حين يُغَيَّب الوعي: تضيع الوفرة في صمت الغياب كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر

حين يُغَيَّب الوعي: تضيع الوفرة في صمت الغياب كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر


11-21-2025, 01:19 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1763731157&rn=0


Post: #1
Title: حين يُغَيَّب الوعي: تضيع الوفرة في صمت الغياب كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر
Author: د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
Date: 11-21-2025, 01:19 PM

01:19 PM November, 21 2025

سودانيز اون لاين
د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK
مكتبتى
رابط مختصر




21 نوفمبر ٢٠٢٥


منذ أن غادر المستعمر أرضنا، بدا وكأن الزمن نفسه يمارس قسوته علينا، كل يومٍ يأتي أثقل من الذي سبقه، وكل صباحٍ يطلّ علينا محمَّلاً بظلّ سؤالٍ معلَّق. لماذا تتراجع البلاد رغم أن يدها ممدودة بالخيرات؟ لماذا يبدو التاريخ كأنه يعيدنا إلى الوراء بينما الموارد تتدفق أمامنا بوفرةٍ ولم تُنقذنا يوماً من الفقر أو التيه؟ كأن الوفرة ذاتها أصبحت امتحاناً أخلاقياً، نعمةً تحوّلت إلى لعنة لأن العقل الذي يديرها غائب، والنظام الذي يحميها لم يولد بعد.

فالبلادُ التي تُغمر بالمطر لا تُوهَبُ بالضرورة قدرةَ احتضانه. فالغيثُ لا يستقرّ إلا في وطنٍ هيّأ قلبه، وأرضٍ تعلّمت كيف تُحوِّل الهطول إلى نبضٍ ينهض بالحياة. الماء الذي يحيي الأرض قد يغرقها إن جاء بلا نظامٍ يروّض تدفقه. وكذلك هي الوفرةُ في جوهرها، أرضٌ بلا حدود، وأنهارٌ تنساب بلا انقطاع، وثروات حيوانية ونباتية ومعدنية تفيض حتى ليخجل الندرة منها. ومع ذلك، لا تجد في هذا الفيض مشروعاً، ولا في هذا العطاء مؤسسة، ولا في هذا الاتساع عقلٌ يضبط اندفاعه، ويحوّله من مجرّد مقدارٍ فائضٍ إلى مصيرٍ يُشيَّد على وعيٍ واتزان.

ولعل أخطر ما يكشفه تاريخ الأمم هو أن الوفرة ليست دليل عافية، بل قد تكون أشبه بطفلٍ مغرورٍ بقوته يغفل عن التدريب. الندرة تحفّز العقل، والضيق يدفع الناس إلى الابتكار، بينما الوفرة تبثُّ في الروح وهم الاكتفاء، وتُميت الرغبة في التغيير. هكذا تجد في الريف إنساناً لا يطلب من الأرض إلا جُبراكة (مزرعة صغيرة) تضمن له قوته، فيعيش مرتاحاً، مطمئناً، غير معنيٍّ بأن يحوّل ما بين يديه إلى اقتصاد، أو إلى مشروع. ليس لأنه لا يريد، بل لأنه لم يُدرَّب عبر تاريخه، على أن ينظر إلى الوفرة بوصفها مسؤوليةً تُنهض الوعي، لا عطيةً تهبط عليه من غير تبعات.

لكنّ المعضلة لا تكمن في الريف وحده، ولا في الإنسان منفرداً، فالفرد لا يتحوّل إلى طاقة منتِجة إلا حين يسنده نظام، وتحتويه مؤسسة، ويمنحه الوطن روحاً تتجاوز حدود حاجته الضيقة. أمّا إذا بقي خارج أفق الدولة الحديثة، ظلّ ذكاؤه فطرياً، وجهده مبعثراً، ونشاطه وحيداً، كأنّ الوطن أرضٌ تُفلح بالأمنيات لا بالمشروعات، وتُسقى بالرجاء لا بالتخطيط.

إن أزمتنا ليست في ماءٍ لم نحسن جمعه، ولا في أرضٍ عجزنا عن استثمار عطائها، ولا في ثروةٍ لم نعرف طريق إدارتها، بل في السؤال المؤجَّل الذي تهرّبنا منه طويلاً: أيُّ دولة نريد؟ غادر المستعمر تاركاً مؤسساتٍ كان يمكن أن تكون جسراً إلى نهضتنا، لكننا لم نُنمِّها ولم نُحسن تحويلها إلى عقدٍ اجتماعي يجمع الناس على مشروع واحد. خرج الأجنبي من الباب، لكن الدولة لم تدخل من النافذة، فبقي الوطن مكاناً نعيش فيه، لا فكرة توحد خطانا، ولا مشروعاً ينسج المصير ويمنحه رؤيةٌ توحّد الخيوط وترسم للغد ملامحه التي يستحقها. وبلا دولةٍ حقيقية، تظلّ الوفرة بلا جدوى، ويظلّ الحلم معلّقاً بين رغبة تتّسع وغيابٍ يتكرّر.

ولأن الزمن لا ينتظر الكسالى، بدأت الفجوة تتسع عاماً بعد عام بين ما نحن عليه وبين ما يتطلبه العصر. الموارد ثابتة، لكن الأخطاء تتضاعف، والوعي ينهار تدريجياً، ويصير المشهد بأسره رقصةً غير منسجمة بين الأرض المعطاءة، والإنسان المكتفِي بذاته، ودولةٍ متزعزعة لا تثبت على قاعدة. كل يومٌ يمر أسوأ من قبله، لا لأن الأيام خائبة، بل لأن البلاد تتقدّم ببطء فيما العالم يركض، وحين لا يركض الوطن، فإنه يتراجع بلا رحمة، حتى وإن بدا واقفاً، كما لو أنّ الثبات بلا حركة هو الهبوط الأكثر خفاءً.

هكذا تنقلب الوفرة وبالاً، حين يتوارى الوعي القادر على جمع شتات الحياة في خيطٍ واحد، وصياغة نسيجٍ يصون معناها ويمنحها اتساقها. الإنسان ليس عائقاً بذاته، بل حين يصبح فرداً بلا إطار، ومواطناً بلا مشروع، وفاعلاً بلا بوصلة. الإشكالية لم تكن يوماً في الندرة، بل في وفرةٍ تاهت سُبلُها، وثروةٍ عجزنا عن تهذيب قوتها، وأمّةٍ لم تستطع أن تنهض بثقل الأمانة التي وُضعت بين يديها. الوطن ليس معدماً في موارده، بل هو مبتلى بفقرٍ في العقول. ليس خالياً من الخيرات، بل مفتقراً من الرؤية التي تُحوّلها إلى قوةٍ نابضة بالحياة. ليس معاقاً بطبيعته، بل بوعيه الذي لم يغادر عتبة الاكتفاء إلى رحابة البناء، ولم يتحرّر بعد من منطق الحاجة ليبلغ أفق النهضة. وحين يفشل الوطن في تحويل الوفرة إلى قوة، يصبح كل يومٍ جديد أثقلاً، وتتحوّل النعمة إلى غبار، ويصير التاريخ قيداً بدل أن يكون جناحاً.

ولعل ما نحتاجه اليوم ليس مزيداً من الماء، ولا مزيداً من الأرض، ولا مزيداً من الذهب، فهذه كلها لدينا بفيضٍ يحسدنا عليه العالم. ما نحتاجه هو، عقلٌ جديد يؤمن أن النهر ليس ماءً فحسب بل مشروعا، وأن الأرض ليست تُراباً بل طاقة، وأن الإنسان ليس كائناً يعيش ليومه بل مواطناً يصنع الغد. عقلٌ يعرف أن الوفرة وحدها لا تبني وطناً، بل الوعي الذي يحوّلها إلى مصير.

وحين يولد الوعي، ترتجف الأرض في صمتها، ويستعيد التاريخ أولى لحظات ولادة الوطن من رحم الذاكرة. يهدأ الزمن، وتكفّ الأيام عن ابتلاع بعضها، لتصبح جسراً نصعد عليه بدل أن نسقط. وتتحوّل الوفرة من ثِقل يرسّخ العجز إلى طاقة تفتّح الأبواب المغلقة، وتستيقظ الموارد كما لو أن الأرض توقفت عن التنفس انتظارًا لعقلٍ يليق بخصوبتها. كل يوم جديد يكتب نفسه بلا وصاية الأمس، ويكشف أن البلاد لم تُخلق للتيه، بل للوعي الذي يزن النهر، ويهمس صوتًا للأرض، ويعيد للإنسان كرامته، ليصير التاريخ جناحًا يحلق بنا بدل أن يقيدنا.
[email protected]

Sent from Outlook for iOS