Post: #1
Title: حلفاية الملوك... حين تنطق الأسماء وتُزهر الذاكرة كتبه عبد الكريم ابراهيم
Author: عبد الكريم ابراهيم
Date: 11-17-2025, 11:02 AM
11:02 AM November, 17 2025 سودانيز اون لاين عبد الكريم ابراهيم-السودان مكتبتى رابط مختصر
بقلم : في قلب الخرطوم بحري، حيث يعانق النيل ضفاف الحنين، وتتمازج مياه التاريخ بتراب الأصالة، تقف حلفاية الملوك شامخةً كأنها قصيدةٌ من زمنٍ جميل، مدينةٌ لا تُروى فقط بالحجارة والطرقات، بل بالأسماء التي تنطق بها الذاكرة، وتُزهر بها الحكايات ولعل اسم الحلفاية نفسه قد اشتق من نبات (الحلفا) وهو نبات طبيعي اشتهرت به المنطقة كما رجح بذلك البروفيسور ابن حلفاية الملوك الراحل المقيم عون الشريف قاسم رحمه الله في كتابه:حلفاية الملوك: التاريخ والبشر (1988)وفي طبعته "من صور التمازج القومي في السودان" (الطبعة المنقحة، 1990) وليست الحلفاية مجرد حيٍّ أو موطنٍ للأسر السودانية الأصيلة، بل هي سجلٌ حيّ، يروي قصص الناس عبر أسماءٍ و ألقاب التصقت بكثير من الأسر ، بعضها استُلهم من أسماء حيوان أو نبات ، لتصبح رموزًا ودلالات تعكس حياة ذاك المجتمع الحي بما تدل عليه من القوة والخصوبة والبهجة، وتُجسّد علاقة الإنسان بالطبيعة في أبهى صورها. فالأسد، سيد الغابة، ارتبط بخليفة الشيخ عبد الدافع من الجموعية و أحفاده، و أسر أخرى من الضيفلاب ، رمزا للشجاعة ، واليقظة التي تسكن عيونهم. و ارتبط اسم نمر ، ذاك الكائن الرشيق الجريء، بعدد من أبناء الشايقية ، إشارة لقهر الصعاب، و الثبات في (الحارة) . أما الدابي فهو لقب ارتبط بالمغاربة العبيداب اول من حمله جدهم (أحمد) اشتهر بالدابي، و كان رجلا شهما و كريما يذكر أنه اشترى 26 فدانا و أوقفها مقابر للمغاربة و هي الشهيرة بمقابر العبيداب بين الحلفاية و شمبات.. و أصبح كل حفيد له يسمى أحمدا يلقب بالدابي، و هو ليس الثعبان كما يتبادر لذهن الكثيرين لكن الدابي هو اسم من أسماء الأسد عند أهل السودان.. و ارتبط لقب الكدروك، بعائلة عريقة من المغاربة الجدياب ، و كان جدهم رجلا ثريا جدا و كانت هناك ضمن اكسسوارات ديوانه قطعة من الذهب على شكل كدروك.. فكان يوصف بصاحب كدروك الذهب و انتهى لقبا له.. ، و اشتهرت عائلة الفيل، رمز الوقار والعظمة، و صارت أسرة الفيلة من الضيفلاب و الجعليين ، تتقمص اللقب كرما و شجاعة، لا يتكلمون إلا قليلًا، لكن كلماتهم أثقل من الذهب. والثور، رمز الجلد والصبر، كان لقبًا لأسرٍ حرثت الأرض منذ الفجر حتى المغيب، لا تكلّ ولا تملّ، كأنهم خُلقوا ليزرعوا الحياة في التراب. والتمساح، سيد النيل ومهابته، ارتبط بعائلاتٍ(التماسيح) من الهوارة الهنوناب، و جدهم تمساح اسمه خوجلي، عُرفت بالمبادرة والجرأة، يتحركون بثباتٍ وصبر، نحو الهدف ، بذكاء وحزم. أما الغول، ذاك الكائن الأسطوري الذي يسكن المخيلة الشعبية، فقد ارتبط بعائلاتٍ اشتهرت بالهيبة ، و يملكون حضورًا يتجاوز الواقع، فيثيرون الرهبة والاحترام معًا. وأسماء النبات والفاكهة الدالة على الخصوبة والبهجة، فقد تحولت ألقابا لشخصيات شهيرة فـهناك علي "خدرة" حياةٌ متجددة، و"عجور" حكايةٌ من الحقول الشعبية، و"شمام" و"بطيخ" دلالات على الوفرة والارتباط بالأرض، و"الموزة" رمزٌ للحلاوة والمرح، و"قرع" ثمرة الأرض الصلبة، مرادفٌ للكرم والعطاء، و الرز ، و هكذا مما يغيث و يُطعم الناس، فيغدو الاسم مرادفًا للعطاء المستمر والرزق الوفير. الحكايات و الأساطير كانت تبحث عما خلف الأسماء و الألقاب ففسرتها كما في الظاهر : رجلٌ كان يُلقّب بـ"حارس الحي"، يقف في الليالي المظلمة ليحرس البيوت، فاطلق عليه الأسد . ، رجل يحرث الأرض بلا كلل، فصار لقبه الثور . رجل اشتهر بزراعة القرع، يوزع ثماره على الجيران في مواسم الحصاد، . امرأةٌ حملت لقب "الموزة"، لشهرتها بخفة الظل وابتسامتها الدائمة ، كأنها فاكهة المجالس. تلك الأسماء ليست مجرد كلمات، بل هي شواهد على تاريخ المدينة، وخصوصيتها الثقافية، تكشف عن علاقة عضوية بين الإنسان والطبيعة، بين الاسم والهوية، بين الحكاية والوجدان. وكأن حلفاية الملوك تقول لنا: أنا لستُ حيًّا من ترابٍ وماءْ بل ذاكرةٌ تنبضُ في الأسماءْ من الأسدِ والنمرِ إلى الأرزِ والتمساحِ والغولْ أنا الحكايةُ التي لا تنامُ ولا تُطوى في دفاترِ النسيانْ. في حلفاية الملوك، كل اسمٍ له قصة، وكل قصةٍ لها قلب، وكل قلبٍ ينبضُ بعراقة الماضي وبهاء الحاضر. هي ليست مدينةً فقط، بل مرآةٌ للروح السودانية، ودفترٌ مفتوحٌ للثقافة الشعبية التي لا تزال تكتب نفسها، سطرًا بعد سطر، في وجدان الناس. فطوبى لحلفايةٍ تنطقُ بالحياة، وتُزهرُ بالأسماء.
|
|