وجع الوطن كتبته خالدة ودالمدني

وجع الوطن كتبته خالدة ودالمدني


11-12-2025, 11:18 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1762946304&rn=0


Post: #1
Title: وجع الوطن كتبته خالدة ودالمدني
Author: خالدة ود المدني
Date: 11-12-2025, 11:18 AM

11:18 AM November, 12 2025

سودانيز اون لاين
خالدة ود المدني-السودان
مكتبتى
رابط مختصر






أشبه الشمعة صلابة وثباتًا، ولكن ما أن أجتر نيران ذكريات الوطن حتى أحترق وأذوب، ويذوب معي الأمان والأماني الزائفة. هكذا أنا منذ بداية معركة "الخرطوم" كما أحب أن أسميها، رصاصتها أيقظت غربة في نفسي وهشاشة في روحي، خوفًا من فقدان وطني الذي أحب.
كنت أعيش غربة المكان الآمن والمستقر قبل الحرب، ولكن الغريب أنني كنت أستمد أمالي وأمنياتي من ذاك الوطن الحبيب البعيد وغير الآمن، عذراً يا متلقي كلماتي، ربما أطيل سردي أسفله لأتنفس قليلاً من أوجاعي التي ضاق بها صدري طوال فترة حرب الشؤم على بلادي. ومنذ ذلك الحين، عيناي تعبتا من الدموع، باتتا تتلافى أوجاع الآخرين فوق أوجاعها، ربما لتجد سببًا مقنعًا لترسل ارتال دموعها بحجة ما. يبدو أن مشاعري اختلطت بين ألمي وأوجاع غيري، حقًا، صرت أتحين البكاء عندما يتحرش بدواخلي الحنين إلى الأهل والوطن، حالما أسمع أغنية أو خاطرة تسرق خيالي إلى أجمل أيام السودان البسيطة، المنسوجة بخيوط السكينة والطمأنينة وراحة البال. نعم، كنا نناطح مشقة المتاح آنذاك وتعسر اليسير، كل هذه المطبات أعاقت مسيرتي ومن معي، وجعلنا نحزم حبنا وانتمائنا وأحلامنا في حقيبة واحدة، لنرحل على أمل العودة المجدية.
غادرنا إلى نصف آخر من الكون يختلف عن بلادنا في كل شيء، نسعى في مناكبه ونكمل مسيرة عمل وعلم بدأناها، تحملت قساوة فراق قطع قلبي، وأبتعدت عن أهلي ونبضات وطني، كنت أطبطب على ذاتي بأننا سنكمل دورة طموحاتنا ونعود جميعًا لنساهم في تعمير وتنمية بلادنا بخبرة أو فكرة أو ما يزيد، كنت أهمس في وهج الشوق بأنني سأسرق وقتًا من إزدحام الحياة والإنشغال لزيارة بلادي وأهلي بين فترة وأخرى، لأتزود من بركة الوالدين وحنان أحبائي، ومن رائحة ترابها ودفء أصدقائي، كنت أحلم، وما كنت أعلم أن الخرطوم تتمدد بين أيدي مافيا السلطة كما تمتد على ضفاف النيلين، نسيت أن سوداننا أصبح كالفتاة المومس الجميلة التي يتصارع على بابها رواد الهوى، ولكن ما نسيت أن دمار الوطن يتلوه دمار النفس، وأن ضجيج السلاح يزعزع النفوس ويسرق هدوءها وأمانها الداخلي.
كل هذا تراكم على صدري كوجع ينتقص فرحي عندما أتذكر أرواحًا قُتلت بلا ذنب، أبكي على أطفال باتوا بلا مأوى ولا مأمن، يومًا تلو آخر يتناسل بداخلي الوجع والحسرة عندما أرى شبابًا يخاطرون بأرواحهم من أجل مستقبلهم وأسرهم، يافعين نجوا من موت الحرب، وصادفهم موت آخر وسط الصحاري والمحيطات والبحار. فتيان وفتيات يحملون أحلامًا كبيرة في حقيبة صغيرة على ظهورهم، كما يحملون هموم أسر تركوهم لمصير مجهول.
أي وجع وأي ألم أكبر من هذا يا وطني؟ لاتلوموا دمعتي تقف على حواف عيني، ولا تلوموا غصتي التي إعتلت نبرتي دومًا، لا تلوموني وأنا محملة بوجعي ووجع كل سوداني، لا تلوموني اذا أذرفت أحرفي كلمات تتقاطر دمًا لا حبرا ، ولا تسألوني إن إختفى صوتي من النواح مثل أم مكلومة فقدت ابنها في حرب الخنازير، أو كصرخة طفل جائع يتضور جوعًا في أرض التكية أو الملجأ.
لا تستغربوا حيرتي وهمي وتشتيتي أحيانًا كمسن معاق ووحيد فقد أسرته تحت نيران حرب مجوس الخرطوم، ولا تلوموني وقد أصبحت كالشمعة أذرف وأحترق بدون أن أصرخ، وأعجز أن أضيء عتمة قلبي بينما يراني الجميع نورًا وضياء، لا تلوموني .. بل قولوا لي سلامًا عليك وأنت ترسمٍ إبتسامتك رغم الوجع، وتجبرٍ خواطر غيرك وترمم كسروهم، وبداخلك بركان ثائر من الآهات والأوجاع على ضياع وتفتت الوطن العزيز.
يامن تمر عليكم كلماتي وأوجاعي جميعكم أوهموني، وقولوا لي سلامًا عليكِ يا خالدة، وأنت تنحتي على صدر الوطن آهاتك وأوجاعك وأحلامك رغم البعاد والمحن والمواجع.
أجل أوهموني وأعذروني .. وأنا التي بصمت بدمائها على زوايا العلم عهدًا ووعدًا، ببرك يا وطن.