Post: #1
Title: لسنا أنعل من الشيطان… ولا أحطّ من الكيزان نحن أبناء الوعي المتأخر وورثة السؤال الصعب
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 11-16-2025, 04:01 PM
04:01 PM November, 16 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
تخيّل لحظة من لحظات ثورة ديسمبر 2019. ساحة الاعتصام تهتف بصوت واحد: "لسنا أنعل من الشيطان… ولا أحطّ من الكيزان!"
هتاف خرج غضبًا وسخرية واحتجاجًا، لكنه — إن تأملناه — يُشبه اعترافًا خفيًا بمرحلة وعي جديدة. ليس مجرد سبّة، بل مرآة تعكس علاقتنا بالشر، بالسلطة، وبأنفسنا. في زمن تتداخل فيه خطوط الأخلاق والوجود، وتتهاوى اليقينيات كما تتهاوى الخرائط، تصبح الحاجة ملحّة لتفكيك هذه العبارة بوصفها مدخلًا لفهم عميق للروح السودانية في واحدة من أكثر مراحلها تعقيدًا. الشيطان مقابل الكيزان: استعارتان لسلطتين الشيطان، في الفلسفة والدين، ليس مجرد كائن غيبي؛ إنه رمز الإرادة الحرة. رمز للقدرة على قول "لا"، حتى عندما يكون الثمن سقوطًا أو عزلة. هذا التمرد — كما يشير نيتشه — ليس شرًا مطلقًا، بل انحراف ناتج عن خلل في ميزان الوعي.
في المقابل، يمثّل "الكيزان" في الذاكرة السودانية نظامًا لاحتلال العقل قبل الدولة. سلطة تستخدم الدين كخطاب سياسي، وتعيد تشكيل الوعي عبر المناهج والإعلام والمنابر. إنه — بمفهوم فوكو — "بانوبتيكون" يراقب الذهن قبل الجسد، وسجنٌ يقيم في الذاكرة قبل أن يقيم في المؤسسات.
وبين هذا الشرّ الميتافيزيقي وذلك الشرّ السياسي، يقف الإنسان السوداني كشخصية ثالثة، رافضة لأن تختزل في مقارنة لا تعبّر عنه.
نحن لسنا مأجورين… بل أبناء الاختيار الصعب
يتّهم البعض جيل اليوم بأنه "ماجور" أو يتحرك بأجرة في صراع الآخرين. لكن الوجود — كما يرى سارتر — لا يُقاس بمن يدفع لك، بل بمن تختار أن تكون.
نحن لسنا أدوات. نحن أبناء اللحظة التي اختارت:
أن تبقى إنسانية رغم إعادة تدوير الشر بلا توقف.
أن تقول الحقيقة حين يصبح الصمت فضيلة مزيفة.
أن ترفض مشاريع الانحطاط، حتى لو وقف الإنسان وحده في الميدان.
من يختزل الوعي في "أجرة" هو نفسه من اختزل الوطن في "غنيمة"، والإنسان في "وظيفة"، والدين في "سلطة".
الوعي المتأخر… معركتنا الداخلية الأولى
نعم، تأخّر وعينا. وهذا التأخر ليس ضعفًا، بل نتيجة طبيعية لمعركة بدأت داخلنا قبل أن تبدأ في الشوارع.
الكيزان لم يسيطروا على الدولة فقط؛ سيطروا على الخيال الجمعي. شكلوا ذهنية كاملة، جعلت التحرر عملية بطيئة وعميقة ومكلفة.
ثورة ديسمبر كشفت هذا الصراع الداخلي. كشفته حين أحرق الشباب صور البشير، ثم اكتشفوا أن جزءًا من "الكوز" يعيش داخل كل واحد منا: في الخوف من النقاش، في الصمت أمام الظلم، وفي تقديس السلطة مهما تبدلت وجوهها.
الوعي المتأخر ليس عارًا. إنه نضجٌ جاء متأخرًا… لكنه جاء ليبقى.
من نحن؟
لسنا أدنى من الشيطان في حرية الاختيار، ولا أحط من الكيزان في المسؤولية الأخلاقية.
نحن جيل عاش الحرب فعرف أن السلام ليس صمت السلاح، بل تحرر داخلي من الخوف. عاش الاستبداد فعرف أن الحرية ليست تغيير حاكم، بل تفكيك نظام كامل في الداخل والخارج.
نحن الجيل الذي يسقط ويقوم. يتأخر ويلحق. يخطئ ويصحح.
جيل يرفض الركوع لسلطات الظلام، ويرفض إعادة إنتاج أنظمة الاستعباد، ويرفض أن يُختزل في ثنائيات ضيقة.
نحو إنسانية سودانية جديدة
نحن أبناء وعيٍ تأخر طويلًا، لكنه عاد حاملًا أسئلة لا تُغلق: عن الحرية، والشر، والوطن، والإنسان.
نرفض أن نُعرَّف بثنائية الشيطان والكيزان. نطمح لإنسانية جديدة: إنسانية لا تُدار بمنطق الغنيمة، ولا تُساق بالعبودية، ولا تُختزل في مقارنة خاطئة.
بكل ضعفنا وقوتنا… بكل تشوهاتنا وأحلامنا…
نحن جيل الوعي المتأخر — الذي بدأ أخيرًا كتابة تاريخٍ جديد، لا يعود إلى الوراء.
|
|