئك الذين برزت أصوات بعض منهم بنعيق عنصري نكر يطالبون بإنشاء دولة النهر والبحر (أي نهر النيل والبحر الأحمر)، والانضمام إلى مصر. إذ اضطر أحد أبناء البجا أن يرد على هذه الأصوات النشاز بأنَّ أهل البجا لم تتم مشاورتهم في هذا المصير الوطني، وإذا دعا الأمر في ذلك فسوف يكوِّن أهل البجا دولتهم، وقد كانت لهم مملكتهم في الماضي التاريخي. كذلك ردَّ أحد أبناء الشمال بأنَّه إذا تعلَّق الأمر بتفتيت السُّودان إلى دويلات، فيمكنهم أن يستعيدوا مملكتهم الكوشية العريقة، التي كانت لها صولة وجولة في التاريخ القديم، حتى امتدَّ نفوذها إلى مصر والهلال الخصيب، ولا يمكن بأيَّة حال من الأحوال أن ينضموا إلى مصر كما أخذ يكرِّر هذا الحديث الدكتور ربيع عبد العاطي بين عشيَّة وضحاها في وسائط التواصل الاجتماعي، ويحاول تسويق هذه التجارة الكاسدة، وإذاعتها في النَّاس. وقد تساءل أبناء البجا في شرق السُّودان، والنوبيُّون والمحس في شمال السودان، هل أخذتم رأينا في دولتكم المزعومة، وفيما أنتم تدعون إليه، وتنادون به؟
كذلك لا يفوتنا أن نذكر بأنَّ شعب إقليم دارفور ليس على وفاق مع ما ظلَّ تردِّده أبواق أهل السلطة في الخرطوم، أو بورتسودان حاليَّاً. إذ ها هم يعتاشون تحت إدارة سلطة الأمر الواقع في ظل حكومة تأسيس، أو حكومة الوحدة والسَّلام. إذاً، على أولئك وهؤلاء نسائلهم: علام ابتنيتم حجَّتكم، وشرعتم تتحدَّثون عن إجماع الشعب السُّوداني!
إزاء تلك الأمثلة نصل إلى نتيجة مفادها أنَّه ليس هناك ما يُسمَّى بإجماع الشعب السُّوداني، وليس هذا الشعب مجمع على خوض الحرب أو استمرارها، أو حتى على قضيَّة واحدة من حصيلة القضايا الشائكة التي يتعارك حولها السُّودانيُّون، ويكثرون في العراك، مثل الهُوية القوميَّة، وقضايا التهميش المتمثِّلة في توزيع السلطة والثروة، والتنمية المتوازية، والعدالة، وتوزيع الفرص، والمساواة وغيرها. فالشعب السُّوداني شعب بلا ذاكرة مشتركة، وقد صدق المؤرِّخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي (1889-1875م) حين قال واصفاً الاستعمار البريطاني بقوله: "لقد صنعنا دولاً بلا مقوِّمات الدولة، وحدوداً بلا مبرِّرات الحدود، وشعوباً بلا ذاكرة مشتركة".
ثم نقفز إلى مسألة السيادة المفترى عليها. ليس من السيادة في شيء استحواذ الأرض، وبسط النفوذ السياسي والعسكري على السكان. كذلك ليست السيادة في إلقاء الخطب العصماء قي المنظمات الإقليميَّة أو الأمميَّة، وسفك دماء الشعب في الحروب الأهليَّة في سبيل ادِّعاء الحفاظ على وحدة الوطن وترابه. كما أنَّ السيادة ليست بإجراء انتخابات مزوَّرة، أو الفوز ببدعة "الإجماع السكوتي"، أو أداء المراسيم الرئاسيَّة، أو قيام المهرجانات الحكوميَّة والشعبيَّة ذات التكاليف المادية الباهظة، أو اعتماد السفراء الأجانب، وهلمَّ جرَّاً. السيادة الوطنيَّة الحقيقية تكمن في توفير سبل العيش الكريم لأبناء الوطن، وضمان العلاج المجان للمرضى، وتوفير التعليم المجان لأجيال المستقبل، وبسط الأمن والاستقرار للمواطنين حتى لا يفجع الرجل في أسرته، ولا المزارع في مزرعته، ولا الرَّاعي في باديته.
أما ثالثة الأثافي فيما ذكرناه آنفاً فهي فرية الشعب السُّوداني شعب مسالم يحب التعايش السلمي في الحين الذي فيه ندرك في أكثر ما يكون الإدراك بأنَّ تاريخ الشعب السُّوداني مليء باقتتال قبلي، ومذابح دمويَّة منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، وتشترك في هذه المجازر المروِّعة التي تقشعر منها الأبدان الشعوب القوميَّة، والحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في الخرطوم. الثأر، أو أخذ القانون باليد، سمة متأصِّلة عند السُّودانيين، وبخاصة في المجتمعات الريفيَّة، وفي البادية حيث لا توجد مراكز الشرطة، أو أيَّة آليَّة أمنيَّة لبسط سلطان القانون. وفي ظل شيوع الأسلحة الناريَّة، وحال الاحتراب التي أمست سيدة الموقف في سودان اليوم، تتفشى الفوضى المميتة، وتكثر ما يُسمَّى بالتفلتات الأمنيَّة. فإذا تذكَّرنا قتل الإنسان السُّوداني لأخيه في الوطن لتجدنَّ سيلاً من الأمثلة يصعب استقصاؤها وإحصاؤها، فهناك القتال الذي ينشأ بين الفينة والأخرى لأسباب قبليَّة، أو بسبب الشجار حول المراعي والمزارع. ففي دارفور – على سبيل المثال – حدثت صراعات إثنيَّة بين القبائل العربيَّة ضد بعضها بعضاً، وبين العرب وغير العرب، وكذلك بين القبائل الإفريقيَّة مع بعضها بعضاً (أنظر الدكتور عمر مصطفى شركيان، الصراع في دارفور.. الانتفاض السياسي والقمع الإثني، دار المصوَّرات للنشر والطباعة والتوزيع، الطبعة الأولى، الخرطوم، 2023م). إذ تركت هذه النزاعات جروحاً غائرة، وندوباً عميقة، من الحقد والموجدة بين القبائل المتساكنة في الإقليم.
كذلك ما قولكم في المجاز التي تمَّت على أساس عنصري وإثني ضد أهل الجنوب في العاصمة القوميَّة الخرطوم، وهي تلك المجازر المعروفة بيوم الأحد الدامي العام 1965م، واستهداف الدينكا قتلاً وترويعاً من قبل المسيريَّة في المجلد وبابنوسة العام 1965م، ومذبحة الضعين وعودة الرِّق في السُّودان في آذار (مارس) 1987م، ومذبحة الجبلين في أعياد ميلاد المسيح في كانون الأول (ديسمبر) 1989م، وأعمال العنف التي تفشَّت في العاصمة القوميَّة بالخرطوم عقب ذيوع نبأ وفاة الدكتور جون قرنق في تموز (يوليو) 2005م. كل تلك المجازر البشريَّة قد تمَّت على أيدي السُّودانيين ضد بعضهم بعضاً، إما مباشرة أو تواطؤ مع الدولة تسليحاً وغضَّاً للطرف عما يفعل المواطنون السُّودانيُّون ببعضهم بعضاً. أفبعد كل هذه الدماء المهراقة التي سالت – وما تزال تسيل – يمكننا أن نزعم بأنَّنا نحن معشر الشعب السُّوداني شعبٌ مسالم يصبو إلى التعايش السلمي، وينشد الحب والوئام وسط مجتمعاته القبليَّة، وفي البادية والحاضرة!
أما التجاوزات المروِّعة التي ظلَّت – وما تزال – تتم بواسطة القوَّات الأمنيَّة من العسكر والاستخبارات العسكريَّة، وقوَّات الدفاع الشعبي، وأفراد الشرطة، وقوَّات الاحتياطي المركزي، والميليشيات الإسلاميَّة-العربيَّة الكثيرة الكاثرة التي بلغت أكثر من 40 جماعة، حيث بات من الأمر العسير الاستقصاء والإحصاء في هذه العُجالة من أمرنا. وفي أمر ذلك، فحدِّث ولا حرج. بُعيد الاستقلال ارتكبت الدولة مجزرة عنبر جودة في كوستي، التي جرت أحداثها في الفترة ما بين 16-23 شباط (فبراير) 1956م حين اعتقلت السلطات الحكوميَّة المزارعين المطالبين بتحسين أوضاعهم الصحيَّة والتعليميَّة، واسترجاع حقوقهم التي لم تُعط لهم خلال ثلاث سنوات. برغم من أنَّ احتجاجهم كان بالوسائل السلميَّة من مذكِّرات وغيرها، إلَّا أنَّهم تمَّ اعتقالهم في غرفة ضيَّقة حتى ماتوا خنقاً. ثم جاء نظام الإنقاذ، واقترف مجزرة العيلفون العام 1997م حين فتحت الجنود نيرانها على الطلاب العزَّل الذين احتجوا سلميَّاً على عدم السماح لهم بالذهاب إلى ذويهم لقضاء عطلة العيد معهم، وقد مات من مات بالرصاص، وقضى آخرون نحبهم غرقاً في النيل. كذلك هناك مجزرة بورتسودان ضد البجا في 31 كانون الثاني (يناير) 2005م، ومجزرة كجبار في 13 حزيران (يونيو) 2007م، ومذبحة المنتفضين في هبة أيلول (سبتمبر) 2013م في الخرطوم. ومجزرة القيادة العامة في 3 حزيران (يونيو) 2019م في شهر رمضان المبارك.
أما في جنوب السُّودان فقليل منا يتذكَّر مجزرة جوبا في تموز (يوليو) 1965م، حيث فتحت القوِّات المسلَّحة النَّار على المواطنين العزَّل في بيت الزفاف بحجة وجود متمرِّدين في المنزل، وبعد أسبوع واحد من حادثة جوبا حدث الشيء نفسه في واو حيث اقتحم العسكر منزل زواج آخر، وقتلوا المواطنين المبتهجين الأبرياء. ثم هناك المذابح الكثيرة ضد أهل الجنوب إبَّان الحرب الأهليَّة الأولى (1955-1972م)، والثانية (1983-2005م)، وفي إقليم جبال النُّوبة وكان أكثرها إيلاماً مذبحة هيبان أثناء أعياد ميلاد المسيح في كانون الأول (ديسمبر) 1992م. أما حاليَّاً فالشاهد على هذا العهد الغيهب ما تمَّ في الخرطوم ومدني والقرى المجاورة في الجزيرة عقب انسحاب قوَّات الدعم السريع من هذه المدن والمناطق، حيث تمَّ ذبح البشر كالخراف، والتمثيل بجثامين الضحايا تحت دعاوي مقاتلة المتعاونين، واختلاق قانون الوجوه الغريبة، وهي وصفة عنصريَّة صارخة لاستهداف أبناء غرب السُّودان (دارفور وكردفان تحديداً)، وتدمير منازل ذويهم في الوقت الذي ظل أبناؤهم في الخطوط الأماميَّة يضحُّون بأنفسهم في سبيل حماية عروش أهل السلطة في بورتسودان، ويمهِّدون لهم الطريق إلى العودة إلى قصورهم في الخرطوم.
ارتكبت الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في الخرطوم في حروبها الأهليَّة، وفي تعاملها مع مواطنيها أفعالاً شنيعة، وقصصاً مرعبة مؤثِّرة تستدر الدموع، وإذ تتعذَّر روايتها بالكامل هنا، لكن ما يحز في أنفسنا، ويثير غضبنا أنَّ ضحايا تلك الجرائم لم يجدوا إنصافاً ولا عدالة، ولا أذناً صاغية. بيد أنَّ اللافت في الأمر هو أنَّ الحكومات السُّودانيَّة المتعاقبة على السلطة، وبخاصة نظام الإنقاذ، يحلو لها دوماً تنفيذ كل تلك المجازر الوحشيَّة، أو أغلبها، في المناسبات الاجتماعية، أو في الأيام المقدَّسة سواء عند المسيحيين أو المسلمين، متجاهلة الطقوس الدينيَّة، والأعراف والتقاليد، والأخلاق الإنسانيَّة، والقوانين التشريعيَّة. هذه المآسي الكارثيَّة جعلتنا نعود القهقرى لنرى كيف كانت الأشياء تُدار، ونحن نكتب بحق وقلق شديدين، وإشفاق من حال السًُّودان اليوم قبل الغد.
في خلاصة القول يستوجب علينا أن نقول إنَّ على الساسة السُّودانيين مسؤوليَّة ضبط المصطلحات والمفاهيم السياسيَّة، وتعريفها تعريفاً صحيحاً، وألَّا يقدموا على استياق النَّاس وراء شعارات وهميَّة بعيدة عن الواقع المعاش والمجرَّب. إنَّ التشخيص السليم لأسقام السُّودان المزمنة هو السبيل الأرشد لاقتلاع جذور المشكلات السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة وغيرها من مشكلات السُّودان المتشعِّبة. إذ أنَّ النظرة الواقعيَّة لتاريخ السُّودان تظهر تعارضاً بيِّناً بين الأقوال من ناحية، والأفعال من ناحية أخرى، وتمثِّل قراءة التاريخ أفضل الأدواء للعقول المريضة، لأنَّ الانغماس في تمدرس التاريخ ستجد سجلاً بلا نهاية من التجارب الإنسانيَّة، وهي معروضة في ثنايا صفحات الكتب للعيان لرؤيتها. وفي هذه السجلات إنَّك لتجد نفسك ووطنك في مرآة عاكسة، حيث الأمثلة والتحذيرات: أشياء يمكنك أن تأخذها وتهتدي بها، وأشياء وضيعة، وأخرى نتنة حيث ينبغي تجنُّبها.