Post: #1
Title: التنمية ليست نزع ملكية - في تفنيد خطاب د. الوليد مادبو حول الأرض، الهوية، والاستثمار – دفاعاً عن ال
Author: خالد كودي
Date: 11-21-2025, 05:10 AM
05:10 AM November, 21 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
التنمية ليست نزع ملكية - في تفنيد خطاب د. الوليد مادبو حول الأرض، الهوية، والاستثمار – دفاعاً عن الحقوق التاريخية للشعوب الأصلية في السودان
18/11/2025 خالد كودي، بوسطن
1-2
التنمية لا تشترط انتزاع الأراضي ولا إعادة توزيعها مقدمة
استمعتُ بعناية إلى حديث د. الوليد آدم مادبو في لقائه مع الأستاذ عبد المنعم سليمان، حين تناول سؤال الحواكير وملكية الأرض في دارفور، وذهب إلى أن الحواكير — باعتبارها أراضي المجموعات القبلية المستوطنة تاريخيًا — تشكّل “عائقًا للتنمية”. وقدّم نفسه بصفته “خبيرًا عالميًا في التنمية”، ليؤكد أن الأرض ينبغي أن “تؤول للدولة”، وأن ما يجب منحه للمجتمعات المحلية ليس حق الملكية، بل مجرد “حق انتفاع مشاع”، ثم مضى ليقترح تصنيفًا فوقيًا للأرض: “أرض للمرأة، أرض للزراعة المتوسطة…”، وكأن الأرض مادة خام تقنية يمكن إعادة هندستها اجتماعيًا دون أي اعتبار لحقوق ملكيتها . كما أشار مادبو إلى لقائه بالسفير البرازيلي في الخرطوم، وما طرحه الأخير بشأن رغبة بلاده في توطين نموذج صناعة اللحوم في دارفور وكردفان. ومبدئيًا، لا تمثل الشراكات الاستثمارية أو تبادل التجارب التنموية إشكالًا؛ فالتنمية الاقتصادية حق مشروع، والاستثمار قد يشكل رافعة مهمة للتحول الاجتماعي. غير أن مادبو لم يطرح الاستثمار كمدخل شراكة مع المجتمعات المحلية، بل كمدخل للتخلص من ملكيتها، عبر توظيف خطاب “التقنية الزراعية” و“النوع الاجتماعي” كذرائع لإعادة تفكيك نظام الملكية التقليدي، بدل الاعتراف به كنقطة انطلاق إلزامية لأي مشروع تنموي عادل.
بؤرة الإشكال
يتجاوز هذا الخطاب كل الأسس الأخلاقية والقانونية والأنثروبولوجية التي يستند إليها مفهوم التنمية المستدامة عالميًا، وفي مقدمتها: الاعتراف غير المشروط بالحق التاريخي وغير القابل للتصرف للشعوب الأصيلة في أراضيها.
فبدل الانطلاق من أن المجتمعات الأصلية هي المالكة الطبيعية للأرض، وهي شريك أساسي لا يمكن تجاوزه، حمّل مادبو نظام الحواكير مسؤولية تعطيل التنمية، واقترح عمليًا إعادة توزيع واسعة للأراضي من خلال "تجميعها في مشاريع كبرى قد تصل إلى خمسمائة ألف فدان."....الخ... هذا الطرح — في السياق السوداني — ليس رؤية جديدة، بل يكرر حرفيًا نموذج مصادرة الأراضي الذي مارسته الحكومات المركزية ونخبها الطفيلية منذ 1956 باسم "التحديث" و"التنمية". وهي السياسات ذاتها التي دمّرت البنى الاجتماعية التاريخية، وقوّضت أنظمة الإدارة المحلية، وأشعلت نزاعات دامية حول الأرض والموارد، لأنها ببساطة تجاهلت المبدأ الأول: أن الأرض ليست فائضًا عن الناس، بل هي شرط وجودهم.
تفريغ العلاقة بين الإنسان والأرض: الأخطر أن د. مادبو حاول نزع الجذور التاريخية والحقوقية للملكية الأصيلة حين قال إن الانتماء للأرض "ثقافي وليس عرقي"، وإن "الحاكورة مفهوم ثقافي مجتمعي". بهذا المنطق، تصبح العلاقة بين الإنسان وأرضه ظاهرة رمزية عابرة، لا رابطة تاريخية واثنية ممتدة لقرون، ويصبح التاريخ نفسه بلا قوة معيارية، وكأن ملكية الأرض مجرد "عادة اجتماعية" قابلة للإلغاء متى ما استدعت الدولة ذلك. إن مثل هذا الخطاب، من منظور علم الاجتماع التاريخي ودراسات الأرض، لا يمثل مقاربة تنموية حديثة، بل يعيد إنتاج المنطق ذاته الذي اعتمدته القوى الاستعمارية لنزع الشرعية عن ملكيات الشعوب الأصلية: تحويل الحقوق الأصيلة إلى "ظواهر محلية"، وتقزيم التاريخ إلى "ثقافة قابلة للتجاوز"، وإعادة تأطير الأرض بوصفها ملكًا سياديًا للدولة، وليس أساسًا اجتماعيًا-أنثروبولوجيًا لتكوّن الجماعات. من هنا يمكن القول ان خطاب د. مادبو — رغم لغته التقنية — يتكئ على الحجج ذاتها التي استخدمتها الإمبراطوريات الأوروبية والاستعمار الداخلي في السودان لنزع الأرض من أصحابها ومنها: ١/ نزع الشرعية عن التاريخ المحلي، ٢/ أسطرة الدولة كمالك وحيد للأرض، ٣/ تحويل الحقوق الأصيلة إلى "ثقافات" ٤/ واعتبار المجتمعات الأصلية عائقًا لا شريكًا في التنمية إن التنمية الحقيقية لا تشترط — ولا يمكن أن تشترط — انتزاع الأرض أو إعادة توزيعها من فوق. بل تبدأ من الاعتراف الكامل، غير المشروط، بأن الأرض ملكية أصيلة للمجتمعات التي نشأت عليها، وأن أي مشروع تنموي لا يقوم على هذا المبدأ هو امتداد للاستعمار، مهما اختلفت لغته أو تبدلت شعاراته
هذا المقال يفكك هذا الخطاب، ويبين خطورته علي خطله، ويثبت بالأدلة الأنثروبولوجية والتاريخية والقانونية أن: ١/ ملكية الشعوب الأصيلة لأراضيها حق تاريخي غير قابل للتصرف او التفاوض. ٢/ الاستثمار والتنمية لا تشترط نزع ملكية المجتمعات لأراضيها، ولا إعادة توزيعها، بل بالعكس، نجاحها مشروط بتمكين تلك المجتمعات علي أراضيها. ٣/ ما يطرحه مادبو هو إعادة إنتاج لهيمنة المركز في شكل "تنموي"، لكنها هيمنة مقنّعة. ٤/ في السودان الجديد، الأرض ملك للمجتمعات الأصيلة، والدولة تنتفع بها فقط باتفاقها معها.
أولًا: الأرض ليست مادة خام للتنمية، بل أساس الهوية وامتداد الكينونة عبر آلاف السنين، لم تكن الأرض في السودان — وفي دارفور خصوصًا — مجرد ملكية اقتصادية يمكن إدارتها أو إعادة توزيعها تقنيًا، بل كانت وما تزال بنية حياة متكاملة: نظامًا اجتماعيًا، وإطارًا للهوية، ووعاءً للذاكرة الجمعية.
الحواكير ليست أراضي "قبائل" بالمعنى السطحي، بل منظومات قانونية-عرفية متوارثة، تمثل ما يسميه الأنثروبولوجيون "ملكية جماعية-تاريخية" (Historical Communal Tenure) وهي نظام متجذر يعود إلى سلطنة دارفور وما قبلها، وتم تثبيته في السجل التاريخي السوداني من خلال: - قوانين سلطنة دارفور التي وثّقت منح الحواكير رسمياً كحقوق سيادية للجماعات، وليس كهبات سياسية. - سجلات المهدية التي اعترفت بالحواكير وأعادت تنظيم بعضها وفق الأعراف - تقارير الحكم الثنائي مثل: Darfur Province Handbook (1916) الذي وثّق حدود الحواكير ونظام إدارتها بدقة. - قانون الأراضي غير المسجلة لعام 1970 الذي حاول نزع هذه الملكيات لكنه فشل في محوها اجتماعيًا وقانونيًا بسبب الاعتراف الدولي القاطع بما يسمى حقوق الملكية التاريخية للشعوب الأصيلة .. (Indigenous Historical Land Rights) هذه الأدلة التاريخية والقانونية تظهر أن الحواكير ليست "ثقافة محلية" عابرة كما يروّج د. الوليد، بل نظام ملكية أصيل، متجذر، ووثيق الصلة بهوية المجموعات التي تحمله.
الحاكورة: ليست ملكية وحسب، بل عقد اجتماعي-إيكولوجي في علم الأنثروبولوجيا، تُفهم العلاقة بين الإنسان والأرض في هذه المجتمعات بوصفها ما يسمى: Territoriality as an Identity-Bearing Structure
(الأرض بوصفها بنية حاملة للهوية) أي أن الأرض ليست مجرد سطح للاستثمار، بل جزء من بنية الوجود نفسها.
وقد أكد ذلك عدد من المفكرين والباحثين منهم: - إدوارد سوجا في نظريته حول العدالة المكانية (Spatial Justice) والتي تشير إلى أن أي نزع قسري للأرض هو فعل عنف هيكلي - فريدريك بارث في: Ethnic Groups and Boundaries مؤكدًا أن الحدود الإقليمية هي جزء من تعريف الجماعة لذاتها، جون غال (John Gal)- في دراسته حول أنظمة الأرض في جبال النوبة، التي بينت أن الأرض هي محور الكينونة الثقافية والنظام الاجتماعي. - سودارامان وولف في أبحاثهما حول الملكيات التقليدية في شرق إفريقيا، حيث يثبتان أن الملكية الجماعية ليست "عرفًا"، بل "نظامًا قانونيًا قبل-دولتيًا" معترفًا به دوليًا. الحاكورة، بهذا المعنى، هي عقد اجتماعي-إيكولوجي وتاريخي يحفظ التوازن بين البشر والمكان، بين الإنتاج والموارد، بين الماضي والمستقبل.
وفقا لدستور السودان الجديد ، المبادي والاهداف، المادة ٨ الفقرة ٤. الاض ملك للشعوب الأصيلة عرفيا، وتقع مسؤلية تنظيمها وحمايتها علي الدولة .
لماذا يشكّل خطاب د. الوليد تهديدًا مباشرًا لهذه الحقوق؟ عندما يحوّل د. الوليد العلاقة بالأرض إلى "ثقافة" لا "حق"، ويقترح أن تؤول الأرض كلها للدولة، ويمنح المجتمعات "حق الانتفاع" فقط، فإنه يقدم خطابًا مطابقًا — حرفيًا — للخطابات التي اعتمدها الاستعمار الأوروبي لتجريد الشعوب الأصلية من أراضيها، ومنها: - "الأرض ملك الدولة، لا ملك الناس" "العادات المحلية ليست حقوقًا قانونية" - حيازة الأرض ليست عرقية أو تاريخية، بل "ثقافية قابلة للتعديل والتغيير" هذه الحجج هي ذاتها التي استخدمتها بريطانيا في أستراليا (Doctrine of Terra Nullius) وفرنسا في المغرب، وبلجيكا في الكونغو، لتبرير نزع الأرض من أصحابها بحجة "التنمية". إن خطاب د. الوليد، مهما بدا "تقدميًا" اومواكبا، هو إعادة إنتاج للاستعمار الداخلي الذي ظل يلتهم أراضي الهامش منذ 1956، ويحوّل أهلها إلى عمالة رخيصة في أرضهم بدل أن يكونوا مالكيها، وهذا الامر لن يستمر في السودان الجديد.
هنا نؤكد ان الملكية التاريخية للأرض في السودان — وخصوصًا في دارفور — ليست عرفًا، ولا ثقافة، ولا شعورًا بالانتماء وحسب؛ إنها حق قانوني، أنثروبولوجي، تاريخي، وسيادي، ثابت وغير قابل للمساومة.
وما يقترحه د. الوليد من تحويل الأرض إلى ملكية للدولة، ومنح السكان الأصليين رمزية سيادية ما، ليس سياسة تنموية، بل تهديد جوهري لأحقيتهم التاريخية، وإعادة إنتاج لصيغ الهيمنة والاستلاب. إن أي مشروع تنموي لا ينطلق من الاعتراف الكامل بملكية المجتمعات الأصيلة لأراضيها هو مشروع استعمار جديد — مهما كانت لغته "تحديثية".
ثانيًا: التاريخ السوداني نفسه يدين خطاب مادبو! منذ 1956، استخدمت الدولة السودانية المركزية القانون لتجريد أبناء الهامش من أراضيهم: - قانون الأراضي غير المسجلة (1970 - قانون تنظيم الأراضي (1971 - قانون الاستثمار (1990 - وتعديلاته 1996، 2013، 2015 جميعها صُممت لنزع الأراضي من أهلها، وتسليمها للنخب — المسلحة، التجارية، أو السياسية، ثم جرى تحويل أصحاب الأرض إلى: - عمّال في مشاريع القطن (الجزيرة - عمّال في الذهب - عمّال محليين في شركات الأمن - أو لاجئين على أعتاب المدن وهذا هو الاستعمار الداخلي الذي وثّقه باحثون مثل: - محمود مامداني - بول ريختر - روجر براون ما يطرحه د. الوليد هو ببساطة نسخة ناعمة من نفس النموذج:
امتيازات بلا حقوق، وتنمية تُشبه الغنيمة.
النضال مستمر والنصر اكيد. (أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|