Post: #1
Title: من موسوليني إلى البرهان: قراءة في نهايات الطغاة عبر التاريخ كتبه الصادق حمدين
Author: الصادق حمدين
Date: 11-16-2025, 02:03 AM
02:03 AM November, 15 2025 سودانيز اون لاين الصادق حمدين-UK مكتبتى رابط مختصر
مدخل تمهيدي
تدلّ التجارب التاريخية على أن المسار الذي تسلكه الأنظمة الاستبدادية يكاد يكون مكررا، مهما تغيّرت الأزمنة واختلفت السياقات. فالحاكم الذي يعلّق بقاؤه على منطق القوة وحده، ويستند إمّا إلى دعم خارجي متقلّب أو إلى سطوة السلاح و”القوة المميتة” وأساليب الترهيب الداخلي، سرعان ما يكتشف هشاشة هذا النهج. فإرهاب الشعوب لا يصمد طويلاً؛ إذ يتآكل بمرور الوقت ويُراكِم مشاعر الاحتقان ويدفع نحو أشكال مختلفة من المقاومة. وحين تأتي لحظة المواجهة الحاسمة، يتبدد وهم الحلفاء الدائمين، ويجد الحاكم نفسه معزولاً أمام الحقائق التي حاول طويلاً تجاهلها.
أحد أبرز الأمثلة على هشاشة القوة المجردة دون سند أخلاقي أو سياسي أو قانوني هو مصير الدوتشي بينيتو موسوليني، زعيم الفاشية الإيطالية. فبعد سنوات من الخطابات الجارفة والمواكب العسكرية الفخيمة وصناعة صورة الحاكم الذي لا يُقهر، انتهت أيامه الأخيرة مختبئاً في مؤخرة شاحنة، متنكراً في زي جندي ألماني، عاجزاً عن الهروب من واقع تغيّر بالكامل. وعندما سقط بين أيدي المقاومة الإيطالية، لم يجد أمامه ألمانيا النازية، حليفه الأوثق، التي تخلت عنه مع تبدّل موازين الحرب. كان ذلك درساً صارخاً: فالحلفاء يقاتلون مع الطغاة عند المغنم… ويتخلون عنهم عند المغرم.
وفي بلادنا المنكوبة بهوس الزعامة المستمدة مرجعيتها من التمسك بتحقيق رؤيا وأحلام الأسلاف، يبرز اسم الفريق عبد الفتاح البرهان بوصفه شخصية محورية في صراع دموي معقد يعصف ببلادنا منذ منتصف أبريل 2023. وما قبل ذلك التاريخ بعقود عجاف خلت. ويرى مراقبون سياسيون، بما فيهم رجل الشارع العادي أن أداء البرهان السياسي والعسكري خلال الأزمة الوطنية الحالية القاتلة، يكرّس حالة من العزلة المتزايدة، بعد سلسلة من الفرص الضائعة التي كانت قد تفتح الباب أمام تسوية سياسية تُنقذ البلاد، وتخفف من التكلفة الإنسانية الهائلة التي تدفعها بلادنا وشعبها كل ثانية.
فمنذ اللحظات الأولى للأزمة، بُذلت محاولات إقليمية ودولية للوساطة، منذ جدة الأولى، والثانية، والمنامة، وسويسرا، وأخيرا الرباعية للهدنة الإنسانية، غير أن حسابات القوة وتقديرات النفوذ دفعت المسار السياسي والعسكري نحو مزيد من التعقيد. وفات على البرهان ومستشاروه أن الاعتماد المتكرر على الدعم الخارجي أو على التحالفات الظرفية يمثل أحد أهم الأخطاء التي غالباً ما يرتكبها القادة في ظروف مشابهة، إذ تبقى تلك التحالفات مرهونة بالمصالح، لا بالولاء ولا بالاستمرارية.
ومع استمرار الحرب واتساع هوة الخلافات بين القوى الفاعلة في السودان، يتزايد الشعور بأن البرهان يواجه معضلة شبيهة بتلك التي واجهها قادة كثر قبله فالوقت لا يعمل لصالحه، والمسارات المتاحة تتقلص، والخيار السياسي يصبح أكثر كلفة كلما تأخر يوما.
والبرهان يعلم أو كان ينبغي عليه أن يعلم عندما تتبدّل موازين القوة، لا يبقى أحد، والتاريخ المعاصر يقدم أمثلة عديدة على قادة اعتقدوا أن حلفاءهم سيقفون معهم في نهاية الطريق، لكنهم تُركوا وحدهم عند لحظة الحسم وليس مصير بشار الأسد طاغية سوريا ببعيد. فالسياسة الدولية لا تبني شراكات طويلة الأمد مع أنظمة متزعزعة، ولا تضحّي بمصالحها من أجل أفراد مهما علا نفوذهم. وتظهر التجارب أن الدعم الخارجي لا يتحول إلى مظلة حقيقية للحماية عندما تتغير المعادلات على الأرض.
في حالتنا السودانية، يبدو ان المشهد متجهاً نحو إعادة تشكيل عميقة لموازين القوى، وسط ضغوط إنسانية وسياسية وأمنية متنامية. وفي ظل هذا المناخ، يصبح الرهان على الحلفاء مقامرة غير مضمونة، بينما تزداد تكلفة غياب الحلول السياسية يوماً بعد يوم.
فليفهم البرهان ومن خلفه من بلابسة وقبائل بني كوز وميليشياتهم المتناسلة أن التاريخ لا يجامل أحداً والدروس التي قدمها سقوط موسوليني وغيره من الطغاة ليست مجرد حكايات من الماضي؛ بل هي إشارات واضحة لما يحدث عندما تتراكم الأخطاء ويتفاقم العناد السياسي، ويُستبدل الحوار بالقوة، وتُترك الحلول الممكنة معلّقة حتى فوات الأوان.
اليوم، يقف السودان على مفترق طرق. ويقف البرهان، مثل غيره من قادة اللحظات الحرجة، أمام معادلة واضحة لا لبس فيها، الحل السياسي ليس مجرد خيار لإنقاذ البلاد وحسب، بل قد يكون الخيار الوحيد لإنقاذ نفسه من مصيرٍ يتكرر في كل صفحات التاريخ حين يتخلى الجميع عن الحاكم الذي تأخر كثيراً في قراءة اللحظة التي يجب ان يغتنمها.
لمّا بلغ موسوليني مرحلة “ الألمِي خنق القنطور”؛ أي اللحظة التي لا عودة بعدها - كما يقول المثل العامي لمن يَصعب عليهم إدراك دلالاته - لم تنفعه الأموال ولا المجوهرات التي راكمها طوال سنوات حكمه. تلك التي حاول أن يقدّمها رشوةً لآسريه علّها تفكّ عنقه من حبل المشنقة، لكن النهاية كانت محتومة، فدخل التاريخ من أضيق أبوابه فاستقر في مزبلته تلاحقه فيها لعنات ضحاياه. وهذه القصة ليست مجرد صفحة من الماضي، بل رسالة مباشرة… "وإياك أعني فاسمعي يا جارة".
الصادق حمدين - هولندا [email protected]
|
|