Post: #1
Title: كيف ارتكب تحالف التأسيس.. الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في الفاشر؟ كتبه عبدالغني بريش فيوف
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 11-19-2025, 01:50 AM
01:50 AM November, 18 2025 سودانيز اون لاين عبدالغني بريش فيوف -USA مكتبتى رابط مختصر
لم تكن بقع الدماء التي لطخت أرض الفاشر، عاصمة شمال دارفور والقلب التاريخي للسلطنة، مجرد أضرار جانبية لحرب أهلية عبثية، بل كانت، كما كشفت صور الأقمار الصناعية بوضوح مرعب، دليلا دامغا على حملة تطهير عرقي وإبادة جماعية ممنهجة، نفذتها آلة قتل وحشية بدم بارد. إن ما شهده العالم في الفاشر ليس مجرد مأساة إنسانية، بل هو وصمة عار في جبين الإنسانية، وجريمة مكتملة الأركان تتطلب مساءلة لا تستثني أحدا، من المنفذ الميداني إلى المخطط السياسي الذي وفر له الغطاء والدعم. لقد جاء قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الصادر بالإجماع يوم الجمعة 14 فبراير 2025، بتشكيل بعثة مستقلة لتقصي الحقائق حول هذه الفظائع، كخطوة أولى طال انتظارها على طريق العدالة، لكن هذه البعثة الأممية تواجه اليوم اختبارا تاريخيا، فإما أن تكون مجرد آلية بيروقراطية أخرى لتوثيق الألم دون محاسبة الجناة، أو أن ترتقي إلى مستوى المسؤولية وتسمي الأشياء بمسمياتها، وتوجه أصابع الاتهام مباشرة إلى الجهة التي تتحمل المسؤولية الجماعية عن هذه الجرائم: تحالف التأسيس الجنجويدي. إن حصر المسؤولية في ميليشيا الدعم السريع وحدها، هو تبسيط مخل للحقيقة وتجاهل متعمد لطبيعة المشروع الإجرامي الذي استهدف الفاشر وكل السودان، فالدعم السريع لم يكن يعمل في فراغ، بل كان يمثل رأس الحربة العسكرية لتحالف سياسي أوسع، يضم تحت مظلته أطيافا من جماعات حزبية ومدنية وحركات مسلحة، اجتمعت على هدف واحد هو تفكيك الدولة السودانية وإعادة تشكيلها على أسس عرقية وجهوية، حتى لو كان الثمن هو إغراق البلاد في بحر من الدماء. هذا الجسم النشاز، الذي يسمى بتحالف التأسيس، هو المسؤول الأول والأخير عن كل روح أزهقت، وعن كل أسرة شردت، وكل جريمة ارتكبت في مدينة الفاشر. وصمة عار دولية وتحذيرات تم تجاهلها.. لم يكن المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فولكر تورك، يبالغ عندما وصف ما يحدث في الفاشر بأنه وصمة عار على المجتمع الدولي، بل إن كلماته القوية كانت بمثابة صرخة ضمير في وجه عالم صم أذنيه طويلا عن نداءات الاستغاثة القادمة من دارفور. إن بقع الدم التي تلطخ أرض المدينة تم تصويرها من الفضاء، ومثلها وصمة العار في سجل المجتمع الدولي قد لا تكون مرئية بالعين المجردة، لكنها تحمل تداعيات خطيرة لا تقل وضوحا. فولكر تورك، المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان.. هذه الكلمات تختزل حجم الكارثة وفداحة التقاعس الدولي، لقد حذر مكتب المفوض السامي مرارا وتكرارا من الحصار الخانق الذي فرضته ميليشيا الدعم السريع وحلفاؤها على المدينة، والذي دفع بالسكان إلى حافة المجاعة، وجعلهم يأكلون علف الحيوانات وقشور الفول السوداني للبقاء على قيد الحياة. كانت استراتيجية التجويع حتى الموت جزءا لا يتجزأ من الخطة العسكرية، وهي جريمة حرب موصوفة، لقد كان واضحا للجميع، كما أكد تورك، أن سقوط الفاشر كان سيؤدي حتما إلى مذبحة واسعة النطاق وتطهير عرقي. لكن هذه التحذيرات ذهبت أدراج الرياح، حيث استمر المجتمع الدولي في حالة الكثير من التظاهر والقليل من العمل الفعلي، بينما كانت آلة القتل تستعد للانقضاض على فريستها. هذا التقاعس هو ما شجع الجناة على المضي قدماً في مخططهم، مدركين أن العالم سيكتفي ببيانات الإدانة والقلق، دون اتخاذ إجراءات رادعة حقيقية. إن فهم أبعاد الجريمة في الفاشر يقتضي تفكيك بنية التحالف المسؤول عنها، إنه ليس مجرد تحالف عسكري، بل هو مشروع سياسي متكامل بأذرع متعددة، لكل منها دوره المحدد في هذه المنظومة الإجرامية، ويمكن تحديد مكوناته ومسؤولياتها كالتالي: 1/ ميليشيا الدعم السريع: هي أداة التنفيذ الوحشية، عناصرها هم من قاموا بالحصار والقصف العشوائي للمستشفيات ومخيمات النازحين والأحياء السكنية. هم من نفذوا عمليات القتل على أساس الهوية العرقية، والنهب الممنهج، والاعتداءات الجنسية، والتهجير القسري. إن تاريخ هذه الميليشيا، التي انبثقت من رحم ميليشيات الجنجويد سيئة السمعة، حافل بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور ومناطق أخرى، وما جرى في الفاشر هو استمرار طبيعي لنهجها الإجرامي. 2/ الغطاء السياسي (جماعات حزبية ومدنية): هؤلاء هم الشركاء الصامتون أو الناطقون باسم الجريمة، لقد وفروا للميليشيا الشرعية السياسية التي كانت تحتاجها، وقدموا للعالم رواية مضللة تصور الحرب على أنها صراع على السلطة بين جنرالين، بينما هي في جوهرها حرب إبادة وتغيير ديموغرافي. صمتهم عن الفظائع كان موافقة، وتبريراتهم كانت مشاركة، ودعواتهم لتفكيك الجيش السوداني، لم تكن سوى محاولة لإزالة العقبة الأخيرة أمام اكتمال المشروع الجنجويدي، إنهم يتحملون مسؤولية سياسية وأخلاقية كاملة، لأن تحالفهم مع القتلة جعلهم شركاء في القتل. 3/ العمق الاستراتيجي (حركات مسلحة من دارفور وجبال النوبة): بانضمام بعض الحركات المسلحة، التي حملت السلاح تاريخيا للدفاع عن المهمشين، إلى هذا التحالف، اكتملت صورة الخيانة المأساوية، فبدلا من حماية أهلهم في الفاشر، أصبحوا جزءا من الآلة التي تحاصرهم وتقتلهم. لقد وفروا للميليشيا معرفة بالأرض وغطاءا اجتماعيا، وساهموا في شرعنة استهداف مكونات سكانية بعينها، مسؤوليتهم مضاعفة، لأنهم انقلبوا على القضية التي كانوا يزعمون الدفاع عنها، وأصبحوا أدوات في مشروع يهدف إلى إبادة نفس المجتمعات التي انطلقوا منها. إن هذا التركيب المعقد المسمى بتحالف التأسيس الجنجويدي، وهو يعمل كوحدة متكاملة، فالجرائم التي ترتكبها الميليشيا على الأرض لا يمكن فصلها عن الخطاب السياسي الذي يبررها، أو عن الدعم اللوجستي الذي تقدمه الحركات المتحالفة معها، إنها جريمة مشتركة، والمسؤولية فيها جماعية وتضامنية. رسالة إلى بعثة تقصي الحقائق: لا عدالة دون مساءلة شاملة.. أمام بعثة تقصي الحقائق الأممية مهمة واضحة ومحددة، يجب ألا تحيد عنها قيد أنملة، وإن نجاحها أو فشلها يعتمد على مدى شجاعتها في مواجهة الحقيقة الكاملة. إن المطلوب من هذه البعثة، ليس مجرد توثيق عدد القتلى أو حجم الدمار، فهذا أمر معروف وموثق، بل المطلوب هو التحقيق في البنية القيادية والسياسية للجريمة. يجب على المحققين الدوليين أن يتبنوا منهجية المشروع الإجرامي المشترك المتبعة في المحاكم الجنائية الدولية، وهذا يعني أن التحقيق يجب أن يتجاوز الجنود الأفراد ليصل إلى: قادة ميليشيا الدعم السريع الذين أصدروا الأوامر أو سمحوا بوقوع هذه الفظائع. القادة السياسيين وغيرهم من الواجهات السياسية التي شكلت غطاءا لتحالف التأسيس، والتحقيق في مدى علمهم وتواطئهم. قادة الحركات المسلحة المتحالفة، وتحديد دورهم المباشر وغير المباشر في حصار الفاشر والجرائم التي ارتكبت. ************* يجب على البعثة أن تقدم تقريراً لا لبس فيه، يسمي الأفراد والكيانات المسؤولة، وتوصي بإحالتهم إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تتابع الوضع عن كثب بالفعل، وإن أي تقرير يتجنب تحديد المسؤولية الجماعية لهذا التحالف المجرم، سيكون بمثابة خيانة لدماء الضحايا وتفويض جديد للقتلة لمواصلة جرائمهم. إن العالم يراقب ويسمع، كما قال فولكر تورك، ويجب أن تكون رسالة الفاشر مدوية وواضحة لكل من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الفظائع في المستقبل، وهي أن لا مكان للإفلات من العقاب. إن المسؤولية عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن تبريرها بأي غطاء سياسي، لأن شعب الفاشر قد دفع ثمنا باهظا من دمائه وأرواحه، وأقل ما يمكن تقديمه له اليوم هو العدالة الكاملة والناجزة. في الختام.. لم تكن فاجعة الفاشر مجرد فصل آخر في تاريخ السودان الدامي، بل كانت تتويجا لمشروعٍ مدروس للمحو وإعادة الهندسة الديموغرافية، صممته ونفذته عقلية إجرامية جماعية تُعرف بتحالف التأسيس الجنجويدي. هذه الجريمة، بأوجهها المتعددة، لا يمكن تجزئتها؛ فمنفذها العسكري، وواجهتها السياسية، وحليفها الخائن الذي خان قضية أهله، جميعهم شركاء في الدم المراق، ولا يمكن لأي حلقة في هذه السلسلة أن تدّعي البراءة. إن غبار الفاشر لم يهدأ بعد، وهو يحمل معه أرواح الضحايا التي لا تطالب اليوم بالرثاء والبكاء، بل تصرخ مطالبةً بالعدالة، عدالة لا تتوقف عند الجندي الذي ضغط على الزناد، بل تتسلق هرم القيادة لتصل إلى السياسي الذي أمّن الغطاء، والمُنظّر الذي أشعل الكراهية، والقائد الذي أصدر الأمر. إن محاكمة تحالف التأسيس، بكافة أركانه، ليست مجرد مطلب لتحقيق العدالة لضحايا الفاشر، بل هي ضرورة وجودية لمستقبل السودان، ورسالة مدوية بأن عصر الإفلات من العقاب على جرائم الإبادة قد ولى إلى غير رجعة، فإما أن تقول العدالة كلمتها الفصل، أو سيبقى جرح الفاشر شاهدا أبديا على فشل الضمير الإنساني.
|
|