Post: #1
Title: السيادة أم الحياة؟ .. تأملات في خطاب مالك عقار والإنسانية المفقودة وسط سياسات الخراب كتبه محمد عبدا
Author: محمد عبدالله ابراهيم
Date: 11-20-2025, 02:34 AM
02:34 AM November, 19 2025 سودانيز اون لاين محمد عبدالله ابراهيم-الخرطوم-السودان مكتبتى رابط مختصر
[email protected]
لم أكن أعتزم التعليق على ما خطه السيد مالك عقار، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان ونائب رئيس مجلس السيادة، في صفحته على فيسبوك، لولا منشورا كتبه أحد الرفاق تعليقاً على حديثه، وانا أعرف هذا الرفيق معرفة شخصية، فهو ممن يجيدون قول شيء في العلن وإضمار نقيضه في السر، ولذلك وجدت نفسي أمام ضرورة أخلاقية وفكرية للإجابة. فالأسلوب الذي استخدمه ذلك الرفيق، أسلوب غارق في المديح الخالص، وهو يصف ما كتبه عقار بأنه "مقال مهم"، وعدد خصاله من الجرأة والشجاعة والصدق، وقول الحقيقة بلا مواربة، غير أن هذا الأسلوب القديم في تغليف الولاء بالمديح، والمصنوع خصيصاً لإرضاء القادة، أصبح اليوم في زمن الانفتاح وتدفق المعلومات مثل هذا الخطاب مستهلكاً وبالياً لا قيمة له. خاصة انه لا يهدف إلا إلى تثبيت رأي القائد وإرضائه، دون أن يجرؤ على نقده أو لفت نظره إلى مواضع الخطأ أو النقاط التي أغفلها، وهذا النمط كان شائعاً في الحركة الشعبية، ويستخدمه كثيرون لإظهار الولاء والطاعة، لكنه في الحقيقة أسلوب يضلل القادة أنفسهم، خصوصاً أولئك الذين يتخذون قراراتهم استناداً إلى القيل والقال.
كان على الرفيق، إن أراد الإنصاف، أن ينبه عقار إلى أن حديثه لا يأخذ بوصفه رئيس الحركة الشعبية، بل بصفته الرجل الثاني في الدولة، وممثلاً للحكومة، ومن ثم، فإن اتهامه الخطير لتوم فليتشر بالتواطؤ في الإبادة الجماعية في دارفور ليس مجرد رأي عابر، ولا يقف عن شخص واحد فقط "توم فليتشر"، بل يطال ويمتد ليشمل مكتب الشؤون الإنسانية والأمم المتحدة كلها، وإذا كانت لدى الحكومة أي ملاحظات أو اعتراضات على زيارة فليتشر، فإن واجبها كان أن تعبر عنها عبر القنوات الرسمية، وأن توجه خطاباً واضحاً ومهنياً إلى مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية وإلى الأمم المتحدة، بدلاً من إطلاق اتهامات عامة عبر منصات التواصل.
ثانياً: لأن مالك عقار اليوم لا يتحدث بصفته رئيساً للحركة الشعبية فحسب، بل بصفته ممثلاً للحكومة، خاصة فيما يكتبه أو يصرح به في القضايا المتعلقة بالشأن العام، وبالتالي الرجل يمثل صوتاً رسميا لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان، وهو الرجل الثاني في الدولة كما عبر عن ذلك بنفسه، مما يجعل حديثه أبعد ما يكون عن مجرد رأي شخصي، بل تعبيراً صريحاً عن موقف حكومته ومسؤولياتها. ومن هذا المنطلق يأتي هذا الرد، ليس على مالك عقار كشخص، بل على حكومة الأمر الواقع التي يبدو أن كلماته تعكس رؤيتها وتوجهاتها، هذا مع العلم بان الجميع يدرك أن هذه الحكومة التي استقرت بورتسودان هي سلطة غير شرعية، نتجت عن انقلاب، ولا تحظى باعتراف الاتحاد الإفريقي، وبالتالي لا شرعية لها دولياً أو إقليمياً، وهي حكومة متحالفة مع فلول النظام الإسلامي البائد الذين أشعلوا الحرب، وفشلت في حماية المدنيين، بل ارتكبت انتهاكات جسيمة، ثم هربت إلى بورتسودان تاركة المواطنين في الخرطوم يواجهون الموت والفوضى وحدهم.
وهذه الحكومة لا يعنيها المواطن بقدر ما يعنيها تثبيت بقائها، وتستند إلى دستور مزور، وتحاول إعادة تشكيل المشهد السياسي والإنساني وفق مصالحها الضيقة، ولا تعبأ بملايين السودانيين الذين يواجهون ويلات الحرب والجوع وانعدام الأمن، وفي ظل هذا الواقع المنهار، لا وجود لأي حكومة شرعية في السودان، ولا جهة تملك حق التحدث باسم الشعب السوداني، وكل حديث عن السيادة والوطنية تحت هذا الركام ليس سوى شعارات مخادعة تتهاوى أمام مأساة الملايين من المدنيين.
زيارة توم فليتشر، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، لم تكن أكثر من محاولة لتقدير حجم الكارثة الإنسانية وتقييم الاحتياجات الإنسانية، ومسعى عاجل لإنقاذ ملايين الأرواح التي تنتظر الغذاء والدواء والمأوى في بلد يفيض بالألم، ويتآكله الجوع والمرض واليأس، وأي حديث يصور هذه الزيارة خارج هذا السياق ليست إلا مزايدة رخيصة، والسيادة التي تستخدم لإعاقة وصول الغذاء والدواء، واي قانون أو سلطة أو جهة تعيق وصول المساعدات إلى المواطنين المنكوبين لا تستحق الاحترام، ولا الاعتراف، ويجب محاسبتها. فلا أحد يملك حق استغلال شعار "السيادة" لتأجيل أو منع إنقاذ حياة المواطنين، وتبقى الإنسانية هي السيادة الحقيقية، والحق في الحياة سابق على كل قوانين السلطة وذرائع الدولة.
وأي حديث عن "انتهاك السيادة" أمام معاناة الملايين ليس إلا لغواً فارغاً تغلفه الأكاذيب على حساب الحق الأبدي في الحياة .. فالإنسانية تعلو فوق السياسة، والحق في الحياة لا تعترضه قوانين مزورة ولا سلطات غير شرعية، بل إن الواجب الأخلاقي والإنساني يقتضي تجاوز كل من يقف في طريق الإنقاذ والمساعدة، لا سيما في ظل هذه المأساة، يصبح التذرع بـ"السيادة" أمراً مضحكاً ومؤسفاً في آن معاً.
ما ورد في حديث مالك عقار عن الإبادة الجماعية في دارفور بين 2003 و2005 يحتاج إلى تصحيح تاريخي وموضوعي. فالعنف والانتهاكات لم تكن حكراً على الدعم السريع وحده؛ بل كانت نتاجاً مباشراً لسياسات نظام المؤتمر الوطني المخلوع، الذي أسقطه الشعب في ثورة ديسمبر 2019، وهو نفسه النظام الذي مهد وأشعل حرب 15 أبريل 2023.
ويدرك مالك عقار قبل غيره أن الجرائم التي ارتكبت في دارفور آنذاك لم تكن عمل جماعة منفردة، بل هي إرث لنظام المؤتمر الوطني المحلول واذرعه الأمنية والعسكرية، ونهج سلطوي للنظام اتخذ من "الحرب وفرق تسد" وسيلة لإخضاع المجتمعات ليس في دارفور فقط وانما في كافة بقاع السودان بما في ذلك النيل الأزرق وجبال النوبة وجنوب كردفان.
وقد كان قادة النظام البائد، ومن بينهم عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس مالك عقار اليوم، جزءاً أصيلاً من هندسة تلك السياسات، ومن عمليات التعبئة والتسليح التي مزقت النسيج الاجتماعي وأنتجت موجات هائلة من العنف والدمار والخراب بما في ذلك النزوح ومعاناة المواطنين، عبر عمليات ممنهجة من القتل والحرق والتهجير والابادة والنزوح القسري، والدعم السريع لم يكن سوى أداة ضمن منظومة أكبر صاغتها السلطة المركزية آنذاك، وهذه حقائق يعرفها مالك عقار معرفة شخصية، بحكم تجربته الطويلة في الكفاح المسلح في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان، وبحكم اتصاله المباشر بالضحايا الذين عانوا من تلك السياسات وتبعاتها خاصة في جنوب السودان والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
إن المفارقة الأكثر إيلاماً في مشهد اليوم هي أن النظام الذي يتحالف معه مالك عقار ويحمي قياداته هو ذاته النظام الذي ارتكب المجازر في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وهو النظام الذي ما تزال تطارده أوامر قبض صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق عدد من رموزه المتهمين بجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية، وهذه حقائق لا يمكن لعقار تجاهلها أو القفز فوقها، لأنه يعرفها معرفة اليقين.
وإذا كان مالك عقار، كما قيل عنه، صاحب جرأة وشجاعة، فإن اختبار هذه الشجاعة يبدأ من هنا .. من موقفه تجاه تسليم رموز النظام البائد المطلوبين للعدالة الدولية، ومن قدرته على مواجهة إرث النظام الذي يقف معه اليوم .. فالشجاعة ليست خطاباً، ولا بيانات منمقة، بل فعل يثبت اتساق المبدأ مع الموقف، والقول مع الحقيقة.
ولذلك فإن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه .. هل يملك عقار شجاعة المطالبة بتسليم قادة النظام البائد إلى المحكمة الجنائية الدولية؟ أم سيظل يمارس ازدواجية المعايير نفسها، حيث يتحول السكوت إلى تواطؤ، و"الحياد" إلى غطاء يبرر الإفلات من العقاب؟
ما يقوله السيد مالك عقار اليوم لا يبدو سوى محاولة لتبييض تاريخٍ دموي وإعادة تلميع إرث نظام مجرم يتحالف معه الآن، عبر إلقاء العبء الأخلاقي والسياسي على الآخرين بطريقة مضللة ومختلة، ونحن لا ننكر ارتكاب الدعم السريع جرائم فادحة، ولا يختلف اثنان على ذلك، لكن اختزال كل المأساة في طرف واحد هو تزوير للحقائق، ومحاولة لطمس أن جذور تلك الجرائم تمتد عميقاً في سجل النظام الذي أشعل الحرب واحتضن الجنجويد وصنع بيئة العنف التي انفجر منها كل هذا الخراب.
وجرائم نظام المؤتمر الوطني واجهزته الأمنية والعسكرية ليست حوادث عارضة، بل حلقات متصلة في سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة التي طالت كل أبناء السودان؛ من دارفور إلى النيل الأزرق، ومن جبال النوبة إلى الخرطوم، وغيرها وهي جرائم ما تزال مستمرة وترتكب حتى لحظتنا هذه .. بما في ذلك إشعال حرب 15 ابريل وقتل المدنيين وتهجير الملايين، وعرقلة المساعدات الإنسانية، بل واستهداف القوافل والمنظمات والعاملين الإنسانيين أنفسهم، وكل هدنة أو مبادرة مقترحه لإنقاذ أرواح المواطنين بما فيها الهدنة الأخيرة المقترحة من الولايات المتحدة، كانت تجهَض في كل مرة على يد ذات المنظومة التي يحاول عقار اليوم منحها غطاء سياسياً وأخلاقياً .. ولذلك فإن تحميل الدعم السريع وحده وزر المأساة هو هروب من الحقيقة ومسعى لتبرئة شركاء الجريمة الذين ما زالوا يواصلون الحرب ويعمقون الكارثة.
وبهذا المعنى، كل الجرائم التي ذكرها السيد عقار، والتي ارتكبت ضد الشعب السوداني في هذه الحرب هو شريك أساسي فيها، هو الرجل الثاني في الدولة، وبالتالي هو مسؤول مسئولية مباشرة عنها، بما في ذلك استهداف قوافل الإغاثة وقتل العاملين فيها، بالإضافة الى سرقتها وبيعها في السوق من بورتسودان الى النيل الأزرق، وما يعكسه في حديثه حول “زيارة فليتشر” ليس أكثر من تبرير سياسي للجرائم التي ترتكب تحت قيادته ودعمه. يبقى السؤال الذي يفرض نفسه .. هل يتذكر السيد مالك عقار أيام نضاله في صفوف الحركة الشعبية، وكيف كانت المساعدات الإنسانية تصل إلى المدنيين في مناطق سيطرتها؟ .. وهل كان ذلك تواطؤاً أيضاً؟ .. وهل كان سيجرؤ على وصف زيارة إنسانية كتلك التي قام بها توم فليتشر بأنها "انتهاك للسيادة" لو لم يدر ظهره لمبادئه الأولى وينقلب على ما كان يدافع عنه يوماً؟
وفي النهاية، يبقى السؤال الأعمق والأصدق .. هل تستخدم السيادة الوطنية ذريعة لإعاقة حياة المواطنين؟ أم أن الإنسانية وحدها هي السيادة الحقيقية التي لا يعلو فوقها شعار سياسي ولا خطاب سلطوي؟ زيارة توم فليتشر لم تكن سوى محاولة خالصة لإنقاذ حياة الملايين، وفرصة لإيقاظ ضمائر الذين نسوا أو تناسوا أن الإنسان هو الغاية، وأن جوهر كل سياسة هو حماية الحياة لا المتاجرة بها، وإنها تذكير بأن لا شرعية تعلو فوق وجع الجائع، ولا سيادة تقدم ذريعة أمام طفل ينتظر لقمته او دواءه، ولا خطاب سياسي يملك الحق في الوقوف بين الناس وبين حقهم في الحياة والبقاء. أيها السيد عقار، أيها الحاكم بالاسم لا بالحق .. الإنسانية أسمى واعظم من اي منصب، والحق في الحياة أقدس من أي شعار، وأقوى من أي تحالف، وأغلى من كل ما يسمى شرعية اليوم في بورتسودان .. فليكن في علمكم أن أي حديث عن السيادة أو الوطنية يصبح بلا قيمة أمام وجوه الجوعى والمرضى والمشردين الذين ينتظرون رحمة الإنسانية قبل أي خطاب سياسي.
في هذا العالم، تبقى الإنسانية القاعدة الذهبية، والحق في الحياة القانون الأعلى، والضمير الحي الحكم النهائي .. وما لم نضع هذا المبدأ نصب أعيننا، ستظل الكلمات، مهما علا شأنها الرسمي أو السياسي، مجرد صدى خاوي في فضاء الخراب الذي خلفته السياسات الفاسدة والتحالفات المشوهة.
وتبقى الحقيقة البسيطة أن السيادة الوطنية لا يمكن أن تتحول إلى حجر يثقل صدور المواطنين، ولا يمكن أن تستخدم ذريعة لتبرير تعطيل واعاقة حياة الأبرياء .. فالإنسانية هي السيادة الحقيقية، والواجب الأخلاقي والسياسي للقيادات الحقيقية هو حماية الأرواح قبل حماية المصالح .. والتاريخ لن يرحم من اختار التواطؤ على التضامن، أو الكراهية على الرحمة .. والسودان اليوم بحاجة إلى قيادات تدرك وتفهم أن الإنسانية فوق كل شيء، وأن الحق في الحياة ليس خياراً، بل واجب مقدس، وسبيل لإعادة بناء الوطن بعد سنوات من الحرب والخراب والفوضى والانقسامات.
|
|