Post: #1
Title: شكراً على شنو يا برهان؟ .. تغريدة تفضح تصدع الخطاب العسكري في زمن كتبه محمد عبدالله ابراهيم
Author: محمد عبدالله ابراهيم
Date: 11-20-2025, 09:54 PM
09:54 PM November, 20 2025 سودانيز اون لاين محمد عبدالله ابراهيم-الخرطوم-السودان مكتبتى رابط مختصر
[email protected]
في لحظة تتشابك فيها خيوط المأساة السودانية، وتتراكم الانتهاكات وتحت ركام المدن المنهارة تتناثر جثث الضحايا، تبرز وسط هذا الخراب تغريدة على منصة “إكس” للفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، يوجه فيها شكره لسمو الأمير محمد بن سلمان وللرئيس دونالد ترامب.
هذا الشكر، الذي يبدو للوهلة الأولى إقراراً بالجميل أو ترحيباً بمسعى جديد، ليس في حقيقته سوى فارقة وقحة تضع صاحبها في قفص الاتهام الأخلاقي والسياسي، وكأن الكلمات وحدها تكفي لتغطية واقعٍ صنعته قراراته، ولم يفهم السودانيون معنى هذا الامتنان ولا سببه، ليصبح السؤال الذي يطرح نفسه في كل زاوية من زوايا الشارع السياسي .. ما الذي يدعو قائد الجيش السوداني إلى هذا الامتنان المفاجئ؟ ولماذا الآن؟ وعلى ماذا تحديداً يقال هذا الشكر؟، خاصة أنها جاءت عقب تصريح ترامب باستعداده للتدخل “بطلب من ولي العهد السعودي” للمساعدة في حل الأزمة السودانية؟
تأتي تغريدة البرهان في وقت لم يعلن فيه أي من الرجلين لا الأمير محمد بن سلمان ولا الرئيس ترامب، عن أي خطوة جديدة تتجاوز المواقف السابقة، وهي الدعوة المستمرة لوقف الحرب والجلوس إلى طاولة التفاوض، وهذه الدعوة ليست مبادرات جديدة، بل صدى لمواقف سبق وأن رفضها البرهان ووفده العسكري بإصرار لا يخلو من عناد سياسي أعمى.
منذ بداية الحرب، بادرت المملكة العربية السعودية بقيادة الأمير محمد بن سلمان إلى إطلاق "منبر جدة"، محاولة جمع أطراف الصراع حول رؤية واضحة لإيقاف القتال، وحماية المدنيين، وإعادة السودان إلى مسار سياسي قابل للحياة. لكن ردة فعل الجيش لم تكن سوى تعطيل ورفض وانسحاب متكرر، وبلغ الأمر ذروته عندما أطلق مالك عقار، نائب البرهان، عبارته التي أصبحت شاهداً على تلك الحقبة .. "لا جدة لا جدادة”، لتكون إعلاناً صريحاً عن تمسك القيادة العسكرية بخيار الحرب مهما كان الثمن، ورفضاً فاقعاً لكل مسار يهدف إلى إنقاذ البلاد من الانهيار.
وتطورت الوساطات من “منبر جدة” إلى الرباعية، ثم إلى مبادرات متعددة أبرزها “منبر جنيف”، لكنها جميعاً اصطدمت بالتعنت والتمسك الأعمى للجيش بالسلطة، وكان الرفض العسكري المستمر ينسف أي إمكانية للحل، ويؤكد التمسك بوهم النصر الكامل عبر الحرب، وكأن الدم هو الطريق الوحيد للحكم.
وبين "جدة" والرباعية ومنبر جنيف، ظل موقف الجيش غير واضحاً مع رفض لكل مبادرة لا تضمن استمرار الحرب أو تكريس وضع يمنح المؤسسة العسكرية سلطة مطلقة، ولم يترك أي مسار تفاوضي إلا وتمت مواجهته بالغياب أو الانسحاب أو التشكيك، وهكذا تحولت الوساطات الدولية إلى أرشيف محاولات فاشلة، ليس بسبب ضعفها، بل بسبب غياب الإرادة السياسية لدى قيادة الجيش، التي اصلاً لا تملك قرار السلم والحرب، وإنما ترضخ لأجندات فلول الإسلاميين في الحركة الإسلامية ونظام المؤتمر الوطني المباد.
وفي ضوء هذا التاريخ القريب، يصبح السؤال المشروع .. “شكراً على شنو يا البرهان؟” هل أعلن الأمير محمد بن سلمان مبادرة جديدة؟ هل طرح الرئيس ترامب خطة مختلفة؟ هل تغير شيء في جوهر الموقف الدولي الذي ظل يطالب بوقف الحرب بينما ظل البرهان يصر على استمرارها؟ أم إننا أمام مشهد جديد يحاول فيه قائد الجيش إعادة تموضعه بعد أن أدرك حجم المأزق الذي دفع السودان إليه؟ إذا كان الشكر متعلقاً بتعهدات وقف القتال، فقد كانت جدة تؤدي الدور ذاته ورفضها الجيش، وإذا كان الشكر المقصود دعماً سياسياً أو عسكرياً، فإن ذلك لا يفسر سوى أن القيادة العسكرية تبحث عن شرعية خارجية بعدما أحرقت كل جسور التسوية.
إن تغريدة قائد الجيش، البرهان، لا تخلو من دلالات خطيرة، أبرزها محاولة القيادة العسكرية تهيئة الرأي العام لمرحلة جديدة من التفاوض أو التنازلات، لكنها تفعل ذلك بطريقة تظهر انفصالها الكامل عن الواقع. فكيف يمكن لمن رفض كل جهود السلام أن يشكر اليوم أصحابها؟ وكيف يمكن لمن أشعل الحرب أن يتحدث عن الذين يسعون لإطفائها وكأنه كان شريكاً في المساعي ذاتها؟
إن الأزمة أعمق من مجرد تغريدة، وأكبر من كل محاولات التجميل السياسي. إنها أزمة في بنية القرار العسكري، أزمة تجعل من الشكر وسيلة لتبرير مواقف متناقضة، بدلاً من أن يكون الدم المسفوك سبباً لمراجعة الخيار العسكري. فوقف الحرب يحتاج إلى شجاعة أكبر بكثير من إشعالها .. إنها شجاعة الاعتراف بأن الخيارات العسكرية وصلت إلى طريق مسدود، وأن الوطن أهم من الكرسي، وأن السلام أهم من المكابرة، وأن السلطة التي تبنى فوق الجثث لا يمكن أن تستقر، وأن إنقاذ ما تبقى من السودان يتطلب الانسحاب من منطق القوة والقبول بحل سياسي يعيد السلطة إلى الشعب.
من يشعل النار لا يحق له ادعاء البطولة حين يتحدث عن إطفائها، ومن يختار طريق الحرب والخراب لا يمكنه أن يلبس ثوب الحكمة ولو كتب ألف تغريدة. الأزمة ليست في الشكر نفسه، بل في الذهنية التي تحاول تحويل الهروب من المسؤولية إلى مناورة سياسية، وفي وهم أن الكلمات قادرة على محو الكوارث التي صنعتها القرارات العسكرية وأوصلت السودان إلى هذا المصير المظلم. وإذا كان البرهان يبحث عن شكر حقيقي، فليبدأ بوقف الحرب، فعندها فقط يمكن للكلمات أن تحمل معنى، وللسودان أن يستعيد حقه في الحياة.
إن واجب اللحظة التاريخية لا يحتمل تردداً أو التفافاً حول عبارات المجاملة. فالمأساة السودانية لم تعد نزاعاً سياسياً تقليدياً، بل تحولت إلى مأزق وجودي يفرض وقفة ضمير قبل أي حسابات أو مناورات سياسية، ووقف الحرب يحتاج إلى شجاعة أكبر من إشعالها، وهذه الشجاعة لم يظهرها البرهان يوماً، والسودان اليوم ينزف من كل الجهات، مدنه تنهار، وشعبه يعيش أكبر مأساة في تاريخه الحديث، والدولة تفقد مؤسساتها كما يفقد الجسد أطرافه، فيما لا تزال القيادة العسكرية غارقة في مراوغات مضنية وتغريدات مبهمة لا توقف الانهيار ولا تخفف وطأة الكارثة.
السودان اليوم يحتاج إلى قرارات لا تغريدات، قرارات شجاعة توقف القتل الوحشي، وتعيد الدولة إلى مسارها الصحيح، وتضع نهاية لحرب دفعت ثمنها أرواح الأبرياء، والبلاد تحتاج إلى سلام شامل ودائم لا يتبدد عند أول اجتماع، ومستقبلاً لا يبنى على الرماد، وحكومة مدنية تحكم بإرادة الشعب لا بقوة المدافع.
وليس هناك ما يمكن أن ينقذ هذا البلد سوى وقف الحرب فوراً .. يجب وقف القتل ونزيف الدم، ووقف التشريد، ووقف تدمير ما تبقى من مؤسسات الدولة، واستعادة المسار المدني الديمقراطي، وعودة السلطة إلى الشعب، لا إلى جنرالات لا يرون في السلطة إلا سلاحاً جديداً .. الشعب وحده قادر على حمل الشرعية الأخلاقية والسياسية، وهو وحده الطريق إلى الخلاص الحقيقي من هذا الجحيم العبثي، والطريق الوحيد لقيادة البلاد نحو مستقبل قابل للحياة.
|
|