الجوائز الإعلامية و اختلاط المعايير بالرمزية كتبه محمد عبدالله صالح

الجوائز الإعلامية و اختلاط المعايير بالرمزية كتبه محمد عبدالله صالح


11-15-2025, 06:14 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1763230445&rn=0


Post: #1
Title: الجوائز الإعلامية و اختلاط المعايير بالرمزية كتبه محمد عبدالله صالح
Author: محمد عبدالله صالح
Date: 11-15-2025, 06:14 PM

06:14 PM November, 15 2025

سودانيز اون لاين
محمد عبدالله صالح-Sudan
مكتبتى
رابط مختصر



في عالم الصحافة، تبدو الجوائز مثل الأوسمة النقية التي تُعلق على صدور المبدعين، وكأنها الاعتراف الأخير والأبدي بقيمة الكتابة وشجاعة الموقف. لكن من يتأمل المشهد بعمق، ويقترب قليلًا من غرف التقييم المغلقة، ويقرأ سيرة الفائزين وتاريخ الممنوعين، يدرك أن الجوائز ليست دائمًا انعكاسًا للتميز، وأن معاييرها ليست بالصلابة التي يتصورها الناس. فبين القيمة الحقيقية والاعتراف المستحق، يقف ظلّ طويل اسمه “المحاباة”، ويقف معه تضخم الرموز على حساب أصحاب الجهد الحقيقي الذين يعملون بصمت، ويتركون أثرًا أعمق بكثير مما تمنحه منصات الاحتفال.

في صورتها المثالية، ووفق ما تكتب المؤسسات في وثائقها، تقوم الجائزة الإعلامية على جودة المادة الصحفية، عمقها، أصالتها، وجرأتها في كشف الحقيقة. يفترض أن يربح الجائزة من قدّم للعالم عملًا يهزّ الضمير، أو تحقيقًا فتح بابًا مغلقًا، أو قصة غيّرت وعي الناس، أو سلسلة صحفية أثارت نقاشًا عامًا واسعًا. يفترض أن تُمنح لمن عاش في قلب المهنة، وكتب بعرق القلب، وواجه أنظمة قمعية، وطرق أبوابًا خطرة من أجل الحقيقة، ودفع أحيانًا من حياته وصحته ثمنًا لشجاعته.

هكذا هو المفترض، لكن هذا المفترض ينهار بسرعة عندما ننتقل إلى الواقع.

في الواقع العملي، تختلف الأدوار ويختلط المشهد. ليس كل من فاز بالجائزة هو الأفضل، وليس كل من لم يفز هو الأقل قيمة. في كثير من الأحيان تُبنى خيارات لجان التحكيم على ما هو أبعد من النصوص: علاقات ممتدة، حضور إعلامي لافت، شخصية “مقبولة سياسيًا”، أو وجه معروف سهل الترويج له أمام الجهات الدولية. وهنا تُصبح الجائزة رسالة سياسية أكثر مما هي اعتراف مهني، وتتحول المعايير إلى أداة شكلية تُكتب في الوثائق ولكنها لا تُطبق بالكامل.

هناك صحفي يبذل عمره في الميدان، ويكتب بشجاعة تجعل حياته في خطر، لكنه لا يُذكر؛ لأن أحدًا لم يرفع اسمه إلى المنظمات الدولية. وهناك كاتب آخر يرسم صورة جميلة من بعيد، ويحضر المؤتمرات، ويتحدث بلغة ترضي الجهات المانحة، فيُصبح “المرشح المثالي” بمجرد ظهوره.

لا يمكن إغفال أن كثيرًا من الجوائز تُمنح لمن يناسب “مزاج المؤسسة” أكثر مما يناسب معيار الجودة الصحفي الذي يتبنى خطابًا حقوقيًا أو سياسيًا يتقاطع مع رؤية الجهة المانحة، يملك فرصة أكبر من صحفي متميز لكنه يكتب بجرأة مزعجة أو يطرح أسئلة غير مرغوبة. وهكذا يصبح الحضور الإعلامي، أو القدرة على الظهور بمظهر “المدافع عن الحرية”، أكثر أهمية من جودة الإنتاج المهني نفسه، وهنا تكمن المشكلة الأكبر: تحوُّل الجوائز إلى وسيلة تسويق، واختيار، وتشكيل رموز جاهزة حتى ولو كانت مساهماتهم محدودة مقارنة بغيرهم.

أغلب الذين يستحقون التكريم الحقيقي هم أولئك الذين لا يصلون إلى منصات الجوائز. يكتبون بصمت، يحفرون في الجدار، ينشرون أعمالًا تتطلب شجاعة كبيرة، ويستمرون رغم قلة الاعتراف وغياب الاحتفاء. إنهم لا يسعون لشهرة، ولا يملكون شبكة علاقات تسمح بترشيحهم، ولا يعرفون الطريق إلى صالونات المؤسسات الدولية. ولهذا، لا يصل إليهم الضوء، مع أنهم يضيئون الطريق لغيرهم.

هذه الفئة هي الأكثر ظلمًا في مشهد الجوائز، لأن معايير التكريم هنا لا تعتمد على العمل، بل على الظهور.

من الخطأ النظر للجوائز باعتبارها الدليل الوحيد على الجودة، الجائزة اعترافٌ مؤقت، تمنحه جهة لها سياقها ومرجعيتها ومصلحتها. لكنها ليست التاريخ، وليست الذاكرة، وليست معيار الحقيقة. الكاتب أو الصحفي الحقيقي لا ينتظر جائزة ليُثبت ذاته. أثره في الناس، ومكانته في الذاكرة، وقيمة ما يتركه من نصوص وتحقيقات، هي الوسام الباقي الذي لا تمنحه لجنة، ولا تصادره مؤسسة.

إن معايير الجوائز الإعلامية تدور بين نموذجها المثالي، الذي يطالب بالجودة والشجاعة والأصالة، وبين واقعها المعقد الذي يختلط فيه الاعتراف بالسياسة، والمعيار بالرغبة، والاختيار بالرمزية. وبين هذين الطرفين يسقط الكثير من المبدعين الحقيقيين، بينما يصعد من يناسب الأجندة أو اللحظة وفي كل الأحوال يبقى المعيار الحقيقي الوحيد الذي لا يتغير هو النص القادر على البقاء، والصحافة التي تصنع أثرًا، والصدق الذي لا يحتاج إلى تصفيق.