الإبادة الجماعية بين الحقيقة والتسييس: تفريغ الجريمة من محتواها والهروب من كتبه خالد كودي

الإبادة الجماعية بين الحقيقة والتسييس: تفريغ الجريمة من محتواها والهروب من كتبه خالد كودي


11-15-2025, 01:10 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1763169035&rn=0


Post: #1
Title: الإبادة الجماعية بين الحقيقة والتسييس: تفريغ الجريمة من محتواها والهروب من كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 11-15-2025, 01:10 AM

01:10 AM November, 14 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر






14/11/2025 ، بوسطن

تُعدّ جريمة الإبادة الجماعية من أخطر الجرائم في منظومة القانون الدولي، لا لبشاعة أفعالها وحسب، بل أيضاً لكونها عرضةً دائمة للإنكار، والتلاعب، وإعادة التأويل بما يخدم مصالح سياسية ضيقة. وفي الحالة السودانية، حيث تراكمت عقودٌ من الانتهاكات واسعة النطاق، بات الحديث عن الإبادة محاطاً بقدر كبير من الالتباس؛ إذ تتقاطع فيه السياسة مع الألم الجمعي، وتتعثر فيه العدالة وسط ضجيج الخطابات المتنافرة وغياب تحمل المسؤولية، واحتيال النخب بيمينها ويسارها
وفي هذا السياق، تمثّل الدعاية التي تُشكّك في جدوى لجان تقصّي الحقائق بعد وقوع الإبادة، أو تُطلق الاتهامات العشوائية دون معيار قانوني او اخلاقي، نموذجاً لتناول سطحي يبتعد عن جوهر الجريمة. فبدلاً من الإسهام في بناء مسار للعدالة والإنصاف، تعمل هذه الاطروحات على تشويه المفهوم القانوني للإبادة الجماعية، وتفريغه من مضمونه، وتحويله إلى أداة للمهاترات، في حين أن المطلوب هو تثبيت الحقيقة كما هي، وحماية الضحايا، ومواجهة البنية التي أنتجت الجريمة.

أولاً: طبيعة جريمة الإبادة الجماعية وشروطها القانونية:
عرّفت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 الإبادة بأنها أفعال تُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية أو عرقية تدميراً كلياً أو جزئياً. ويشمل ذلك القتل، الإيذاء الجسدي أو النفسي، الإخضاع لظروف معيشية مهلكة، منع الإنجاب، أو نقل الأطفال قسراً.
ويُعد "القصد الخاص"
(specific intent)
الشرط الحاسم في توصيف الجريمة، ما يجعل الإبادة الجماعية عملية منهجية، وليست مجرد نتيجة عشوائية للحرب أو الفوضى.
لهذا السبب، تُعتبر الإبادة جريمة لا تسقط بالتقادم، ويُلزم القانون الدولي الدول بالتحقيق فيها ومحاكمة مرتكبيها، حتى بعد مرور عقود على وقوعها. وهذا ما طبّقته محاكم رواندا ويوغوسلافيا، وما يؤكّده النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

ثانياً: من التوثيق إلى التقصّي: لماذا لجنة تحقيق بعد وقوع أي جريمة يشتبه في انها قد تنطبق عليها شروط الإبادة؟
تقوم لجان تقصي الحقائق بدور مركزي في منظومة العدالة الدولية. فالتحقيق ليس "طقساً بعد الخراب" كما يعتقد البعض ويروج، بل هو الإطار المؤسسي الذي يوفر:
١/ إثبات الوقائع وتثبيتها ضد الإنكار والتلاعب
٢/ توثيق الأدلة قبل ضياعها بفعل الحرب أو النزوح أو القتل أو محو الآثار
٣/ بناء الملفات القانونية التي تُستخدم للمحاسبة أو الإحالة للمحكمة الجنائية الدولية
٤/ إدراج الجرائم ضمن ذاكرة جماعية موثّقة تحفظها الأجيال وتمنع تكرارهاإسناد مطالب الضحايا بالتعويض والاعتراف والمساءلة.
إن الإدعاء بأن التحقيق لا جدوى له بعد وقوع الإبادة يتجاهل حقيقة أن كل قضايا الإبادة الجماعية في العالم تم التحقيق فيها بعد وقوع الجريمة، وليس قبلها. فالعدالة ليست أداة منع فقط، بل هي أيضاً أداة إنصاف وتاريخ ومحاسبة.

ثالثاً: تسييس مفهوم الإبادة: من الألم الحقيقي إلى الابتزاز الخطابي
تتجلّى خطورة الخطابات التي تتعامل مع الإبادة كحالة موسمية أو ورقة سياسية في أنها تُحوِّل جريمة كونية إلى أداة للمكايدات اللحظية. يحدث ذلك عبر:
- التوسيع أو التضييق غير المنضبط للمفهوم بهدف توجيه الاتهامات أو نزع الشرعية عن خصوم سياسيين
- استخدام كلمة "إبادة" كشعار تعبوي بدل الالتزام بالدقة القانونية
- إغفال الجرائم التاريخية الموثقة التي وقعت بالفعل ولم تحصل على أي تحقيق أو اهتمام إعلامي، مثل مجازر دارفور أو جبال النوبة أو النيل الأزرق او الجنوب.
- إعادة إنتاج المركزية ذاتها التي تتعامل مع جرائم المناطق المهمشة كأحداث ثانوية، بينما تُضخَّم أحداث أخرى لخدمة أجندات سياسية قد تكون عابرة.
ضمن هذا السياق، يصبح الخطاب الذي يسوف او يرفض لجان التحقيق أو يسخر منها مساهمة مباشرة في إعادة إنتاج الإفلات من العقاب، الذي كان دائماً سبب استمرار العنف في السودان.

رابعاً: الهروب من مستحقات الجريمة عبر تفريغ المفهوم:
إن أخطر ما ينتج عن تسييس الإبادة هو الهروب من استحقاقات العدالة. فحين تُفرغ الجريمة من معناها، يصبح من السهل التنصل من:
- الاعتراف بالضحايا والجماعات المستهدفة.
- الإقرار ببنية الدولة التي سمحت بالجريمة.
- الالتزام بإصلاحات مؤسسية جذريةوتاسيسية لمعالجة التمييز البنيوي الذي مهّد للإبادة.
- مواجهة المسؤولين الحقيقيين بدلاً من إلقاء اللوم على الفوضى أو "الحرب العامة"
- تضميد الذاكرة الجماعية وإيقاف مسلسل الإنكار.
في هذا الإطار، يتحول تسييس مفهوم الإبادة إلى شكل من أشكال العنف الرمزي، أشد خطورة من الصمت نفسه، لأنه يُعيد قتل الضحايا معنوياً عبر التشكيك في تجربتهم وإخضاعها لميزان الولاءات

خامساً: العدالة كأفق لا يمكن التنازل عنه:
لا يمكن للسودان أن يخرج من تاريخه الدموي دون مواجهة صريحة مع جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي وقعت على امتداد عقود.
ولجان تقصي الحقائق ليست بديلاً عن العدالة بل شرطها الأول.
أما الخطابات التي تُهوّن من شأن التحقيق أو تسأل "لأجل من؟"، فهي تنحاز موضوعياً إلى الجناة، لأنها تتجاهل السؤال الأساسي:
لأجل من؟
لأجل الأحياء الذين ينتظرون الحقيقة.
ولأجل الموتى الذين لم يُدفنوا في التاريخ

خلاصة:
إنّ تسييس جريمة الإبادة الجماعية، سواء عبر التهويل الدعائي أو التقليل الساذج، لا يُمثّل سوى آلية مضمرة للهروب من استحقاقات الجريمة نفسها، ومحاولة واعية لتسويف الوقائع، وتفريغها من مضمونها القانوني والأخلاقي والتاريخي. فحين تُستخدم الإبادة كأداة للمكايدة السياسية، أو كذريعة لإعادة توجيه الخطاب بعيداً عن الضحايا الحقيقيين، فإن ذلك يصبح شكلاً من العنف الرمزي الذي يُعيد إنتاج الجريمة بصورة أخرى: بنزع الشرعية عن الألم، وتشويش الذاكرة، وتحويل المأساة الجماعية إلى ورقة في صراعات صغيرة!
إنّ الطريق إلى العدالة يبدأ من الاعتراف الصريح بالجرائم كما هي، ويمرّ عبر التحقيق المستقل وتثبيت الأدلة، لينتهي إلى إعادة كتابة التاريخ من موقع الضحايا لا الجلادين، ولا أولئك الذين يتخذون من الضحايا جسراً لأجنداتهم الخاصة. فالتلاعب بمفهوم الإبادة أو استخدامه لإرباك الوعي العام ليس إلا محاولة لإخفاء وقائع حدثت بالفعل، وجرائم كان يمكن توثيقها منذ زمن، لولا صمت النخب، وتواطؤ السياسيين، وميل الإعلام إلى انتقاء المظلومية بحسب موقعها من شبكات النفوذ.
وقد عرف التاريخ الحديث أمثلة عديدة على هذا التوظيف المضلِّل:
١/ ففي الإبادة الأرمنية (1915)، لجأت الدولة العثمانية ومن تبِعها لعقود طويلة إلى الإنكار والتشكيك وإعادة توصيف الجرائم كـ"حرب أهلية"، لا بهدف السجال النظري، بل لإعاقة أي مساءلة قانونية
٢/ وفي مجازر البوسنة (سربرنيتسا 1995)، ادّعت أصوات قومية صربية أنّ ما جرى كان "عمليات عسكرية مشروعة"، محاولة تفريغ الإبادة من معناها لمنع تثبيت الأدلة وقطع الطريق على العدالة الدولية
٣/ وفي رواندا (1994)، استخدمت النخب الإعلامية غطاء التسييس لتخفيف وقع الكارثة، فوصفت الإبادة بأنها "صراع قبلي"، وهو توصيف صُمّم أصلاً لطمس القصد علي الابادة ومسح البنية السياسية التي قادت إلى القتل المنهجي.
وفي السياق السوداني ذاته، كثيراً ما جرى تسويف جرائم دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق عبر وصفها بأنها "نزاعات قبلية محلية" أو "تجاوزات في سياق الحرب"، في محاولة لتقزيم الجريمة ومنع المجتمع الدولي من التدخل، بينما كانت الوقائع على الأرض تتوافق مع أركان الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
إنّ سوء استخدام المصطلح، وتدويره في الخطاب العام بلا ضوابط، ليس بريئاً. إنه استراتيجية خفية يتقنها الفلول والمتوطئين معهم من النخب للهروب من حقيقة مرّة:
أنّ هناك إبادة وقعت بالفعل، وأن هناك ضحايا لم يُعترف بهم، وأنّ العدالة تُعاق كلما تحوّل الدم إلى مادة للابتزاز السياسي أو الدعاية الانفعالية.
وهكذا، فإنّ حماية مفهوم الإبادة الجماعية من التلاعب ليست مجرّد معركة معرفية، بل هي معركة من أجل ذاكرة الضحايا، ومكانتهم، وحقوقهم، والحق في ألا يُقتلوا مرة أخرى عبر النسيان أو التشويه أو الاستخدام النفعي لآلامهم...

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)